محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون... أين يقع مفترق اللّه مع الإنسان؟

2023-06-10 15:00:00

ممالك الرعب والموت والجنون... أين يقع مفترق اللّه مع الإنسان؟
ammam Azzam, series: The Place, 2017

نهض السجين. دار دورتين في المكان، وهو يدقُّ صدره بقبضتيه، ثم ما لبث أن بدأ ينتفض ويترنَّح، إلى أن بلغ أقصاه، وبدا واضحاً أن ضريبة إعلان عجزه، لن تكون أكثر سوءاً من الاختناق، فنـزل على ركبتيه، مردفاً رأسه إلى الخلف، وهو يشير بيديه مستغيثاً كما لو أنه يطلب النجدة. 

بعد أن أدان الرفاق بصقتي على العسكري، وبعد أن قرَّروا إنكار الواقعة أمام المساعد ومدير السجن، ومنعي من إعلان مسؤوليتي الشخصية عنها، وتكليف الرفيق سمير الحسن بالتعاطي مع الإدارة في هذا الشأن، تركّزت النقاشات على الاستعدادات المطلوبة في حال تمَّ تفريقنا إلى الزنازين. 

مرّ الوقت بليداً وزنِخاً ومتلكئاً إلى أن حضر المساعد مع حشد من العساكر.

- وين هادا اللي بصق على ال...؟

ردَّ الرفيق سمير موضحاً أن العسكري هو الذي بصق، وربما قال له أحدنا بأنه لا يحق له أن "يتفَّ" هذه "التفَّة" هنا، فاعتقد العسكري أن هذا الكلام هو نوع من "التفّ" عليه.

الغريب أن المساعد اكتفى بهزّ رأسه على نحو غير مفهوم، ثم انتقل لمناقشة الإضراب وضرورة إنهائه بالحسنى، غاضاً الطرف عن البصقة وهيصة الشعارات وخلع شرِاقة الباب، وحين لم يصل إلى نتيجة تركنا ومضى وهو يقول:

- ستين جهنم.. والله لتموتوا جوع متل الكلاب.

 

*   *   *

 

بلغ إضرابنا يومه العاشر، والإدارة توحي لنا أنها غير مكترثة، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد. 

كان ذلك مريحاً من جهة ومقلقاً من جهة ثانية. ماذا لو كانت حياتنا رخيصة بالنسبة لهم، أو لو كان إضرابنا فرصة لتصفيتنا بحجة أننا نحن من قررنا ذلك وليس هم. لا شيء يمنعهم من جريمة قتلنا جوعاً واتهامنا بالجريمة.

من حُسن الطالع أن الهواجس لم تقرض أعصابنا طويلاً، ففي آخر اليوم الحادي عشر، أبلغَنا مساعد الانضباط، أن نختار ممثِّلاً عنَّا لمقابلة مدير السجن، وكنا في الحقيقة هيَّأنا أنفسنا في أحد الاجتماعات لمثل هذا الاحتمال، وقد وقع الخيار حينها على الرفيق أكرم البني.

 

لم تطل المقابلة، بين أكرم وبين مدير السجن، أكثر من ثلث ساعة، ليعود بعدها ويبلغنا أن المدير وافق على جميع طلباتنا التي هي من صلاحياته، باستثاء الزيارات والأقلام، لأن منعها صادر من جهات عليا، وأضاف أكرم أن المدير حاول أن يأخذ منه وعداً بإنهاء الإضراب، فردّ عليه بأن القرار يعود للمجموعة، إلا أنه يفترض بأن المجموعة ستنهيه فور تحقيق المطالب، فوعدَ المدير أنه بالتأكيد سيحققها خلال ستة أيام، وبالتالي لا داعي لمواصلة الإضراب خلالها بدون أي مبرِّر.

أرجأنا موضوع الزيارات والأقلام إلى مرحلة لاحقة، وقبِلنا بما وعد به المدير.

 

في تلك الأيام أعلن أحد السجناء في المهجع المقابل إضراباً مفتوحاً عن الطعام. سمعناه يقول أن إضرابه مفتوح حتى الموت إلا إذا حققوا له.. ولم نفهم ما الذي يريد تحقيقه. 

حاولوا معالجة إضرابه بطرائقهم، ركلاً بالأحذية ولكماً وضرباً بالقبضات والسياط والعصيّ والسحل والدحرجة.

يعذبونه أثناء التنفس.. أثناء توزيع الطعام.. وفي الليل عبر الشرّاقة الفاغرة في السقف.

أحياناً كانت أمواج هستيريا شهوة الدم، تهيج وتصطخب وتدور، ثم ما تلبث أن تتكسَّر على سدّ الأجساد البشرية المتدافعة، وهي تخرج من المهجع كقطيع مذعور، وتدخله كقطيع مذعور، وتصطفُّ أثناء التنفس كقطيع فقدَ إيمانه بالجدوى الإنذارية، التي يمثلها الرعب.

بين موجتين من أمواج تلك الهستيريا، جاء عسكري وفي يده فأر ميّت. 

ربما كان ينوي إطعامه لذلك السجين المضرب عن الطعام، ولكن ذلك السجين كان بين الحياة والموت، ولهذا صار الفأر من نصيب أقرب سجين إلى العسكري.

كنا حينها أكثر من عشرين عيناً، تتوامض متقاطعة، وهي تتزاحم على ثقوب الباب لمراقبة ما يجري.

أمر العسكريّ السجين أن يغمض عينيه ويفتح فمه. استجاب السجين مستسلماً، فحشا العسكري الفأر في فمه، وأمره أن يبتلعه ابتلاعاً بدون أي مضغ.

 هزّ السجين رأسه يميناً ويساراً كما لو أنه يندب حظّه أو يستنجد بقضائه وقدره، ثم نهز كتفيه كمن يستعدّ للمواجهة مع المجهول. 

بدا كل شيء فظيعاً أو مستحيلاً وغير قابل للتصديق.

ليتهم أمَروه أن يأكل الفأرَ كيفما كان، أن يدير فيه أضراسه ولو قليلاً.

وكزه العسكري في خاصرته:

- قلت لك ابلع وإلا رح تندم. ولك هيدا فأر مو حنش يا ابن الستين حنش.

 

*   *   *

 

ما زال المسكين يتحامل على نفسه، وهو يحاول ويتحايل بجسده وتنفّسه واضطراب حركاته وترددها في أكثر من اتجاه.

- إذا انتهت فترة التنفّس قبل ما تبلعه، رح تخلّي أمّك وكل شراميط الكون يغضبوا عليك.

هزّ السجين رأسه علامة الإيجاب والامتثال لأوامر العسكري. 

هل سيستطيع ابتلاعه حقاً؟

ما الذي يدور في ذهنه الآن؟

ربما كان السجين يستعين بأضراسه على نحو ما. 

-  بفسخا لأمك إذا بتحرّك فكّيك ولك حيوان. 

بدأ الفأر يغيب شيئاً فشيئاً. يبدو أن السجين عزم على ابتلاعه.

ليس الموت واحداً أبداً. ما بعد الموت هو واحد، أمّا طرق الوصول إليه فلا تُحصَى، وأحياناً لا يصدِّقها العقل حتى لو كانت ملء البصر.

 لم يعد يبدو من جسم الفأر سوى إحدى رجليه وذيله.

- والله إذا ما بلعتو للآخر لخلّيك تلعن أمك ليش بظّت هالتخلفة.

 

 في منتصف الطريق، وربما أبعد قليلاً، بدأت عضلات وجهه تتقبَّض وترتجف.

لو أي شيء غير هذا الفأر الميت!

لو كان مسلوخاً على الأقل!

أدار السجين رأسه بحركة لولبية بطيئة، وهو يضغط على العنق ثم يطوِّح يديه ويستردّهما كما لو أنهما تشدَّان شيئاً ما، ولكن بدون جدوى.

باعد قدميه.. أو تباعدتا وهو يوازن حركته، مخالفاً ما بين دفع عنقه إلى الأمام، ونتر يديه إلى الخلف.

أن يبتلع الفأرُ إنساناً.. قد يكون أسهل من أن يبتلع الإنسانُ فأراً!

 

عاد السجين يمطّ عنقه، بينما كان جسده يتلوَّى وينحني، هابطاً إلى نقطةٍ تمكِّنه من الانتفاض مجدَّداً، فيقمح برأسه على طلقاتٍ متتالية، ومع كل طلقة يخطف يديه إلى الخلف، ويستعيدهما بلجلجةٍ واضطراب، ليخبط بهما في أكثر من اتجاه، مثل غريق يبتلعه الهواء.

سكن للحظات، بدا فيها مستنـزَفاً إلى آخره..

- بنيكا لأمك.. إذا بتستخدم ضراسك.. يا عرصا.

يلكزه العسكري في أنحاء متفرقة من جسده كما لو أنه يضبط إيقاع أوامره.

ـ  قلت لك ازلطو زلط.. عم أحكي معك.. عربي.. لا تقللي مانك عبتفهم.

فجأة عاد السجين يحاول، وقد أطبقت كفّاه على عنقه، وراح  يضغط حيناً، ويمسّد حيناً بحركات متشنجة ومضطربة.

بين كل حركة وأخرى، تنفلت يداه، وهما تلوبان على شيءٍ ما في الفراغ، ثم يعيد المحاولة، وتنفلت يداه..

 

أين يقع مفترق اللّه مع الإنسان؟

مفترق الأرض مع السماء؟

الحياة مع الموت؟

أين؟!

- ولاك منيوك أوعى تحرِّك فكيك.. اتفقنا تزلطو ما تاكلو.

هزَّ السجين رأسه عدة مرات، كما لو انه يريد أن يرسل إلى العسكري إشارات سريعة من الموافقة والاستعطاف، ثم تابع تحالفه مع جسده في أكثر من وضعية، تتيح له التحايل على قضائه الداهم. 

إنه يحاول بأكثر من يديه ورأسه وقدميه.. يحاول بكل ما آتاه الله من قوة اليأس وإحساس الطريدة بالاستفراد.

لم يزل يحاول..

 مرة.. اثنتين.. ثلاثاً.. أربعاً.. 

سقط على ركبتيه.

- وقاف يا كلب يا خرا.. قلت لك وقاف ع حيلك.. بترفض الأمر العسكري؟ بسيطة.. إذا ضلّيتك عايش منتحاسب. 

نهض السجين. دار دورتين في المكان، وهو يدقُّ صدره بقبضتيه، ثم ما لبث أن بدأ ينتفض ويترنَّح، إلى أن بلغ أقصاه، وبدا واضحاً أن ضريبة إعلان عجزه، لن تكون أكثر سوءاً من الاختناق، فنـزل على ركبتيه، مردفاً رأسه إلى الخلف، وهو يشير بيديه مستغيثاً كما لو أنه يطلب النجدة. 

كان الجزء الأخير من ذيل الفأر، لا يزال متدلياً عند زاوية الفم.