هبة العبادلة وأحمد بدير... وداعاً

2024-01-15 10:00:00

هبة العبادلة وأحمد بدير... وداعاً

يومًا ما سأعود إلى غزة سأرى أحمد بدير على باب عمارة بوابة الهدف بضحكته الواسعة، سأرى هبة العبادلة تسخر من الفريق المنافس الذي يناظرها بصوتها الجهوري ولغتها السليمة، حتى صديقنا علي الشعراوي سأراه يقدم لنا القهوة في مزاج، بعينيه الخضراوين اللتين تعرفان دواخلنا قبلنا حتى...

الأطفال ملقون بجروحهم النازفة على أرضيات المستشفيات القذرة والملوثة بالدم، الأجساد الدافئة التي قتلت للتو ملفوفة بالقماش الأبيض الثقيل، الذي لم نعد تميزه عن قماش الخيم أيضًا، الركام الرمادي الذي أصبح على امتداد البصر في أحياء واحدة من أجمل الألسنة الساحلية بالعالم، ولن يعرف ذلك من لم يزر غزة، الجثث التي صعدت روائحها إلى السماء وغلبت على روائح البارود وتفجر الصواريخ، إن هذه تفاصيل كابوس ممتد لتسعة وتسعة يومًا بالتمام والكمال حتى لحظة كتابتي هذا المقال.

كأنك تستيقظ لتجد نفسك تعيد اليوم بحذافيره، لكن الفارق هي الأسماء الجديدة لأكثر من ثلاثين ألف ضحية نتيجة جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق قومي في قطاع غزة، وبين يوم وآخر تجد اسمًا تسلل إلى الضحايا لا يتركك سوى مصدوما غير مصدق، كيف ومتى ولماذا، قد نعتاد الحرب، ولكن أبدًا لا نعتاد الوداع.

في الأسبوع الأخير قتل الاحتلال هبة العبادلة، قصف فوقها المنزل الذي احتمت فيه مع ابنتها و60 آخرين من عائلتها في خانيونس بمن فيهم والدتها أيضًا، هبة أصرت على البقاء في منزلها وعدم النزوح، ومثلها الآلاف صمدوا في منازلهم، وماتوا أبطالا مرتين، بل ثلاث مرات وأكثر، ففي كل يوم تتعاظم بطولتهم، لمجرد أنهم يعيشون احتمالات الموت على وسعها ومباشرتها، ويسمعون أصوات القصف التي لا يدرك رعبها سوى من عايشها.

هبة كانت معنا في فريق للمناظرات قبل تسعة أعوام، وقد تميزت بالمرح والذكاء، وقوة الحجة، من الصعب نسيانها، حتى لو التواصل معها خف تدريجيًا بعد الغربة، لم أستطع استيعاب أن فتاة التي أصبحت أم لاحقا بكل تلك الحيوية والقوة تقتلها قذائف الاحتلال في ثواني، لا يمكن تصديق ذلك، فالأجساد تموت، لكن بعض الأرواح أقوى منها وتعيش أعمارًا فوق أعمار الجسد الذي يحتويها، ولولا قصور الفيزياء لتخلدنا بالإرادة وحدها، إرادة تشبه إرادة هبة، في حياتها ومماتها.

ولم تمر أيام قليلة على استشهاد هبة وابنتها الجميلة التي هي ملاك، حتى قرأت في أخبار التلجرام السريعة اسم الصحافي أحمد بدير شهيدًا عند مستشفى شهداء الأقصى، وبرز على الفور وجه أحمد وضحكته في عيني، لقد عرفته من خلال عمله في بوابة الهدف الإخبارية ثم بوابة اللاجئين، وكنا معًا في عدد من التدريبات الصحافية.

يا إلهي لماذا يموت الطيبون بأشد أنواع القنابل وحشية؟ ألا يكتفي العدو برصاصة، أو شظية؟، لماذا عليهم أن يتقطعوا ويصبحوا أشلاءً، لم تر عائلة أحمد وجهه في وداعه، فقد اختفت الملامح والأنسجة، لماذا علينا أن نفقد أحبابنا بأشد الطرق قسوة؟، لماذا تنحرم العائلات من النظرة الأخيرة؟، لا أحد يريد أن يرى محبيه سوى كما يتذكرهم، فالذكريات هي التي تبقى، ولا نريد لقنابل الاحتلال حتى أن تبعث في الوجوه الباقية في الذاكرة، يكفي أنها شوهتهم لمرة واحدة في الواقع ولن يحدث ذلك في العقل أيضًا.
 


واستشهد أحمد، وقد غاب عن الأخبار ناقل آخر أمين، طيب القلب والذكر، يتابع كل شيء سواء في غزة أو الضفة، ولا تغيب عنه حكاية حتى أصبح بدمه الحكاية التي من واجبي اليوم أن أكتب عنها كما فعل العشرات من زملائه وزميلاته الذين رثوه بالدموع، ولو قرأت يا أحمد ما يكتب عنك اليوم، لفرحت مثل طفل كما أنت دائمًا بضحكاتك التي لا تنقطع، وربما قفزت، فقد كنت لا تعرف الركون لمكان واحد طويلًا، فلا أدري أي قبر ذلك الذي تسكن إليه الآن يا صديقي.

في بداياتك الصحافية كنت تسأل عن كل شيء، وتجرب كل أنواع الأشكال الصحافية وتحررها ثم تعود وتشبكها معًا من جديد، رأيت فيك صحافيًا مجتهدًا لن ينضم إلى جوقة الركاكة، ثم أحببتَ العمل الميداني، وحرصت أن تخرج إلى الحدث دون خوف، وفعلت ذلك في كل الحروب السابقة، حتى أخذتك منا أقساها وآخرها والتي لم تنته بعد يا أحمد، ولم يهزها موتك وموت أكثر من 115 صحافيًا وصحافية آخرين.

كنت تنتظر إلى آخر لحظة قبل أن تترك أي مكان خطر، هكذا فعلت في غزة قبل أن تنتقل إلى دير البلح، وهكذا فعلت في دير البلح بقيت لآخر لحظات، وكنت ستغادرها في اليوم التالي، على الرغم من أن الأغلبية تركت المكان من الأطباء الدوليين والعاملين في القنوات الإخبارية الكبيرة، أرسلت إلى محررك الذي كان قلقا عليك أنك ستغادر في الغد، لكن اليوم لم يعط فرصة للغد، أخذتك قذيفة معها، وهشمتك، قبل أن تجمع أغراضك القليلة وتلتحق بزوجتك وابنك في الخيمة كي تمشوا جميعًا إلى الطريق الساحلي ومن هناك قد تجدون سيارة إلى الجنوب إلى مدينة رفح حيث تنتظرك والدتك.

لم تصل أبدًا إلى رفح التي كنت تجري اتصالاتك فيها كي تعرف تحديدًا، أين ستضع خيمتك الجديدة، لقد دفنوك في دير البلح، أصبح الانتقال من مدينة إلى مدينة في قطاع غزة كأنك تعبر فوهة الجحيم، وقد كان في السابق عبور قطاع غزة من شماله إلى جنوبه لا يتعدى الساعة بالسيارة.

 أما الآن أغلب العائلات تمزعت وافترقت دون لقاء منذ ثلاثة أشهر وأكثر، ومنهم من قُتل دون وداع، لقد أصبحنا نسخة مصغرة عن كوريا الجنوبية والشمالية، ولا يعرف أحدنا متى ستلتئم البلاد؟.

طال الليل يا هبة، طالت العتمة يا أحمد، أو كما قال الشاعر "ألف شمس في ألف سماء ولا ضوء"، ولا نعرف متى سيطلع على بلادنا نور، لقد شُرخت قلوبنا، ليس فقط منازلنا وأماكنا الجميلة، ليس فقط شوارعنا ومساجدنا القديمة، بل حتى أحبابنا لن نراهم أبدًا.

يوما ما ستتعافى البلاد، ولن ترجعوا، سننسى الحرب ولن ترجعوا، سيكبر أبناؤنا ولن ترجعوا، سنحضر أعياد ميلاد كثيرة وحفلات زفاف أكثر ولن تكونوا معنا، سنبني بيوتنا من جديد ولن تزوروها، لكنكم أحياء في قلوبنا، ستبقون في عيوننا، بالوجوه الكاملة الجميلة الضاحكة.

 إن أملنا يأتي من كل هؤلاء الموتى، نعم فالموت في غزة محفز الحياة وسر الاستمرار، وإن هذه الأرواح تحفظنا وتظللنا إلى الأبد.

يومًا ما سأعود إلى غزة سأرى أحمد بدير على باب عمارة بوابة الهدف بضحكته الواسعة، سأرى هبة العبادلة تسخر من الفريق المنافس الذي يناظرها بصوتها الجهوري ولغتها السليمة، حتى صديقنا علي الشعراوي سأراه يقدم لنا القهوة في مزاج، بعينيه الخضراوين اللتين تعرفان دواخلنا قبلنا حتى...

 ستحرسوننا دومًا كما حرستم حياتنا بموتكم... 

وداعًا أصدقائي..