ما يحدث في فلسطين قادر على إعادة تشكيل المنطقة على المستوى السياسي والاستراتيجي والاجتماعي، وليس فقط على مستوى القوى الاستراتيجية. إذ ثمة مقولات تغيرت، فبعد كل الجهود المبذولة والمصروفة على خطط التطبيع وتجنيد العديد من الشخصيات والحملات لدعهما، تأتي انتصارات المقاومة وحراك الشعوب العربية وشعوب العالم لتدحض تلك الخطط.
كُتبت هذه التأملات على هامش لمتن لا يبق له هوامش، وفي نفس الوقت هو هامش يتماهى مع المركز ويحاول مؤازرته إذ لا أحد منّا بعيد عن هذه الحرب. إلا أن كتابة الهامش المقصودة هنا هي تركيب من عدة أمور، تتعلق بالكتابة في أثناء الحرب.
كل كتابة في هذا الظرف وفي هذه الحرب لا صوت لها يعلو فوق الموت والألم والتضحية، وأمام كل طفل قتلته آلة الحرب الإسرائيلية وهللت لها آلة الحداثة الغربية وأعوانها. الأمر التالي؛ أن كل كتابة في هذا الظرف تتبع الواقع الغزي وأهله لا تتقدمهم، حتى وإن ادعت قدرة على استشراف مآلات الأمور، فوحدهم، هناك، في مركز هذا الكون، في غزة وفلسطين من لهم حق الكلمة والحسم والرسم، حق المستقبل والحاضر والتاريخ، والأنا.
المواجهة الجارية حاليًا هي جزء أساسي من تحولات الحداثة ومابعدها في منطقتنا في هذا العالم، ولا يمكن اختصارها، حتى في منطقها الاستراتيجي والحربي والسياسي في حيثيات المواجهة فقط (على ثقلها وكثافتها!). ففلسطين كفكرة، ومنذ منذ العصر الإمبريالي، تشكلت ومازالت كاحتمال ضروري للحداثة الأوروبية، وتاليًا الحداثة الكولونيالية المتأخرة: الأمريكية، لا تستقيم الحداثتين إلا بها، ولن تنتهي فلسطين كقضية إلا بتحولهما إلى شرط/طور مختلف بنيويًا.
ما يحدث الآن في فلسطين أكبر من كل مقاربة سياسية أو استراتيجية أو غيرها، ما يحدث هو تغيير جذري في منظومات المعرفة والخيال والمعنى والقيمة. فمثلًا، تعجز مقاربات علوم الاستراتيجية والحرب على فهم تحولات الحداثة الحاصلة في الدولة الحديثة ومؤسساتها كمفهوم "الجيش النظامي"، والأمر حادث في هذه المنطقة من العالم منذ عقود، كانت جذوتها (في الذاكرة البصرية) في العام 2011، بالنظر إلى العلاقة بين "الجيش والسياسة" في الدول التي قامت فيها تلك الحراكات الثورية. فالمباني العسكرية التي ورثناها مع مواريث الاستعمار، لتسبغ فيما بعد بمباني الدولة الوطنية والتنظيم الاستراتيجي والحربي، ليطلق عليها "الجيوش النظامية القومية" للدولة القومية الحديثة ما بعد الاستعمارية، إنما فشلت في الارتقاء لمفهوم الوطن، ومحمولاته، على عكس ما قد يراه البعض. وامتد فشل الدولة الحديثة إلى الجيش النظامي، فالدولة التي لم تعد إجابة عن سؤال الهوية، فشلت جيوشها في أن تكون إجابة عن سؤال الوطن.
وكما فشلت مقولة الدولة الحديثة في امتحانها الآني، فشلت كل مناهج الابستمولوجيا التي نادت بها الحداثة ودولنتها في مؤسساتها البحثية والأكاديمية واستعاراتها. فالعلوم السياسية، مثلًا، لم تعد قادرة على تفسير ظواهر انبنت على السياسي، كالحرب (كلاوزفيتز، وغورينغ وغيرهما). وعليه لا تتمكن من فهم الحرب الجارية الآن بأدوات الاستراتيجيا المنبثقة من حداثة باتت مأزومة، فالتنظير أن الحرب في غزة هي "حرب لا متناظرة"، إنما هو مقاربة ناجحة فقط في كونها مقاربة وصفية كمية، لكنها ليست أبدًأ نوعية أو قادرة على تقديم برادايم تحليلي، وبالذات إذا نظرنا إلى مآلات الأمور العسكرية على المستوى الرمزي والمعرفي وحتى الجغرافي. إلا أن استخدام مقاربات منهجية حداثية لفهم ظاهرة وحدث تجاوزا الحداثة هو أمر لا بد منه لفهم أزمة المعرفة والأكاديميا والبحث والمنهجيات في هذا الجزء من العالم، الذي بات قادرًا على تفكيك كل ما وقع به من عسف ابستيمي Epistemic Injustice، بل وإنتاج شكل من أشكال العصيان المعرفي Epistemic Disobedience، ضد تلك المقولات وأصحابها ومواقعهم التي وجب هدمها لينبعث طائر الفينيق. وهنا نتذكر مقولة ميشيل مافيزولي: " .. في العلم الرسمي وفي مختلف المؤسسات الأكاديمية الفكرية، حيث لا شيء مهم سوى ما هو قابل للتكميم".
من الأشياء القابلة للتكميم في المناهج الحداثية الرسمية التقليدية في نزوعها الأبوي الذكوري المركزي (القضيبي) هو القول بثانوية أو تحييد العواطف في النظر إلى الأمور الجارية الآن. إن ما يحدث في فلسطين الآن من الكثافة والقوة أن يغير مفاهيمنا عن فلسطينيتنا وعروبتنا وموقعنا من العالم، بل وحتى العلوم الاجتماعية والسياسية بكل تحيزاتها، بما يكفي أن يجعل لكل فلسطيني وفلسطينية أن يقولوا إن فلسطينيتهم الآن (بعد السابع من أكتوبر تشرين أول 2023) مختلفة عما كانت عليه، وأن هذا الاختلاف هو أمر أساسي في المواجهة مع العدو الممتد من القنبلة والقبة الحديدية إلى أدوات التحليل والبحث والفكر.
كيف يمكننا فهم ذلك بعلوم السياسة والاستراتيجيا من دون النظر إلى سياسات الأمل والألم ودراسات الهوية ونظام الأشياء، وغير ذلك مما يعري قصور النظرات الأبوية السابقة، التي فشلت في فهم الثورة الفلسطينية، والثورات العربية، حتى هذه اللحظة.
الأمر كما يقوله -أيضًا- مافيزولي في كتابه "نظام الأشياء": ليس البناء الصلب لنظام يتعذر مسه سوى شكل مقاوم للقلق من الموت". وليس أصح من هذا الأمر سوى محاولات التأريخ المعتمدة على استعارة الدولة، والحزب أو الفصيل السياسي. ما معنى أن نبني سرديتنا التاريخية كفلسطينيين وفلسطينيات على تاريخ على استعارة "الدولة" تلك الاستعارة التي أشار استخدمها هيغل لتحديد من يستحق أن يكون شعبًا ومن لا يستحق. الأمر يشبه محاولة فهم فعل المقاومة باعتباره فعلًا دولانيًا.
لو كان الأمر كذلك لفهمنا زيارات رؤساء العالم الغربي وإعلان دعمهم لإسرائيل، باعتباره مشهدًا من مشاهد القوة، في حين أنه يخفي في جوفه قلقًا كبيرًا من "موت" تلك الدولة الحداثية الكولونيالية في نموذجها الأبرز. قلق عكسته المظاهرات في العالم دعمًا للفلسطينيين، والتي تجاوزت استعارة الدولة الحديثة وآلاتها ومؤسساتها، ففي فرنسا وانجلترا اللتان جرمتا أي مظاهرة لدعم فلسطين، إنما أضيء علم فلسطين على برج ساعة بيغ بن، وفي الولايات المتحدة اقتحم المتظاهرون مبنى الكونغرس هاتفين لفلسطين، هل استعارة الدولة الحديثة والعلوم السياسية المنبثقة من تلك الاستعارة قادرة على تفسير هذا الأمر أو ديناميته؟!
هذا القلق من الموت باستخدام مباني تأريخية دولانية يحمل في ذاته موتًا لنفسه، يقر به هؤلاء، ويقر به موت مقولات أساسية كمفهوم الدولة الحديثة التي تمر بأسوأ أزماتها في هذه الأيام، وما الحرب على غزة إلا نموذج لتصورات الدولة المأزومة، ولا نعني إسرائيل وحدها بتلك الإشارة، بل الكثير من الدول التي شاركت في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه.
ففي الوقت الذي تسقط فيه الأيديولوجيا الحداثية التي انبنت عليها العلوم السياسية الحداثية، ليس فقط بهتافات الشباب والصبايا في رام الله وغيرها، ضد السلطة ومنظمة التحرير، لا يزال البعض يجادل ببناء تاريخ وتحليل سياسي مبني على تلك الأيديولوجيا، كمشاريع أرشفة وتأريخ تعمل على إعادة تقديم وإنتاج تاريخ الفصائل الفلسطينية وموضعتها في المركز بادعاء أنها هي المركز. لا عجب أن تلك المشاريع والمنهجيات عالقة في استعارة "الدولة" لفهم التاريخ، ولم تشتبك مع تطورات علوم الأرشفة والدراسات التاريخية الحديثة، كالأرشيف المجتمعي والأرشيف المضاد والأرشيف البديل، وغيرها على ما بينها من تباينات شديدة. أو مقاربات للمواجهة المباشرة مع الاحتلال في جنين وغيرها، حاولت تبرئة السلطة الفلسطينية وفصائل فتح والمنظمة.
ما يحدث في فلسطين قادر على إعادة تشكيل المنطقة على المستوى السياسي والاستراتيجي والاجتماعي، وليس فقط على مستوى القوى الاستراتيجية. إذ ثمة مقولات تغيرت، فبعد كل الجهود المبذولة والمصروفة على خطط التطبيع وتجنيد العديد من الشخصيات والحملات لدعهما، تأتي انتصارات المقاومة وحراك الشعوب العربية وشعوب العالم لتدحض تلك الخطط.
الهدم: في تكاثف مشاهد الهدم ما يستدعي لتأملها من جديد، وبالذات في هذا الجزء من العالم. ففي حين يحدد تشارلز جانكس النهاية الرمزية للحداثة، والانتقال إلى ما بعد الحداثة، عند الساعة الثالثة والدقيقة الثانية والثلاثين من بعد ظهر 15 حزيران تموز 1972، عندما جرى نسف مبنى بريت – إيغو لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس (والذي كان قد نال جائزة لوكوربوزييه حول "آلة العيش الحديث")، باعتباره بيئة لا يمكن السكن فيها. فإن الهدم بآلة الحرب – آلة الدولة الاستعمارية، في فلسطين ما يجعل مواقع الهدم مواقع لانطلاق سرديات مغايرة عن ثنائية الحداثة والتخلف، التي تموضع إسرائيل فيها نفسها، أو الحداثة وما بعد الحداثة التي يموضع العقل الغربي فيها نفسه. فقدرة غزة على الصمود ضد هذا النوع من التواطؤ الكولونيالي للحداثة (ميغنولو، مبيمبي) قادر على فرض معنى مغاير لمفهوم الهدم والهدم المقابل، ودولة الاستثناء (أغامبن) العربي. فمن ناحية هو هدم حداثي يدعي هدم كل ما هو قبله أو مغاير له، لكن الوضع ليس كذلك، فغزة الواقعة تحت حصار مادي ورمزي ونوعي وخطابي وجسدي لما يزيد عن 16 عام، تمكنت من إيقاع هدم يتجاوز الثنائيات السابقة، وقادر على الانبعاث الرمزي من جديد في وجه استعارات وآلة الهدم تلك، ولهذا متن آخر تفصيلي يتسع له.