مذكرات "أبو الترانسفير": بعلبة معدنية زرقاء نهبنا أراضي الفلسطينيين!

2022-06-05 10:00:00

مذكرات

إن مذكرات يوسف فايتس حسبما يعرضها الفيلم تعكس صورًا لأعمال الفلاحة وازدهار الزراعة في مختلف أنحاء فلسطين -وهو ما حاول المستعمر جاهدًا اخفاءه- بيارات تمتد على مساحات واسعة فتدغدغ الشر في نفس المؤسسات الصهيونية الساعية الى سلبها وتحويل ماركة "برتقال يافا" إلى "برتقال يافو"!   

فيما تستمر عمليات تحريش أراضي النقب، ومصادر الأراضي في الجليل والمثلث لصالح شق الشوارع، بناء المست طنات، بناء الحدائق العامة والمواقع التذكارية والمحميات، تجدر بنا العودة الى مخازن الحركة الصهيونية وقراءة المخططات التي كتبت في الماضي مع تخطيط مستمر ومنهجي للاستيلاء على كامل الأرض والتي لا تزال تنفذ حتى يومنا هذا.

كيف بدأت عمليات مسح الأراضي ووضع الخطط لنهبها؟ وما هو مصير أصحاب الأرض؟ يجيب فيلم "العلبة الزرقاء" على جانب من هذه الأسئلة. 

في افتتاحية فيلمها تقول المخرجة الإسرائيلية ميخال فايتس: "كنت أسير في أحراش البلاد برفقة والدي وهو يقول لي فاخرًا جدّك الأكبر هو المسؤول عن كل هذا. أو كأنه يقول يوما ما سيكون كل هذا ملكاً لك". عاشت فايتس حياتها -كما افراد عائلتها جميعًا- على إيقاع "الأسطورة" المسماة "يوسف فايتس"، نالت التقدير أينما حلت في أوساط الإسرائيليين، وكانت تغدو ملكة يوم احتفالهم بغرس الأشجار في شهر شباط، فوالد جدها يوسف هو الصهيوني الذي يقف فعليًا وراء التخطيط وتنفيذ عمليات نهب الأراضي الفلسطينية وتحريشها؛ سواء كان ذلك سلبًا أو احتيالًا على من جهلوا قيمة الأرض مقابل المال. وهو كذلك صاحب اللقب المرعب "أبو الترانسفير"! 

في فيلمها "العلبة الزرقاء"، (blue box) تروي ميخال تفاصيل صغيرة ودقيقة حول نكبتنا، معززة بالوثائق ودفاتر مذكرات يوسف فايتس التي يصرّح فيها عن إنجازاته المتمثلة بسلب الأرض وإقامة المستوطنات. في العام 1908 وصل فايتس إلى أرض فلسطين قادما من الإمبراطورية الروسية. ورغم سنه الصغير إلا أن رغبته بالاستيلاء على الأراضي كانت جارفة، فكرس حياته للعمل على ابتكار طرائق للاستحواذ على الأرض وطرد الفلسطينيين. 

تعرض المخرجة أمامنا قصتها العائلية، ومن خلالها نتعرف على فكرة إقامة جمعية "الصندوق الدائم لإسرائيل" وكيف تم جمع التبرعات في علب معدنية زرقاء اللون، تحولت إلى رمز  كونها دعمت وأسست للجهة التي تختص في تحريش الاراضي وطمس المعالم الفلسطينية والاستيطان على أرض القرى بعد تهجير أهلها.   

طرد العرب خلاص لليهود! 

لم يكن يوسف فايتس يختلف عن غيره من مجموعة الصهاينة مخططي الاحتلال، فهو مقدم المشورة لدافيد بن غوريون، وله اليد الطولى في ارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين وطردهم من البلاد. كان فايتس يؤمن بأن من يزرع الأرض يمتلكها، لذا كان يستولي على المساحات غير المزروعة، وكان يصف نشاط مؤسسة "دائرة أراضي إسرائيل" و"الصندوق الدائم لإسرائيل" بأنها عمليات لإنقاذ وخلاص الأرض، وحول ذلك كتب في دفاتر مذكراته: "تجولنا في القرى العربية، وخطرت ببالي فكرة حول البرنامج الذي اقترحته منذ سنوات: تفريغ الأرض من أجلنا. بيننا وبين ذواتنا يجب أن يكون الأمر واضحًا: لا مكان في البلاد لشعبين معًا. إذا خرج العرب ستصبح البلاد أكثر اتساعا، إذا بقي العرب ستبقى الأرض ضيقة وشحيحة. الحل الوحيد هو أن تكون أرض إسرائيل بلا عرب. لا مجال للتنازل! يجب ألا يبقى أحد، ولا حتى قبيلة.  بهذه الطريقة فقط، عند طرد عرب إسرائيل سيأتي الخلاص". 

يمكن اعتبار هذا الفيلم مهمًا لنا كفلسطينيين في سيرورة جمع المعلومات حول الجرائم التي ارتكبت بحقنا وسبقت تأريخ النكبة كفعل حدث في العام 1948. ففتح مذكرات شخصية صاحبة التأثير الأكبر على الواقع، مدججة بأفكار تستبيح أرواح شعب طمعًا في منح ممتلكاته لشعب آخر، تفتح أفقًا لدحض مقولة الصهيونية الأساس: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، فمن فمك أُدينك!

إن مذكرات يوسف فايتس حسبما يعرضها الفيلم تعكس صورًا لأعمال الفلاحة وازدهار الزراعة في مختلف أنحاء فلسطين -وهو ما حاول المستعمر جاهدًا اخفاءه- بيارات تمتد على مساحات واسعة فتدغدغ الشر في نفس المؤسسات الصهيونية الساعية الى سلبها وتحويل ماركة "برتقال يافا" إلى "برتقال يافو"!   

تخرج المخرجة في فيلمها هذا إلى رحلة بحث شخصية وقومية، تتساءل حول ما كبرت عليه إلى جانب كل مواليد البلاد من أبناء شعبها من إخفاء للتاريخ المتعلق بالنكبة وترفض بشكل واضح التعامل مع فظائع النكبة كأنه "لم يكن مفر من ذلك". تنبش الجمل الواردة في يوميات يوسف فايتس وتحاول ربطها بالروايات التي تم الترويج لها على مدار أكثر من 74 عامًا. 

تُسائل وتحاور أفراد عائلتها الذين يفضل معظمهم تناسي وإنكار دور جدهم في طرد شعب كان يعيش على أرضه ويفلحها، ينكرون دوره في ترويع النفوس، وتبرير "التخلص" من كل عربي يعيش هنا.

ربما يكون في هذا الفيلم محاولة شخصية للتكفير عن ذنب الجد الأول، وربما تكون مجرد نقل معلومات مثيرة للاسرائيليين الذي يقفون على جانب التغاضي وعدم التعامل مع الماضي والتركيز على حاضر يرون فيه الفلسطيني عدوًا يعيش حياته طامعًا في التخلص منهم، وهم على الطرف الآخر لا يرغبون إلا بالدفاع عن أنفسهم! 

يتمتع الفيلم بسرد يسير على محور زمني متتابع واضح المسار، يبدأ من سنوات الثلاثين ويستمر حتى حرب العام 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. يبني القصة رويدًا رويدًا وينتقل ما بين سيرة فايتس ومذكراته وبين أفراد العائلة. تعزز كل معلومة تساؤلات ميخال ويصاحب صوتها بعض الصور وهي تصر على التحقيق فيما ينسب لـ "أبو الترانسفير"، لكن ما من مفر أمام المنكرين، فإن كل معلومة واردة هنا مستقاة من جملة كتبها فايتس بخط يده، وهي تدل بشكل واضح على أنه ورفاقه لم يأتوا هنا لتجفيف المستنقعات وإصلاح الأرض وإحياء القفار. لربما -كما ذكرت المخرجة في مراسلة قصيرة معها- يضع هذا الفيلم كما غيره جزءًا من الحقيقة امام الإسرائيليين، ويريهم كيف بنيت دولتهم. لكن هذا الفيلم -تماما كمعظم الاسرائيليين-  يتفادى الحديث عن اللاجئين وكيف يعيش عشرات الآلاف مهجرين داخل الوطن، وأكثر من مليون بعيدًا عن الوطن بعد أن استنشق أهله رائحة الدم خلال عمليات التطهير العرقي. 

أرشيفنا وأرشيفهم! 

إن واحدة من أكثر الأمور التي تفطر قلب الفلسطيني هي التوثيق، مع غياب أرشيف فلسطيني جامع، تنكشف أمامنا يوما بعد يوم قطع من أرشيف إسرائيلي وصهيوني يرتبط بالنكبة وتاريخ فلسطين. وفقًا الفيلم اعتمدت فايتس في فكرة ونص وبحث الفيلم على مذكرات جدها التي تصطف دفترا يلاصق دفتر في خزانة البيت. لم تعِ بدايةً مدى أهمية ما كتبه في مذكراته لكنها ما لبثت فهمت قيمتها وتأثيرها على حياة من تم تهجيرهم واقتلاعهم من أراضيهم، وكذلك حياة الطرف الآخر ممن يعيشون الإنكار مع سبق الإصرار أو سهواً أو بحثاً عن الراحة. 

مؤخرًا بدأ عدد من المخرجين الإسرائيليين يقدمون أفلامًا ترتبط بتاريخ الفلسطينيين، أفلامًا مهمة وقوية تعزز صدقية الرواية الفلسطينية وتؤكد بأن النكبة لم تكن حدثا بل مخططًا بدأ منذ سنوات العشرين. وتكمن قوة هذه الأفلام ودورها في مقدرة مخرجيها الحصول على مواد أرشيفية لم وربما لن يكن بمقدور مخرج فلسطيني او أجنبي مطالعتها.

يرى بعض الصحافيين والمحللين في هذه الأفلام شق طريق نحو الإنصاف، والاعتراف بأن كارثة حلت هنا راح شعب بأكمله ضحيتها على اختلاف الأشكال. لكني أرى فيها أرشيفا بديلا علينا أن نحسن استغلاله!