كاد حوار الطرشان هذا يستمرُّ إلى الأبد، كان هذا الحوار سيتحول إلى ملحمة سرمدية تتحدَّثُ عنه كتب الأساطير لو لم يقطعه الموت فجأة. ليس موت العجوز المسكين الذي لم يفقد الأمل بنصح الشاب، بل موت الشاب الذي لم يتحمَّل قلبه المرهف حيوية ضميره الحي فتوقف عن العمل.
وصل دور فريد بعد انتظار دام عزّه حوالي الثماني ساعات، إلى شبّاك ختم الجوازات في مطار اسطنبول. قدّم أخيرًا جوازه مفتوحًا على صفحة التأشيرة آملًا أن يُعجّل من العملية الأمنية ليلتحق بطائرته التي تُقلّه إلى الولايات المتحدة. بعد التدقيق والتمحيص سألت الموظفة السؤال الحاسم الذي سيمنح فريد ختم الخروج: Sir, are you vaccination؟
كان الوباء قد خفَّ وطؤه والسؤال عن المطعوم قد أضحى عادةً مزعجة، لكنَّ كاهل فريد لم يُثقَل بسبب ذلك. لقد استيقظ ضميره اللغوي الحي جدًّا، أو بالأحرى كان ضميره اللغوي الحي يقظًا ولا ينام، وقد عجز عن إجابة هذا السؤال بصيغته الخاطئة تلك. كيف له أن يجيب عن سؤالِ ما إن كان هو مطعومًا بالإيجاب؟ بالطبع أدرك فريد أنَّ السؤال عنى إن كان قد حصل على تطعيمٍ ضدَّ الوباء، ولكنّه لم يستطع أن يتغاضى عن حرفية السؤال. فهو إن أجاب الآن بنعم فإنّه يُقرُّ بأنّه المطعوم نفسُه، ونفسُه الأبيّة لا ترضى على نفسِه أن يقرَّ بإقرارٍ يستصغر فيه نفسَه أو يُغيّرها. وفريد شخصٌ فريد، وله في ذاته مفهوم خاصٌّ عن ذاته لا يتساهل فيه أبدًا.
لكنّه ليس غبيًّا كذلك، لقد أدرك رغم الامتعاض الذي أصابه أنّه لا يستطيع أن يجيب بلا أيضًا. لقد استطاع أن يرى فريد من خلال ضميره اللغوي ما قد يترتّب على نفيه كونه مطعومًا لأنَّ الموظفة ستفهم بأنّه لم يحصل على التطعيم. فالتجأ إلى الحل الديبلوماسيّ الأفضل الذي خطر على باله، وهو أن يشرح لها خطأها لتغيّر صيغة السؤال فيجيبها وهو مرتاح البال.
اعترضت فريد وضميره اللغوي مشكلة جديدة؛ فاللّغة التركية لم تكن ضمن مجال عمل ضميره اللغوي، فحيويته اقتصرت عنها. ورغم أنَّه من الصعب نظريًّا شرح الفرق في اللغة الإنكليزية بين الفعل بصيغته المصرّفة والفعل بصيغته كاسم مفعول للشخص الذي لا يُدرك الإنكليزية مستخدمًا اللغة الإنكليزية، ولزيادة في التفاصييل لم تكن تأبه كثيرًا بفهمها.
حاول تبسيط لغته، أو هكذا اعتقد أنّه يفعل، وحاول تلقينها السؤال كما يجب أن يُنطق، وأكثر فريد من حركة يديه لعلّهما جعلت الشرح أسهل. إلّا أنَّ طيبة قلب الموظفة جعلتها تظنُّ أنّه هو الذي لم يفهم سؤالها. وبعد تأفّفٍ وشتيمة صغيرة خرجت من بين شفتيها بصوتٍ منخفضٍ جدًّا، شرعت بمساعدته وتوضيح سؤالها معيدةً إياه نفسه بصيغته نفسها لكن بصوتٍ أعلى. ثمَّ استغبت نفسها بأنّها أصبحت إحدى هؤلاء الذين يعتقدون أنّهم إن رفعوا أصواتهم أصبحوا أكثر وضوحًا، وتذكّرت في أجزاء من الثانية كم اشتكت من كم المسافرين الأجانب الذين تلقاهم في المطار الذين يقومون بذلك معها كلّما كان هناك سوء اتصالٍ لغوي. فأسعفت سؤالها بحركة من يدها حيث حرّكت إبهامها بحركاتٍ متتالية بين السبابة والوسطى كناية عن حقنة وهمية آملةً أن تكون هذه الإشارة قد أضحت عالميًّا تعني أخذ المطعوم.
استاء فريد كثيرًا، فقد ضاع شرحه هباءً، وها هي تعيد بكلّ بلاهة صيغة السؤال نفسه. لا يزال عاجزًا عن الإجابة وقد أخذ الصفُّ وراءه يزداد طولًا وساقاه تعبتا من طول الوقوف. لكنّه لم ييأس، واستمرَّ بالشرح مستعينًا بألفاظٍ إنكليزية أُخرى لعلّها أوصلت الفكرة. والنتيجة كانت مماثلة، لم تفهم الموظّفة بماذا يبرطم هذا الأحمق ليجيب عن سؤال كهذا. بالطبع حسُّها الأمني تحرّك، وبدأت تشكُّ بأنّه من أولئك الذين يعتبرون المطاعيم نوعًا من مؤامرة ما، وهذه البرطمة ليست سوى اعتراضٍ على سؤالها الذي يُقيّض حقّه بالحركة.
اقترب أحد رجال الأمن من الشبّاك وسألها ما الخطب فقالت له بأنَّ هذا الرجل، وأشارت إلى فريد، لا يفهم أسئلتها، وطلبت منه المحاولة، فأعاد الرجل السؤال على فريد بنفس الصيغة. لم يُقدّر فريد هذه النتيجة، سيضطر الآن إعادة الدرس لهذا أيضًا. وما إن كاد أن يبدأ بإعادة شرحه حتى قاطعته المرأة قائلة لرجل الشرطة بأنَّ هذا المسافر لم يفهم عليها فما الذي سيجعله يفهم على السؤال إن أعاده عليه هو؟
طال الصف خلف فريد أكثر وهو يشهد توبيخ المرأة للشرطي بعد أن طال انتظاره قبل ذلك وهو يستمع إلى محاضرة فريد. عادت المرأة إلى فريد معيدةً حركة يديها مقلّدةً حركة الحقنة آملة أن يفهم هذه المرة. قرَّر أنَّ هذه الإشارة لن تضير ضميره لو أجابها، لكن ما إن همَّ بفعل ذلك حتى باغتته بإعادة السؤال عليه بنفس الصيغة بنطقٍ يشبه إلى حدّ ما حركة عضلية لا إرادية. بدا صوتها وكأنها يائسة تتمنى أن ينتهي هذا النهار دون أن تضطرَّ للرجوع إلى مبنى المطار أبدًا.
بلَّ شفتيه بلسانه استعدادًا ببدء الشرح مجددًا. الصفُّ خلفه استمر بالزيادة طولًا، كاد يصل إلى حيث المدينة التي أتى منها، لكن لن تمرَّ هذه على خير، ما كانت لتجعله فترة انتظارٍ بين رحلتين دامت لساعاتٍ طويلة داخل مبنى المطار من أن تجبره على التنازل. انطلق بالشرح مجددًا محاولًا بكلّ جهدٍ عدم استعمال الكلمات ذاتها علّه هذه المرّة أصاب فهمًا.
سكّان الصف الذين استوطنوا خلفه بدأوا بالتذمّر، لم يفهموا سبب هذا التأخير وعلى من يقع اللَّوم وبدأ الناس يخشون أن تفوتهم رحلاتهم. سمح رجلٌ عجوزٌ لنفسه بأن يخرج من الصف ليستطلع الأمر، اقترب من شبّاك الجوازات بسلاسة أمنتها له عكّازه فلم يجزره أيٌّ من الحشد المتململ. كان العجوز بروفسورًا تركـيًّا متقاعدًا من قسم اللغات القديمة، في جعبته عشر لغاتٍ سبعٌ منها ميّتة، وعندما اقترب سمع فريد وهو يسهب بالشرح باستخدام إنكليزية بلكنة أميركية مصطنعة. استفهم عن الخطب من المرأة ومن فريد وما إن فهم أزمتهما حتى شرح للمرأة أنَّ فريد قد أخذ المطعوم فختمت له الجواز وللعجوز أيضًا كشكرٍ له على المساعدة رغم أنّه قفز عن دوره.
انزوى العجوز بفريد ليعاتبه على ما فعل، لينصحه من بحر خبرته، ليقول له إنَّ الحياة أكبر من خطأ قواعد، ليفهمه أنَّ سرَّ النجاة والسعادة هو التغاضي عن التفاصيل التي لا تضرُّ ولا تنفع. لكنه أخطأ باستعمال الإنكليزية. خدعته لهجة فريد الأميركية المصطنعة فلم يخطر بباله أن يحادثه بالعربية التي يتقنها باحترافية تفوق جودة لغة فريد والتي بالمناسبة، لا تقع ضمن نطاق صلاحيات ضمير فريد اللغوي أيضًا، رغم إتقانه لها. لم تكن الإنكليزية للبروفيسور العجوز سوى لغة سد الحاجة أثناء السفر، ولم يعمل بها مهنيًا فكانت أضعف لغاته العشر. ما إن بدأت نصائحه لفريد تشوبها الأخطاء النحوية حتى صعد الدم إلى رأس فريد وأخذ يصحح له أخطاءه، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل أضاف شروحًا مفصلة لأسباب استخدام الصياغات هذه أو تلك. استمرَّ العجوز بإصراره على إسداء نصائحه، لكنَّ كبر سنه جعله يفقد مرونته بتقبُّل دروس القواعد، فاستمرَّ بأخطائه بلا قصدٍ منه.
كاد حوار الطرشان هذا يستمرُّ إلى الأبد، كان هذا الحوار سيتحول إلى ملحمة سرمدية تتحدَّثُ عنه كتب الأساطير لو لم يقطعه الموت فجأة. ليس موت العجوز المسكين الذي لم يفقد الأمل بنصح الشاب، بل موت الشاب الذي لم يتحمَّل قلبه المرهف حيوية ضميره الحي فتوقف عن العمل.