نفايات الكلام... مقطع من نص روائي للأسير وليد دقّة

2020-03-17 15:00:00

نفايات الكلام... مقطع من نص روائي للأسير وليد دقّة
In the Presence of the Crow, Acrylic on canvas, 3m x 3m, 200, SHADA SAFADI

ومن الإجراءات التي اتخذت لتخفيف كمية "الإكو – 2"، أو كما يدعوه البعض "ثاني أوكسيد الكلام"، تم تقليص الاحتفالات الوطنية إلى حدِّها الأدنى، مثل عيد الجلاء، وذكرى الجلوس على العرش، وغيرها من المناسبات. ومنع القاء الكلمات، أو العرافة، في مثل هذه الاحتفالات منعاً تاماً، وأبقوا النشيد الوطني مسجلاً، وكذلك الموسيقى، والمارشات العسكرية صارت دون موسيقى، إذ اتضح أنها تنتج نفاية تماما كالخطب والكلمات. 

كُتب في سجن "جلبوع" في فلسطين المحتلة، 23 آب 2017

... رجل في الأربعينيات من عمره، متزوج وأب لطفلين، يعمل لدى "الزعيم"، وهو أي زعيم عربي. وهو مسؤول، وخبير في إدارة الأزمات، وذلك تخصصه. اتصال مفاجئ، في يوم عطلته الأسبوعية، يبلغه بضرورة الحضور للقصر الرئاسي، حيث ينعقد في عاصمة البلد مؤتمر قمة. وفي يومه الأخير، ينشب خلاف حول البيان النهائي، والأزمة لا تكمن في البيان نفسه، وإنما ما تحدثه النقاشات حوله. فقد تبيَّن أن هنالك مادة يفرزها القادة المجتمعون، جرَّاء النقاش. تبدأ هذه المادة على شكل زبد، أو غيم، أو صوف، أو قطن، وسرعان ما تتحول إلى مادة أشبه بنبتة العلِّيق، أو "النتش". تبيَّن أن القادة كلما ناقشوا، تراكمت هذه المادة في قاعة الاجتماعات. وقد تم إخلاؤها إلى فناء القصر والممرات، وامتلأت كل الأماكن، ولم يعد بالإمكان مراكمة المزيد منها. 

ولكن القادة لم يتفقوا بعد على البيان. ومع ازدياد حدَّة النقاشات، تزداد كمية نفايات الكلام. ثم تبيَّن أن هذا المرض معدٍ، وقد غادر القادة إلى بلدانهم، ونشروا هذا المرض، الذي أطلق عليه "إيكو-2" أو "صدى-2"، في كل بلدان المنطقة. صحيح أن الصدى الأول يرتد، بعد ارتطامه بالمدى، ويعود إلينا موجات صوتية... لكن في هذه الحالة المرضية، تبين أن المدى مشبع منها، وأنها تسقط عند أقدام المتحدثين في الغرف، وتتحول إلى مادة. وقد أظهرت الفحوصات المخبرية أن هذه المادة غير معروفة من قبل، وأنها فارغة من أي مضمون أو طاقة، ولا يمكن تدويرها، ولا استخدامها في الطاقة البديلة. لقد حاولوا استخدامها في "الطمم" والتسويات، واكتشفوا أنها اسفنجية متحركة لا يمكن الاعتماد عليها، بل إن إحدى الشركات قدمت عرضا لتحويلها إلى حشوة للفرشات، ولكنها تؤدي إلى حكة في الجلد. 

البلدان كلها أصيبت بهذا المرض، وتراكمت بكميات هائلة المادة في الشوارع والأزقة وأمام المحلات والمؤسسات الحكومية، أعاقت حركة المارة والسير، وشلَّت البلد. في البداية، تعاملت البلدية مع هذه النفاية كأية زبالة، فأزالها عمال النفايات بواسطة السيارات التابعة للبلدية، التي اضطرت أن تضاعف عدد السيارات. لقد كانت هذه الاجراءات عبثاً، ولم تحد من الكميات، بل ضاعفتها. فقد اتكل المواطنون والمسؤولون على عمال النفايات، واستمروا في الحديث وإنتاج النفاية، ولم يسعوا إلى تخفيف حديثهم، أو تكثيفه، أو الحديث عند الضرورة فقط.  

لقد دفع هذا الحكومة إلى اتخاذ القرارات، وبتوجيهات المتخصص بحل الأزمات، في تحديد ساعات الكلام لكل مواطن، أو حصة محددة للحديث، وأجبرت الموظفين في الدوائر الحكومية والمراجعين على التداول الخطي. وقد استعاد القلم والورقة مكانتيهما، وأصبحت الرسائل الخطية عبر الهواتف البديل لأي حديث مع الجميع تقريباً. وقد سمح الحديث دون تحديد باللغة الإنجليزية للسواح والسفارات الاجنبية، وسمح، لاحقاً، بالحديث باللغة الصينية، بعد أن تبيَّن أن عدد الناطقين بها نسبة لا تذكر، ولا تؤثر على كمية النفايات الكلامية بشكل جدي. 

انتشرت لغة الإشارة، والأخرس والخرساء صار عليهم طلب، إن كان للزواج أو العمل. وأستاذ الجامعة، أو مدرس المدرسة، منح مخصصاً أكبر للحديث لتمرير المادة للطلاب، لكن الأساتذة كثفوا كلامهم، ولخصوا موادهم ومحاضراتهم كتابياً، كي يحتفظ كلٌّ بحصة كلامه، للدردشة مع أطفاله، وليقول لزوجته إنه يحبها، أو حتى يتشاكل معها. بعضهم، ممن ينتمون للأسر المستورة، لا يملك شراء رصيد للحديث، ومنذ أشهر بالكاد تكلم. أحدهم كتب لصديقه رسالة نصية، يقول فيها: ""خَمَّجْ" فمي من قلة الحكي.. هل بقي في رصيدك ما تقرضني إياه؟ مشتاق لطوشة مع زوجتي!"

أنشأت في المؤسسات والأماكن العامة أماكن خصصت للكلام، تماما كالأماكن المخصصة للتدخين أو للتبول، ليسهل إزالة نفايات الكلام، إذ ممنوع الحديث في الشوارع أو المؤسسات. وإلى جانب هذه الأماكن، خصص جهاز، كأي جهاز لشراء الشراب أو السجائر، تشتري منه مخصص دقائق أو ساعات للحديث... وقد سميت هذه الأماكن "حدَّاثة"، أي المكان المخصص للحديث.  

على فكرة، وجدت في "المنجد" أن معنى "حَدَثَ" الرجل، أي تغوَّط، بمعنى أن فكرة الكتابة عن الكلام كأنه غائط ليست فكرة غريبة أو بعيدة لغويا!! عموماً، حددت الدولة لمحطات التلفزيون والراديو ساعات وكمية الحديث في البرامج الحوارية. فركزت هذه المحطات على المهم، وكثفت من رسائلها الإعلامية، وخففت، إلى حد بعيد، من اللغط واللغو الفارغ. قلِّصت صلاة الجمعة زمنياً، وكُثِّفت الخطب، والآذان أُذيع تسجيلاً. وقد انتشرت، إثر ذلك، الصحف والكتب. فالمواطنون توجهوا أكثر نحو قراءة النص، وامتلأت المكتبات العامة بالقراء، وزاد النشر وبيع الكتب. ازداد الاهتمام باللغات الأجنبية، وتعلم الناس لغات غريبة كادت أن تنقرض، بل بعضها كان غير قائم إلا في المخطوطات، وذلك لأن القانون سمح باستخدام اللغات الأجنبية دون تحديدٍ، لقلة المتحدثين بها، ورغم أنها تترك نفايات مثل اللغة العربية. فالمشكلة، كما تبين، ليست اللغة وإنما استخدامها والمتحدث بها. 

ومن الإجراءات التي اتخذت لتخفيف كمية "الإكو – 2"، أو كما يدعوه البعض "ثاني أوكسيد الكلام"، تم تقليص الاحتفالات الوطنية إلى حدِّها الأدنى، مثل عيد الجلاء، وذكرى الجلوس على العرش، وغيرها من المناسبات. ومنع القاء الكلمات، أو العرافة، في مثل هذه الاحتفالات منعاً تاماً، وأبقوا النشيد الوطني مسجلاً، وكذلك الموسيقى، والمارشات العسكرية صارت دون موسيقى، إذ اتضح أنها تنتج نفاية تماما كالخطب والكلمات. 

بدأ الناس يقتصدون في كلامهم تلقائياً، فلم تعد تسمع كلمات وعبارات، مثل: "شفيتم"، "نعيماً"، "العواف يا غانمين"، "رحمكم الله .. يرحمنا ويرحمكم"، "تقبل الله"، "زَمْ زَمْ".  ولم تعد ترى جارتين يثرثرن حول الجارة الثالثة، أو حول فستان اشترته إحداهن، أو قصة شعر "مش زابطة". لم يعد الناس يكثرون التحية ورد التحية، وإنما يكتفون برفع الأيدي أو هز الرؤوس. تسافر في الباص أو القطار، فتجد جميع المسافرين يقرأون الكتب أو الصحف، أو يكتب أحدهم نصاً يخاطب به رئيسه في العمل. 

لقد تبيَّن أن لهذا الوباء جوانب ايجابية، فـ "رب ضارة نافعة"، بل لم قول: "إذا كان الحديث من فضة فالسكوت من ذهب" مجرد مثل، وإنما شعار مرحلة: فقد زادت معدلات الانتاج القومي بأكثر من 40٪، وزاد دخل الفرد بأكثر من 20٪، واتسعت الطبقة الوسطى، وتقلصت معدلات الأمية إلى 2٪ فقط، وتقلصت معها كمية "ثاني أوكسيد الكلام" – "إكو-2". لكن بقيت إشكالية واحدة، وهي إشكالية التخلص منه. في البداية، دفنوا جزءاً منه في الصحراء، والجزء الآخر رمي في البحر. ثم تدخلت أطراف دولية طالبت بوقف تلويث البحر، وأنه يجب اتخاذ مزيد من القرارات لتقليص انبعاث "ثاني أكسيد الكلام" عبر تحديد الكلام نفسه. بعض الجمعيات ولجان حقوق الإنسان قالت إن مزيداً من هذه القرارات سيحدُّ من حرية التعبير، ولكن البعض طالب التمييز ما بين حرية التعبير، وحرية الكلام. فتدخل بعض اللغويين وعلماء الكلام في التعريفات بهدف التمييز بين: "الحديث" و"الكلام" و"القول"... ووقف الناس أمام خيارين أحلاهما مرٌّ: إما كلام، وأما تنمية. 
 

الأسير وليد دقَّة

يتحدَّر وليد دقة، المولود في العام 1961، من باقة "الغربيَّة" في فلسطين المحتلة. وقد اعتقلته السُّلطات الصهيونية في 25 آذار 1986، ووجَّهت إليه تهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين، وحيازة أسلحةٍ ومتفجِّراتٍ، والقيام بعمليَّاتٍ فدائيةٍ داخل فلسطين المحتلَّة عام 1948، وأهمُّها خطف جندي في العام 1984، لغرض مبادلته بأسرى فلسطينيين وعربٍ في سجون الاحتلال. وقد حُكِم عليه بالسجن المُؤبَّد، حُدِّد، لاحقاً، بـ37 عاماً. وقد أُضيفت لمحكوميَّته سنتان أُخريان بقرار محكمةٍ جائرٍ في العام 2017.  وقد كانت آخرُ إجراءات تكميم صوت دقَّة وملاحقته عزلهُ والتحريض الإعلاميُّ ضدَّه، بعد إصدار "حكاية سرِّ الزيت"، وقُبيل ولادة ابنته "ميلاد" عن طريق نطفة محررة مطلع العام 2020. بالإضافة إلى دوره البارز في قيادة الحركة الأسيرة، ممارسةً وتنظيراً، فإنَّ للأسير دقَّة العديد من الأعمال الفكرية والأدبية والأكاديمية، ومنها: "يوميَّات المقاومة في مخيَّم جنين 2002" (2004)، "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" (2010)، "الزَّمن الموازي" (2011)، و"حكاية سرِّ الزَّيت" (2018)، وهي جزء من ثلاثية لليافعين، تضم أيضاً، مخطوطتي: "حكاية سرِّ السَّيف" و"حكاية سرِّ الطَّيف".