في الواقع تحسَّنت نوعية الخبز كثيراً، بل ربما صاروا ينتقون خبز مزدوجتنا بعناية خاصة. انتشر الخبر عن تحسُّن خبزنا، فصارت تأتينا رسائل من المهاجع الأخرى مفادها أن الخبز الذي يصلهم سيء جداً، وأن علينا أن نفعل شيئاً من أجلهم.
كنت وبعض الرفاق نخضع بين حين وآخر للتحقيق مع جولة تعذيب، وهذه مكافأتها سيجارة إضافية على حصة الرفيق اليومية، فإن كان التحقيق بدون تعذيب فلا سيجارة ولا يحزنون.
كنت أحد المحظوظين بالحصول على كثير من السجائر الإضافية، إلى درجة جعلت الرفيق أبو بافل يشعر بالغبن لعدم استدعائه للتحقيق. وأبو بافل به شرَه للتدخين، ولديه إرادة وقدرة على التحمُّل، وبنية جسدية قوية، ولكن لسوء حظه نادراً ما كانوا يطلبونه للتحقيق، وفي إحدى المرات طلبوه، ولكنه عاد بدون جولة تعذيب فخسر السيجارة المأمولة، فصبَّ غضبه على وفرة حظوظي، وكأني أنا من أقرر جولات التحقيق والتعذيب.
كانت التحقيقات شغالة ليلاً نهاراً، وكانت حياة الرفاق شغالة ليلاً نهاراً، رغم كل ما يكتنف وضعنا من ضغط وتوتر بسبب ضيق المكان وضيق ذات اليد، واتساع حملة الاعتقالات وانعكاس ظروفها على الجميع. هناك من ينامون قبل منتصف الليل ويستيقظون باكراً، وهؤلاء يحتلون أماكنهم في الأقسام الأرضية، وهناك من يستيقظون مساء ويسهرون حتى الصباح، وهؤلاء يحتلون أماكنهم على سطح المزدوجة الذي يشبه السقيفة بارتفاع 120 سنتمتراً. بالطبع تبادل الأمكنة بين الرفاق لا يحتاج لأكثر من أن يحمل المرء بطانيته إلى المكان الذي يرغب أن ينام فيه.
في تلك الشهور كانت الزيارات ممنوعة وكان وضعنا المالي في منتهى السوء.
وفوق كل ذلك صار الخبز الذي يقدمونه لنا أشبه بعجين ملفوح بنار ذات نوايا في منتهى السوء، ويصعب أن تأكله حتى الكلاب. بدأ الرفاق يتذمرون ويطالبون لجنتهم المنتخبة بأن تتصرّف. ولأن اللجنة السابقة لجنة "صقور" فقد كانت عرضة لانتقادات كثيرة تتعلق بنقص ديبلوماسيتها في التعامل مع السجانين في هذه الظروف الحساسة، ما جعل المزاج العام يميل إلى انتخاب لجنة "حمائم" وقد حظيتُ بـ "شرف" الفوز في عضويتها. لا أدري إذا كان من سوء الحظ أو حسنه أني كنت حينها في موقع "الناطق الرسمي" باسم اللجنة. تناقشنا كثيراً وتشاورنا مع كثيرين، وفي النهاية رست الخطة على أن نُري الرقيب رئيس الدفعة أن الخبز سيء جداً، على أن نكرر الأمر إذا تكررت نوعية الخبز في اليوم التالي، مع الطلب من رئيس الدفعة أن يبلغ إدارة السجن بأننا غداً لن ندخِل الخبز إذا بقي على نفس الحال.
عند مجيء الخبز في اليوم الثالث اتفقنا أن يقوم أحد أعضاء اللجنة بفحص الأكياس، وأن يبلغنا رأيه بنوعية الخبز. في المحصلة قررت اللجنة عدم إدخال الخبز، وتحدّثت أنا مع السجّان رئيس الدفعة، وأبلغته أننا لن ندخِل هذا الخبز، وأننا نريد مقابلة أحد المسؤولين في إدارة السجن. كان رئيس الدفعة أحمق أو متحامقاً فشتمني. رددت له الشتيمة فقال: سترى يا ابن الهيك وهيك.
يبدو أن قيادة الفرع كانت تنتظر هذه اللحظة منذ ثلاثة أيام.
خلال دقائق حضرت سرية من السجانين برفقة "أبو حسن" مدير انضباط السجن.
فتح أبو حسن باب المزدوجة وسأل عن المعترِض على الخبز، فتقدمتُ نحوه. قال: هذا أنت؟ كنت أتمنى لو كان واحد غيرك يا فرج. قلت: بل جيد أن أكون أنا لا غيري.
منذ بداية اعتقالي بدا لي أن أبو حسن لا يكرهني، بل إنه كان لطيفاً معي ويتودَّد لي أحياناً، ولا أعرف لماذا انقلبت حاله وازرقّت شفتاه وهو يمضغ كلماته ويبصقها بحنق: شرِّف معي برّا المزدوجة.
قلت: لن أخرج معك وأنت على هذا الحال.
- ما به حالي؟
- لو نظرتَ إلى نفسك في المرآة لما سألتني.
- ستخرج ورجلك فوق رأسك.
- لن أخرج إلا بحضور رئيس الفرع
- رئيس الفرع ليس هنا.
- إذن بحضور الضابط المناوب.
- خراي عليك وعلى الضابط المناوب.
أبو حسن حشاش مواظب، ويبدو أنه لم يكن أخذ قسطه من الحشيش في ذلك اليوم.
قال للعسكر: أخرجوه بالقوة.
كانت بنيتي الجسدية لا تزال رياضية، فتمسّكتُ بطرفي الباب، وصارت حركات أجسامهم وقبضاتهم أشبه بمعركة في فيلم سينمائي صامت. كنت أعرف أني أقاوم قدراً محسوماً، وأني لا أمتلك حينها سوى قوة اليأس. إحساس ممضّ بالقهر والعجز والاستفراد. كما لو أني فريسة يتناوشها رهط من الذؤبان. رفع أحدهم ساقيّ عن الأرض وحاولوا جرّي خارجاً، غير أنهم لم يستطيعوا فكَّ يديّ عن الباب.
كان أبو حسن يصرخ بالعساكر: والله لنيك ربكم يا كلاب.. عشرة تعجزون عن إخراج شخص واحد؟
تقدّم أحد العساكر وضربني على رأسي بشيء ما.
أيُعقَل أنه ضربني بكعب مسدّسه؟!
شعرت بنوع من الخدر واكتظاظ عتمة متثاقلة ثم غثيان وعجز عن التقيّؤ.
آخر ما أتذكّره أني حاولت الاتكاء على جانب الباب لكيلا أسقط دفعة واحدة.
لاحقاً صحوت على صوت بكاء يأتي من خلف أحد الأبواب. مَن هي تلك التي تبكي ولماذا؟!
يبدو أنهم حين حملوني خارج مزدوجتنا، مدَّدوني قرب باب مزدوجة الرفيقات.
شعرت أني بين الصحو والغيبوبة. أحسّ بما حولي ولكنَّ جفنيَّ مخيطان ولا يستجيبان لرغبتي في أن أرى ما الذي يحدث.
سمعت أحداً يلومني ويحمِّلني مسؤولية ما فعلت. كان الصوت يحاول إيصال تعاطف وعتب في آن معاً. أداء أشبه بدور مسرحي. لا بد أنه صوت العقيد عصمت هلال نائب رئيس الفرع. أعرف صوت الرجل جيداً، فقد سبق له واستقبلني في مكتبه لبضع ساعات حدَّثني فيها عن اللغة العربية وعن اهتمام أولاده بالموسيقا، وأبدى حينها تعاطفاً معي ورغبة في إنهاء تحقيقاتي ولا سيما تلك المتعلقة بما افترضوه جناحاً عسكرياً للحزب. والغريب أن التحقيق في هذا الملف قد أغلِق حينها فعلاً.
أصوات متداخلة ودق على الأبواب، وهناك من كان يصرخ أن الرفيق مازن الشعراني أغمي عليه، وأن الكلبشة في هذه الحال ستمزِّق معصميه.
حين فتحتُ عينيَّ وجدت الرفاق سمير الحسن ومازن الشعراني وعباس أبو ديمة، مشبوحين على شبك الحديد الذي يفصل بين كوريدور المهاجع وبين المنفردات والتواليتات. لقد كانت فرصة للانتقام منهم، بوصفهم الأكثر شغباً أو إيجاعاً للرأس، وربما لدوافع كانت مؤجَّلة وعِلمها عند مدير انضباط السجن.
أنزلوا مازن أولاً عن الشبك، ثم أعادونا جميعاً إلى المزدوجة.
جاء أحد الرقباء ليبلغني أن مدير انضباط السجن يرغب في مقابلتي، فرفضت. عاد الرقيب ثانية ليقول أن مدير انضباط السجن يريد أن يعتذر لك ويسألك إن كنت بحاجة إلى مستشفى، فإن لم تكن بحاجة فإنه يريد أن يعرف منك أساس المشكلة ليحلها. لم يكن لديّ أي رغبة في مقابلة أحد، ولكن رأي أغلب الرفاق، وإلحاح الرفيق سمير بخاصة، جعلني أوافق على اللقاء.
في الواقع تحسَّنت نوعية الخبز كثيراً، بل ربما صاروا ينتقون خبز مزدوجتنا بعناية خاصة. انتشر الخبر عن تحسُّن خبزنا، فصارت تأتينا رسائل من المهاجع الأخرى مفادها أن الخبز الذي يصلهم سيء جداً، وأن علينا أن نفعل شيئاً من أجلهم.
تُرى هل نحن مهيؤون لدوكة جديدة من أجل خبز بقية المهاجع؟