"هُنود" فلسطين: حوار جيل دولوز وإلياس صنبر (ترجمة)

2024-03-03 01:00:00

في مُقابل هذا التاريخ الكارثيّ، هناك إدراكٌ آخر لتاريخٍ لا سبيلَ لصناعته إلَّا عبر الممكِن وتنوُّعه ووفرة الاحتمالات في كلِّ لحظة. أليس هذا ما تريدُ المجلَّة تسليط الضوء عليه، حتَّى وإن كان من خلال تحليلاتها للأحداث الراهنة بصفةٍ رئيسيَّة؟

نشرت في منشورات فيرسو في 8 آب 2014. نشرت لأوَّل مرَّة في صحيفة ليبراسيون، عدد 8-9 أيَّار 1982. 

في عام 1982، أجرى الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز مقابلةً مع إلياس صنبر- المؤلِّف الفلسطينيّ ومؤسِّس مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة بالفرنسيَّة. تضمَّنت المقابلة تأمُّلاتٍ في كلٍّ من أهميَّة المجلَّة، ووجود الشعب الفلسطينيّ، وأرض فلسطين. ما هو مؤسِّفٌ أنَّه، عقب 30 عاماً من تلك المقابلة، فإنَّ هذه المناقشات لا تزال ذات صلةٍ قاتمةٍ بما تَشهدُه هذه المرحلة الراهنة.


ترقَّبنا لفترةٍ طويلة صدور مجلَّةٍ عربيَّةٍ باللغة الفرنسيَّة، لكن بدلاً من أن تصدُر من شمال أفريقيا، فقد حصلنا عليها من الفلسطينيِّين. تتميَّزُ مجلة الدراسات الفلسطينيَّة بسمتين تُركِّزان، مثلما هو جليّ، على المشكلات الفلسطينيَّة التي بدورها أيضاً تهمُّ العالم العربيَّ برمَّته. فهي من ناحيةٍ تُقدِّمُ تحليلاتٍ اجتماعيَّةً سياسيَّةً شديدة العمق، بأسلوب ماهر ورصين في الوقت نفسه؛ ومن ناحيةٍ أخرى، تحشدُ "مخزوناً" عربيَّاً محدَّداً، أدبيَّاً وتاريخيَّاً وسوسيولوجيَّاً، يتَّسم بغناه الشديد وكونه غير معروف إلى حدٍ كبير.

جيل دولوز، 1982.
 

دولوز: يبدو لي أنَّ شيئاً ما نضجَ في الجانب الفلسطينيّ. هناك نبرةٌ جديدة، وكأنَّهم قد تجاوزوا الطورَ الأوَّل لأزمتهم، وكأنَّهم قد بلغوا حالةً من اليقين والسكينة، من "الحقّ"، تَشهدُ على وصولهم إلى وعيٍ جديد. حالةٌ تتيحُ لهم التعبير بأسلوبٍ جديد، لا هجوميٍّ ولا دفاعيّ، لكن نحوٍ تعاطٍ على طريقة "المثل بالمثل" مع الجميع. ما تفسيرُك لهذه الظاهرة، مع الأخذ بالحسبان أنَّ الفلسطينيِّين لم يُحقِّقوا مقاصدهم بعد؟

صنبر: لقد لمسنا ردَّ الفعل هذا منذ صدور العدد الأوَّل. هناك جهاتٌ فاعلةٌ تخاطبُ نفسها بالقول: "انظروا إلى الفلسطينيِّين وهم يُصدِرون أيضاً مجلَّاتٍ بهذا المستوى"، وزعزع هذا تلك الصورة الراسخة في أذهانهم. لا تنسَ أنَّ صورة المناضل الفلسطينيّ التي ندَّعي تبنِّيها قد ظلَّت شديدة التجريد في منظور الكثيرين. سأشرحُ ما قصدت: قبل أن نُرسِّخَ واقع وجودنا، كان يُنظر إلينا بوصفنا لاجئين. لكن مع تعزيز حركتنا المقاوِمة لفكرة أنَّه ينبغي أخذ نضالنا بعين الاعتبار، فقد وقعنا مرَّةً أخرى في فخِّ الصورة المختزلة.

تكثيفٌ وعزلةٌ إلى الأبد، كذلك كانت صورتنا كمحض ميليشياويّين، وكان يُنظر إلينا بوصفنا لا نفعل أيَّ شيءٍ عدا ذلك. لذا، كان لزاماً من أجل تجاوزها أنَّ نميل إلى صورتنا كمناضلين بدلاً من الميليشياويَّة بمعناها الضيِّق.

باعتقادي، ما أثاره صدور المجلَّة من دهشةٍ تتأتَّى أيضاً من حقيقة أنَّه ينبغي على بعض الأشخاص الآن الإقرار لأنفسهم بوجود الفلسطينيِّين، وأنَّ مُجرَّد استحضار المبادئ المجرَّدة لم يعد كافياً. فعلى الرغم من أنَّ هذه المجلَّة تصدر من فلسطين، إلَّا أنَّها تُشكِّل فضاءً لشواغل متنوِّعة؛ مساحةً لا تقتصرُ فيه الأولويَّة على الفلسطينيِّين وحسب، بل يرفده أيضاً العرب والأوروبيّون واليهود وغيرهم.

قبل كلِّ شيء، لا بدَّ أن يبدأ البعض بإدراك أنَّه مع وجود مثل هذا الجهد، بهذه الغزارة من تنوُّع الآفاق، فمن المحتمل أنَّه، ضمن مستوياتٍ أخرى من فلسطين، سينطوي أيضاً على فنَّانين، ونحَّاتين، وعمَّال، وفلَّاحين، وروائيّين، ومصرفيّين، وممثّلين، ورجال أعمال، وأساتذة جامعات... باختصار، مجتمعاً حقيقيَّاً تُعبِّرُ هذه المجلَّة عن وجوده عبر منحه مساحةً وصوتاً.

فلسطين ليسَت الشعب وحسب، بل الأرض أيضاً. هي الرابط ما بين هذا الشعب وأرضه السليبة، وتقاطُعُ الغياب مع الرغبة الجارفة بالعودة. هذا المكان فريدٌ من نوعه إذ يُشكِّل محطَّ عمليَّات الطرد كافَّة التي عانى منها شعبُنا منذ عام 1948. حينما يضعُ المرء فلسطين نصب عينيه، فيدرسها ويُمحص النظر فيها، ويرصدُ أقلَّ تحرُّكاتها، فإنَّه يلاحظُ كلَّ تغيُّرٍ يتحيَّنها، ويجمع كلَّ صورها القديمة، وبالمختصر، يدركُ أنَّها ينبغي ألَّا تغيب عن ناظريه أبداً.

دولوز: تستحضرُ العديد من المقالات المنشورة في مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة إجراءات اقتلاع الفلسطينيِّين من أراضيهم، وتُحلِّل ضمن مقاربةٍ جديدة. لهذه المسألة أهمِّيَّة بالغة، لأنَّ الفلسطينيِّين ليسوا في موقع الشعب المستعمَر، بل المهجَّر والمطرود. وفي كتابِك الذي تعكف على تأليفه الآن، تصرُّ على عقد مقارنة بسكَّان أميركا الأصليِّين. هناك حركتان شديدتا الاختلاف ضمن الرأسماليَّة؛ لدينا مسألة السيطرة على الشعوب داخل أراضيها وإجبارها على العمل، واستغلالها، في سبيل مراكمة الفائض: هذا ما يُسمَّى عادةً بمستعمَرة. وعلى النقيض من ذلك، أمامنا حالةٌ تتعلَّق بإفراغ منطقةٍ من سكَّانها بغية تحقيق قفزةٍ إلى الأمام، حتَّى لو كان ذلك يعني تحويلهم إلى قوَّةٍ عاملةٍ في منطقةٍ أخرى. ويبدو لي أنَّ الحالة الأخيرة هي الأكثر انطباقاً على تاريخ الصهيونيَّة وإسرائيل، ومثل ذلك تاريخ أميركا: أي، كيف نخلق مساحةً فارغة، كيف نطردٌ شعباً من أرضه؟

في إحدى المقابلات، يشير ياسر عرفات إلى حدود هذه المقارنة؛ هذه الحدود نفسها التي تُشكِّل أفق مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة: هناك عالمٌ عربيّ قائمٌ بالفعل، بينما لم يكن لدى سكَّان أميركا الأصليِّين مَركزٌ أو قوَّةٌ خارج الأراضي التي اجتُثّوا منها.

صنبر: نحنُ تجسيدٌ لحالةٍ فريدةٍ من المُبعَدين؛ لأنَّنا لم نُهجَّر إلى أراضٍ أجنبيّة، بل إلى ما يُشكِّلُ امتداداً "لمكاننا نفسه". هُجِّرنا إلى أراضٍ عربيَّةٍ حيثُ لا أحد يرغبُ في تفكيكنا، لكنَّ الفكرة مشوَّهةٌ بحدِّ ذاتها. هُنا، أفكِّر بالنفاق الصارخ الذي تنطوي عليه بعض الادِّعاءات الإسرائيليَّة إذ تلقي اللوم على العرب الآخرين باعتبار أنَّهم لم "يدمجونا"؛ في حين أنَّ المقصود بتعبير "الاندماج" هذا بلغة إسرائيل أن "يجعلونا نختفي"... أولئك الذين هجَّرونا صاروا على حين غرَّةٍ قلقين بشأن عنصريَّةٍ عربيَّةٍ مزعومةٍ تجاهنا. هل يعني هذا أنَّنا لم نتعرَّض إلى أيِّ تناقضاتٍ في بعض الدول العربيَّة؟ قطعاً لا، بيد أنَّ هذه المناوشات لم تنجم من جرَّاء كوننا عرباً؛ بل تَحتَّمَ حدوثها أحياناً لأنَّنا كنَّا، وما زلنا، ثورةً مسلَّحة. نحنُ أيضاً بمثابة سكَّان أميركا الأصليُّين من منظور المستوطنين اليهود في فلسطين؛ إذ يرون أنَّه لا دورَ لنا إطلاقاً سوى الاضمحلال. وفي هذا السياق، من المؤكَّد أنَّ تاريخ تأسيس إسرائيل إنَّما يعيد إنتاج السيرورة التي أفضَت إلى نشوء الولايات المتَّحدة الأميركيَّة.

على الأرجح أنَّ ما سبق من ضمن العوامل الأساسيَّة لفهم التضامن المتبادل ما بين هذه الشعوب. هُناك أيضاً عوامل تشيرُ إلى أنَّنا، إبَّان مرحلة الانتداب، لم نتعرَّض لاستعمارٍ "تقليديّ" مُعتاد، أعني بذلك تَعايشَ المستوطنين والمستعمَرين. كان الفرنسيُّون والإنكليز، وغيرهم، يرغبون بالاستقرار في مساحاتٍ بشرط أنَّ تكون مشغولةً مسبقاً بالسكَّان المحليّين. كان حضورُ الخاضعين للاستعمار ضرورياً تماماً من أجل ممارسة تلك السيطرة. أفضى هذا بدوره إلى نشوء مساحاتٍ مشتركة، سواءٌ أرادها المرء أم لا، وشبكات وقطاعات ومستوياتٍ من الحياة الاجتماعيَّة حيثُ يحدث اللقاء بين المستوطنين والمستعمَرين. وأمَّا واقع أنَّه كان لقاءً لا يُطاق، ساحقاً، استغلاليَّاً، قهريَّاً، فهو لا يغيُّر من حقيقة أنَّه من أجل السيطرة على "المحلِّيّ"، كان على "الأجنبيّ" أن يشرع بالتواصل مع ذلك "المحلِّيّ". ثمَّ جاءت الصهيونيَّة، التي انطلقَت من النقيض ومن ضرورة غيابنا التي شكَّلت، إلى حدٍّ يفوق في الأولويَّة خصوصيَّة أعضائها (أي انتماءهُم إلى مُجتمعاتٍ يهوديَّة)، حجر الأساس في رفضنا، وتهجيرنا، و"الترانسفير"، واستبدالنا، كما وصَّف إيلان هاليفي ذلك جيِّداً. وهكذا، ظهرَ أولئك الذين يبدو لي أنَّه ينبغي تسميتهم بـ "المستوطنين المجهولين"، الذين وصلوا بالوتيرة نفسها لوصول أولئك الذين أُسمِّيهم بـ "المستوطنين الغرباء". وقد استندت مُقاربة أولئك "المستوطنين المجهولين" برمَّتها على تحويل خصائصهم إلى أساسِ الرفضِ القطعيّ للآخر.

علاوةً على ذلك، أرى أنَّ بلادنا لم تتعرَّض لمجرَّد الاستعمار وحسب في عام 1948، بل "اختفَت" بصورةٍ أو أخرى. وأجزم أنَّ هذا ما أراد المستوطنون اليهود، الذين صاروا في تلك اللحظة "إسرائيليِّين"، تحقيقه على الأرض.

فكرةُ أنَّ الفلسطينيِّين سيرحلون ذات يومٍ عن البلاد لم تكن المسند لتعبئة الحركة الصهيونيَّة للمجتمع اليهوديَّ في فلسطين، بل أنَّ هذه البلاد كانت "خاوية" في الأصل. بطبيعة الحال، اكتشفَ بعض الأشخاص زيفَ هذه الفكرة بمجرَّد وصولهم إلى هناك، وكتبوا عن هذه الحقيقة! بيد أنَّ الغالبيَّة العظمى من هذا المجتمع تعاملَت مع الشعب الذي كانت على احتكاكٍ مباشرٍ ويوميٍّ بهم وكأنَّه غير موجودٍ أساساً. لم يكن عماهُم جسديَّاً، ولم تنطلِ تلك الخديعة على أحد حتَّى بأبسط درجاتها؛ بل كانوا جميعاً على علمٍ أنَّ هذا الشعب، الحاضِر الآن، هو "على مشارف الاختفاء"، كما أدركوا أيضاً أنَّه في سبيل تحقيق هذا الاختفاء، فإنَّه ينبغي عليهم منذ البداية التصرُّف وكأنَّه قد حدث بالفعل. وبعبارةٍ أخرى، انتهاج "التعامي" عن وجود الآخر الذي يمكن إنكاره على الإطلاق. للوصول إلى هذه الغاية، كان لا بدَّ من استناد فكرة الأرض الخاوية إلى إخلاء وجود "الآخر" من عقول المستوطنين أنفسهم.

لتحقيق هذا الأمر، تلاعبَت الحركة الصهيونيَّة باستمرارٍ بمنظورٍ عُنصريٍّ صيَّرَ اليهوديَّة الأساسَ الفعليَّ لطرد الآخر ورفضِ وجوده. وكان للاضطهاد الذي تعرَّضوا له في أوروبا، على أيدي جماعاتٍ عنصريَّة أخرى، أثره الحاسم في توطيد مقاربتهم الخاصَّة.

علاوةً على ما سبق، نرى أنَّ الصهيونيَّة سجنٌ لليهود حيثُ تأسرهم داخل المنظور الذي أشرتُ إليه قبل قليل. أقول إنَّها تأسرهم، وليس أسرَتهُم في مرحلةٍ زمنيَّةٍ خلَت؛ لأنَّه، وبمجرَّد انتهاء الهولوكوست، ارتقَت تلك الفكرة من مُقاربةٍ لتصير "مبدأً أبديَّاً" زائفاً يدَّعي أنَّ اليهود هُم "الآخر" في نظِر كلِّ المجتمعات التي يعيشون فيه، دائماً وفي كلِّ مكان.

لكن ما من شعبٍ ولا مجتمع، بإمكانه الادِّعاء- لحسن حظِّهم- بأنَّه يشغل موقع "الآخر" المنبوذ والملعون إلى الأبد.

في هذه الحقبة من تاريخ الشرق الأوسط، الآخرون هم العرب، الفلسطينيَّون. وأمَّا ذروة النفاق والسينيكية، فتتجلَّى في مُطالبة القوى الغربيَّة هذا الآخر، الذي تَحوَّل اختفاؤه المستمرُّ إلى سمةٍ سائدة، بتقديم ضمانات. بينما نحنُ من نحتاج في الحقيقة إلى ضماناتٍ تقينا جنون القادة العسكريِّين الإسرائيليِّين.

على الرغم من هذا، فقد قدَّمَت جهة تمثيلنا الوحيدة، وأعني منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة، حلَّها لهذا الصراع: دولةٌ فلسطين الديموقراطيَّة، دولةٌ بمقدورها تحطيم الجدران التي تفصل بين جميع سكَّان البلد، بغضِّ النظر عن مشاربهم.

دولوز: في أوَّل صفحتين من العدد الأوَّل، تُقدِّم مجلَّة الدراسات الفلسطينيَّة بيانها وفيه وردَت عبارة "نحنُ شعبٌ كغيرنا من الشعوب". تبدو لي هذه العبارة صرخةً مُتعدِّدة المعاني؛ وفي المقام الأوَّل، هي تذكيرٌ أو مناشدة.

بصفةٍ مستمرَّة، يتعرَّضُ الفلسطينيّون للوم على رفضهم الاعتراف بإسرائيل. انظروا، يقول الإسرائيليُّون، إنَّهم يريدون تدميرنا. في المقابل، يُكافح الفلسطينيُّون أنفسهم، منذ أكثر من خمسين عاماً، من أجل نيل الاعتراف.

في المقام الثاني، تتعارضُ تلك العبارة والبيان الإسرائيليّ الذي مفادُه "نحنُ لسنا كغيرنا من الشعوب" نتيجة تفوُّقنا وفداحة ما تعرَّضنا له من اضطهاد. من هنا، تنبعُ أهمِّيَّة نصَّين لمؤلِّفين إسرائيليَّين تضمَّنهما العدد الثاني من المجلَّة، َيتمحوران حول المحرقة، وردود الفعل الصهيونيَّة إزاءها، والمكانة التي اكتسبها هذا الحدث في إسرائيل؛ وذلك في ضوء العلاقة مع الفلسطينيِّين والعالم العربيِّ برمَّته، العالَم الذي لم يتورَّط بالمحرقة. من خلال مُطالبتها بـ "المعاملة كشعبٍ غير معياريّ"، فإنَّ دولة إسرائيل تبقي نفسها أسيرة موقفٍ لا مثيل له في أيِّ دولة أخرى، من الاعتماد المطلق على الغرب اقتصاديَّاً وماليَّاً (بحسب تعبير المفكِّر الإسرائيليّ بوعز إيفرون). ولذا يتمسَّك الفلسطينيُّون بالموقف المعاكس: أي أن يصيروا ما همُ عليه بالأصل؛ شعباً "طبيعيَّاً" تماماً.

في مُقابل هذا التاريخ الكارثيّ، هناك إدراكٌ آخر لتاريخٍ لا سبيلَ لصناعته إلَّا عبر الممكِن وتنوُّعه ووفرة الاحتمالات في كلِّ لحظة. أليس هذا ما تريدُ المجلَّة تسليط الضوء عليه، حتَّى وإن كان من خلال تحليلاتها للأحداث الراهنة بصفةٍ رئيسيَّة؟

صنبر: بكلِّ تأكيد. إنَّ مسألةَ تذكير العالم بوجودنا هي لا شكَّ خزَّانٌ للمعاني، لكنَّها في منتهى البساطة أيضاً. وهي الحقيقة التي، من خلال الإقرار بها حقَّاً، ستصبحُ مهمَّة أولئك الذين يتطلَّعون إلى اختفاء الشعب الفلسطينيِّ شديدة الصعوبة. لأنَّها، في نهاية المطاف، تعني أنَّ لجميع البشر "الحقّ في الحقوق". هي عبارةٌ في مُنتهى الوضوح، لكنَّها تنطوي أيضاً على قوَّةٍ هائلة تجعلُها تقريباً منطلقَ كلِّ النضالات السياسيَّة ومنتهاها. فلنأخذ الصهاينة كمثال؛ ما وجهة نظرهم بصدد هذا الموضوع؟ إنَّك لن تسمعهم قطّ يقولون أشياء من قبيل "إنَّه ليس للشعب الفلسطينيِّ أيُّ حقٍّ في أيِّ شيء"، لأنَّهم يُدركون تماماً أن ما من قوَّة، مهما بلغ حجمها، ستدعم موقفاً كهذا. على النقيض من ذلك، ستسمعُهم بالتأكيد يؤكِّدون على "عدم وجود شعبٍ فلسطينيّ".

لذا، وبوضوح، فإنَّ تأكيدنا على وجود الشعب الفلسطينيّ هو أقوى بكثيرٍ ممَّا قد يبدو عليه للوهلة الأولى.