بعد ساعتين عاد أبو لويس ليخبرني أن الأمن كان كامناً في بيت المطبعة وأنهم أطلقوا نيراناً غزيرة على أبو النور، وأنهم أطلقوا عليه أيضاً. كان أبو لويس يحدثني وهو يخلع بنطاله. رأيت الدماء تغطي ساقيه ورأيت قطع زجاج صغيرة تتناثر.
حياة التخفي تجعلك أحياناً تشتهي الاعتقال. ولكن إن حدث الأمر فسيكون كارثياً على أمي الممتلئة ثقة باستحالة اعتقالي. لا أحد من أهلي يستطيع الوصول إليّ متى شاء باستثنائها. هي يقظة وشجاعة بما فيه الكفاية، وهي التي حذّرتني من أن أترك لدى أبي أي خيط يوصله إليَّ، لأنه حين اعتقلته دورية مخابرات من حمص ونقلته إلى دمشق ليضغطوا عليه من أجل أن يدلَّهم على مكان سكني، لم يكن قوياً كما ينبغي، وحين عاد من عندهم بعد يومين كان الخوف بادياً عليه حسب قناعة أمي.
ذات عصر جاءني المراسل المركزي للحزب، ليبلغني أن هناك موعداً مع مراسل منطقية حمص، وأن معه امرأة كبيرة في العمر تريد أن تلتقي بالرفيق سيف أبو المجد. هكذا كان اسمي الحركي حينها.
كنت واثقاً أن تلك المرأة هي أمي.
حملة الاعتقالات في أوجها، وعليّ أن ألتقي بجميع المراسلين القادمين من المناطق، وأن أتصرف حيال ما تحمله رسائلهم من أخبار وأسئلة واقتراحات.
أوصلت أمي إلى بيت الصديق تركي مقداد في المخيم، وأبلغتها أن لدي مواعيد لا تقبل تأجيلاً، على أن أعود إليها حوالي التاسعة، فعمل تركي كموسيقي يقتضي أن يغادر منزله في العاشرة ليلاً.
لم أتمكن من حل جميع الإشكاليات التي جاء المراسلون من أجلها، فنقلتُ أمي إلى بيت صديق آخر إلى أن انتهيت من مواعيدي، وعدت إليها قرابة منتصف الليل.
كنت أقيم في بيت في منطقة الربوة، فأخذتها إليه، وخرجت أبحث عن شيء نتعشاه.
فوجئت أن جميع المحلات المجاورة مغلقة على غير العادة، فذهبت إلى بقالية صغيرة يسهر صاحبها طويلاً لأنها قريبة من منطقة سكن جامعي وبعض الطلبة يتأخرون في سهراتهم. وجدت البقال يتهيّأ للإغلاق فرجوته أن يبيعني شيئاً لأني وجدت كل المحلات مغلقة. قال لي:
- يبدو أنك لا تعرف أنها ليلة المولد النبوي، ولكن حظك جيد، فعشائي الذي أرسلته لي زوجتي صار من نصيبك، وأنا أغلق أبكر من المعتاد وسأتعشى في البيت.
مع اشتداد الملاحقات الأمنية، وكثرة حواجز التفتيش، اضطررنا إلى الاعتماد على الرفيقات والصديقات في مراسلاتنا مع مناطق حمص وحلب واللاذقية. ومجيء أمي فرصة كي أحمِّلها بعض المنشورات. بدت لي أمي وهي تلفّ المنشورات بإحكام حول بطنها وظهرها، كما لو أنها تدرَّبت على هذه الأمور طويلاً.
ركبتُ إلى جانبها في نفس الباص، إذ كان عليّ ما أفعله في حمص. عند مفرق معلولا أوقفنا حاجز مخابرات. أمي تعرف أني مطلوب، فضغطت بيدها على فخذي وبدا عليها التوتر.
قلت لها: لا تخافي. لا أعرفك ولا تعرفينني. بالمصادفة أنت جلستِ بجانبي. صعد عناصر الدورية إلى الباص وطلبوا إبراز بطاقات الهوية.
أطبقت أمي على قلقها وعلى إيمانها بالله كما لو أنها واقفة على الصراط. هكذا كانت ملامحها، وربما هكذا خُيِّل إليّ.
لحظات كابوسية شديدة الوطء ومليئة بالشتائم التي يوزّعها عناصر الدورية على ركّاب الباص بازدراء مبالغ فيه. ربما هم مستاؤون لأنهم لم يجدوا صيداً بين الرُكّاب.
لاحقاً قالت لي أمي أن ريقها كان ناشفاً خوفاً عليّ، وسألتني كيف استطعت أن أكون هادئاً عند تقديم بطاقتي.
قلت لها أن هدوئي كان ظاهرياً، أما أعماقي فكانت في أقصى الخوف والقلق.
- الله أعمى أبصارهم وهم ينظرون في بطاقتك.
سألتها إن كان أخي إبراهيم نجح في محو أميتها، فحاولت أن تتمالك ابتسامتها العريضة وهي تحرك يدها ورأسها إشارة إلى بداهة الأمر.
أريتها بطاقة هويتي فقالت: كيف يكون اسمك محمد هدلة والصورة صورتك؟
هذه الحادثة خلقت لدى أمي ثقة تامة باستحالة اعتقالي، وبالتالي لم تفلح معها كل محاولاتي في إقناعها أو تهيئتها لقبول احتمال الاعتقال ولو من باب المصادفة والتقادير.
كان علي أن ألتقي بأحد أعضاء منطقية حمص لترتيب أمور اجتماع اللجنة المركزية، فدمشق لم تعد آمنة على الإطلاق.
في أحد مشاويري بين حيّ الأرمن بحمص وحيّ كرم الشامي، انتبهتُ إلى أن سائق التاكسي يرمقني بين حين وآخر ويبتسم. تجاهلته ونويت أن أنزل في أقرب مكان يمكن أن أضيع بين أزقته. ربما أحس السائق بأني أضمر شيئاً فبادرني:
- كيفك أستاذ فرج؟ كأنك لا تتذكرني.
في الحقيقة أنا لم أتذكره، ولكني سألته:
- من أين تعرف أخي فرج. كثيرون لا يميزون بيني وبينه مع أننا لسنا توأمين.
فوجئ الرجل، وراح يحدثني عن معرفته بفرج حين كانا يدرسان في ثانوية المثنى بن حارثة، ويحمّلني أمانة أن أوصل احترامه ومحبته وتحياته إلى أخي.
سألته إن كان يعرف بالقرب من هنا محلاً يبيع السجائر، فدَلّني. دفعت له حسابه وشكرته معتذراً عن قبولي عرضه في أن ينتظرني مجّاناً إكراماً لي ولأخي.
عدت إلى دمشق لأعلم باعتقال أحد الأصدقاء الذين لهم علاقات يمكن أن تفضي إلى بيت المطبعة في حي جوبر، وبالتالي يتوجب نقل المطبعة وترك البيت نهائياً.
أعضاء المكتب السياسي للحزب كلهم في الحجر باستثنائي، فأنا المكلف بقيادة لجنة الطوارئ التي تدير شؤون مواجهة حملة الاعتقال، ولكن تفريغ بيت المطبعة يقتضي وجود الرفيق "أبو النور" فهو الوحيد الذي يعرف بيت المطبعة.
كان الرفيق "أبو لويس" قد أحضر سيارة الرفيق "أبو جرجي"، فركب معه أبو النور بعد أن اتفقنا على تفاصيل الخطة والمواعيد الاحتياطية، التي نلتقي فيها إذا لم يعد أبو لويس إلى بيت الربوة الذي أقيم فيه ويعرفه أبو لويس ويتردد عليه.
بعد ساعتين عاد أبو لويس ليخبرني أن الأمن كان كامناً في بيت المطبعة وأنهم أطلقوا نيراناً غزيرة على أبو النور، وأنهم أطلقوا عليه أيضاً. كان أبو لويس يحدثني وهو يخلع بنطاله. رأيت الدماء تغطي ساقيه ورأيت قطع زجاج صغيرة تتناثر.
طلبت منه أن يسرد لي ما حدث بالتفصيل قبل أن ألتقي بقيادة الحزب، فقال:
حين صرنا على مقربة من بيت المطبعة طلب مني أبو النور أن أتوقف، أشار لي باتجاه باب بيت المطبعة وقال انه سيمر بجانبه ليلقي نظرة عابرة.
- لماذا لم تذهب أنت حسب ما هو مخطط؟
- حاولتُ ثنيه عن الأمر،على أن أذهب أنا أولاً، فلم يقبل. ذهب ومرّ بموازاة الباب ثم عاد وتوقّف أمام الباب. كان عناصر الأمن على السطح فألقوا عليه "بلوكة" من الأعلى، فحادَ عنها وركض باتجاه عمق الحيّ، ولكن تبعته زخّات رصاص كثيفة من بنادقهم. وحين أدرتُ محرك السيارة فتحوا النيران باتجاهي. أطفأت أضواء السيارة وغصتُ في المقعد واتجهت نحو البساتين إلى أن اصطدمت السيارة بإحدى الأشجار فزحفت بعيداً عنها ثم جئتك.
- هل ترجح أنهم أصابوا أبو النور أم يمكن أن يكون دخل في أحد الشوارع ونجا؟
- لا أعرف. آخر لحظة رأيته فيها كان يجري، وكان الرصاص في اتجاهه أغزر مما رأيت طوال حياتي.