خطر في ذهني مرّةً أن أقدِّم طلب انتساب إلى مخيم اليرموك، لعلّي أكون لاجئاً سورياً في سوريا. لا مكان يستطيع تحمّل تبعاتي أكثر من مخيّم اليرموك. لهذا أمِنتُ له وصار لي فيه أهلٌ كثيرون.
سنتين وأنا في حالة تخفٍّ احترازيّ، إلى أن داهمت الأجهزة الأمنية بيوت أهلٍ وأقارب وأصدقاء بحثاً عني، فصار التخفّي واقعاً لا سبيل إلى الخروج منه إلا بالاعتقال أو مغادرة سوريا.
ممالك الرعب والموت والجنون لا تقتصر على السجون وفروع المخابرات وغرف التحقيق ونقاط التفتيش والحواجز الأمنية الثابتة والطيارة على الطرقات ومداخل المدن والأحياء. فأن تكون مطلوباً ومطارداً ومضطراً إلى التواري وحياة التخفّي، يعني أنك داخل تلك الممالك، بل في مسالكها وأنفاقها السرية والخطرة. هي حياة موازية ولكنها تحت الأرض. الخروج إلى السطح يقتضي الكثير من الحسابات والترتيبات. هناك من تخشى أن تلتقي بهم مصادفةً ومن يخشى أن يلتقي بك. زيارتك لأي بيت يعني أنه وأصحابه صاروا في دائرة الخطر والتهديد في حال معرفة السلطات بذلك. بيوت الأهل والأقارب محرّمة عليك فهي تحت رقابة أمنية مستمرة. وحتى بيوت الأصدقاء المقربين هناك عيون تراقبها.
إذن ينبغي أن تبحث عن أماكن أكثر أمناً تأوي إليها، بعيداً عن أقارب الدرجة الأولى وخارج الأصدقاء المعروفين.
اضطررتُ مراراً إلى النوم في أماكن وأبنية قيد الإنشاء.
عضني الجوع مراراً وأنا أتحين فرصة لقاء بأحد ما يدعوني إلى بيته. كان معي بضع ليرات تركتها كاحتياطي أخير لشراء الخبز عند الضرورة القصوى.
ذات مساء اضطررتُ لمغادرة بيت أحد الأصدقاء في حي مساكن برزة بدمشق، إذ جاءه ضيوف من أهله وأهل زوجته.
رحت أمشي في شوارع فرعية ضيقة، لا تدخلها سيارات دوريات الأمن، وأنا أفكر في مكان مناسب أقضي ليلتي فيه. في الواقع لدي وفرة من الأصدقاء المستعدين لاستقبالي، ولكن علاقتي بهم على الأرجح معروفة أو مكشوفة بالنسبة للمخابرات. يبدو أنني سأصادق الأبنية الجديدة التي لم يكتمل تركيب أبوابها وشبابيكها. صار النوم على سرير، تألفه ويألفك، ترفاً أو حلماً.
مثل برق تكسَّر فجأةً، لينكشف أمامي وجه صديقي الشاعر العراقي مهدي محمد علي.
منذ شهور تركته في بيروت، وظننت أنه بعد الاجتياح الإسرائيلي خرج مع المقاومة إلى تونس أو قبرص. تمنيت لو أن إضاءة الشارع غير كافية لعله لا يرى ملامحي، ولكنه مال في اتجاهي وهو يفتح ذراعيه ويمدّ صوته منادياً باسمي.
أعرف مهدي جيداً. هو كريم إلى حدٍّ مربِك، بل إلى حد أنه يشعر بالإهانة لو لم يستطع أن يلبّي صاحبَ حاجة.
قال لي: البيت قريب جداً، ولا تضطرني أن أقسم بالعظائم أني لا أقبل منك أي اعتذار.
صداقتي بمهدي أكثر من حميمية، ولكن لكونه لاجئاً عراقيّاً فإن حرصي على سلامته ينبغي أن يكون مضاعَفاً. لا بدَّ أن يأكلني الندم فيما لو كنتُ سبباً في اعتقاله أو طرده من سوريا.
لم أطل المكوث في بيته. تبادلنا بعض الأخبار، وشربنا نخباً، ثم أبلغته أن لديّ مشاغل ضرورية، على أن أزوره لاحقاً. ماحكني مهدي كثيراً وأغراني بأحاديث سيحكيها لي، وبأنه يرغب في سماع رأيي بقصيدة جديدة له، وأن لديه غرفة فائضة أستطيع أن أنام فيها.
صارحته بأني صرت مطلوباً، وأن قراري بالمغادرة ضروري ونهائي.
- إلى أين ستذهب في هذا الليل؟
- الخيارات كثيرة فلا تقلق.
- لن أغفر لنفسي لو أصابك مكروه.
- عمر الشقي بقي فلا تقلق يا صديقي.
كان مهدي في منتهى الحزن، وكنت مرتاح الضمير، رغم أني لا أعرف إلى أين سأذهب.
لم تكن أموري حينها في أشدّ أحوالها. أستطيع أن أتدبّر أموري، وزوجتي تستطيع أن تتدبّر أمورها. لم تكن أحوالنا ملائمة أبداً لأن يكون لدينا طفل يقتضي استقراراً ورعاية، ولكن الظروف قرّرت أن تأتينا طفلة أسميناها سومر.
سنوات ونحن ننتقل في مخيم اليرموك وما حوله من بيت إلى آخر. كانت أغراض بيتنا متقشفة إلى الحدود التي يمكنني حزمها خلال ساعة ونقلها دفعة واحدة بسيارة سوزوكي صغيرة. ولكن بعد أن صار عندنا طفلة تغيّرت الأمور واختلفت متطلبات البيت، واشتدت الضغوط على الحزب، فأرسلنا ابنتنا إلى أهلي في حمص.
حملة اعتقالات 1986 مختلفة عن كل ما سبقها. إطلاق الرصاص على رفاقنا علناً في الشوارع. إنهم يسدِّدون بنادقهم ومسدساتهم على النصف الأسفل. واضح أنهم يريدون اعتقالنا أحياء، ولكن لا شيء يضمن دقة التسديد.
كانت تصلنا الأخبار بصورة عصية على المنطق والتصديق. كيف يطلقون النار على أشخاص أقصى ما في حوزتهم جريدة الحزب أو بياناته أو بخَّاخات كانوا يخطّون بها في الليالي شعارات بسيطة كان أكثرها انتشاراً شعار "خبز وحرية"؟!
لم أكن أستطيع الاطمئنان والعودة إلى البيت قبل أن ألتقي بجميع أعضاء ارتباط مجموعات الرفاق البخَّاخين الذين هم ضمن إطار مهمتي.
مداهمات البيوت تأخذ أشكالاً استعراضية لمجموعات مدججة بالأسلحة.
ملاحقة الرفاق في شوارع دمشق وإطلاق النار عليهم يتكرر.
أي معركة هذه بين ذؤبان الموت وغزلان الحرية؟!
يندر أن ينقضي يوم من غير أن نسمع بإطلاق النار على أحد الرفاق، والرفاق لا حول لهم ولا قوة. يتساقطون في الشوارع مضرجين بدمائهم أو ينجون وتُكتَب لهم أعمار جديدة.
قرارات الحزب واضحة وقاطعة في رفضها لحمل أي سلاح يدافع به الرفاق عن حياتهم. الأحداث تترى مثل قضاء وقدر تراجيدي. لقد أطلقوا الرصاص على الرفيق خليل حسين فوقع في عرض الشارع، وقبله أصابوا جمال ربيع ولم تسعفه جراحه في الزحف بعيداً، ثم وصلتنا أخبار مقاومة علي رحمون وإصابته بطلق ناري، ثم كريم عكاري الذي ركض بأقصى ما يستطيع وكاد ينجو لولا أنه نزف كثيراً وخارت قواه. كان علينا أن ننتظر أياماً ممضَّة إلى أن تصلنا أخبار عن بقائهم أحياء.
مخيم اليرموك هو بالنسبة لي الحاضنة الأكثر أماناً، فمعظم أهله معارضون، بالوعي والتجربة والفطرة، لنظام الأسد منذ نذالة موقفه من المقاومة الفلسطينية في الأردن، ولاحقاً في لبنان.
وأنا كنت معروفاً في سوريا كشاعر فلسطيني، إلى حدّ أني حين نشر لي ملحق الثورة الثقافي 1977 قصيدتي عن "لوبية"، كتب الشاعر شوقي بغدادي على الصفحة المقابلة تقريظاً للقصيدة، مشيراً إلى بداهة حرارة العاطفة كون الشاعر فلسطينياً ويكتب عن مأساته. فيما بعد وبسبب اتساع انتشار قصيدة "لوبية" في المخيم، سعت الأم الرائعة، أم علي الشهابي، إلى لقائي، فدعتني ولبّيت دعوتها، ولم أكن أعرف حينها أن ابنها عليّ رفيق لي في حزب العمل الشيوعي. أمّ علي جديرة أن تكون أماً لألف، وأختاً لألف، وابنة لألف. هي إحدى منارات مخيم اليرموك عاصمة الألم والثورة والشتات الفلسطيني.
خطر في ذهني مرّةً أن أقدِّم طلب انتساب إلى مخيم اليرموك، لعلّي أكون لاجئاً سورياً في سوريا. لا مكان يستطيع تحمّل تبعاتي أكثر من مخيّم اليرموك. لهذا أمِنتُ له وصار لي فيه أهلٌ كثيرون.
ذات ليلة هانئة من ليالي عام 1986، كنت في بيت صديقي الناقد يوسف سامي اليوسف "أبو الوليد"، وهو بالمناسبة لوبانيّ وقصيدتي في ملحق الثورة مهداة إليه.
أبو الوليد قامة أدبية من قمم ما أعطت فلسطين، بل من قمم ما أعطى التاريخ العربي المعاصر. لحسن الحظ والتقادير والمصادفات أنه كان من خارج أوساطي السياسية والثقافية، وهو من جيل أكبر، ولهذا يصعب أن تتوقع الأجهزة الأمنية وجود علاقة وثيقة بيني وبينه. لذلك غالباً ما كنت ألجأ إليه، فهو صديق وأخ ومعلِّم، وأشعر في بيته أني بين أهلي.
ولكن حدث ذات ليلة أن جاء الصديق السيناريست حسن سامي اليوسف، ليبلغنا وهو هادئ الملامح، رغم تلاهث أنفاسه بسبب المسافة الفاصلة بين منزليّ أخويه أبو النور وأبو الوليد، أن عناصر الضابطة الفدائية التابعة لفرع فلسطين موجودون في بيت أخيه أبو النور، يسألونه إن كان يعرف شيئاً عن فرج بيرقدار أو مكان سكنه، وقد أجابهم أبو النور أنه لا يعرف شيئاً، ولكنه لو كان يعرف لما دلَّهم عليه.
في الحقيقة أنا وأبو النور صديقان، فهو شاعر علاوة على كونه قائداً عسكرياً لإحدى كتائب قوات العرقوب في حركة فتح، ولكنه عاد إلى مخيم اليرموك بعد أن خرجت المقاومة من لبنان تحت وطأة الاجتياح الإسرائيلي، ثم وطأة حرب الأسد التي شنها ضد منظمة التحرير، وبالتالي إخراج فتح وعرفات من طرابلس.
كان عليّ أن أغادر بيت أبو الوليد وفق الطريق الذي رسمه لي، ثم لأتحرك بعدها بهدوء، فلا بد أن العيون مبثوثة في الحيّ، وينبغي أن تكون حركتي اعتيادية لا تلفت نظر أحد.
ذهبت إلى أحد الأصدقاء الذين يضعون على نوافذهم إشارات أمان متفَق عليها.
اللعنة.. إشارة الأمان غير موجودة. لا بد أن حملة الاعتقالات قد وصلت إليه.
المخيَّم الذي هو حاضنة آمنة لي تحوَّل إلى حصار تزداد حلقاته ضيقاً.
كل بيت أتوجه إليه في هذا الليل يمكن أن يكون مصيدة.