جاءت الهدنة، فرحنا، وأكلنا، وشعرنا من جديد بطعم الحياة وكأن شيئًا لم يكن، خفت المظاهرات حول العالم، قلنا لن تعود الحرب من جديد، مستحيل، لكن عادت وعادت معها حشرجة الروح، والأرق ونخزة القلب.
"سمعت قلب أختي بدق قوي جنبي" هذا ما قالته الطفلة لانا صافي بعد أن وجدها رجال الأمن بأربعة أيام وهي تحت الأنقاض في مدينة دير البلح، كي تحث من حولها على إخراج أختها رغم جراحها وتعبها، فهي مصابة بالجفاف، لونها رمادي، شفاهها متشققة، وتفكر بأختها، التي غالبًا قد توفيت.
هذه الأثيرية هي ما نراها كل يوم عند مصابين والناجين، ينادون لإنقاذ عائلاتهم أولًا، يعودون وهم يضغطون على جروحهم للبحث عنهم، يخافون أن يكون أحدهم تحت الردم حيا، ولم يلقطوا صوته. ينادون "شادي، أحمد، سمر، أبويا" يبقون بجانبهم حت يجدونهم ولو كانوا عبارة عن عظم، فيتعرفون عليهم من ملابسهم.
تقول إحدى الأمهات التي رجعت على "كارة" حمار، لتأخذ ابنها من شارع رشيد، بعد تحلله، حيث دبابات الاحتلالات منعت أحد من الاقتراب من عشرات الجثث "عرفته من حزام بنطلونه".
شقيقا د.ميسرة الريس عادا للبحث عنه وعن باقي أفراد أسرتهم، وبالفعل أخرجوا جثامين شقيقتهم ووالدهم ووالدتهم، لكن الطائرات قصفتهم من جديد فوق البيت المقصوف واستشهدا. تقول شقيقتهم فاطمة الوحيدة الباقية في ألمانيا "استكثروا علي يخلولي إخواتي العايشين.."
يموت الأحياء تحت الأنقاض ببطء، ويموت المصابون ببطء أيضًا، ينزفون حتى الموت في الشمال والوسط والجنوب، لم يعد هناك خدمات طبية تنقذهم، مئات الأشخاص ينزفون بالشارع وتحت المطر، يلفظون أنفاسهم الأخيرة، شهداء أول الحرب أصبحوا هياكل عظمية وجماجم، وكأن الحرب استمرت مائة عام وليست ستين يومًا، لكن إن الستين يومًا في عمر الحرب هي بالفعل مائة عام من الخوف.
أصبح قطاع غزة مشرحة كبيرة دون كهرباء، بعد قصف مستشفيات وتوقفت أخرى عن الخدمة، وقتل ما يزيد عن المائة وستين من العاملين فيها، وكل الإصابات حتى الخفيفة يصبح مصيرها الموت.
أطفال ونساء ورجال وكبار السن، ملقون على الأرض بملابسهم الفقيرة الشتوية، بعضهم مات ممسكًا قماشة بيضاء طلبًا للسلم، رائحة الجثث المتحللة ملأت سماء شمال قطاع غزة التي كانت يومًا مليئة برائحة أشجار البرتقال والليمون المزروعة فيه في وقت ما قبل الحرب.
يجتهد بعض الأطباء بخياطة الجروح دون مخدر، والبعض يبتر الأطراف المعطوبة، انقاذًا ما أمكن للحياة، تحولت ساحات المستشفيات، وكأنها عمليات سمكرة بشرية.
حتى الأطفال المبتسرين "الخدج" اختنقوا رويدًا رويدًا وارتجفوا من البرد حتى ماتو… لماذا على شعب معذب ويباد أن يبقى يتألم كأي بشري من جروحه، لماذا يا الله تنطبق علينا قوانين الفيزياء؟ لماذا تتعفن ويخرج الدود منها؟ لماذا يتحلل الشهداء؟ لماذا تخرج روائحنا؟ لماذا لم تبعثنا كما فعلت بعيسى حين صُلب. لماذا لا تأخذنا عندك مباشرة؟
وهل بقيت الجراح على وضعها؟ لا بل لاحقها الاحتلال وقصفهم مرة أخرى وأصبح المصاب يعاني من جرحين ومن يعاني من جرحين يعاني من خمسة وهكذا حتى مات الجميع، وهل بعد أن ماتوا تركهم الاحتلال؟ لا، بل منعت جثثهم من الدفن، وهناك من لم يعرف أحبابه أنه مات، فلم يستطع أحد دفنه، وإذا أراد غريب كريم دفنه، لا يستطيع حتى أن يحركه، فالأجساد ذابت؛ تسقط ساقًا، يدًا، قدمًا، رأسًا.
لا أنسى حركات أيدي الخدج الصغيرة أمام الكاميرات تبحث عن حياة، هواء، دفء، لكن لا شيء يصل، النوافذ مغلقة، جريمة حرب أمام العالم مستمرة والعالم، يشاهد، يشرب ويأكل ويتزوج ويحتفل. كيف لا تصبح الحياة نقسها عار؟ حتى النفس عار، الجيش لا يسمح للمحاصرين في المنازل والمدارس والمستشفيات في المناطق التي احتلها بدبابته أن يفتح حتى شق في باب، بل يقنص من يخرج يبحث عن لقمة وسط مجاعة وعطش متعمدين، فرضت على أكثر من مليوني شخص، جيش جبان يبحث عن طواحين دون كيشوت ليصارع الهواء/ المدنيين ويتخيلهم أعداء.
جيش انتهى به الأمر ليعتبر مرضى الكلى والأطفال خدج أنداده، يتحدى غرف الولادة والقلب ويهدمها، ويجرف الأجهزة الطبية والأقسام الطبية، بحثًا عن "مترو حماس"، لكن لن يعرف مكانه أبدا فقد انطلق قبله بكثير.
كم أتمنى أن أقع بغيبوبة ولا أفيق إلا بعد أن يكون من بقي في غزة نسوا آلامهم، وعادت غزة من جديد، وتعمرت البيوت ونمت الأشجار. كل شي دمر، لم يبقَ سوى البحر يشبه نفسه. أريد أن أقفز عن المرحلة، فأصحى لأجد الندوب جفت، نعم لا تزال تؤلم لكنها لا تنزف.
حين لم تسألني جارتنا مثل كل مرة عن غزة وعائلتي، عرفت أن إحساس التعاطف الكبير من العرب نحونا، والإحساس بالحب المفاجئ انتهى، لأن الوقت يقتل أية مشاعر قوية حتى لو كانت الحرب فعليًا ازدادت ضراوة مما كانت عليه في البداية، إن الأمر هنا لا يحتاج إلى مجرد تعاطف بل التزام، ومواظبة على المساندة.
وهذا بالضبط ما اعتمدت عليه إسرائيل في تكرار جرائم الحرب التي ارتكبتها، ففي اليوم الأول لقطع الاتصالات كاملة مع قطاع غزة ارتج العالم كله، في الثانية تعاطف لكن دون غضب، الثالثة والرابعة نادرًا ما ذكرها أحد. كذلك استهداف مربعات سكنية كاملة، كانت المرة الأولى في جباليا حين ألقى العدو ثاني أكبر قنبلة يستخدمها في تاريخه، ثار العالم صراخًا ثم تكرر ذلك عشرات المرات في كل أنحاء القطاع، ولم يعد أحد يذكره سوى من ألزم نفسه بالذكر والغضب، الشيء ذاته ينطبق على جرائم الاحتلال في مدارس النازحين والمستشفيات والكنائس.
إن كل يوم يمر على غزة وأهلها في الحرب الحالية، مهما خف وقعه على الآخرين، لا يجب أن ندع العالم ينساه، وستحفظه ذاكرة التاريخ، كل دقيقة منه مثله مثل كل تلك الأيام الوحشية الكبيرة، التي حفظها التاريخ في الحروب الكبرى ومذابح التطهير العرقي، والإبادات الجماعية.
جاءت الهدنة، فرحنا، وأكلنا، وشعرنا من جديد بطعم الحياة وكأن شيئًا لم يكن، خفت المظاهرات حول العالم، قلنا لن تعود الحرب من جديد، مستحيل، لكن عادت وعادت معها حشرجة الروح، والأرق ونخزة القلب.
تحيرني تلك الأرواح التي تبقى عالقة بين السماء والأرض وقت الهدنة، نعتقد أنها نجت، بل تعيش أياماً تتنفس فيها، نأمل أن المحرقة انتهت، لكن ترجع النيران، ويأتي دور تلك الأرواح، فتنتقل للسماء كأنه طابور طويل مع ختم عزرائيل الذي يبدو أنه الوحيد في غزة الآن الذي يعرف ما يفعله بالضبط، وماذا يريد.