في اليوم التالي كان الثقب على ارتفاع نصف متر فقط، وهكذا أمضينا سهرة مريحة ومليئة برسائل متبادلة مع الرفاق، ومع أصدقاء من أحزاب أخرى: أخبار واستفسارات وقصائد.
في سجن صيدنايا أعادوا تفتيشنا وتسجيل قيودنا، ثم حضر مدير السجن، بقامته المربوعة وابتسامته البلهاء. تفحَّصنا واحداً واحداً وهو يهزّ رأسه ويفرك كفيه كمن يحدِّث نفسه. أدار لنا ظهره بعض الشيء وفجأة انتبر كمن وجد ضالته:
- أنا عندي هون.. غير سجن تدمر. نحن اسمنا السجن العسكري الأوَّل. نعم الأوَّل. عندي اللي بيجوع بطعميه، واللي بيتوسّخ بحمّمه، واللي بيمرض بعالجه، لكن اللي بيقوم بأي حركة غلط أو مخالفة للأنظمة، بطلق عليه النار وبقول انها محاولة هرب.
يحاول أن يتحدث كالزعماء، رغم أنه لا يمتلك أي حظ من الكاريزما.
لا أعتقد أن أحداً منا صدَّق وعوده ووعيده.
كنا نراقب مداخل وأدراج هذا السجن، الذي يجمع ما بين الخرافة والحداثة:
دهاليز وأقبية وممرات وأدراج لا تنتهي.
غاب مساعد الانضباط قليلاً ليعود مع مجموعة من العساكر، ثم أخذونا إلى الطابق الثالث.
نعرف نظرياً أن مبنى السجن يتألّف من ثلاثة طوابق، لكل طابق ثلاثة أضلاع على هيئة إشارة المرسيدس، يضم كلّ ضلع جناحين، يمين ويسار، في كل جناح عشرة مهاجع.
هناك فتحوا باب أحد الأضلاع الثلاثة، وساروا بنا إلى الباب الأخير ذي الرقم 10، وقبل أن ينسحبوا قال المساعد:
إسمكم الآن طابق ثالث، جناح ب يسار.. وسيبقى بابكم مغلقاً هذه الأيام، ريثما يتحدد الوضع النهائي لإقامتكم هنا أو في سجن آخر.
* * *
في هذا السجن مئات من رفاقنا، ولدينا أمل كبير في أن يجدوا سبيلاً للوصول إلينا.
في الواقع لم يتأخر الأمل سوى ساعات. فمع هبوط الليل أحسسنا بوقع خطوات شبحية سريعة، ثم بشيء ما ينزلق من تحت الباب. لقد كان مغلَّفاً مليئاً بالصور التي ميَّزت فيها على الفور صور أهلي وربما ابنتي. لا بد أن أخي إبراهيم قد وضعها بين بقية الصور.
في الصباح أخذت الإدارة خمسة منا، وحين عادوا ظهراً، لم يسعفهم الوقت بأكثر من القول أنهم كانوا في المحكمة، ثم قطعت جلبة العساكر الحديث، إذ عادوا مستعجلين ليقول أحدهم:
ـ الخمسة اللي كانوا برا تعالوا معي.
سألناه:
ـ إلى أين؟
فقال:
ـ هادا ما شُغلكم.
انتظرنا إلى الليل فلم يعودوا. حاولنا عبر دقِّ "المورس" على الجدران، لعلنا نعرف شيئاً عنهم أو عن آخرين، فلم نفلح.
لجأنا إلى الهمس من خلال المناور، ثم عبر النحنحة والسعال. كنا حذرين كما عوَّدنا سجن تدمر، ولكن يبدو أن شكل وآلية الحراسة هنا مختلفة.
حوالي منتصف الليل وصلنا صوت أحد الرفاق الخمسة يقول إنهم موجودون في المهجع الخامس من الجناح نفسه، وإنهم بحاجة سجائر.
جرَّبنا أن نتواصل معهم عبر خيط ربطنا به صابونة، بعد تدوير زواياها، ثم دحرجناها مرة واثنتين وعشراً، وأخيراً استسلمنا لليأس والنوم.
* * *
بعد يومين أخذوا منا خمسة آخرين وكنت أحدهم.
جمعونا في الطابق الأرضي مع معتقلين آخرين، وبعد أن كبّلونا بالجنازير والكلبشات، حشرونا داخل السيارة القفص.
بعد أقل من ساعة توقفت السيارة، وأنزلونا لنجد أنفسنا أمام مبنى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق.
كان قاضي التحقيق في انتظارنا مع ملفات إفاداتنا التي وقّعنا عليها كرهاً وطوعاً في فرع فلسطين. كل شي كان يشي أن الرجل أقرب إلى المخابرات منه إلى رجل القضاء، ولهذا لم يكترث لاحتجاجاتنا على كون الإفادات منتزعة تحت التعذيب، وإنه لا يليق بهم كهيئة محكمة، أن يعتمدوا عليها.
* * *
استطعنا في السيارة وفي المحكمة، أن نسترق بضع كلمات مع رفاق وأصدقاء من أجنحة أخرى، ولكنها كانت كافية للاتفاق على آلية الاتصال فيما بين جناحنا وأجنحتهم، وحين عدنا إلى صيدنايا، ضمَّتنا الإدارة إلى رفاق الدفعة الأولى، تاركين بقية الرفاق للهواجس.
بعد إغلاق الأبواب مساء، سمعنا طرقاً على إحدى زوايا المهجع. تهيأ لنا أن هناك إصلاحات في الجناح الذي وراءنا، إذ لا يمكن للسجناء، أن يطرقوا على الجدران بهذه القوة.
في تدمر.. يكفي أن يصدر أي صوت أو نأمة حتى يحضر الحارس على الفور، ليبدأ التحقيق والتدقيق، عبر شرَّاقة السقف، عن مصدر الصوت وسببه.
الطرق يشتد ويقترب. كأن شيئاً ما سيخترق الجدار أو يحطمه. التجأنا إلى زوايا المهجع الأخرى ونحن ننتظر النتيجة بنوع من الدهشة والقلق والفضول.
فجأة انبثق من زاوية المهجع، وعلى ارتفاع أكثر من مترين، سيخ لامع ما لبث أن بدأ يتحرك ذهاباً وإياباً، وكأنه ينظِّف المجرى المفتوح.
بعد دقائق عاد السيخ وفي رأسه قطعة صغيرة، من أنبوب سيروم، في داخلها ورقة صغيرة:
"أهلا بكم أيها الرفاق.. سنكتب إليكم وتكتبون إلينا كثيراً.. أعيدوا قطعة السيروم إلى السيخ، وانتظروا أن نرسل من خلالها لُبَّ قلم ناشف وأوراقاً شفافة، وذلك على دفعات متتالية".
كان علينا كلما أرسلوا أو أرسلنا شيئاً أن يصعد أحدنا على كتفي آخر.
بعد بضع مرات كتبنا لهم أن قاماتنا نصف مهدَّمة، والثقب مرتفع جداً، فوعدونا أنهم سيفتحون غداً ثقباً آخر يحلّ المشكلة، ونبَّهونا إلى ضرورة أن نغلق الثقب الأول بالصابون، وأن نكون حذرين نهاراً، فنغلق الثقب الجديد، كلما سمعنا وقع خطوات العساكر عند مدخل الجناح.
- ولكن كيف تدقون بكل هذه الشدة يا رفاق، ولا يأتي الحارس؟!
- لا عليكم.. بعض الحراس مضمونون، ونحن ندق خلال نوباتهم.
في اليوم التالي كان الثقب على ارتفاع نصف متر فقط، وهكذا أمضينا سهرة مريحة ومليئة برسائل متبادلة مع الرفاق، ومع أصدقاء من أحزاب أخرى: أخبار واستفسارات وقصائد.
لاحقاً جلسنا، وجلس الرفاق في الجهة الأخرى واحداً بعد آخر في النقاط الملائمة للنظر من الثقب بعد توسيعه، وبالتالي استطاع كل منا ومنهم أن يرى الآخرين وإن بصورة غير واضحة تماماً.
خلال السهرة سألَنا الرفاقُ عن آخر مرة، شربنا فيها نبيذاً.
ـ هل تمزحون يا رفاق؟!
ـ حسناً.. حسناً.. منذ زمن طويل ونحن نخبئ لكم حصة من الخمر الذي نصنعه، فجهزوا كؤوسكم أو صحونكم.
أوصلوا إلينا أنبوباً طويلاً مصنوعاً من تلك الموجودة في أكياس السيروم، وبعد لحظات انبجس النبيذ، وكأنه قادم من أقصى القداسات.
نخبكم يا رفاق.. نخبكَ أيها العالم.. نخبك أيتها الحرية.