أنا الغريق فما خوفي من البللِ. المهم أن الشطر الأكثر خطورة في هذه الرحلة المجنونة العمياء قد انتهى، وها نحن الآن في طريق آخر، يستحيل أن يكون أكثر سوءاً، مهما كانت احتمالاته.
كانت إصبع أبو حسن، مدير انضباط الفرع، مثل مكوك فوق الورقة التي في يده. وكان صوته الأنثوي الحاد موقَّعاً واضح النبرات وهو يتلو عدداً من أسمائنا، ثم يطوي الورقة ليوقِّع كلماته بإيقاع بطيء متقطِّع:
- كل.. مَنْ ورد.. اِسمُهُ.. في اللائحة.. يضبّ أغراضه.
- ما بدّك تقول لنا لوين؟
تقافز حاجباه وقدحت عيناه بنظرات استهتار مشوب بخليط من التعاطف والشماتة:
- لوين يعني؟ لجهنم الحمرا. بعد ساعة بدي تكونوا جاهزين.
صار كل شيء عائماً ومتأرجحاً مثل مراكب تتلاطمها أمواج فرح غامض عند مَنْ وردت أسماؤهم، وخيبة وحزن ومرارة عند مَن لم ترد أسماؤهم في اللائحة. ولكن لا السعادة صافية ولا الحزن، إذ لا راية تعلو فوق راية القلق، رغم كل المؤشرات التي تقول: "رُفعت الملفات، وجفّت الدماء".
عاد مدير الانضباط ليقول:
- شرّفوا. فارقونا برائحة طيبة، بس ما تفرحوا كتير، ترى ألله وكيلكم وين ما رحتوا ما لكم مهرب، مرجوعكم لهون، لعندي، وما رح تطلعوا، إذا كان إلكم نصيب بالطلعة، إلا من هون، حتى لو بعد سنة وتنتين وتلاتة وأربعة وخمسة.
في الواقع لم يكن لدينا أغراض لنضبَّها، فقد كانت زياراتنا ممنوعة طوال فترة التحقيق.
لقد خرجنا من فرع فلسطين بثيابنا وقيودنا فقط.
كان لدينا أمل في أن تنتهي رحلتنا إلى سجن صيدنايا الذي افتُتِح مؤخراً، حسب التسريبات التي وصلتنا، مع تأكيدات بأن جميع رفاقنا القدامى الذين كانوا في سجن تدمر، قد أصبحوا فيه.
ولكن ليس هناك شيء يقيني يمكن الركون إليه، فمنذ بداية الحملة والوقائع تسير خارج توقعاتنا، وأحياناً على النقيض تماماً. هنا لا أحد يستطيع أن يقول: أثبتَ التاريخ صحّة توقعاتي. ألم نعتقد خلال الشهور الثلاثة الأولى من اعتقالنا، أننا نجحنا في إغلاق جميع الثغرات الأمنية؟!
لا بل إنهم نقلونا إلى فرع التحقيق العسكري "248" كمحطة على طريق نقلنا إلى سجن ما، وبقينا هناك لأسابيع، ثم فجأة أعادونا إلى فرع فلسطين، ليبدأ التحقيق من جديد، وعلى نحو انتقامي فاجر.
ثم ألا يمكن أن يواصلوا انتقامهم، فيرسلوا مجموعتنا إلى سجن المزة مثلاً؟
كان ملفتاً للانتباه أن مجموعتنا الآن منتقاة على الأرجح بصورة مدروسة: عسكريون وأعضاء لجنة مركزية حصراً. وفي هذا من الاعتبارات، ما يكفي لجعل احتمال عزلنا وارداً وربما مرجحاً، لأسباب أمنية عديدة، وربما لأسباب انتقامية أيضاً.
أنا الغريق فما خوفي من البللِ. المهم أن الشطر الأكثر خطورة في هذه الرحلة المجنونة العمياء قد انتهى، وها نحن الآن في طريق آخر، يستحيل أن يكون أكثر سوءاً، مهما كانت احتمالاته.
خرجنا من الفرع بقامات مهدَّمة، تسير متحاملة على نفسها، وليس لها ما تتكئ عليه سوى الكبرياء.
لم تكن المسافة من فرع فلسطين إلى الفرع "248" تتعدى الدقائق.
هناك أوقفونا في أحد الكوريدورات من العاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر.
الحركة حولنا دؤوبة، وظلال كلاب الحراسة ثقيلة نحسّ بها ولا نراها.
ـ أنت.. بو البيجاما البنّية.. وقِّف تا شوف.
ـ ما فيّي وقِّف.. حوضي معطوب.
ـ قلت لك وقِّف أحسن ما أجيبلك الدولاب ها!
ـ قلت لك ما بقدر، ودولابك كمان ما بيقدر.
يبدو أن الإجابة أحنقته وأربكته، وحين لم يجد رداً مناسباً، صبَّ انفعاله باتجاه آخر.
ـ هنت بو الكنـزة السودا.. وجهك لقدَّام.
وأنت يا حوت.. إيديك ورا ضهرك.
ـ ديّاتي مشلولة.
ـ من شو.. يا عين أمك؟
ـ من ألله.. ويمكن من كرسيكم الألماني.
ـ بس.. بلا حكي برَّا الطريق.
ـ اتركهم بحالهم يا رجل.. فرع فلسطين كفَّى ووفَّى.
ـ اللي بحب يقعد بيقدر يقعد.. بس آبدّي بربرة وبصبصة.. وأنت بو الفيلد العسكري، ثبِّت الطمّيشة على عينيك أحسن ما أحطلك طمّيشة تانية.
أمسكني أحدهم من كتفي:
ـ تعا أنت.
سحبني بضعة أمتار، وربما أدخلني إلى واحدة من الغرف المجاورة. سألني صوت هادئ ومسالم، رغم نبرته الاستجوابية:
ـ أنت هوّي الشاعر ما هيك؟
ـ ما بعرف إذا أنا اللي بتعنيه.. بس أنا بكتب الشعر.
ـ شو كنت تشتغل بالأصل؟
ـ بالصحافة.
ـ عن جدّ عندك دواوين شعر مطبوعة؟
ـ إي عن جد.
ـ وين طبعتها؟
ـ ببيروت.
ـ ووزّعتها بطريقة غير مشروعة طبعاً!
ـ أبداً.. عندي ترخيص فيها من وزارة الإعلام.
ـ كان لازم تكون هون من تلات سنين.. بس الحظ ساعدك كتير على ما يبدو.
ـ شكراً للحظ.
ـ بس وقعت أخيراً.
ـ مانها معجزة.
ـ كنت تنشر بالصحف السورية؟
ـ سورية وغير سورية.
ـ ما حرام تضيّع مستقبلك؟!
ـ مستقبل أمة بكاملها ضايع.
ـ يبدو أنك ما تعلمت شيء من تجربتك.. رجّعوه لمكانه.
عصراً بدؤوا بأخذنا واحداً بعد آخر. وزّعونا على منفردات أظنها متباعدة، لا يصلها الهمس ولا سبيل إليها بالمورس.
الزنازين في فرع التحقيق العسكري أقل ضيقاً من زنازين فرع فلسطين، ولكنها أكثر وحشة وانقطاعاً عن المحيط.
دققتُ مراراً على باب الزنزانة، وفي كل مرة أرفع قوة الدق أكثر فأكثر، غير أن المقبرة تبدو هاجعة وما من مجيب.
في المساء انفتحت "شرَّاقة" الزنزانة، وسمعت صوتاً يسألني إن كنت أريد الخروج إلى التواليتات. في الحقيقة لم أكن بحاجة التواليت، غير أني كنت أريد الخروج لعلي أسترق نظرة أو أكوِّن فكرة عن مكان المهجع 13 الذي كنا فيه قبل بضعة شهور، وفكرة عن عدد الزنازين وتموضعها من مدخل الفرع ومكاتب الإدارة، وكان عندي أمل أن تسنح لي فرصة تواصل مع أحد ما. همست للذي في التواليت المجاور فردّ علي بنحنحة بدت أقرب إلى تحذير، ثم سمعت السجان يصيح: بلا أكل خرا انت ويَّاه.. خفّ حالك.. عالسريع يالله.
اتضح لي أن هناك دخلات متعددة في كل منها صفّ من الزنازين.
الزنازين في فرع فلسطين صفان متقابلان يقطعهما كوريدور وتواليتات أمامها فسحة صغيرة فيها مغسلتان وهي نفسها الحمام. على اليمين خمس زنازين مقابل خمس، وعلى اليسار خمس زنازين مقابل أربع. في أوقات الحمام كانوا يدخلوننا مجموعات ثم يغلقون الباب. لم أصادف أحداً أعرفه. كانوا يضعونني مع مجموعات لا علاقة لها بحزبنا، باستثناء مرة واحدة التقيت فيها بشخص صديق للحزب، زاره أحد من أهله وأبلغه أن هناك جنرالاً وضع ثقله من أجل الإفراج عنه، والأرجح أنه سيكون غداً حراً.
حين أعادني السجان إلى الزنزانة قلت له أني جائع، فأجابني وهو يُحكِم إغلاق باب الزنزانة، ويتأكّد من سلامة الأقفال: الصبح بيجيك أكل وبتتسمَّم.