لستَ غبيّا أو ساذجًا كي لا تضعَ في حسابِك استغلالَ الكيانِ الإسرائيليّ للفنّانين والمثقفين، فكيف إذا كانوا قبلوا تمويلًا رسميّا إسرائيلياّ؟ فلتعتذرعن هذا الخطأ، ونعلمُ أنّك في حال فعلت، ستدفعُ ثمنًا لهذا في الوسطِ الفنيّ والثقافيّ.
بيان حملة مقاطعة داعمي”إسرائيل” في لبنان، نشر في بيروت في 12 نيسان/أبريل 2024.
في الأيَام القليلة الماضية، كان موقفُ حملةِ مقاطعةِ داعمي ” إسرائيل ” في لبنان، مع هيئة ممثّلي الأسرى والمحررين، وأنصارِ مقاطعةِ الكيان الإسرائيلي حافزًا لسجالٍ ثقافيٍّ يؤكّد أنّ مناهضة التطبيع الثّقافيّ جزءٌ لا يتجزّأ من المشهد الثّقافي اللّبنانيّ، بل وفي صلبِه، في مواجهةِ التّيار الثّقافيّ المهيمن والمهادن. افتتحتْ حملتُنا معركتَها هذه بإصدار بيانٍ نشر في جريدةِ ” الأخبار” التي خصّصت ملفًّا للحديث عن مسرحيّة وجدي معوّض التي كانت مبرمجةً للعرضِ بدءًا من 30 نيسان/أبريل 2024. وقد أوضحَتْ حملتُنا في بيانِها السّبب الحقيقيّ للدّعوة إلى مقاطعةِ المسرحيّةِ، بل والدّعوة إلى منع عرضِها استنادًا إلى القانون اللبنانيّ، بالتّقدم بإخبارٍ إلى الجهات الرّسميّة المعنيّة. أَتبعت الحملةُ هذا البيانَ بتوضيحاتٍ اقتضَتها بعض المواقفِ الشّجاعة من قبيل موقفِ جمعيّة السبيل ، وبمنشوراتٍ على صفحاتِها المخصّصة للتّواصلِ الاجتماعيّ، ومقابلاتِها مع وسائلِ الإعلام اللّبنانية على اختلافِ طبيعتِها. ولم تَألُ الحملةُ جهدًا في التّواصل مع الجهةِ المسؤولةِ عن تنظيمِ العرض وهي مسرح Le Monnot ، والفنّانين المشاركين في المسرحيّة، بمشاركةِ نصّ بيانِها معهم. حظرَ المشرفون على صفحةِ مسرح Le Monnot حسابَ الحملةِ من التّعليق، وتفاعلَ بعضُ الفنّانين المشاركين مع إرسالِ الحملةِ بيانها على أرقامهم على تطبيق WhatsApp بمجاملات لطيفة، وكانَ همّنا التّأكّد من أخذهم علمًا بدعوتنا لمقاطعةِ هذه المسرحيّة، ولفتُ النّظر إلى الجانبِ القانونيِّ من المسألة، على أملِ اقتناعِهم بالانسحاب.
ثم كانَ أن أعلَنت الجهةُ المنظّمة في 10 نيسان 2024 إلغاءَ عروض هذه المسرحيّة، زاعمةً أنّها، وكذلك بعض الممثّلين والتّقنيين، تعرّضَت لضغوطاتٍ غيرِ مقبولةٍ ولتهديداتٍ جدّية. يهمّنا أن نكرّر أنّ كلّ تواصلٍ بين حملتِنا والجهةِ المنظّمة وبعضِ الممثّلين اقتصرَ على إرسالِ بيانِ الحملةِ لهم، دون أيّ تهديدٍ أو تلميحٍ أو اتّهام. وإن كانت الجهةُ المنظّمة تقصدُ حملتنا بكلامها، فلتثبِتْ هذا بالدّليل لا بمجرّد الكّلام. وبأيّ حال، لا نزالُ نحتفظُ بالمحادثاتِ التي جرَتَ بيننا وبين الممثّلين ولا مانع لدينا من إبرازِها للجهاتِ المختصّة عندَ الضّرورة. وماذا بعد؟ بعد الإعلانِ عن إلغاءِ عروضِ المسرحيّة، تستكملُ الحملةُ سجالَها حولَ التّطبيعِ الثّقافيّ بالتّوسع في بعضِ المفاهيم، وشرحِ بعض المبادئِ التي تستندُ إليها في عملِها ودعوتِها للمقاطعةِ و/أو المنعِ القانوني. ومن نافِلِ القول إنّ الحملة لا تتوسّلُ غيرَ هاتين الوسيلتين: قوّة الكلمة، والقانونَ اللبنانيّ، لا قوّة المالِ، أو شبكة العلاقاتِ الزبائنيّة مع السياسيّين أو مع الأجهزة الأمنيّة -كما تفعل كثيرٌ من وسائل الإعلام-، ولا البلطجة.
أولا: التطبيع والعمالة وحركات المقاطعة
تتبنّى حملتُنا ما جاءَ في القانونِ اللبنانيّ من تعريفاتٍ وتوصيفاتٍ مثل التّخابرِ مع العدوّ، والإتجارِ معه، وكلّ ما يمتّ بصلةٍ للعمالةِ معه، ولكنّها تقترح تعريفًا للتطبيع نظرًا لغيابِ أيّ تعريفٍ قانونيّ له في القانونِ اللبنانيّ، بما في ذلك قانون مقاطعة “إسرائيل”. وتعريفنا للتّطبيع منشور في وثيقة الحملة /السؤال رقم 15، وهو يستند إلى فكرةٍ مفادُها أنّ الكيانَ الإسرائيليّ ليسَ كيانًا شرعيًّا، ولا يمكنُ اعتبارُه طبيعيّا ولا التعامل معه طبيعيا، ولا التطبيع معه.
وعليه، من السّاقط منطقيّا اعتبارُ كلِّ مطبِّع عميلًا، وإن تعمدّت بعضُ الجهاتِ الخلطَ بين العمالةِ والتّطبيع بما يخدمُ مصالحَها في تمييع التّطبيع وحمايةِ المطبّعين. وليس في أدبيّاتنا في حملةِ المقاطعة أيّ استسهالٍ في إطلاق صفةِ التّطبيع أو المطبّعِ كيفما اتّفق، ونادرةٌ هي الحالاتُ التي لم نجد فيها بدًّا من إطلاقِ هذه الصّفة، كما في حالةِ المخرج زياد دويري، وحالة المخرج وجدي معوض.
وغريبةٌ هي ردّة فعلِ المطبّعين والمدافعين عنهم ! فمثلًا إذا لم يجِدْ أحدُ الفنّانين حرجًا في إقامةِ حفلٍ في الكيانِ الإسرائيلي، وهذا تطبيعٌ فاضحٌ، بل ويدافع عن فعلته، فلماذا يجدُ حرَجًا في وصفِ فعلته هذه بالتّطبيع؟ بمعنى أنَّ الذي لا يقيمُ وزنًا لفعلِ التّطبيع، يعترضُ في الوقتِ عينِه من نعتِه باستخدام لفظ التطبيع؟ إنّ هذا عجيبٌ غريب. وربّ مُجادِلٍ بأنْ لا إجماعَ على تعريفِ التطبيع، وقد يختلفُ تعريفُ حملتِنا عن تعريفاتٍ أخرى للتطبيع. هذا صحيحٌ، ونتفهّم هذا الاختلافَ ونعرف أسبابَه. ولهذا، فلنضع رأيَ حملتِنا جانبًا لبعض الوقت، ولنعتبِرْ أنّ وجدي معوّض لم يكن يومًا من الأيّام لبنانيًّا، بل ولد وعاشَ في الغرب. إذا كيف يمكنُ الدّعوة لمقاطعته؟
في عام 2005 شارك أكثرُ من 170 جسماً من اتحاداتٍ شعبيّة ونقاباتٍ وأحزابٍ ولجانٍ شعبيّة ومؤسّسات أهليّةٍ فلسطينيّةٍ في إطلاقِ النّداءِ التاريخيّ لمقاطعةِ “إسرائيل”، وكان هذا وراءَ نشوءِ حركة BDS العالميّة التي تدعو فيما تدعو إلى مقاطعةِ كلّ فنانٍّ أيّا تكن جنسيّته، ويقبلُ دعمًا ماليّا رسميًّا من الكيانِ الإسرائيلي. ولهذا دعت حركةُ BDS لمقاطعةِ مسرحيّة وجدي معوض Tous des oiseaux ، وأرسلت له رسالةً واضحةً شرحت فيها الأسبابَ الموجبةَ لمقاطعةِ المسرحيّة حين أُعلنَ عن عرضِها في مدينة جنيف السّويسريّة.
ثانيا: في أكذوبة فصلِ الفنّ عن السيّاسة
هناكَ من يرى أنّ الفنّ، والثّقافةّ، والرّياضةَ، والأكاديميا يجبُ أن تظلّ منفصلةً عن السيّاسة. لسنَا هنا بصددِ انتقادِ هذا الرّأي الذي نخالفُ، متى ما كانَ صادرًا عن أشخاصٍ عاديّين، لا شأنَ لهم بالسّياسة لا من قريبٍ ولا من بعيد، وليسوا في موقعِ قرارٍ أو تأثيرٍ في الميادينِ المذكورة. لكنّنا بالتأكيد لن نفوّتَ فرصةً للمساجلةِ في أنّ هذا الرأي هو رأيٌ في عينِ السيّاسةِ، بل هو تضليلٌ سياسيّ، متى كانَ صادرًا عن مسؤولينَ سياسييّن، أو أشخاصٍ في موقعِ القرارِ، أو مؤثّرين في الفنّ، و الثّقافة، والرّياضة، و الأكاديميا. ألم يصرّح الرّئيس الإسرائيلي السابق “رؤوفين ريفلين” بقوله:” المؤسّسات الثّقافيّة تشكّل واجهةً تعرضُ إسرائيلُ من خلالِها صورةً ديمقراطيّة وليبراليّة ونقديّة لذاتها”؟ ولطالَما استخدمَ الكيانُ الإسرئيليّ الفنّ والثّقافةَ والأكاديميا لخدمةِ مشروعِه الصّهيونيّ الاستيطانيّ العنصريّ، وتلميعِ صورته القبيحة: من حملاتِ التّرويج المدفوعةِ التي يُغوي فيها بعضَ الممثّلين العالميّين، والحفلاتِ”الخيريّة” لجمعيّة FIDF التي تجمعُ التّبرعات للجيشِ الإسرائيليّ بمشاركةِ نجوم هوليوود، وتوظيفِ “الجمال” الإسرائيليّ، والفنّانين الإسرائيليين مثل “غال غادوت” في خدمةِ الجيشِ والترويج لدعمه. أمّا عن الأكاديميا، فحدّث ولا حرَج، فالجامعاتُ ومراكزُ الأبحاثِ وشركاتُ التكنولوجيا الإسرائيليّة موغلةٌ في تورّطها وتشابكِها مع آلةِ الحربِ الإسرائيليّة. هل يغيبُ عن ذهنِ المنادينَ بفصل الفنّ وغيرِه عن السيّاسةِ منعُ كثيرٍ من الدول كتبًا، وعروضًا مسرحيّةً، وأفلامًا، ومحاكمةُ بعض الكتّاب والفنّانين؟ وهنا لا نقصدُ حصرًا دولَ ما يسمى عالم الجنوب، بل نقصدُ بالأخصّ دولًا تضربُ نخبُنا المزيّفة المثَلَ في ديمقراطيّاتها، وحريّاتها، ومؤسّساتها، وتغضُّ النظرَ عن نفاقِها وازدواجيّةَ معاييرِها، وتغليبَ السيّاسيّ المصلحيّ فيها على كلّ شيءٍ آخر. وعلى أبوابِ الألعابِ الأولمبيّة التي ستقامُ في باريس بعد أشهر -وهي في أصلِ فكرتها في اليونان القديمة كانت تقومُ على تأجيلِ النّزاعات في فترةِ الألعابِ إلى ما بعدَها- نستحضرُ قرارَ اللّجنة الأولمبيّة الدوليّة بمقاطعةِ روسيا، فهل قرّرت اللجنةُ الأولمبيّة الدوليّة هذا لأسبابٍ رياضيّة؟ أم لأسبابٍ سياسيّة؟ ولماذا لم يفوِّت الاتحاد الأوروبي لكرة القدم فرصةً لرفعِ علمِ أوكرانيا في مناسباتٍ يفترضُ لنا أن نصدّق إنها محضُ رياضيّة؟ وماذا عن السُّعار المستمرّ بعد السّابع من أكتوبر 2023؟ من عنفٍ فكريّ، وإعلاميّ، وبوليسيّ، وخنقٍ للحريّات، إلى حدّ منع العلمِ الفلسطينيّ، والكوفيّة الفلسطينيّة، ومنع التّظاهرات، وإلغاءِ حفلِ تكريمِ الكاتبةِ الفلسطينيّة عدنية شبلي في معرضِ فرانكفورت للكتاب، وحديثًا منعُ الطّبيب الفلسطينيّ غسّان أبو ستّة، وهو عميدُ جامعةِ غلاسكو الاسكوتلنديّة، من دخولِ ألمانيا، وإطلاقُ تهمةِ معاداةِ السّاميّة جزافًا على المثقّفين والإعلاميّين الذين يغرّدون خارج السّرب. حتى مسرحيّة وجدي معوّض، والتي سبقَ أن عرضَها في تل أبيب، لم تسلمْ من إلغاءعرضِها في ألمانيا بتهمةِ محتوى معادٍ للسّامية أطلقها بعض الطلبة اليهود في ألمانيا.
وخلاصةُ القول إنّ كلّ فنٍّ، وثقافةٍ، ورياضةٍ، وأكاديميا، هي بالضّرورة تدورُ في الفلكِ السياسيّ، وعرضةٌ لتأثيره والتّاُثير فيه، هذا إذا لم تكنْ صنيعتَه أصلا. وكلّ أشكالِ التّمرد، والاعتراضِ، وتحدّي السائدِ في هذه الميادين، إنّما هي أفعالٌ ذاتُ نزعةٍ سياسيّة، أو هي تعبيرٌعن سياسةٍ مغايرة. وللمفارقة، فإنّ وجدي معوض في مقابلته منذ أيّام مع راديو France Inter الفرنسيّ بدأَ كلامَه بأنّ المسرحّ يولدُ من رحم السيّاسة ! فليكن إذا مسؤولًا عن أعماله الفنية في بعدها السياسي، وعن قرارِه الواعي بالتّطبيع، من خلالِ التعامل مع ممثلين إسرائيليين، وعرض مسرحيته Tous des oiseaux في تل أبيب، وقبول رعاية ودعمٍ ماديّ من السّفارة
الإسرائيلية. واللافتُ أن عروضَ هذه المسرحيّة جاءَت ضمن موسِم فرنسا/إسرائيل 2018 الذي رعاه رسميًّا الجانبانِ الفرنسيّ والإسرائيليّ، ودعا لمقاطعتِه أكثرُ من ثمانينَ مسرحيًّا وكاتبًا ومخرجًا وفنّانًا فرنسيًّا بينهم Annie Ernaux التي حصلت عام 2022 على جائزة نوبل للآداب. وقد جاهرَ هؤلاءِ الشّجعانُ بتضامنِهم مع فلسطين، ورفضِهم بأن يُستخدموا كواجهةٍ ثقافيّة يستفيدُ منها الكيان الإسرائيلي. كما وقّعَ عشراتُ الأساتذةِ الجامعييّن والباحثين والمثقّفين والصحافيّين رسالةً موجّهةً إلى رئيسِ الجمهوريّة الفرنسيّة، تطالبُ بإلغاءِ هذا الموسمِ، خصوصًا بعد الجرائمِ الإسرائيليّة خلالَ مسيرةِ العودةِ عام 2018. كلّ هذا، ووجدي المعوض “الشّجاع”، والمهجوسِ بالأسئلة الصعبة، أصرّ على المشاركة !
ثالثا: في أننا لم نُشَيطن وجدي معوّض
في أننا لم نُشَيطن وجدي معوّض، ونرفضُ شيطنتَه أو التعرّض لفريقِ عمل المسرحية نقولُ بكلّ وضوحٍ، نرفضُ شيطنَة وجدي معوّض كمقدمةٍ لمقاطعتِه ومنعِ مسرحيّته، ولا نتّهمُه بالعمالة، ولدينا ما يكفي من الحججِ لنقول إنه مطبّع، وإنّه لم يكترِث لا منذُ سنواتٍ ولا منذ أيّام، لكلّ الأصواتِ التي اعترضت على تطبيعِه، وإنّه استسهلَ تمثيلَ دورِ الضّحيّة، وبالتالي نعتبرُ إلغاءَ عرضِ مسرحيّته الجديدة تثمينًا لجهودِنا وجهودِ غيرِنا، وفرصةً له كي يراجعَ نفسَه، فما من أحدٍ فوق المساءَلة.
مشكلتُنا ليسّت بالضّرورة مع موادِّ أعمالِ المطبّعين، ومشكلتُنا ليست مع كلّ مواقفِ وجدي معوّض من الكيانِ الإسرائيليّ، بل مع بعض أفعالِه التي نذكّر بها: قبولُ الدّعم والرّعايةِ الرّسميّين من “إسرائيل”، وإشراكُ ممثّلين إسرائيليّين في مسرحيّته، إذ هو بهذا يتصرّف باعتبارِ الكيانِ الإسرائيليّ كيانًا طبيعيًّا وشرعيًّا، وهذا هو التّطبيع. هل هو ساذجٌ إلى حدّ أن يجهلَ أنّ هذه الأفعالَ تساهمُ في تلميعِ صورةِ الاحتلال، وكسرِ عزلته؟ وهو كما ذكرنا يعي عضويّة الارتباطِ بين الفنّ والسياسة؟
وهل يجرؤ أن يفعل في روسيا، ومع ممثلين روسا، وبتمويل روسي، مثلما فعل في الكيانِ الإسرائيليّ؟ بحجّة الفنّ، والدخولِ إلى معسكرِ العدو؟
لن نتوسّع في تحليلِ مواقفِ وجدي معوّض السيّاسيّة المباشِرة، وتجلّيها في مسرحيّاته، فلسنا نقادًا مسرحيّين، ولسنَا جهازَ رقابةٍ على مواد الأعمال الفنية، ولن نفعل كما فعلت بعضُ الجهاتِ الألمانيّة التي نجحت في إلغاءِ عرضِ مسرحيّة لهُ بسبب مزاعمَ حولَ محتواها. ولكن كي لا نغمِطَ وجدي معوّض حقّه، لا نُنكِر أنّ له مواقفَ في إدانةِ حكومةِ اليمينِ المتطرّف الإسرائيليّة، ورئيسَ الحكومةِ بنيامين نتانياهو، وحتى تواطؤَ الرّئيس الأمريكيّ جو بايدن. لكنّنا نلحظُ من جانبٍ آخر أنه لا يفوّت فرصة “بتلطيف” كلامه بإدانة بوتين، والرئيس الصيني، ولو من دون سياق، بينما لا يتفوّه بكلمةٍ حول النفاقِ الرسميّ الألمانيّ، أو الفرنسيّ، وازدواجيّة المعاييرِ في التعاطي مع الحربِ الرّوسيّة على أوكرانيا، والحربِ الإسرائيليّة على غزّة، ولا يدينُ إرسالَ كثيرٍ من الدّول الأوروبيّة أسلحةً إلى الجيشِ الإسرائيلي، في عهدِ الحكومةِ الإسرائيلية المتطرّفة عينِها التي يدينها. أية جرأةٍ هذه؟ وأي اتّساقٍ في المعايير؟ كما كانَ لافتًا في مقالٍ لهُ في صحيفةِ Libération بعد السّابع من أكتوبر 2023 مبالغتُه في شيطنةِ حماس، واعتبارُ اليهود مهدّدين، فيما يعلمُ جيّدا تفوّق آلةِ الحربِ الصهيونيّة، ووحشيّتها، واحتكارَ الكيانِ الإسرائيليّ التحدّث باسم يهودِ العالمِ، رغمَ اعتراضِ بعضِهم على جرائِمه وإدانتِهم لهُ من منطلقاتٍ عقائدّية يهوديّة، أو من منطلقاتٍ حقوقيّة وإنسانيّة وسياسيّة.
وهنا نسألُ وجدي معوّض: لماذا لا تكونُ مثل بعضِ هؤلاءِ اليهودِ الشّجعان، فتكتبَ مقالةً مخصّصةً لإدانةِ جريمةِ الإبادة الإسرائيليّة؟ ولماذا لا تقاطعُ الكيانَ الإسرائيليّ، وقد فعلَ هذا إيتاي تيران Itay Tiranمنذ سنوات، وهو أحد أشهرِ الممثّلين المسرحيّين والمخرجين الإسرائيليّين؟ وكما فعلَ هذا كثيرٌ من المثقّفين والفنّانين العالميّين، ومن أبرزهم بيتر برووك Peter Book الذي رفضَ إقامة مسرحيّته في مسرح كاميري Cameri في تل أبيب، المسرحِ عينِه الذي أقمتَ مسرحيّتك فيه، وتياغو رودريغز Tiago Rodrigues مدير المسرحِ الوطنيّ في لشبونة الذي يؤيّد الضغطَ على الكيانِ الإسرائيليّ عن طريقِ المقاطعة، كما حصلَ في جنوب أفريقيا. وجدير بالذكر أن السعي السياسي الحثيث في أوروبا لتجريم حركة المقاطعة قد خاب، وخصوصا بعد صدور حكم من المحكمة الأوروبية ينقض حكما فرنسيا أدان بعض ناشطي المقاطعة.
ونستكملُ أسئلتنا لوجدي معوض: هل تنحصرُ مشكلتُك مع الكيانِ الإسرائيليّ في تطرّف حكومته؟ ورئيسِها؟ مثلما يمكنُ لأيّ شخصٍ أن يكونَ لديهِ مشكلة مع أيةِ حكومةٍ تنحو منحى التطرّف، في أيّة دولة شرعيّة؟ هل تكِنّ عداء لهذا الكيان، وجيشه المجرم، ومؤسساته المتواطئة مع آلة الحرب والإبادة؟
رابعًا: خلاصة رسالتنا لوجدي معوض
ختامًا، نلخص رسالتنا لوجدي معوض بعدّة نقاطٍ واضحة، آملين بأن يعيدَ النظر في خياراتِه:
– أنت بنفسِك تقول، في أجواء الحرب والدمار، ” إن هناك متّسعًا لرأيِ الفناّن، وإنّ الفنانَ ومنذ الأزل اتّخذ مواقفَ في النّزاعات والحروب، وإنّ المسرح ولدَ من هذا…”فلتكن جريئًا بمقاطعة الجلاد، وفي إدانته وفضحه، لا بمجرّد انتقاده بما يراعي الثّقافَة المهيمنة.
– لم نتهِمك بالعمالةِ، بل بالتّطبيع، كما لم ننكِر بعضَ مواقفِك التي كنتَ فيها واضحًا في إدانتِك للحكومةِ الإسرائيليّة المتطرّفة، ولكنّنا نعتبرُ أنّ هذا ليسَ كافيًا، وليسَ منسجمًا مع ما تدّعي، وقد كانَ بعضُ الإسرائيليّين أكثرَ جرأةً منك.
– لستَ غبيّا أو ساذجًا كي لا تضعَ في حسابِك استغلالَ الكيانِ الإسرائيليّ للفنّانين والمثقفين، فكيف إذا كانوا قبلوا تمويلًا رسميّا إسرائيلياّ؟ فلتعتذرعن هذا الخطأ، ونعلمُ أنّك في حال فعلت، ستدفعُ ثمنًا لهذا في الوسطِ الفنيّ والثقافيّ.
– أنت حرٌّ في مواقفِك وللناسِ الحقُّ في الاعتراض عليها بكل الوسائِل السلميّة. لا تستطيعُ أن تمنعَ مساءَلة الناسِ لك ودعوتِهم لمقاطعتِك، ولا أن تتجاهَل قانون بلدٍ ما زلت تحملُ جنسيّته. تريدُ أن تقدّم عروضًا في لبنان الذي يتعرّض جزءٌ منه لقصفٍ إسرائيليّ، ولا تبالي بأصواتِ المعترضين على تقديمِ مسرحيّتك في تل أبيب، وعلى تمويل جهة رسميّة إسرائيلية لمسرحيتك…هل هذه هي الجرأة؟
كّلنا طيور…فلتِحسن اختيارَ سربِك، أو فلتغرّد حقًّا خارجَ السر.