"بيروت في عين العاصفة": توثيقُ انتفاضةٍ ورواية سِيَرٍ

2022-06-03 10:00:00

هذا غير منفصل عن حيّز فلسطيني. فالمصري مُدركةٌ، في سيرتها الحياتية والسينمائية والثقافية، أنّ التداخل عميقٌ وأساسيّ بين الفلسطيني واللبناني، وحنين رباح، ابنة البقاع، تحمل آلة تصوير فوتوغرافي في جولاتها في مخيمات فلسطينية، فهمومٌ عدّة تجمع عرباً في حيّز واحد، وفضاء واحد.

بين "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، والانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2022)، تلتقط الفلسطينية مي المصري، في وثائقيّها الجديد "بيروت في عين العاصفة" (2021، 75 دقيقة)، تفاصيل حياةٍ في هاويةِ خرابٍ وقلاقل، ويوميات شاباتٍ يواجهن، بفنّ وحماسة ووعي وتطلّعات وآمالٍ، آلة قتلٍ تبغي كسر إرادة أناسٍ، وإحالة عيشهم إلى جحيم دائم.

اللحظتان أساسيتان. لكنّ المدى -الإنساني والثقافي والنفسي والاجتماعي والمعرفي والنضالي- الممتد بينهما، مساحةٌ تختارها المصري لولوج سينمائيّ إلى هوامش متفرّقة، تتراكم في تشكيلها متن حكايةِ مدينةٍ وأفراد، وفي رسمها الوثائقي ملامح زمنٍ وانقلابات. التوثيق، معها، يترافق واشتغالٍ تفكيكيّ لجوانب ترتبط بالنواة الأساسية (يوميات الشابات بين لحظتي الانتفاضة والانفجار) بشكلٍ غير مباشر، فالجوانب جزءٌ من النصّ العام لبلدٍ واجتماع وشعب.

في جديد المصري هذا، تتمثّل النواة الأساسية في قراءة تجارب أربع شابات (ثلاث لبنانيات، وشابّة عراقية مُقيمة في بيروت) في تلك المساحة، الزمنية والنفسية، الفاصلة بين اللحظتين. لكنّ القراءة غير ملتزمةٍ الفعل المباشر للتجارب واللحظتين معاً فقط، فالمصري تنبش جوانب، تراها أساسية في سيرة كلّ شابّة، أي في حكاية موروثاتٍ وقناعات وعلاقات أسَريّة، تصنع وعياً فردياً يُحرّض كلّ شابّة على ابتكار أساليب تصرّف وأدوات اختبار في تلك الفترة اللبنانية (وفي خارجها أيضاً)، التي (الفترة) ستُكون إحدى "أسوأ" اللحظات في تاريخ البلد وناسه: أزمة اقتصادية ـ اجتماعية خانقة، غير مسبوقة لبنانياً منذ نشأة "دولة لبنان الكبير" (1 سبتمبر/أيلول 1920) على الأقلّ؛ سوء إدارة "وطنيّة" في مواجهة تفشّي وباء كورونا (الإعلان عن أول إصابة في لبنان بهذا الوباء حاصلٌ في 21 فبراير/شباط 2020)، ما يؤدّي إلى مزيدٍ من المصائب والأعطاب والإصابات؛ الانفجار المزدوج، الذي به يُختَم الوثائقيّ.

تُرافق مي المصري الشابات الأربع، الشقيقتين نويل وميشيل كسرواني وحنين رباح والعراقية لُجين ج، في يوميات اختبارهنّ انتفاضة (في تقديم الوثائقيّ، تكتب المصري مفردة "انتفاضة" لوصف الحاصل بدءاً من "17 أكتوبر"، بينما تختار الشابات تعبير "ثورة")، ستتعطّل أولاً بسبب عنف الردّ عليها من أحزابٍ وطوائف مُمسكة بالبلد وناسه، ورافضة أي خروج للبلد وناسه عليها، وثانياً بسبب كورونا. لكنّ المصري ـ بعينها الوثائقية الثاقبة، وخبرتها في التعامل مع مسائل حيّة في وجدانٍ وتفكيرٍ وانفعال وتأمّلات ـ تريد إخراج ما في نفوس الشابات وعقولهنّ ومشاعرهنّ إزاء مسائل حياتية، تبدأ في العلاقات الأولى لكلّ واحدةٍ منهنّ مع محيطها، أي العائلة. فالعائلة أول إطلالة للفرد على الذات والعالم، وما يحصل في العائلة ومعها (بسببها أو بفضلها)، يتكوّن وعي الفرد وانفعالاته.

هذا غير عابر. هذا تفصيلٌ يُفيد بكشف بعض معالم التكوين، الحياتي والنفسي والثقافي والاجتماعي على الأقل، لكلّ شابّة، وضمناً لواقعٍ لبناني ـ عربي، يستمرّ في فرض شروطه القاهِرة على المرأة أساساً، رغم محاولات جمّة لمناهضة هذا الفرض، لقناعةٍ بحريةٍ شخصية تمنح المرء صُنع وعيه ومعرفته وسلوكه. هذا جانب تأسيسيّ للفرد، تضعه مي المصري في واجهة المشهد، كوضعها مسائل أخرى أيضاً في الواجهة نفسها، فالمنطلق معقودٌ على انتفاضةٍ، لن تكون ضد نظامٍ فاسد وناهِب وقاتل فقط، بل ترجمة لتأثيرات هذا التكوين العائليّ أيضاً، الذي يُساهم في تحصين كلّ شابة منهنّ في مواجهة نظامٍ اجتماعي ـ ثقافي ـ تربوي، يكاد يتساوى في عفنه وعنفه مع نظامٍ فاسد وناهب وقاتل.

كلّ كلام تقوله كلّ شابّة يجمع، في نبرته ومضمونه وحيويته وصدقه وانفعاله، بين تربية وواقع ورغبات واختبار، وإنْ تكن نتائج "الانتفاضة" مُخيّبة، إلاّ أنّها تبقى تجربة مفيدة لمزيدٍ من وعي ومعرفة ونضج. سردهنّ لوقائع تربية منفتحة يتساوى ورواياتهنّ عن سِيَر واهتمامات ومشاغل فردية، تلتقي في الانتفاضة، وتنفتح على الذاتيّ في الوقت نفسه. البوح بحكايات فردية يترافق وعودة دائمة إلى ذلك التكوين النفسي والمعرفي والانفعالي في العائلة. النزول إلى الشارع، في "انتفاضة 17 أكتوبر"، مُرتبط بهذا الماضي الفرديّ أيضاً، لذا تذهب الكاميرا (تصوير جوسلين أبي جبرايل وباسم فياض ولُجين ج.) إلى المنازل العائلية، حيث التكوين ينكشف في سردٍ مُكثَّف لعلاقات قائمة بين الشابات اللبنانيات والأهل/العائلة، بينما لُجين تحاول إيجاد مشتركات بين بيروت وبلدها، فتتكامل الحكايات بينهنّ.

هذا غير منفصل عن حيّز فلسطيني. فالمصري مُدركةٌ، في سيرتها الحياتية والسينمائية والثقافية، أنّ التداخل عميقٌ وأساسيّ بين الفلسطيني واللبناني، وحنين رباح، ابنة البقاع، تحمل آلة تصوير فوتوغرافي في جولاتها في مخيمات فلسطينية، فهمومٌ عدّة تجمع عرباً في حيّز واحد، وفضاء واحد.

ترتكز مواجهات الشابات على فنونٍ، إلى جانب المشاركة الميدانية في "انتفاضة 17 أكتوبر". الشقيقتان نويل وميشيل تصنعان أغنيات (كتابة وتلحينا وغناء)، وحنين تختار التصوير، كلُجين أيضاً. الفنون غير محصورة بالانتفاضة، والمشاركة الميدانية تحتاج إلى توثيق، يُصنَع في صورةٍ وأغنية وابتكارات تؤكّد حرص الشابات على إيجاد متنفّس إضافي في مواجهة خراب (الذهاب إلى الانتفاضة مع جَمَلٍ، وتصوير فيديو كليب لأغنيةٍ للشقيقتين كسرواني، مثلاً). التفاصيل الصغيرة منعكسةٌ في اكتشاف الشابات بعض بيروت غير المعروفة لهنّ. تجوّل في أنقاض صالة سينمائية، أو في شوارع متفرّقة، غير مختلف عن تجوّل في ذاكرة مدينة واجتماع، وعن رغبةٍ في أنْ تكون الانتفاضة، بجزء منها، استكمال لمعرفةٍ واطّلاع.

في توليف (كارين ضومط) "بيروت في عين العاصفة"، المعروض للمرّة الأولى عالمياً في الدورة الـ34 (17 ـ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)"، والمعروض أخيراً في الدورة الـ8 (21 مايو/أيار ـ 5 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان السينما الفلسطينية في باريس (وبين 7 و9 يونيو/حزيران 2022 في مرسيليا، للمرّة الأولى)، تمزج مي المصري صخب انتفاضة بهدوء عاصفةٍ تهبّ على المدينة وناسها (تخلو الشوارع كلّياً في لقطاتٍ عدّة، فالوباء قاتل، وفصل الشتاء يبدو، في لقطات قليلة، كأنّه يصنع عاصفةً لن ترحم. لذا، أتكون العاصفةُ تلك انفجاراً مزدوجاً، بكلّ ما يطرحه الانفجار من خراب وأسئلة وأعطاب؟)، كما تمزج حيوية راهنٍ بماضٍ ذاتي (العائلة) وعام (بيروت والعالم).

أنْ يكون الفيلم الوثائقي شهادة سينمائية عن لحظةٍ ومسارٍ وانفعال وانشغال وتأمّلات ومناكفات ومواجهات وتحدّيات، فهذا أساسيّ في صناعة هذا النوع، الذي تستمرّ مي المصري في إنجازه. هذا ما يصنعه "بيروت في عين العاصفة": شهادةٌ عن سيرة بلدٍ واجتماعٍ وأناسٍ، بأصوات شابات وحيويتهنّ ورغباتهنّ وعشقهنّ لحياةٍ، وبإصرارهنّ على عيش تلك الحياة وفقاً لقناعات مكوَّنة من تربيةٍ منفتحة، تناقض إرثاً منغلقاً، وتصبو إلى مزيدٍ من "انتفاضات"، بالفنّ والعيش والسلوك.