تقول نور وهي سيدة ثلاثينية لجأت مع ابنها وبنتها من مدينة غزة إلى إحدى مدارس وكالة الأونروا في جنوب القطاع، إنهم يرتعبون من الظلام، ولا يوجد تواصل مع أقاربها، متابعة "هذه الحرب ليست كما بقية الحروب على الإطلاق، لا شيء مثلها، لقد انتهت حياتنا السابقة للأبد".
تركض الطريدة من زاوية إلى زاوية ويلاحقها الصياد المسلح، ليست لعبة بلايستيشن، بل هو الهروب في قطاع غزة، ومع ذلك هناك لوحة تحكم في يد جيش الاحتلال، حيث الموت يلاحقك من منطقة إلى أخرى، الأبرياء يهربون من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى أقصى الجنوب.
لم يعد هناك مكان لا موت فيه، قصفوا المدارس التي ينزح إليها أهالي الشمال، وحتى مستشفى "الأهلي" المعمداني الذي يتبع الكنيسة المعمدانية قصفوه وقتلوا أكثر من 500 شهيدًا، وبعد أن اعترفوا بذلك في عدة تغريدات على موقع "إكس" حذفوها واتهموا الفصائل الفلسطينية.
ينشر الاحتلال أوامر بالمناطق التي يجب النزوح إليها، يتبعها المواطنون في القطاع بسبب الخوف، علَهم يجدون بعض أمل بالنجاة، يحاولون البحث عن رمق حياة، ورمق ماء معاً، أما الأمان فلا مكان له هنا.
رمت الطائرات العسكرية آلاف الأوراق التحذيرية وغادر بالفعل مئات الآلاف في تغريبة فلسطينية جديدة، لكن خلال عملية النزوح هذه قتلت إسرائيل أعدادا مضاعفة من الذين تقتلهم كل يوم، حتى بلغ عدد الشهداء حوالي ثلاثة آلاف وسبعمائة شهيدا، أكثرهم من الأطفال.
هناك حالة من الترهيب لدفع سكان قطاع غزة إلى الحدود مع مصر، وبالفعل وصل المئات أمام البوابة الرئيسية لمعبر رفح البري، لكن ما هي إلا ساعات حتى قصفتها طائرات إسرائيل الحربية، ثم أعلنت أنه لن يخرج أحد إلى الجهة الأخرى دون موافقتها، يبدو أن غزة عادت تحت سيادة الاحتلال ووضع ما قبل اتفاقية أوسلو عام 1993.
وكل هذا يحدث في الوقت الذي ينفي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحكومته نوايا التوطين في سيناء، ومع ذلك يستمر خروج الأمريكان على شاشات التلفزة لتأكيد أنه الحل، في استدعاء لبعض خطوط صفقة القرن التي فجأة بدت واقع.
قبل 12 يومًا، كان أهالي القطاع يحتفلون بإنجازاتهم العادية، التخرج والنجاح وتقلد الوظائف، لكن فجأة كأنهم دخلوا آلة الزمن، استيقظوا في واقع مختلف وتحديدًا في السابع من أكتوبر الجاري، حين قامت كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس برعاية القائد العسكري محمد الضيف "أبو خالد" بعملية مفاجأة حتى للجانب السياسي من حركة حماس، وردت إسرائيل بالقصف الأعنف حتى الآن للقطاع، فلم تتهاوى فقط الأبنية والأبراج والبنية التحتية والمشاريع القطرية التي اكتملت بعد حوالي عقد على بدئها، بل تهاوى أي أمل سياسي واجتماعي لتحسين الحياة في القطاع بعد اليوم، أو أن تصبح حركة معترف بها دوليًا.
استطاع الضيف بقوة شخصيته أن يمضي في المقاومة المسلحة حتى النهاية، لم يدجنه الحكم الإداري لغزة، بل يُعتبر مدرسة منعزلة مؤثرة لجيل جديد من المقاومين على الرغم من إصاباته المتعددة في عدة استهدافات عسكرية إسرائيلية سابقة نجا منها، وراح ضحيتها أفراد عائلته وأحبابه، ما يجعل لديه ثأره الشخصي إلى جانب الوطني والعقائدي مع المحتل.
إننا نعود إلى ثيمة الألعاب الإلكترونية من جديد، وقصة البطل الذي يخطط للانتقام سنوات طويلة، إلا أن الواقع في قطاع غزة في آخر أسبوعين تجاوز الخيال.
انقطعت الاتصالات وشبكة الانترنت والكهرباء والماء، كما منعت إسرائيل دخول المساعدات الطبية والغذائية، في عقاب جماعي، ما يعتبر جريمة حرب بحسب اتفاقية جنيف الرابعة والقانون الدولي الإنساني.
لا تستطيع مئات آلاف العائلات من التواصل، ما يجعل كثيرون يموتون تحت الأنقاض قبل وصول فرق الإغاثة والدفاع المدني إليهم والتي لم تسلم سياراتها من القصف الإسرائيلي أيضًا.
يعيش أكثر من اثنين مليون شخص في الظلام الدامس ما يجعلهم يتمنون كل يوم ألا يصل المساء إليهم، وهو الوقت المفضل للجيش الإسرائيلي في اغتيال العائلات إذ إنه أباد أكثر 50 عائلة فلسطينية في الأسبوع الأول من الحرب فقط.
تقول نور وهي سيدة ثلاثينية لجأت مع ابنها وبنتها من مدينة غزة إلى إحدى مدارس وكالة الأونروا في جنوب القطاع، إنهم يرتعبون من الظلام، ولا يوجد تواصل مع أقاربها، متابعة "هذه الحرب ليست كما بقية الحروب على الإطلاق، لا شيء مثلها، لقد انتهت حياتنا السابقة للأبد".
ظهر إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في خطاب ثانٍ له بثته قناة الجزيرة يؤكد أن المقاتلين لم يقوموا بالأفعال التي يتحدث عنها الإعلام بشأن التنكيل بالأطفال والنساء.
وبالفعل كانت هناك أخبار زائفة روجت لها وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية اعتمدت على خطاب حكومي في كل من البلدين، حول قطع رؤوس الأطفال، وتتجاهل أميركا وإسرائيل حقيقة أن قصف العائلات والأطفال يقطع رؤوسهم وأوصالهم أيضًا.
إن غزة الآن سلمت كل أوراقها، لم يعد لديها شيء، مشت في المفاوضات الغير مباشرة مع العدو إلى طرق مسدودة، تدمرت بالكامل، قاتلت لآخر أنفاس مقاوميها، ليس لديها داعمين، إذن الكرة في ملعب الطرف الآخر، إسرائيل، يجب أن تتعلم كون اللحظة الآن المناسبة لتنحو نحو السلام، بدل تصحيح عار فشل حماية مستوطنات غلاف غزة بالانتقام الهمجي الذي لم تدينه كثير من الدول الغربية.
ينشر أصحاب الكاميرات مقاطع فيديو مروعة قد لا تحدث سوى بالروايات أو الأفلام لكنها حقيقة، الأمهات لم يعدن يصدقن موت أطفالهن، أم تنظر إلى ابنتها الشهيدة وتقول لها "ما أزكاكي يما" أم أخرى تمسد جثمان ابنها بالكفن الأبيض وتقول "ما أطوله، شوفوا طوله"، فجأة يغدو جمال الأبناء وصفاتهم المميزة مكثفة لحظة الموت والوداع، كأنهن أردن التعبير عما نسين قوله من قبل، أو رأينه فجأة في النظرة الأخيرة.
لكن هناك كثيرون في العالم لا يرون تلك المقاطع ولا تهمهم الأكفان الصغيرة إلا إذا جاءت من الطرف الآخر، ففي أوروبا وأمريكا خطابًا سياسيًا منحازًا خاصة هنا في فرنسا يقارب بين غزة وداعش وكأنه يقول إن غزة تستحق الموت بأهلها وأطفالها.
وإن تدعيش غزة بدأه نتنياهو منذ سنوات في خطاباته لوصف العمليات الفردية في القدس والضفة ثم ضمّن غزة معها، وكان يعرف جيدًا أن التلويح بداعش "بعبع" أوروبا وأميركا سيكون ضمان دعمه.
ومع كل ذلك الدعم السياسي لإسرائيل، نجد لأول مرة منذ زمن طويل الدعم المصري الشعبي والعربي مع قطاع غزة ومظلوميته، وكنا قد فقدنا أغلبه في أتون الانقسام الفلسطيني وصراع الأحزاب الفلسطينية الذي شوه سمعة القضية، أما الدعم الشعبي الأوروبي والأميركي واللاتيني فهو واع ومستمر ويزداد ولا يتأثر بأي من الروايات الإسرائيلية أو الصراعات الفلسطينية الداخلية، وهو السبيل الوحيد لنجاة غزة الآن.