آفي نيشر يعيد هندسة الوعي تجاه "البطولات" الصهيونية

2022-01-07 10:00:00

آفي نيشر يعيد هندسة الوعي تجاه

مما لا شك فيه كون نيشر ملتزمًا لرواية شعبه، لكن اختياره حسنين المصري بطلًا مركزيًا يبدأ الفيلم ويختتم بصوته فيه شيء يثير الريبة حول محور قصة يدور بإطار معقم تمامًا من كون فلسطين وطنًا للفلسطينيين. تظهر قرية "حمامة" كتهديد للسلام، وترويع للأمان، وعائق أمام التطور اليهودي على الأرض الصحراوية النائية.

اختار المخرج الإسرائيلي آفي نيشر ورغم مرور 73 عامًا، أن يعيد للأذهان قصة "مقاومة" سكان القرية التعاونية "نيتسانيم" في فيلمه الجديد "صورة النصر" وهو فيلم ينطق نصفه بالعربية المصرية، ويصوّر قصة تدمير المستوطنة الناشئة على يد الجيش المصري في العام 1948 كردٍ على إعلان استقلال إسرائيل. وعلى الرغم من أن العربية تفتتح الفيلم وتحتل نصفه، ويطرح القصة من وجهة نظر صحفي مصري، إلا أن الفيلم -وإن ادعّى غير ذلك- لا يأتي ليحاسب الملك فاروق على خطوته الأنانية -كما تبدو لنا في الفيلم- بل يأتي ليعيد للأذهان إحدى قصص البطولات وفق الرواية الصهيونية، والتي أثارت الجدل على مدار سنوات طويلة بسبب استسلام ما تبقى من سكانها المقاتلين ووقوعهم أسرى لدى المصريين ومن ثم عودتهم ضمن صفقة تبادل أسرى.

يلتزم السيناريو الى حد كبير بالوقائع التاريخية والأسماء، لكنه بالطبع لا يهدف الى إظهار الكثير من الحقائق  التي تزعزع الرواية الصهيونية وتنصف الفلسطيني باعتباره انسانًا يعيش على ذات الأرض، كما يدعي منتقدو الفيلم الإسرائيليون. بطل القصة حسنين (حسنين هيكل) صحفي مصري شاب متحمس يرافقه مصور في رحلة توثيق لما يدور في القرية الفلسطينية "حمامة" التي تعج بالفدائيين، فيرافقهم ليوثق ما يحدث هناك باحثًا عن صورة النصر. وجود القرية الفلسطينية يشكل خطرًا وجوديًا على القرية التعاونية الناشئة "كيبوتس نيتسانيم" حيث يجتمع شباب وشابات يهود أتوا من مختلف الدول الأوروبية ليقيموا بيتًا لهم في مكان قاحل ليس بعيدًا عن شاطئ البحر الذي أتى بهم إلى هذه الأرض، فيحرص الفيلم على الإشارة الى ذلك من خلال مشاهد تعيد للأذهان ما يدعيه بن غوريون حين يقول "جئنا لنحيي القفار" مضمّنّة بحياة سلمية مفعمة بالأمل والعمل.

قد يبدو للحظة أن الفيلم يعرض قصتين بالتوازي، فالمساحة الزمنية التي تحتلها وجهة نظر حسنين واسعة، والحرب من أجل الأرض تبدو شرعية لدى الطرفين وقصص الحب كذلك، ثم يلوّح باستغلال الشعوب من قبل القيادات، والتضحية، ومفهوم الوطن، لكن تفاصيل صغيرة تكشف عن أن السرد يسوقنا للتعرف على التعددية الاسرائيلية، والثقافة ذات الجذور الأوروبية، والنظام والانصياع والتخطيط الدقيق والتنفيذ المدروس، بينما في الجانب العربي فكل شيء موصوم بالنقص! ففيما يتحرك الإسرائيلي ليلًا ويدخل عقر دارنا، يتحرك الفلسطيني نهارًا كاشفًا روحه وجسده للعدو، مغامرًا مدفوعًا بالإيجو مفتقدًا للنباهة أو الاستراتيجية القتالية حتى تسعفه الدوافع القومية المدججة بالجنود والدبابات والطائرات المقاتلة، قتال مصحوب بموسيقى خلفية نابضة بالفرح تعكس السخرية من عدم التكافؤ بين مجموعة شابة تقاتل جيشًا نظاميًا وانتقادًا مبطنًا للمواقف الداخلية الإسرائيلية المنتقدة لنتائج حادثة نيتسانيم.
 


يُظهر نيشر ذكاءً في تهذيب التفاصيل الصغيرة محولا اياها الى اشارات جديرة بالاهتمام، فمشهد تهريب أطفال ونساء المستوطنة ليلًا سيرًا على الأقدام يذكرنا بصور تهجير القرى الفلسطينية خلال النكبة. ومقولة حسنين "تشوف عدوك كإنسان عادي وده بيأثر فيك" يقابلها تصريح الجندي الاسرائيلي "سأكون سعيدًا بالتحدث إلى العرب" أو قول قائد الوحدة العسكرية "المصريون ليسوا برابرة، لن يقصفوا المصابين".. ما هي إلا إشارات تعرض امكانية التفاوض وسلام مولود من ألم مشترك تغيب فيه الصهيونية وما أتت به من كوارث على أصحاب الأرض الأصليين!

مما لا شك فيه كون نيشر ملتزمًا لرواية شعبه، لكن اختياره حسنين المصري بطلًا مركزيًا يبدأ الفيلم ويختتم بصوته فيه شيء يثير الريبة حول محور قصة يدور بإطار معقم تمامًا من كون فلسطين وطنًا للفلسطينيين. تظهر قرية "حمامة" كتهديد للسلام، وترويع للأمان، وعائق أمام التطور اليهودي على الأرض الصحراوية النائية. أما نيتسانيم فقرية وادعة تدب فيها الحياة، يفزع أطفالها من صوت الرصاص والطائرات، وتتساوى فيها النساء في العمل والقيادة والقتال مع نظرائها الرجال.

يظهر حسنين هيكل كأي عربي في فيلم اسرائيلي نموذجيّ، مأسور حسنين بجمال المقاتلة الصهيونية "ميري"، يشيد بقوتها وعزمها، وتحفر صورتها مكانًا في ذاكرته. بالحديث عنها يبدأ ويختتم الرواية، أما التفاصيل الباقية فيحشو بها نيشر فيلمه ليجعلنا نحن أيضًا مأسورين بما تتمتع به ميري من روح قيادية وقتالية بطولية تصل حد الفداء حينما تختار قتل قائد الفدائيين الفلسطينيين انتقامًا لقائد وحدتها العسكرية أفراهام.

عندما يختار المخرج "صورة النصر" عنوانًا فعلينا أن نتساءل ونبحث عما يعنيه. على سطح الرسد تطفو رغبة الملك فاروق في تخدير وعي شعبه بصورة زائفة عن النصر من فلسطين، لكن من المنتصر في الواقع؟ ومن الذي سيلتقط الصورة؟ أي صورة وكيف سيخلدها التاريخ؟ في لحظات الفيلم الأخيرة تنجلي أمامنا صورة ميري التي تبهت أمامها كل محاولات التقاط صورة نصر عربي! يُغيب الاحتلال والبؤس الفلسطيني بقرار فاروق حرق المواد المصورة حاملة الحقائق القاسية من فلسطين وتوثيق طرد الفلسطينيين من أراضيهم، واختار أخيرًا عرض صورته على شعبه في ساحة المعركة وكأنه أم النصر وأبيه! لكن من يتذكر صورة كهذه؟

بدءًا من استحضار صورة لا تزال تردداتها حاضرة في السياق "الاستقلال والقتال" الإسرائيلي، أردفها نيشر بصور نصر صغيرة تجتمع كالفسيفساء لتشكّل صورة نصر أكبر. ففي عزف البيانو المخنوق بالحصار انتصار، وفي افتداء رفاق السلاح انتصار، وفي معاهدة سلام مع العدو انتصار، وكذلك في العودة ضمن عملية تبادل أسرى. يقزّم نيشر كبرى الدول العربية، ويستبدلنا بحسنين، يطلقه ويسجننا في حالة من الشعور العميق بالخذلان فارضًا علينا صورة نصر رسمها ببراعة ودقة منذ دقائق الفيلم الأولى. نصر بعيد عن الوطن العربي كله!