محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون... سألني أحدهم: هل أنت الشاعر الماركسي؟

2021-03-12 11:00:00

ممالك الرعب والموت والجنون... سألني أحدهم: هل أنت الشاعر الماركسي؟
Sleeping Boy, Louay Kayyali, 1972

لا بأس.. قد أكتسب تجربة للمقارنة بين المخابرات الجوية ومخابرات أمن الدولة، وقد أكتب عن ذلك في المستقبل. تركي علم الدين رغم أنه محقق خطير، إلا أنه لا يبدو عدوانياً أو متوحشاً كالبهيم علي مملوك والذئب جميل حسن.

لماذا كل هؤلاء وبواريدهم؟

أمن أجل اعتقال شخص مثلي؟

أإلى هذا الحدّ هم مرعوبون، أم يريدون أن يزرعوا الرعب؟

نهضتُ عن الأرض، وأنا أقول في نفسي ساخراً: عادت البذلة بحاجة إلى الغسل يا جميل.

في صالون الشقة وجدت صوري منضّدة ومتراصفة على الأرض. استباحة العام أثارت شهيتهم على استباحة الخاص، ولا أدري إن كان هناك حدود سيتوقفون عندها.

سألني أحدهم: هل أنت الشاعر الماركسي؟

قلت: أنا أكتب الشعر، وأميّز بين الشاعر وغير الشاعر.. أما شاعر ماركسي، فأول مرة أسمعها في حياتي.

في حيّز صغير عند منور الشقة رأيت وسمعت ما يشبه مكتب اتصالات لا سلكية.

بعد قليل أخرجوني من الشقة مكبلاً.

كان مضى أكثر من نصف ساعة، وتمنيت أن تكون فادية غادرت المكان.

وضعوني في سيارة صغيرة خضراء طراز " أوبل"، وخرجوا بي من المخيم. كنت أتمنى لو يراني أحد يعرفني ويبلغ عن اعتقالي.

في ساحة باب مصلى أنزلوني من السيارة، ونقلوني إلى سيارة ثانية، ثم إلى سيارة ثالثة قرب ساحة العباسيين. 

يتصرفون معي كما لو أنهم اعتقلوا رئيس مافيا.

نهاية المطاف كانت في الفرع الداخلي.

إذن بعد أن باركتني المخابرات الجوية، ستباركني الآن مخابرات أمن الدولة!

وضعوني في غرفة تحت الدرج بالقرب من مدخل المبنى. ربما هي زنزانة الاستقبال. فوجئت أن أكثر من عشرين "بطانية" مفروشة على أرضها. هذه حبسة خمس نجوم مقارنة بالمخابرات الجوية. لم أكترث للشخص الذي دفعني إلى داخل الزنزانة. المهم أن هناك أكثر من عشرين بطانية، وأستطيع النوم بعد سهرة طويلة لم أنم فيها أكثر من بضع إغفاءات. 

حاولت أن أستحضر مشاهد من أفلام أو مسرحيات كوميدية أزجّي بها الوقت فلم أفلح، ولكني أفقت على أحد يرفسني وهو يصيح: 

ونايم كمان يا بعد عيني؟

تعوا شوفوا يا خلق ألله.. لسه ما بلَّش التحقيق والأخ نايم.

ولك يا مجنون شو انت.. مفكِّر حالك عند أمّك.. والله لخليك تنسى حليبها.

كنت مقتنعاً أنني كلما نمت أكثر، كلما كان ذهني أصفى واستعداداتي أفضل في مواجهة التحقيق.

بعد دقائق أو ساعات لا أدري، فقد كنت نائماً، أيقظني أحدهم وقال لي: تطلّع فيني مليح واسمع شو بدّي قلّك. جهّز لي أفكارك كويس. بعد شوية برجع تا آخدك لعند المحقق.

حتى الآن تبدو لي الأمور هنا أقل وطأة من المخابرات الجوية، وآمل أن لا تتغير الصورة في غرفة التحقيق. قليلاً من الصبر يا ولد.. قليلاً من الصبر.

جاء ذاك الأحدهم ليأخذني إلى المحقق فوجدني نائماً.

- وّك شيطان يطرقك ويلعن دينك.. بعدك نايم؟

قلت: لا.. لا.. ها أنا جاهز.

أصعدني درجاً، ثم درجاً آخر، وأنا أتثاقل لعل طارئاً يحدث فأنجو من هذه المذأبة. ولكن انتهت الأدراج فوجدت نفسي أمام المحقق تركي علم الدين. 

سمعت بهذا المحقق من قِبل بعض المعتقلين. يقولون إنه ذكي وخطير وعقله آلة حاسبة.

الأذكياء في هذه الحالات يخيفون أكثر من الحمقى.

لا بأس.. قد أكتسب تجربة للمقارنة بين المخابرات الجوية ومخابرات أمن الدولة، وقد أكتب عن ذلك في المستقبل.

تركي علم الدين رغم أنه محقق خطير، إلا أنه لا يبدو عدوانياً أو متوحشاً كالبهيم علي مملوك والذئب جميل حسن.

حدَّقَ بي ملياً بنظرات يمكن أن يقرأها المرء في أكثر من اتجاه، ثم ابتسم وهو يقول: أترغب في أن تكون لطيفاً معنا، ونكون لطفاء معك؟

قلت: طبعاً. 

تمنيت حينها لو كنت مؤمناً لأقرأ المعوّذات.

أمسكَ دستةً من الكتب أو الكراريس وسأل: هل وصلتك هذه؟

هذا المحقق يركّز على ما لم يتوقف عنده علي مملوك وجميل حسن.

عندي إحساس أن المحقق تركي علم الدين لا يعرف عني شيئاً، ولكنه يجسّني كما يجسّ الضبع فريسته.

نهضتُ عن الكرسيّ قليلاً، لأوحي له بأني أحاول معرفة ما في يده من كراريس، فقال:

اجلس اجلس.. يبدو أنك لا تنوي أن تتعاون معنا.

نادى على أحد ما وقال له: أنزله ودعه يرتح ساعتين وأعده لي.

نمت قرابة الساعتين وأعادوني إلى تركي علم الدين.

قال لي: أعرف أنك شاعر، وفي ودي أن أساعدك. أنا أحترم المثقفين كثيراً. قبلك كان عندنا الكاتب فراس السواح. تعرفه طبعاً. كان الرجل محترماً ونحن عاملناه باحترام وعاد إلى بيته، فهل تنوي العودة إلى بيتك؟

تُرى هل تعرّض فراس للتعذيب؟

هل أجبروه على أن يقول ما لا يريد؟

هل هو ما زال موجوداً عندهم ويحاول المحقق إقناعي أنه صار حرّاً؟

أخرجني تركي علم الدين من هواجسي بقوله: هات.. احكيلي.. هل كانوا يعطونك الجريدة؟

قلت: قبل أن أجيبك، قل لي ما اسم جريدتهم، وبعدها لك كل ما تريد؟

هزّ رأسه مبتسماً وهو يقول : حسناً.. جريدة الراية الحمراء.

قلت: شكراً. قل لي ما هو المطلوب مني الآن.

قال: لا تستعجل. انزل وفكّر ساعتين ثلاث. فكّر جيداً وعُد لي.

في الحقيقة سبق وفكّرتُ جيداً، ونمت جيداً، قبل أن يوقظني أحد العناصر وهو يهز رأسه يميناً ويساراً مستغرباً كيف لمثلي أن ينام.

صحيح أني كنت مرهقاً ونعساً، ولكني كنت أنوي أيضاً أن أعطيهم فكرة بأني ليس لدي هواجس تعكر صفو نومي.

أخذني العنصر إلى ما يبدو أنه ساحة التحقيق، وصرخ: يا بو رمزت. سيدي أحضرت لك المتهم.

أعرف أن أسماء مثل رفعت ونجدت وحكمت أصلها تركي، ولكن رمزت هل هو تركيّ أيضاً؟

وضعني أبو رمزت في الدولاب وسألني: بماذا كانوا يعذبونك في الجوية؟

قلت: بالخيزرانة.

قال: نحن هنا نعذّب بالعصا.

كانت العصا التي وضعها على قدميّ ثقيلة بما يكفي لإقناعي بأنها ستكسّر عظام قدميّ.

قلت: يا أخي أرجوك.. ألا يمكنك أن تساعدني للخلاص من هذه الورطة؟

قال: تعترف فتخلص.

قلت: بمَ أعترف؟

قال: سألك المحقق إن كانوا يعطونك الجريدة.

قلت: حسناً.. كانوا يعطونني إياها.

قال: كم عدداً أعطوك؟

قلت: اثنين.

قال: كذّاب.. أربعة.

قلت: أربعة.

قال: ستة.

قلت: ستة.

قال: قل الصحيح.

قلت: أقول الصحيح.

قال: تكذب.

قلت: لا.

سألني عن اسم الجريدة، فقلت أن اسمها جريدة "الرأي الحمراء". أعرف أن في صيغتي خطأ لغوياً، ولكن ما أدراهم؟

ضحك أبو رمزت من أعماقه وهو يقول: أنت قريت اسمها بعينيك؟

قلت: نعم.

- قُلْ الحقيقة.

- هذه هي الحقيقة.

- برحمة ميتينك منين جايب اسم الجريدة؟

قلت: والله أنا لا أعرف شيئاً عن الجريدة، ولكني لكي أخلص من هذه المصيبة التي أنا فيها، سألت المحقق عن اسم جريدتهم، فقال لي أن اسمها: جريدة الرأي الحمراء.

قال: ولك يا جحش.. يا كرّ.. قالّك جريدة الراية.. الراية الحمراء. قوم نام عمي قوم.. اجري بهيك تحقيق.

في الصباح أخرجوني من الغرفة التي تحت الدرج، وأخذوني إلى أحد المكاتب، فاستبشرت خيراً.

لا بد أن أبو رمزت نقل حديثي إلى المحقق، فاقتنع بأن لا علاقة لي بالرابطة.

رجل أشيب نحيف هادئ طرح علي بضعة أسئلة عن اسمي ومواليدي وعملي ثم أشار لهم أن يأخذوني.

كنت أتوقّع أن يصعدوا معي الدرج إلى الباب الخارجي ويتركوني هناك لحال سبيلي.

للأسف أن الوقائع سارت بعكس التوقعات. أخذوني باتجاه الداخل الذي يرين عليه هدوء ثقيل وصمت متربّص. 

فتحوا أحد الأبواب المتراصفة على يساري فوجدت نفسي داخل زنزانة لا تكاد تتسع لي.

أبلغوني بمواعيد الطعام وغسل الأواني والخروج إلى التواليتات مع تحذيرات من أي تواصل مع الزنازين الأخرى ثم أغلقوا الباب وابتعدوا.

رحت أقرأ الأسماء المكتوبة على جدران الزنزانة. أسماء أصدقاء كثيرين مرّوا من هنا.

كنت أتأمل كل اسم أعرفه وأسترجع بعض ذكرياتي معه وأبتسم. 

ما الذي يدعوني إلى الابتسام.. أهي المفارقة، أم الإحساس بالتواصل، أم التفاؤل بأني سأخرج من هنا مثلما خرجوا؟

أثناء الخروج إلى التواليتات رأيت بعض الأصدقاء: جمال سعد الدين، أحمد رشيدات، برهان الزعبي، فاروق العلي، نور الدين بدران وآخرين. الكلام ممنوع ولا شيء أكثر من اختلاس نظرات خاطفة وابتسامات للاطمئنان ورفع المعنويات.

بعد ثمانية عشر يوماً سمعت سعال أبو رمزت وهو يفتح باب الزنزانة.

لا بد أن هناك قراراً بإطلاق سراحي، فأنا لم يثبت عليّ أي شيء يثير حفيظتهم.

- تعال معي لنشوف.. ما بعرف إذا حظك مليح ولّا خرا.

أخذني أبو رمزت إلى مكتب تركي علم الدين الذي نظر إليّ بحيادية طمأنتني.

- والله يا فرج حاولت أن أساعدك، ولكنك لم تساعد نفسك. أنت ما بدّك تعترف عندنا، لذلك رح رجّعك للمخابرات الجوية، وهم يعرفون كيف يتعاملون معك.

كما لو أنها قفزة بمظلة لم تفتح.

إلى الجوية مرة أخرى؟

أي حظّ منكود هذا؟ 

كيف أقنعهم أن يبقوني عندهم؟

كل مكان في العالم أهون من المخابرات الجوية.

جهنم نفسها أهون.

وضعوني في سيارة جيب عسكرية، وقال قائد الدورية للسائق: إلى الآمرية.. لكن من الطريق البرّاني.

رحت أفكر في ما ينتظرني هناك من أسئلة واحتمالات ومناورات ومباغتات في أسئلتهم وإجاباتي.

ليتني لم أرجع من بودابست أبداً.

ليتني هربت إلى بيروت.

ليتني ذهبت إلى أي مكان في العالم.