هناك كثيرٌ من الفقراء الذين لا عمل لهم سوى الخبز المجفف وعلى الأغلب كنت سأفعل ما فعله الشرطي الذي وصلته شكوى بشأن الجرذان على إحدى النساء العجائز التي تعمل بتجفيف الخبز حيث قالت له "عندما ذهبتُ إلى المخفر: «قلت للضابط أنا بمشيش، بشيلوني شيل. يعني أشحد؟ قالي خلص روحي يا حجّة»."
أنا لا أرى نفسي فهلويًّا في مجال الأعمال الحرّة، لستُ ممّن يستطيعون حبك مشروعٍ تجاريّ ناجح وتحويله إلى ماكينة لدرّ الأموال. ودائمًا ما كنت أسأل نفسي ماذا لو كنت فقيرًا ابن عائلة فقيرة؟ هل كنت سأستطيع انتشال نفسي ممّا كنت سأكون فيه؟ ودائمًا يأتيني الجواب بلا. حتى إنّني لستُ موظّفًا مثاليًّا، وغالبًا ما كنت أُرجع هذا إلى محبتي بالعمل ككاتب أو كمؤدٍ صوتي. لكن حقًّا هل حبي للعمل الثقافي نابع من رفاهية ما حظيتُ بها؟
جميع هذه الأسئلة تزداد عندما أقرأ مادّة عن أساليب النجاة لدى فقراء البلاد. والمزعج لدي أنَّ بعض هؤلاء عاشوا قبل لجوئهم إلى أساليب النجاة هذه حياة الموظّف المثالي، بل وبعضهم يمتهنهما معًا.
تحتوي مقالة "دورة الخبز الناشف: من حاويات القمامة إلى علف المواشي" على منصّة حبر الإلكترونية على تحقيق يشي بعدّة جوانب من سوقٍ غير رسمي في الأردن وهو تجارة بيع الخبز الناشف مكسّرًا إلى أصحاب المواشي. للأسف عندما بدأتُ بقراءة المقال ظننتُ أنّني على وشك اكتشاف جانبٍ إبداعيّ جديد في مجال تربية المواشي حيث يقوم المربون بتوفير أسعار العلف بخلط ما يُقارب ثلث الكمية المعتادة بالخبز الناشف، ممّا يعني ربحًا زائدًا لهم، إلى أن ارتطمتُ بهذه العبارة: "ما يفعله الخبز هو أنه يربي في الخراف كميات كبيرة من الشحوم، وليس اللحم، وأنه بمجرد إيقاف تغذيتها به، فإن وزنها ينزل مباشرة وبشكل كبير. في حين يؤكد المهندس الزراعي، والخبير في الإنتاج الحيواني، محمد السوالمة، أن استخدام الخبز في تغذية المواشي هو واحد من الأخطاء الشائعة في أوساط المربين، فالخبز «لا يساهم في تسمين اللحم ولا في إدرار الحليب، كما يفعل العلف. وبالتالي فإن الوفر المتحقق في سعر العلف، ينعكس ضعفًا على المردود من المواشي»".
أول سؤالٍ خطر في بالي هو؛ هل إذن يربح أكثر من يتّكل على العلف أكثر؟ أمّ أنَّ تجارة من يستعملون الخبز أربح لأنَّ الخاروف السمين يُباع بالوزن؟ أمّ أنَّ تجارتهم أفضل لأنّ مواشيهم أرخص ثمنًا وبالتالي سوقها فيه حركة أكثر؟
في جميع الأحوال يبدو أنَّ معايير مهنة تربية المواشي تقتضي بألا يقوم المربي بإطعام الماشية الخبز الجاف لأنّه ماليًّا ليس مفيدًا، ومع ذلك هو يستمرُّ في فعل ذلك لأنّه يريد أن يوفّر الآن على أمل إصلاح الحال، وبطبيعة الممارسة فإنَّ الحال لن يتم إصلاحه فينتج عن ذلك، طبعًا، عدم إصلاحٍ للحال. وببداهة هذه العبارة ثقيلة الدم تستمرُّ الممارسة وتخلق سوقًا رديفًا للخبز يعمل به. المفاجأة الثانية، موظّفٌ إداريٌّ سابق في الجامعة الأردنية عمل فيها 25 عامًا قبل أن يتقاعد ويعمل في مجال المفروشات حتى أُنهك منها فأصبح الآن مجفِفَ خبزٍ بدوامٍ كامل. وأيضًا تعمل في هذا المجال لكن بساعات جزئية آذنة مدرسة اتفقت مع المحال والمخابز على جمع الخبز البائت والتالف لتقوم بتجفيفه وبيعه كدخلٍ إضافيّ.
لقد عملتُ في السابق كإداريّ في معهدين من قبل، وفي حين أنّني أسعى لاحتراف العمل الفكري والثقافي، يؤسفني أن أعلم أنَّ إداريَّين في مؤسستين تعليميتين، هما عمليًّا أكثر أساسيّة للمجتمع المحلي من المعهدين اللَّذين عملت بهما، اتجها إلى تجفيف الخبز وبيعه كطعامٍ للمواشي رغم أنّه مضرٌّ لها ولا يفيد عمليًّا المربي الذي اعتقد أنّه بهذه الحركة قام بضربٍ موفّق بتوفيرٍ لحظيّ لكلفة العلف. لست في صدد إصدار حكمٍ أخلاقيّ عليهما، وليس المغزى هنا معرفة إذا كانا على علمٍ بضرر بيع الخبز الناشف على المواشي، لكنّني كذلك لم أكن أعلم أيّ موقف عليّ أن أتخذ؟ صناعة تقوم بتمشية الحال لفقراء لا يذوقون اللَّحم يبيعون طعامًا يعود بالضرر على أصحاب المواشي ومستهلكي المواشي والمواشي نفسها، أي صناعة تقوم بضرب صناعة أخرى. أم أنَّها مهنة شريفة في حياة لا شرف فيها إلا بهذا الطريق الوعر؟
هناك كثيرٌ من الفقراء الذين لا عمل لهم سوى الخبز المجفف وعلى الأغلب كنت سأفعل ما فعله الشرطي الذي وصلته شكوى بشأن الجرذان على إحدى النساء العجائز التي تعمل بتجفيف الخبز حيث قالت له "عندما ذهبتُ إلى المخفر: «قلت للضابط أنا بمشيش، بشيلوني شيل. يعني أشحد؟ قالي خلص روحي يا حجّة»."
الإحباط ومقدارٌ لا بأس منه من الخوف يصيبني عندما أقرأ تحقيقًا كهذا. وهل هُناك حلٌّ مثاليٌّ للفقر والعيش الكريم في دولة لا تستطيع تأمين حقوق البشر بسبب عدم امتلاكها لإرثٍ استعماريّ يخوّلها أن تستغلَّ الشعوب الأُخرى لمصلحتها ومصلحة "مواطنيها"؟ دائمًا يوصلني هذا التفكير إلى استنتاجاتٍ مفادها أنّنا كثيرو العدد على كوكبٍ لم يعُد يتحمّلنا. كيف لا أشعرُ بكلّ هذا عند قراءة هذه المقالات؟