تخردقنا يا غزة

2023-05-19 15:00:00

تخردقنا يا غزة
BY TAYSEER BARAKAT

 لقد ماتوا وهم ينقذون الحيوانات يا سيادة الرئيس، كان الأجدر للعالم أن يحمي أسيرًا مات من الجوع أمام هذا العالم المتخم الشجع، في سجن واحدة من أغنى دوله الاستعمارية.

أعرف أنّ الحرب قد تفتح الطرق للكسب المشروع وغير المشروع، وتُثقل جيوبًا بالمال، وتُعيد طهارة آخرين وتغسل سمعة البعض في هيئة الضحية البريئة، لكن الأكثر أسفًا مما تفعله الحرب أنها ترجع لتذكرك بهويتك كإنسان مليء بالجراح، "مخردق" كما نقول بالعامية.

إنسان خائف، يعيش دون خطط مهما أردت أن تستفيد من الأوروبيين، "كأن تحجز تذكرة طيرانك قبل عام أو تخطط لدراستك الجامعية وأنت في الإعدادية"، لكن تأتي الحروب على مدينتنا لتخبرك أنك إنسان غير متوقع الخطوات، تائه، يعبث به القدر وكأنه ورقة شجر في يومٍ خريفي، يتخيل أسوأ السيناريوهات حدثت مع عائلته الباقية هناك في كل حركة وثانية من يوم مشمس عادي في بلاد الأجانب، حتى أنك لا تريد أنْ تروي عن عدوان جديد مع أصدقائك، تعبت من سماع أصوات الدهشة والتعزية، تعبت من أنْ تروي التفاصيل ذاتها، لا يهتم أحد، لا يهتز العالم من أجل ناسك وعائلتك ومدينتك، ولو اعتقدت غير ذلك فأنت موهوم أو ناشط حقوقي لا يكف عن السذاجة.

مهما فعلت، تشعر أنّك مثل بطل ذلك الفيلم الذي يستيقظ وينظر في المرآة ليجد نفسه عاد إلى طفولته، لم أحب يومًا هذه الحبكة في الأفلام، ولم أحب أن أكون من مدينة تُعيد التاريخ ولا يحدث جديد فيها سوى أن تجرك للماضي، مؤكد أنك حالة خاصة تسمى "من غزة" لن تنجح يومًا أن تكون نسخة متوقعة أو عاديًا على الأقل، إلا إذا مارست القطيعة النهائية، وفي هذه الحالة "أنت منذ الآن غيرك".

تأخذك الأيام إلى ما يشبهها من سنواتٍ سابقة وحروبٍ أخرى، كالعدوان العام الفائت والذي قبله، إنّها أيام قليلة يُعطيها الحظ للغزيّ/ة كي يبني حياته وأبنيته ويعيد تأسيس أشيائه قبل أن يأتي طوفان الانفجارات من جديد، لحظات فرح معدودة تقضيها مع من تحب وعائلتك قبل أنْ تقضي عليهم قنبلة تعرف طريقها، ولكنك لن تحزره أبدًا.

تسألني ابنتي زينة بعد متابعة أخبار خمسة أيام من العدوان على قطاع غزة "ليش ما تخلص الحرب للأبد يا ماما؟"، فكرتُ كثيرًا بالإجابة. وقلت "إنّها قصة طويلة" لربما تسكت، ولكنها طلبتها، واحترت هنا، هل يمكن أن أقول لها كل القصة الآن؟ وهل أثقل رأسها وقلبها بالحكاية كلها..

هل أحدّثُها عن قريتنا صرفند العمار التي هاجر منها أجدادي عام 1948 في مثل هذه الأيام، اعتقدوا أنهم سيغيبون لأيام معدودة، لكن الرحلة طالت، وضربهم الجوع والعطش، حتى اضطر بعضهم لشرب بوله في الطريق.

هل أقول لها إنّنا لاجئون في كلّ الأماكن التي وصلنا إليها حتى هذه اللحظة، ولم نكن يومًا ننتمي إلى أيّ أرض منها، وإنه في مثل هذا الشهر قبل 75 عامًا جدتي كانت قلقة على دجاجاتها أن لا أحد سيعود ويطعمها.

لا أريد الجذور يومًا أن تعيق ابنتي لتكون ما تريد، لا أريد للحروب أن تؤلمها ولو عن بعد، لا أريد أن أكذب عليها في شعاراتٍ وطنية أصبحت أشبه بالإعلانات السياحية، أريد لها أن تختار ما تريد معرفته، وتخلص لما تعرفه، لا أريد تلقينها الوطنية، والمشاعر والانتماء وحتى الحزن، أريدها أن تختار هويتها ولا ترثها.

يقول الشاعر ت.س إليوت "أين الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟ وأين المعرفة التي فقدناها في المعلومات؟".

لا أريد للحكمة أن تضيع من ابنتي ولا المعرفة، كما ضاعت مني ومن جيلي من حجم ما عرفناه وعشناه واختبرناه وحتى ما تعلمناه من ألمٍ وسفر، وأشخاص ومهن لم ننتمِ إليها يومًا لكن سرنا خلفها؛ لأنه الواجب والمفروض، ولأنه الحظ وما تتيحه لنا الحياة، وليس ما أردناه أو خططنا له.

انتهى العدوان، والقلوب معلقة بالمجهول حتى حرب أخرى وعدوان إسرائيلي آخر يهجم على المدينة ويوقف سير الأيام، أصبح أن تعيش الحرب أهون من انتظارها، مات الأطفال، والمكتوب لهم أن يقضوا في هذا القصف، وآخرون ينتظرون دورهم في قصفٍ قادم، كل أهل المدينة على قائمة الموت.

 لا شيء تغير، جميع الأطلال متشابهة منذ الحرب الأولى، كما خطابات محمود عباس أيضًا، الرئيس الفلسطيني المنتهية صلاحيته، لكن هذه المرة أضاف في كلمته الأخيرة "احمونا لو عندك حيوان ما بتحميه؟"، على الأقل قال عبارةً مثيرة للاهتمام، أضمن لكم أنه ليس كثيرون استغرقوا في النوم من الرتابة كما هي العادة في الأمم المتحدة (أتحدث عن تجربة).

لن يعرف سيادة الرئيس أنه لا يوجد مثل الفلسطيني يقلق على الحيوانات حتى أكثر من العالم الأول الذي يخاطبه، ليس فقط لأن جدتي قضت 75 عامًا تفكر بمصير دجاجاتها، بل في كلّ حرب غطيتها كصحافية في قطاع غزة، 2008 و2012 و2014، كان هناك أب قتلته رصاصة قناص إسرائيلي بعد أن عاد إلى بيته في منطقة خطرة؛ ليعطي الطعام لأغنامه، وابن سحقته قذائف الدبابات بعد أن رجع لمزرعة العائلة لأنه أراد أن يسقي حصانه، وأم عادت لتطعم أرانبها وعصافيرها وانهالت عليها الصواريخ.

 لقد ماتوا وهم ينقذون الحيوانات يا سيادة الرئيس، كان الأجدر للعالم أن يحمي أسيرًا مات من الجوع أمام هذا العالم المتخم الشجع، في سجن واحدة من أغنى دوله الاستعمارية.

 ربما هذا ما يجب أن تعرفه زينة وتأخذ منه حكمتها، قصص الإنسان الفلسطيني غير الخائف، الذي تحدى الموت لينقذ حيواناته منذ 1948 حتى عدوان 2023، الإنسان الذي عرف طريقه منذ البداية حتى اللحظة، الذي مات جوعًا من أجل مبادئه، وليس من ملأ جيوبه ومعدته من أموال الحروب.