خالد الحروب - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/11rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:33 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png خالد الحروب - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/11rommanmag-com 32 32 اليسار الفلسطيني: مرارة رحلة الترهّل، وضرورة النهوض https://rommanmag.com/archives/20769 Sat, 29 Jan 2022 10:30:07 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%b3%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d9%87%d9%91%d9%84%d8%8c/ أعادت الندوة التي نظمها ملتقى فلسطين مؤخراً بعنوان “اليسار الفلسطيني: دور مفقود ومستقبل غامض” طرح أسئلة مصيرية أمام اليسار الفلسطيني، وتضمنت النقاشات محاور عميقة وسجالات مهمة ظل الكثير منها قيد التأمل والتفكير. الجانب المهم في الندوة هو انطلاقها من نقاش كتابين مهمين، أولهما حديث الصدور (بالانجليزية) للباحث الإيطالي فرانشيسكو سافيريو ليوباردي بعنوان “أفول اليسار الفلسطيني: […]

The post اليسار الفلسطيني: مرارة رحلة الترهّل، وضرورة النهوض appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

أعادت الندوة التي نظمها ملتقى فلسطين مؤخراً بعنوان “اليسار الفلسطيني: دور مفقود ومستقبل غامض” طرح أسئلة مصيرية أمام اليسار الفلسطيني، وتضمنت النقاشات محاور عميقة وسجالات مهمة ظل الكثير منها قيد التأمل والتفكير. الجانب المهم في الندوة هو انطلاقها من نقاش كتابين مهمين، أولهما حديث الصدور (بالانجليزية) للباحث الإيطالي فرانشيسكو سافيريو ليوباردي بعنوان “أفول اليسار الفلسطيني: المعارضة الموالية” The Palestinian Left and its Decline: Loyal Opposition، ٢٠٢٠. والثاني كان قد صدر منذ أكثر من عشر سنوات للصديق جميل هلال بعنوان “اليسار الفلسطيني إلى أين” (إصدار مؤسسة روزا لوكسمبورغ، ٢٠٠٩) لكنه ما زال يحفل بأهمية متواصلة وراهنة بكونه اعتمد على لقاءات مع كوادر وقيادات يسارية حزبية وتقديمه رؤى وحوارات وأفكار جلها من “داخل اليسار” وليس من خارجه. حاصل جمع الكتابين، على ذلك، هو التأمل في رؤيتين واحدة من الخارج والثانية من الداخل، كلاهما تفصيلية وبحثية وموضوعية، وكلاهما أيضا بعيدة من الدعاية لليسار أو الهجوم عليه. 

تبعاً لليوباردي في كتابه، وهو بالمناسبة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وليس عن اليسار عموماً، لكن الكثير من طروحاته يمكن أن تنطبق إلى هذه الدرجة أو تلك على عموم اليسار، يمكن أن نلتقط طرف خيط رحلة الإرتباك التاريخي لليسار الفلسطيني من الوصف الذي يحمله النصف الثاني من عنوان الكتاب، تحديداً “المعارضة الموالية” – opposition and integration. منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عارض اليسار الفلسطيني، وخاصة عبر الحركة الأهم والأشد تأثيراً، أي الجبهة الشعبية، الكثير من “التوجهات اليمينية” لدى فتح وقيادتها، كما كان يراها، سواء في السياسة أو التحالفات. مرت فترات احتدت فيها المعارضة الجبهاوية إلى درجة قريبة من إعلان العداء، لكن في نهاية أي مطاف مارست الجبهة وأغلب اليسار انضباطاً حاسماً في إطار المنظمة – الاندماج. ظلت فكرة تقديم أولوية الوحدة على أي برنامج منافس وانفصالي هي الأقنوم الهادي لليسار رغم كل الخلافات. أحد أهم الأمثلة شهدناها عندما رفع اليسار صوت معارضته وحاول تقديم أفكار بديلة وطروحات تأمل إيقاف الانحدار “اليميني” في أواخر الثمانينيات عندما اعترفت المنظمة بإسرائيل، لكن ظلت المعارضة داخل البيت. في حقبة أوسلو تكررت ذات السيرورة التي يشير إليها ليوباردي بوضوح، حيث يبدأ الأمر بالاعتراض الشديد على سياسة قيادة المنظمة وفتح عموماً، وفي المنعطفات التاريخية خصوصا، يليه محاولة بناء تحالفات داخل المنظمة لتغيير تلك السياسات أو حتى القيادة نفسها، ثم الفشل في ذلك، ويعقب ذلك الإنهاك السياسي وقبول الأمر الواقع الجديد، وبالتالي البقاء في أسر معادلة “المعارضة الموالية”. عارضت الجبهة واغلب اليسار اتفاق أوسلو، وشكلت مع حركتي حماس والجهاد، تحالف “الفصائل العشرة” لإجهاض الاتفاق، لكن فشل التحالف وبقي أوسلو كما نعلم، وبقيت الجبهة في إطار المنظمة، وانتقلت قياداتها الى الضفة الغربية مع من انتقلوا. 

مع تكرار تلك السيرورة “معارضة – إنشاء تحالفات – فشل – قبول بالأمر الواقع” ضمن ضابط الحركة العام “المعارضة الموالية” بمسوغ المحافظة على المؤسسة الشرعية، تفاقم ارتباك اليسار وضعفه وفقدان صدقيته. كانت عوامل ذاتية داخلية قد ساهمت بدورها في إضعاف اليسار مثل التكلس القيادي، غياب الديمقراطية الداخلية، ضمور الأفكار والرؤى الجديدة التي تعيد تعريف وفهم اليسار الفلسطيني لذاته ودوره السياسي والاجتماعي. لمواجهة الضعف والارتباك المتراكم تمسك اليسار مؤسساتيا بفكرة الاحتفاظ بمنظمة التحرير والدفاع عنها (وكان شبح قوة حماس المتصاعدة في الخلفية دوماً). أما عملياً فقد وجد نفسه في معارضة مع السلطة الفلسطينية وسياساتها وفسادها وضياع بوصلتها اوصلته الى سياسة تعزيز مؤسسات المجتمع المدني في الداخل لمقاومة الانهيار والسلطوية. قادت تلك السياسة إلى استنزاف مئات الكوادر السياسية في المنظمات غير الحكومية التي ورثت منظمات العمل الشعبي، واعتمدت تمويلاً اجنبيا أوروبيا. عوض أن يواصل اليسار عمله في قلب السياسة والنضال سواء داخل المنظمة أو في ساحات المقاومة ضد إسرائيل بتنوع مجالاتها، تحول جزء كبير منه إلى النضال النقابي والمهني والحقوقي، وكأن الدولة المستقلة قد أنجزت. الأسوأ من الاستنزاف في المنظمات غير الحكومية، كان ابتلاع شرائح أخرى من اليسار من قبل السلطة وآلياتها وميزانياتها، بما هشم ما تبقى من صدقية لليسار وتنظيماته التي بدت تابعة مالياً وادارياً لبنية هائلة ثقيلة الوطأة ويصعب تغييرها. 

لكن يبقى ضرورة التأكيد على أن أفول اليسار الفلسطيني وتراجعه يأتي عملياً وموضوعياً في سياق أفول الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، ويصعب تحليليا فصل الأزمات والمآزق التي أحاطت باليسار عن مثيلاتها التي أجهضت الحركة الوطنية وحشرتها في مربع التكلس. ثمة بالطبع سمات، فيما خص الأفول او التكلس، خاصة بكل تيار من التيارات الفلسطينية تضيف تنويعات في الدرجة أو المضمون، وذات علاقة عضوية بالعامل الذاتي الخاص بهذا التيار أو ذاك، وبالجوهر الأيديولوجي لبرنامجه السياسي والفكري. يسارياً، تتمثل بعض هذه السمات في تفاقم التوتر الدائم بين المشروع الوطني التحرري والمشروع الاجتماعي التقدمي، سيما وأن الثاني اعتبر على الدوام الإضافة التمييزية والاختلافية التي يقدمها اليسار عند مقارنته بحركة فتح وبرنامجها. ينفتح هذا التوتر على سجال طويل يعود الى اللحظة البنيوية المُؤسسة لهذا اليسار حيث ولد في سياق صراع تحرر وطني بالدرجة الأولى وليس سياق صراع اجتماعي. ظل اليسار الفلسطيني حاملاً للمشروعين، أو على الأقل هكذا حاول، إلى اللحظة الراهنة حيث تكشف الفشل في قطع جل المسافة أو حتى ربعها في اتجاه إنجاز أي من الإثنين، التحرري الوطني (ويتشارك هنا مع بقية الحركة الوطنية) أم التقدمي الاجتماعي. كما ينفتح هذا السجال على موقف اليسار من الأنظمة العربية الشمولية المحيطة بفلسطين وموقفه من الحرية والديموقراطية ومطالبات الشعوب بها، والتناقضات الصاعقة التي وقع فيها اليسار في هذا السياق.

يطل هنا في النقاش الجدل الكلاسيكي إزاء إحالة تدهور وضع اليسار الفلسطيني الى عوامل ذاتية ام موضوعية. هل تآكل اليسار، ذاتوياً، بسبب تكلس القيادات عمرياً وابداعياً، وتكلس الأفكار والبنى التنظيمي، وشيوع اللغة العالية والمتعالية على الجمهور، وتوسع ظاهرة التفرغ، والانقسامات المتتالية، وصراع قيادات الخارج مع الداخل، وعدم الحسم في الموضوع الاجتماعي، أو ترسيم العلاقة مع التيار الإسلامي، وعدم وجود تمويل مستقل؟ أم أن العوامل الموضوعية الخارجة عن سيطرته لعبت الدور الحاسم في رحلة التآكل مثل خروج المنظمة من لبنان سنة 1982، قيام الثورة الإيرانية وبروز التيار الإسلامي إقليميا ومحليا، انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وضعف اليسار عالمياً، ضرب العراق وتدميره في حرب الخليج الأولى، اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية؟ الملفت والايجابي في تناول هذا الجدل أن الغالبية الكاسحة من تحليلات كوادر اليسار كما وردت في كتاب جميل هلال ربطت تدهور اليسار بالعوامل الذاتية بشكل أساسي، الأمر الذي يصفه هلال بعلامة وعي. ينحى ليوباردي أيضاً في تحليله الموسع مع هذا الإتجاه، ويخلص بعد دراسته المعمقة الى ذات النتيجة وهي مركزية العوامل الذاتية، ويرى من موقعه المستقل أن تلك العوامل هي التي أثرت جوهرياً على مآلات اليسار. هذه النتيجة في غاية الأهمية وتفتح كوة أمل كبيرة أمام اليسار الفلسطيني إذ يمكن قراءة احتمالات النهوض من نفس المنظور، أي العامل الذاتي، بما يعني إمكانية حقيقية للنهوض لا تنتظر تغير العوامل الموضوعية الكبرى. يمكن إذن لليسار أن يعيد بناء نفسه بنيويا وذاتيا ويصوغ برنامجاً يناسب المرحلة يتجنب فيه اختلالات العقود الماضية.

The post اليسار الفلسطيني: مرارة رحلة الترهّل، وضرورة النهوض appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“أميرة”: بين سماجة سوء التقدير وغواية الإبداع https://rommanmag.com/archives/20723 Thu, 09 Dec 2021 12:25:11 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%ac%d8%a9-%d8%b3%d9%88%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%82%d8%af%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%ba%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84/ فيلم “أميرة” الذي تدور قصته حول تهريب النطف عند الأسرى الفلسطينيين لزوجاتهم خارج السجن، يُختم بنهاية صادمة تمثلت في اكتشاف أن النطفة المهربة في حالة قصة الفيلم كانت لجندي إسرائيلي. النهاية الصادمة صدمت الكثيرين، وأغلبهم، وأنا منهم، لم يروا الفيلم، وتستدعي، النهايةُ، ومعها فكرة الفيلم، بعض الملاحظات. أولاً، من حق أي مُخرج أو مُبدع أن […]

The post “أميرة”: بين سماجة سوء التقدير وغواية الإبداع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فيلم “أميرة” الذي تدور قصته حول تهريب النطف عند الأسرى الفلسطينيين لزوجاتهم خارج السجن، يُختم بنهاية صادمة تمثلت في اكتشاف أن النطفة المهربة في حالة قصة الفيلم كانت لجندي إسرائيلي. النهاية الصادمة صدمت الكثيرين، وأغلبهم، وأنا منهم، لم يروا الفيلم، وتستدعي، النهايةُ، ومعها فكرة الفيلم، بعض الملاحظات.

أولاً، من حق أي مُخرج أو مُبدع أن ينتج ما يُريد فنياً، كتابياً، سينمائياً، وسواه. وفي المقابل من حق الجمهور والنقاد والناس، وخاصة من يرون أن العمل الفني المعني يتحدث عنهم على وجه التحديد، أن يرفعوا صوتهم تجاه ذلك العمل تأييداً أو نقداً أو شتماً. فور أن يصبح العمل الإبداعي، الكتاب، اللوحة، المسرحية، الفيلم، الأغنية، مطروحاً في الفضاء العام، فإن مؤلفه أو منتجه يموت مجازياً، بحسب المقولة المشتهرة للفرنسي رولان بارت “موت الكاتب”. يعني ذلك أن العمل يصبح ملك المتلقين ومن حقهم أن يتعاملوا معه بالطريقة والمزاج الذي يرون وفي السياق المعني.

ثانياً، درامياً، وتبعاً لما نُشر عن قصة الفيلم ومن دون حصول فرصة لحضوره، ما من شك أن النهاية الصادمة وغير المتوقعة (twist) في استبدال النطفة، فيها إلماعة احترافية في صوغ الحبكة لو كان تطبيقها في سياق غير فلسطيني، أما فنياً فلا يستطيع المرء الحكم على الإخراج التنفيذي لهذه الفكرة الدرامية من دون حضور الفيلم.

ثالثاً، عطفاً على إقرار بما في الفكرة من ابتكار درامي، فإن جوهر النقاش حول قصة الفيلم ليس متعلقاً في الدراما أو الأبعاد الفنية، بل في السياق الفلسطيني الخاص جداً. قصته ليست حكاية سجناء عاديين في بلد عادي يهربون نطفهم لزوجاتهم، ويمكن للمخرج أن يتدخل ويقحم حبكة خيالية صادمة كتلك التي في فيلم “أميرة”. هؤلاء أسرى حرب عادلة، وليسوا سجناء جنائيين، وهم “من تبقى لنا” من وهج قضية مقاومة احتلال استعماري ما زال يفرض بطشه وإرادته علينا منذ أكثر من قرن. هذه القضية وخاصة في الربع قرن الأخير، الأوسلوي، بهتت الكثير من جوانبها: ضاعت البوصلة، تشتت المشروع الوطني، قامت سلطة وعد أصحابها بأن تكون بوابة الاستقلال فصارت أداة أمنية بيد المستعمر، اختفت الفصائل، انشق الصف الوطني، تغطرس المحتل الصهيوني، تدحرجت أنظمة التطبيع العربي عند أقدام العدو وناصرتّه… وهكذا تطول قائمة الفشل والإحباط. مقابل كل هذا السواد، هناك بقعة مضيئة ساطعة، هناك شمس متوثبة في قلوب الناس، تصل حاضرهم المُحبط بماض قريب كان مُشتعلاً بالنضال والثورة والصمود والتضحية: هذه البقعة المضيئة هي الأسرى. هؤلاء ومعهم الشهداء هم أنقى من فينا، أطهرنا، أجملنا، هم مسطرة التضحية التي كلما نقيس أنفسنا بها وإزاءها نخجل من ذواتنا. الأسرى هم إشراقة البياض المُتعالية في واقع بشع، هم وعد الإصرار على الحرية. هؤلاء القديسون اجترحوا عبقرية تهريب النطف إلى زوجاتهم، إمعاناً في التشبث بالحرية. يحررون أرواحهم عبر إرادة بطولية مجنونة تمثلت في إنتاج أولاد يحملون دمغة الأب الذي كسر إرادة المحتل ولم ينكسر. الهبة المعارضة لفيلم “أميرة” يجب أن تُفهم في هذا السياق، سياق الحوم حول بقعة الضوء المُتبقية، كأن ثمة من يريد إطفاء الأمل ومنع ولادة الوليد الذي نهض رغم انف الواقع والمحتل.

رابعاً، ثمة وجهة نظر تقول إن الحملة ضد الفيلم تعكس نظرة تقديسية وغير نقدية للذات الفلسطينية. هذا التقدير جزئيا صحيح ونحن نحتاج دوماً إلى تأمل نقدي للذات، بل وأحياناً نقد قاس. بيد أن لكل مسألة معطياتها الخاصة ولا يمكن جرّ هذا التوصيف وتطبيقه على كل المسائل والحالات من دون اعتبار لملابساتها. قصة الفيلم الذي بين أيدينا والحملة ضده لا يندرجان في توصيف غياب نقد الذات لأكثر من سبب. أهمها، شبه الغياب التام لأي سردية سينمائية حول الأسرى الفلسطينيين تنقل درامياً قصصهم الأخرى التي تحايث في الكثير منها حدود المعجزات الإنسانية. لم نر أفلاماً تسرد لنا حيوات التنظيم الداخلي للأسرى، استكمالهم الشهادات الجامعية، تهريبهم للكتب والثقافة، تجاور الأب مع الإبن وأحياناً الحفيد في الزنزانة، الصمود ثلاثين وأربعين سنة في السجن، تتابع أجيال أبناء أو أحفاد الأسير، قصص الحب والانتظار، إلى غير ذلك، وصولاً إلى تهريب النطف وإبطال نفق حرية سجن جلبوع. لو كان عشر مُعشار هذه القصص المُعجزة حدثت وكان شخوصها إسرائيليين أو حتى في أي مكان آخر في العالم، لرأينا عشرات الأفلام تُنتج تخليداً للقصص الإنسانية المُذهلة. ولو كان الأمر كذلك وشهدنا أفلاماً عديدة تغطي سيرة وسردية الأسرى الفلسطينيين، ثم جاء فيلم “أميرة” اليوم ضمن مكتبة سينمائية كبيرة حول الأسرى لكان بالإمكان موضعته في إطار تنوع التغطية السردية. لكن في ضوء عدم التوازن الفادح في تمثيل هذه القضية درامياً وسينمائياً، لا يمكن قبول الفيلم  ولا التسامح معه من منظور ضرورة قبول “النقد الذاتي”. 

خامساً، استطراداً في مسألة النقد الذاتي، علينا دوماً استحضار موقع الفاعلين وترف أو ضرورة النقد ذاته. هناك فرق كبير بين فيلم أمريكي أو إسرائيلي مثلاً ينتقد أمريكا أو إسرائيل في أي مسألة أمريكية أو إسرائيلية حساسة، وفيلم فلسطيني، جزئياً أم كلياَ، ينتقد فلسطين أو مسألة فلسطينية حساسة (مثل الأسرى والفيلم الحالي). الفرق يكمن في أن المُستعمِر يملك ترف الممارسة ومساحات في النقد الذاتي أوسع بكثير من تلك المُتاحة للمستعمَر. دول البطش والاستعمار، بما فيها إسرائيل، تستعرض على المغلوبين عبر الادعاء بتوظيف النقد الذاتي تاريخياً، بل وأحياناً “تصويب” جرائم الماضي التي اقترفت بحق الشعوب الأخرى. هذا “التصويب” الادعائي لا يؤثر في أرض الواقع ولا يبدّل المظالم. في حالة المغلوبين يأخذ الأمر وجهاً آخر، فمن يقع تحت الاستعمار تكون حساسيته أشد وأولوياته مختلفة، والنقد الأهوج أو “ادعاءات التصويب” قد تؤثر في الواقع الساخن الذي ما زال مُعاشاً.

فيلم “أميرة” لا يتحدث عن تاريخ ماض، بل عن واقع يحدث الآن، ويؤثر فيه ويشوهه. وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية وهي ترف أو ضرورة النقد ذاته. هناك ألف قضية وقضية تحتاج إلى نقد ذاتي داخلي فلسطينياً، ولو كان الفيلم حولها لما لقي هذه المعارضة الشديدة. في السياسة والسلطة، في الفصائل والانقسام، في العشائرية والتخلف المجتمعي، وفي مجالات عديدة نحتاج إلى نقد داخلي شديد ومستديم. هنا يصبح النقد ضرورة. أما أن يُترك ذلك كله ويتم التوجه إلى الإشراقة الوحيدة ومستودع الأمل والوجدان وهناك يُصار إلى ضرب أكثر الأوتار حساسية: الأسرى، ونسبهم، وأولادهم، وتحويل حكايات تهريب النطف المُعجزة إلى شبهة الاستبدال بنطف المُحتل، فإن ذلك يتجاوز “ترف النقد” ويشير إلى سوء تقدير وسطحية فهم أنتجت ما استحقّ أن يكون في موقع الاستهداف والاتهام.

The post “أميرة”: بين سماجة سوء التقدير وغواية الإبداع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سيزيف الفلسطيني… وحرب الأيام الستة (الجديدة) https://rommanmag.com/archives/20495 Sun, 16 May 2021 15:03:12 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%8a%d8%b2%d9%8a%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d9%88%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%8a%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%aa%d8%a9-%d8%a7%d9%84/ ظلت حرب حزيران 1967 جرحاً غائراً في وجدان الفلسطينيين والعرب. في ستة أيام فقط احتلت إسرائيل أراض هائلة لمصر والأردن وسورية، بما فيها سيناء والضفة الغربية وكل القدس وهضبة الجولان، وتضاعفت مساحة ما صارت تحتله إسرائيل إلى ثلاثة أضعاف ما كانته قبل الحرب. شكلت تلك الحرب، وجزء كبير من أسرارها ما زال قيد المجهول، فضيحة […]

The post سيزيف الفلسطيني… وحرب الأيام الستة (الجديدة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ظلت حرب حزيران 1967 جرحاً غائراً في وجدان الفلسطينيين والعرب. في ستة أيام فقط احتلت إسرائيل أراض هائلة لمصر والأردن وسورية، بما فيها سيناء والضفة الغربية وكل القدس وهضبة الجولان، وتضاعفت مساحة ما صارت تحتله إسرائيل إلى ثلاثة أضعاف ما كانته قبل الحرب. شكلت تلك الحرب، وجزء كبير من أسرارها ما زال قيد المجهول، فضيحة عسكرية وسياسية وقيادية بكل المعاني. كيف هُزمت ثلاثة جيوش عربية بمثل تلك السرعة المذهلة؟ ربما احتاجت الدبابات الإسرائيلية والمشاة ونقل العتاد، في وقت السلم فضلاً عن وقت تخوض فيه حرباً، إلى أكثر من ستة أيام لو أرادت تغطية تلك المساحات الشاسعة، والوصول إلى حدود قناة السويس والإطلال على دمشق، والتموضع فوق كل جبال الضفة الغربية وغور الأردن. قصة سقوط الجولان وحدها تذهب بالعقل إذ لا يمكن تخيل سقوط تلك الهضبة المنيعة من دون خيانات. على كل حال، ثملت إسرائيل بذلك النصر الذي فاجأها ودفع غطرستها وغرورها إلى حدود قصوى بكونها القوة التي قهرت كل العرب ولن يحلموا بهزيمتها.

هذه الأيام تذكرت تلك الحرب والتسمية اللئيمة والمُذلة التي تصر إسرائيل والأدبيات الغربية على استخدامها: “حرب الأيام الستة”، بدل حرب حزيران 1967، للتذكير الدائم بكسر الإرادة وللإبقاء على سيكولوجيا الهزيمة ضاربة العمق في الوجدان الجمعي العربي. هذه الأيام دخلت الحرب الراهنة يومها السادس والمدن الإسرائيلية تحت القصف، وتعليمات المقاومة تحدد ساعات حظر التجول. لأول مرة في تاريخ إسرائيل يجتاحها هذا الرعب من داخل فلسطين ومن قبل فلسطينيين. لن نخدع أنفسنا طبعاً ونقول إن ثمة نصراً عسكرياً كاسحاً يحدث، خاصة في ظل الإجرام الإسرائيلي الدموي ضد قطاع غزة ومدنييه. لكن هناك دروس انتصار عديدة لا يجب التقليل منها، أولها درس الكرامة الذي جاءت به حرب الأيام الستة الجديدة، حرب هبة القدس وسيفها.

هي الكرامة وانتعاش الروح النضالية التي انفجرت في كل فلسطين وفي بلدان اللجوء، تأييداً واندفاعاً احتاج الفلسطينيون أن يستنشقوا هواءها. اختنقنا من المذلة التي تلاحقت جولاتها: نظام أوسلو والتنسيق الأمني ومطاردة المقاومين، عربدة إسرائيل والمستوطنين في طول وعرض فلسطين والقدس، الخنوع العربي وارتماء المطبعين العرب عند أقدام إسرائيل، سيادة ثقافة الهزيمة “الواقعية” وقبول نفايات السياسات الأمريكية حتى لو كانت بمستوى وساخة “صفقة القرن”، الحصار اللاإنساني على مليوني فلسطيني في قطاع غزة، دوس حقوق اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا، وغير ذلك كثير. نتنياهو تبجح في أكثر من تصريح هذه السنة قائلاً بأن إسرائيل فرضت نفسها على العرب بالقوة، ولأنهم لن يقروا إلا بإسرائيل قوية. 

وفجأة، انعكست عقارب زمن ما. سواعد ناس القدس وغزة والضفة والداخل تنصهر في معادلة فينيق سماوية البعد والأفق. ستة أيام وإسرائيل وجيشها وبحريتها وطائراتها الأكثر تقدماً في العالم وترسانتها الاستخباراتية على الأرض وفي السماء، لا تستطيع إيقاف صفعات مقاومة تلك السواعد التي أعادت للناس كرامتهم. هناك الكثير مما قد يُقال تقويماً لحسابات الربح والخسارة، لكن هذه الكلمات تتوقف هنا عند رمزية الأيام الستة وحسب.

الأيام الستة لقطاع غزة، أو لنسميه “قطاع المستحيل” رفعت سماء الذل التي هبطت علينا منذ عقود. سيزيف الفلسطيني يحمل السماء على كتفيه، يسطر ستة أيام لم تستطع فيها دولة الترسانة وشعب الجيش إلا أن يهرب إلى الملاجئ جراء ثورة اللاجئين. السواعد التي أمطرت إسرائيل بالصواريخ هي سواعد أولاد وأحفاد اللاجئين الذي اقتلعتهم إسرائيل من مدنهم وقراهم في فلسطين، ودفعتهم نحو غزة، وهناك حشرتهم في غيتو الاختناق. أرادتهم أن يموتوا، أن يبتلعهم البحر، أو أن يخنقهم ضنك الحياة. كسروا إرادة عدوهم، وجاءوا يمتطون سموات وطنهم عائدين إلى حيث غادر آباؤهم وأمهاتهم وأجدادهم. من حقنا في لحظة ارتفاع السماء هذه أن نحلق بكرامة حرب الأيام الستة الجديدة، وبعدها يخلق الله ما تنتقدون. 

The post سيزيف الفلسطيني… وحرب الأيام الستة (الجديدة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“سيدات القمر” هُنَّ السيدات… أسيادهُ زائفون https://rommanmag.com/archives/20339 Fri, 08 Jan 2021 11:28:42 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%8a%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%85%d8%b1-%d9%87%d9%8f%d9%86%d9%8e%d9%91-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%af%d9%87%d9%8f-%d8%b2%d8%a7/ ثمة توق نحو “التحرر” يربط بين ثيمات هذا النص البديع ويرافق أحداثه وشخوصه. توقٌ يتبدى خجِلا حينا ويعلو صادحاً أحايين. لكن، نظلم النص والرواية والرّاوية إذا اختزلنا الكم الجمالي الكبير والمُمتع الذي يفيض به هذا العمل في مهمة التبشير برسالة ما، حتى لو كانت بمنزلة “التحرر”، لا يزعم النص أصلا التصدي لها. ما بين أيدينا […]

The post “سيدات القمر” هُنَّ السيدات… أسيادهُ زائفون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ثمة توق نحو “التحرر” يربط بين ثيمات هذا النص البديع ويرافق أحداثه وشخوصه. توقٌ يتبدى خجِلا حينا ويعلو صادحاً أحايين. لكن، نظلم النص والرواية والرّاوية إذا اختزلنا الكم الجمالي الكبير والمُمتع الذي يفيض به هذا العمل في مهمة التبشير برسالة ما، حتى لو كانت بمنزلة “التحرر”، لا يزعم النص أصلا التصدي لها. ما بين أيدينا سبك ينحتُ بتؤدة لوحة كثيفة لناس وأزمان وأمكنة سجلت تحولات عُمان والعُمانيين من زمن إلى زمن، ورصدت عبورا عسيرا نحو مجتمع حديث. يتشارك شخوص الرواية العيش في حيز جغرافي وقبلي وجمعي محدد يمحي فردانياتهم، فيتكور كل منهم في عالمه الخاص، المختلف وأحيانا المنفصل، يهيم فيه حالما أو طامحا أو حانقاً أو قانعا. المُشترك بينهم تغزله جوخة الحارثي ببساطة تُحاكي حياتهم القروية والبدوية، والمنفصل في حياة كل منهم تذهب به ومعه الحارثي إلى أبعد مدى، وصولا إلى الكواكب. تُحرره من قيود المشترك وتترك له تحديد أو عدم تحديد وجهته أنى شاء. في عيشهم المُشترك نراهم مُقادين بوطأة التقاليد وجبروت الانصياع لعادات متوارثة. في هيامهم الفردي نراهم بشرا آخرين، أكثر إنسانية، متحللين من قيود مكانهم وزمانهم واجتماعهم. يُناجي عاشقان منهم نجوما مُقمرة تتراقص، كما في ليالي الحب اللاهب بين عزان ونجية، متمددَين فوق رمل الصحراء عرايا إلا من ضوء النجوم، يبتسمان للجن حارس عشقهما الأمين.

نتحسس توق التحرر في ثنايا السرد والحدث وفي جوانيات الأفراد، نساء ورجالا، أحرارا وعبيدا، بل وأيضا شعبا وجماعة مهجوسين بتحرر وتحرير من السيطرة البريطانية قبل الاستقلال، وأيضا من سيطرة السلطان بن تيمور الذي أراد خنق الناس في سجن الأمية والتخلف. في الرواية، لم ترد لفظة أو ثيمة “التحرر” بالوضوح والمباشرة المُعبر عنها هنا، كما ليس ثمة أي منزع ادعائي به، أو حتى حنق متراكم بسبب غيابه، أو غضب على المتلكئين في إحداثه والمساهمة في إنجازه. جمالية هذا التوق للتحرر تكمن في نسجه العفوي في بنية السرد وبناء شخوصه، في قصص رائقة وجميلة ومريرة وتمثلات لشخصيات عادية وأخرى قلقة ومأساوية منتشرة على أفق زمني عريض يمتد على اتساع القرن العشرين، تتلاحق فيه ثلاثة أجيال بهدوء غير مُفتعل. الناس بالكاد تتغير وزمنهم يمر بطيئا وعادياً رغم سرعته خارجهم. في زمنهم، تنتقل التقاليد بثقة وعناد من أجيال تموت إلى أجيال تولد. يموت صانعو التقاليد (أو تقتلهم) وتبقى هي صلدة لا تلين. أو ربما نعتقد أنها تبقى صلدة وعنيدة، كما تخادعنا في ظاهرها، فيما هي تتفتت داخليا، تأكلها هشاشة مُتنامية ويفضحُ تناقضاتِها الزمنُ المُتبدل ذاته واختباراته التي لا تتوقف. انفتاح النص المحبوك بلغة شفيفة على تأويلات وتأملات عدة، وحكايا الناس العاديين الذين ترصدهم جوخة الحارثي بتلصص لذيذ وهم ينتقلون بين عوالم سريعة التحول على عكس زمنهم البطيء، هو أحد الإبداعات التي قادت الرواية للفوز بجائزة “مان بوكر” البريطانية الشهيرة سنة 2019 في صنف الروايات المُترجمة. 

“العوافي”، مكان الرواية وأحداثها، قرية بسيطة قريبة من مسقط شهدت منذ عشرينيات القرن الماضي على التكوين الحديث للمجتمع والدولة العُمانيين، وظلت مشدودة إلى زمنها الخاص، تقاوم ما يشدها إلى زمن العاصمة مسقط بتحولاته السريعة. يروح ويجيء شخوص الرواية بين العوافي ومسقط، مشدودين إلى هنا ومشدودين إلى هناك، في ذات السيرورة التمزقية التي أنتجها التحديث العصي في مجتمعات ودول العرب والعالم الثالث. هذه هي الخلفية الأعرض لأحداث الرواية وناسها. التفصيل الأضيق فيه وجوه البشر وأسماؤهم وأنفاسهم وقصصهم الصغيرة. هنا في العوافي أناس بسطاء توارثوا العادات واللغة والأفراح والأتراح والتجارة والفقر والحب والعبيد من أجدادهم. ريشة الحارثي ترسم اللوحة الإجمالية للمكان وناسه في المسودة الأولى، ثم تعود مرة أخرى لتعمق خطوط نساء المكان، سيدات القمر، وتحدد ملامحهن فنتابع حركة الجميع على اللوحة الكبيرة، لكن مع أضواء خاصة مركزة، spot lights، تلاحق حركة النساء، وأدوارهن، وأحلامهن، وقمعهن، وتمردهن، وآهاتهن المكتومة. في “التشكيل النسوي” لسيدات القمر نرى الساكتة والصارخة، الخانعة والقوية، العاشقة واللامبالية، الحرة والعبدة، الأمية والمتعلمة. تُحركهن رفيقتهن جوخة الحارثي بعفوية من يبحثن من دون أن يدرين عن تحقق أسطورة القديمة للقمر الذي يعنون الرواية. تقول الأسطورة إن أبناء القمر كانوا جنسا واحدا، وخلقوا بأربعة أرجل وأربعة أيدٍ ورأسين ثم انفصل كل منهم إلى شطرين، وتاهت الأنصاف في الكون في رحلة أبدية يبحث فيها كل شطر عن شطره الذي يكمله (ص 176). 

شخوص المكان يحومون حول التاجر سليمان وبيته وعائلته وامتداداته القبلية والصداقية، وحول بيت عزان وبناته وأهله وتفرعاته. التاجر سليمان هو أحد أعيان العوافي، ورث مهارة التجارة عن والده، وعنه أيضا ورث الصرامة والدقة وحصافة الإدارة العائلية، ومنها السطوة الدائمة على من حوله. أحد اهم الضحايا المباشرين لكل هذه الخصال كان ابنه عبدالله الذي ترعرع وكبر مسحوقا في ظل شخصية أبيه النافذة.

عزان رجل عادي بالكاد يشد الانتباه، وكذا زوجته العادية سالمة. دراما البيت، والرواية، تشتعل أكثر حول بناته الثلاث ميا وخولة وأسماء، عالم كل منهما يعج بتفاصيل صغيرة وحميمية. ميا تعلمت الخياطة باكرا فصارت مهربَ أيامها، تخيط وتحلم بالزواج من حبيب شبه خرافي، لم تنتظره طويلا وتزوجت من عبدالله، الابن الأكبر للتاجر سليمان وأنجبت منه طفلة أصرت على تسميتها لندن، تبعتها بسالم، ثم وليد آخر كبر وظل يعاني من التوحد. عبدالله شخصية باهتة مقارنة بوهج سيدات القمر، أحب ميا وتماشى مع رغباتها، وقبل حتى التسمية الغريبة لابنته، بما جر عليه تهكم وانتقاد رجال ونساء العوافي. كيف يقبل أن تتحكم به زوجته وتطلق هذا الاسم الأجنبي على وليدته؟ خولة تريد ابن عمها ناصر الذي سافر إلى كندا ليكمل دراسته، تحلم به يوميا، وتمضي ساعات طوال من يومها تتزين له أمام المرآة، أو تقرأ روايات عبير الرومانسية. لما عاد بعد فشله الدراسي وانقطاع منحته، تزوج خولة حسب وصية أمه التي أخذ ما ورثه عنها، ثم سافر بعد أسبوعين وعاد إلى مونتريال، إلى صديقته الكندية. أسماء تعيش في عالم مختلف، تطالع كتبا تراثية وتولع بها، تقرأ الشعر العمودي وتحفظه، ولأن رغبة الأمومة تعصف بها فقد وافقت فورا على الزواج من خالد ابن عيسى المهاجر في مصر، ومنه أنجبت أربعة عشر ولدا وابنة. نعرف أن عيسى هرب من عُمان بعد فشل الثورة ضد السلطان السابق الذي دعمه الإنجليز، ولم يعد إلى عُمان إلا بعد العفو العام مع السلطان الجديد. 

يبهت الرجال هنا، وتلمع النساء. خالد زوج أسماء يهرب إلى الرسم حتى يتخلص من خيال أبيه عيسى المهاجر إلى مصر بعد حرب الجبل الأخضر وحيث سكن فيها عقودا. خالد عاش ذكريات أبيه الذي ظل يعيش بدوره تاريخ أجداده الذين ناضلوا ضد البريطانيين والوهابيين. جده الأكبر، منصور بن ناصر، كان من بين الفرسان الذين حاربوا مطلق المطيري قائد غارات الوهابيين المتكررة على عُمان، وشارك في الواقعة الشهيرة التي تمسك خلالها العُمانيون بسيوفهم حتى تيبست أيديهم مع حلول الليل، و”أعلنت النساء عبر الغناء أنهن نقعن الأيدي المحاربة في الماء حتى أفلتت السيوف” (ص 192). كان عيسى فخورا بأبي مسلم البهلاني الشاعر العُماني الذي برأيه لا يقل أهمية عن أحمد شوقي، وهو أيضا من أسس أول جريدة عُمانية في مطلع القرن العشرين، أسماها النجاح وأصدرها من زنجبار حيث كان يعيش (ص 193). كان خالد يستمع إلى بطولات أبيه وأجداده فيتقزم هو. حفظ عن ظهر قلب تفاصيل حرب الجبل الأخضر ضد الإنجليز والسلطان بن تيمور المُتحالف معهم في أواسط خمسينيات القرن الماضي. طمعِ الانجليز في النفط المُكتشف حديثا في الأراضي العمانية الداخلية، فنقضوا اتفاقية السيب (1920) التي منحتهم الساحل العماني فيما منحت الداخل للعُمانيين ودولة الإمامة الخاصة بهم. خاضت القبائل العُمانية حرباً قاسية تحت قيادة الإمام غالب الهنائي، لكن ما كان لهم أن ينتصروا ضد قوة البريطانيين وطائراتهم. سيطر الإنجليز والسلطان بن تيمور الذي حظر المدارس على العُمانيين حتى لا يتعلموا ثم يثورون عليه.

عبدالله وخالد وأحمد المتثاقف الأرعن حبيب لندن، وحتى محمد شقيقها المُتوحد، باهتون. عزان قبلهم كان باهتا أيضا. لم تردعه رصانته الظاهرية ولا تدينه عن الوقوع في غرام نجية، سيدة سيدات القمر، تعيش في الصحراء، قوية وباذخة الجمال، مُتحررة يرغبها الجميع ويخشونها، فيما هي تشتهي عزان وحده وتريده خليلها، فكان. قصة الوله والعشق هذه هي واحدة من ذرى النص. نجية، من نسي الناس اسمها ونادوها بالقمر لفرط جمالها، تملك ذاتها وماشيتها ورعيها وصحراءها. مثالٌ مجبول برمل المكان ينبض بالحياة لـ “تمكين المرأة” قبل أن يُستورد هذا المصطلح الحديث من الخارج ويُتبجح به. نجية هي التي أحبت عزان وقالت لصديقتها “أريده وسأحصل عليه”. ولما ذكّرتها صديقتها بأنه متزوج ولن يترك زوجته سالمة ابنة الشيخ مسعود من أجلها، ردت عليها: “من قال لك أني أريد أن أتزوجه؟ القمر لا تُؤمر أحدا عليها… أنا لم أخلق لأخدم رجلا وأطيعه… عزان سيكون لي ولن أكون له، سيأتيني حين أشاء ويذهب حين أشاء… منذ رأيته في الرمسة مع الرجال وأنا أعرف أن هذا الرجل سيكون للقمر… لم يخلق الرجل الذي يرفضني بعد…”. عندما فاجأته ذات ليلة وهو عائد مشيا إلى العوافي وسألها من أنت وماذا تريدين، نظرت مباشرة في عينيه وقالت “أنا نجية وأُلقّبُ بالقمر وأريدك انت” (ص 38-40).

ظريفة “العبدة” هي الأخرى إحدى نجوم القمر في الرواية، حضورها بديع، مختلف ومتناقض. اشتراها سيدها التاجر سليمان سنة ١٩٤٢ وهي في يفاعة عمرها، ابنة ستة عشر عاما. أحبها وتزوجها، فتحولت العبدة إلى حبيبة وزوجة وخليلة وسيدة قلب سيدها. لكن الزمن أعادها إلى حيث كانت حين غضب عليها السيد فطلقها وزوجها إلى واحد من عبيده، حبيب، الذي أنجب منها ابنها الوحيد سنجر. ترعرع هذا الأخير في بيت سيدها، فنشأ عبدا مثلها يخدم السيد وأبناءه، لكن اشتعلت في داخله نار التمرد التي ورثها عن أبيه حبيب الذي كان قد أستُرق وهو صغير ورفض أن يقر بأن هذه البلاد بلاده وأن أهلها أهله، كما كانت ظريفة تردد لإقناعه.

ظل كثيرٌ من العبيد يعيشون في ظل أسيادهم حتى بعد أن أصدر السلطان قرار منع الرق وتحريرهم سنة ١٩٢٤. لكن حبيب هاجر وحاول أن يقنع ظريفة بمرافقته مع ابنهما سنجر، مُكررا لها أنهما أحرار رسميا. رفضت ظريفة، احتفظت بسنجر ابنها، وجادلت زوجها كيف “نترك أرضنا وبلادنا وبلاد أهلنا وأجدادنا لأرض غريبة، ما نعرف ناسها ولا أولها ولا آخرها” (ص ١١٠). سنجر كبر وتمرد وترك أيضا أمه ظريفة وهاجر إلى الكويت، ليعيش حراً كما كان يقول لها، رافضا أن يفني حياته عبدا. كانت ثقافة الأسياد المتوارثة تحظر على العبيد إطلاق أسماء “الأحرار” على أبنائهم، لكن سنجر يتوعد بالدوس على هذا التقليد، ويعد بأن يسمي أولاده أحمد وعلي ومحمود. ظريفة كانت “حرة” في حياتها أكثر من “الحرات” من سيداتها، تذهب حيث تشاء، وتفرح وقت تشاء، ترقص، تخالط الجميع، لا تحسب حساب أحد. وكذا كن بنات “العبدات” يرقصن ويركضن من دون قيود أو حدود، فيما تراقبهن بنات “الحرات” المقيدات بالعادات بشغف وغيره مكبوتين (ص ١٤٨). زواج بنات عزان الثلاث كان في جزء منه، وعلى تواضع نجاحات زيجاتهن، تحررا من إرث القيود والعادات (ص ١٤١).

سيرورة التحرر في مسيرة سيدات القمر أسرع منها في مسيرة ذكور العوافي ومسقط. عبدالله ظل أسير صورة أبيه ونقده وسطوته حتى بعد مماته. صار أيضا يتصرف مع ابنه وابن ميا (سالم) كما كان يتصرف معه والده. كأن الأجيال تنجب ذاتها، والزمن البطيء بالكاد يسمح لجديد ما باحتلال أي مساحة في الحياة. عندما ماتت ظريفة حزن الجميع، ليس فقط على موتها كأم لهم، بل لأنها ماتت في مستشفى وحيدة بعدما كانت مُحاطة بأبناء وأحفاد التاجر سليمان الذي مات قبلها. عبدالله حلم بأبيه يؤنبه ويدليه في بئر عميق ويتركه هناك لأنه انشغل في مسقط عن ظريفة وموتها، وعبدالله يرجوه في الحلم “ارفعني، لن أترك ظريفة، حبيبتك، أمك، ابنتك، عبدتك، سيدتك، تموت وحيدة في مستشفى منسي” (ص 152). 

للقمر سيدات أخريات نسجت حكاياهن جوخة الحارثي في نصها الحميم. تناسلت كل منهن من أمهات وجدات نجدُ أثرهن هنا وهناك بين السطور، أو تناسل عنهن بنات وحفيدات حملن القصص إلى نهايات القرن العشرين، ودلفن في الألفية التي تلت. منهن حفيظة التي حبلت في عمر السابعة عشرة وأنجبت مولودة سمراء، لم تعرف من كان أباه بالضبط من بين عدة رجال وأقعوها. بعد سنتين حبلت حفيظة مرة أخرى ووضعت ابنة بيضاء، ولم تكن متأكدة من أب المولودة أيضا، عاقبوها. لكن بعد ثلاث سنين ولدت ابنتها الثالثة، وكانت هذه الأخيرة، إذ اهتدت بعدها إلى حبوب منع الحمل. خلال رحلتها متعددة الرجال والولادات كان حفيظة قد حظيت بلقب “باص الشعب”! جُلدت مرة، وسُجنت مرة، لكنها لم تُقتل وظلت حرة! 

سرحت بنا جوخة الحارثي وسط الأقمار التي أبدعت صنع وجوهها بتمهل، تاركة غموضا هنا أو هناك، ثم دلفت بنا، يسبقنا الشغف إلى النهاية، إلى بوابات الأسطر الأخيرة في الرواية لنعرف القفلات الختامية للحكايات. هناك في نهاية النص يكتمل ما ظل غير مكتمل من أسئلة، ويدور النص ببراعة ومهارة دورة كاملة على ما سبق من حكايا فنعرف مثلا كيف ماتت أو بالأحرى قُتلت أم عبدالله على يد عمته القوية، وكيف غرق زيد، وكيف انكشفت للناس قصة عشق نجية وعزان. لكننا لا نعرف، أو لا تريد لنا الحارثي أن نعرف، مآلات أنصاف الأقمار التي ظلت مفتوحة تسبح في الكون باحثة عن أنصافها الأخرى. 

The post “سيدات القمر” هُنَّ السيدات… أسيادهُ زائفون appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مغامرة “جيمس القحطاني”… قصة قصيرة شبه حقيقية ظلت تحدث https://rommanmag.com/archives/20301 Tue, 01 Dec 2020 12:41:07 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%ba%d8%a7%d9%85%d8%b1%d8%a9-%d8%ac%d9%8a%d9%85%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%ad%d8%b7%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d9%82%d8%b5%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b4%d8%a8%d9%87-%d8%ad%d9%82/ خاض جيمس القحطاني، وهذا بالمناسبة ليس أسمه الحقيقي، مغامرة مدوية. مكث عدة سنين “يبذر البذور” كي يتم الاعتراف بخبراته في بلاد العروبة رغم “قحطانيته” و”الإستفادة منه”. حاول أن يتسلل عبر خبرات راكمها في بلاد الفرنجة، لكنه واجه صعوبات كأداء. كان تعريفه كـ “عدنان القحطاني”، وهذا بالمناسبة أسمه الحقيقي، العقبة الكبيرة أمام الإعتراف به “خبيراً”. كان […]

The post مغامرة “جيمس القحطاني”… قصة قصيرة شبه حقيقية ظلت تحدث appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
خاض جيمس القحطاني، وهذا بالمناسبة ليس أسمه الحقيقي، مغامرة مدوية. مكث عدة سنين “يبذر البذور” كي يتم الاعتراف بخبراته في بلاد العروبة رغم “قحطانيته” و”الإستفادة منه”. حاول أن يتسلل عبر خبرات راكمها في بلاد الفرنجة، لكنه واجه صعوبات كأداء. كان تعريفه كـ “عدنان القحطاني”، وهذا بالمناسبة أسمه الحقيقي، العقبة الكبيرة أمام الإعتراف به “خبيراً”. كان أصدقاء عدنان من الفرنجة قد داوموا توجيه النصيحة له بتوظيف علمه وتجاربه وشهاداته وخبراته لخدمة وطنه الأم وعروبته بدل أن يستنزفها هنا وهناك في بلاد بني الأشقر. كان أصدقاء عدنان من القحطانيين والعدنانيين الخُلّص يصفعونه بذات النصيحة بين الحين والآخر. عدنان مشتت بين كرامة يتنفسها في بلاد الفرنجة، وإحساس بالتقصير تجاه بلاده، حيث لا كرامة، وظل هذا التشتت ينغص عليه عيشته في الغرب. 

عندما قرر عدنان أن يساوم على الكرامة من أجل الوطن ويعيش مطأطأ الرأس كبقية جحافل الشعب أكتشف أن أسمه ثقيل الوطأة على لسان الأعراب. كانوا يبحثون دوماً عن من يعيش عدنان بينهم ويرافقهم، وليس عنه هو. يأتي إلى بلاده فارعاً طولاً وعرضا فلا يرونه، يصوبون النظر على من معه من زملاء أو أصحاب “فرنجة”. كان يتجمد في  مكانه، وكان أصحابه “الفرنجة” هم من يتقدمون … لأنهم “خبراء” و”مستشارون”. لا يهم إن لم تكن كفاءاتهم تؤهلهم لأي عبقرية مميزة او خبرة او ملفتة، المهم انهم أجانب. أصبحوا أعلاماً يُستشارون ويشيرون في بلاده في أشياء كثيرة. من هذه الاشياء وهذا ما صدم عدنان في العمق وصولاً الى المرارة، قدموا استشارات “ثمينة” و”مكلفة” في الثقافة واللغة العربية والإعلام العربي … وكيف ننتج أيضا ثقافة عربية! صحيح أنهم لا يتحدثون العربية، ولا يعرفون الثفافة، ولا ما يحزنون أو ما يفرحون، لكن ذلك كله لا يهم، المهم هي “أفرنجيتهم”. مستشارون مستشارون، وخبراء خبراء، ومدراء مدراء، من كل رقعة من رقاع بلاد الفرنجة جيء بهم إلى بلداننا كي يقولوا لنا كيف نكون نحن! قال عدنان لنفسه بحنق، نفهم أن يكونوا في حقول التقنية والتكنولوجيا، أما أن ينظّروا علينا فيه ميدان الثقافة واللغة والإعلام والاجتماع وحتى الدين، فهذه سفالة ونقطة آخر السطر. مؤهلاتهم الأساسية: سحنة غربية (شعر أشقر، وعيون ملونة)، وإسم أجنبي. لكن المشكلة بصراحة ووضوح ليست فيهم، بل في من جلبهم!

على العموم أكتشف عدنان المسألة متأخراً. في الحقيقة كان يعرفها مبكراً لكنه تخادع مع نفسه قائلاً تغيرت الأمور. صفعته الأمور في وجهه وقالت أنا لا أتغير! فكر عدنان ماذا يفعل. شعره أسود وعيونه بنيه ولون جلده حنطي، صفات يصعب تغييرها، لكن ليس هناك ما هو مستحيل على الطب المعاصر – وليكن له في مايكل جاكسون القدوة والمثال. عدنان وضع خطة محكمة للعودة ك “خبير” إلى بلاده، لكن على أن يتم احترامه كـ “أجنبي” لا كابن بلد أو عربي. اتخذ عدة قرارات مصيرية: أولاً: صبغْ الشعر الأسود باللون الأشقر، ثانياً، اعتماد عدسات لاصقة تحول لون عيونه إلى الأزرق الفاقع، ثالثاً، عدم التحدث بلغة الضاد لمدة ألف سنة، رابعاً، تغيير أسمه من عدنان إلى جيمس، وبعدها تقديم أوراق خبراته كخبير أجنبي يقطر نقاءاً أجنبياً وبُعداً عن العروبة!

في أرقى مستشفيات الفرنجة بدل عدنان لون جلده، وركب صرامة أجنبية على وجهه، وصبغ شعره وغير لون عينيه. في السجل المدني في أحد بلاد الفرنجة غير أسمه من “عدنان القحطاني” إلى “جيمس اندرسون”. وفي شهادة ميلاده الجديدة غير أسم أمه من “فاطمة دعيبس” إلى “ليزا ويلسون”. وللتخفف من كل الماضي السابق طلق زوجته عائشة وأتخذ له “غيرل فريند” لأن ذلك سيكون أكثر تأثيراً في الوسط العربي الذي سيحل خبيراً عليه لا يُشق له غبار. تعلم الغولف وأعلن أنها رياضته المفضلة، مع أنه كان يمقتها ويراها مملة وتافهة. أدخل نفسه في دورة تأهيلية لمدة نصف سنة تعلم فيها كل عادات وأمزجة “الخبراء الأجانب”. من اليوم فصاعداً لن يقبل أي دعوة إلا على الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال في الطائرات، ولن يحل ضيفاً إلا في أرقى الفنادق، وسيلف ساقاً على ساق فوق أي مكتب أو منضدة أمامه ويواجه بها محدثيه! التواضع السمج الذي تعود عدنان أن يمارسه سيتخلى عنه بالنُهى او بالعصا. البشاشة والبساطة والتبسم المجاني والتلقائية والعفوية والاقتراب من الناس وتحطيم الحواجز الرسمية ورفض التخاطب بالألقاب وكل ذلك من موشحات الخلق السمح وضعها في ثلاجة درجة حراراتها مائة تحت الصفر وأقفلها. “عدنان القحطاني” دُفن، و”جيمس أندرسون” انبعث. جيمس صار خبيراً غربياً يستعرض ذاته في المناسبات ذات العلاقة ليتم التعرف عليه و”اكتشاف” عبقريته من قبل قبيلته السابقة … وحتما سوف يصطادونه! 

جاءت فرصة العمل المغرية، قدم جيمس أوراق خبراته من موقعه المتقدم في مؤسسة متقدمة في بلاد الفرنجة، وباسمه الجديد، للوظيفة المُعلن عنها في بلاده. جاءه الرد سريعاً. كان عدنان، المقبور أعلاه، قد تقدم لنفس الفرصة المغرية في وقت سابق، لكن لم يأته الرد بتاتاً. جيمس نظر في عيون عدنان نظرة استهزاء واستخفاف: كان يحمل عرض العمل بيده ويلوح به أمام عدنان كأنما يقول له: مُت كمداً يا ابن قحطان! فرك في جروح عدنان مِلحاً عندما أخبره عن الرقم الفلكي للراتب الشهري، والميزات السنوية، والبيت الفاره، والسيارة، والإجازات السنوية الطويلة، ومنح تدريس الأبناء المجانية. عدنان اغتاظ جداً وتناول منفضة سجائر قريبة وقذفها بغضب شديد على جيمس، لكن هذا المتفرنج كان كان قد طور خبرات متعددة في التمويه وتفادى المنفضة، ثم اختفى … سليماً معافى! 

في مدينة من “مدن الملح” حل جيمس ضيفاً على مضيفيه الفرحين بـ “الخبير الأجنبي”. حدثهم جيمس أنه جاء إلى هذه البلاد لأنه “يعشقها” وأنه طوال عمره كان يحلم بأن يأتي إلى الصحراء وشمسها اللاهبة ويعبُّ من سحرها وغموضها! كان جيمس قد قرأ مزامير “الخبراء” الموحدة وعرف أن المزمار الأول هو التغزل بمرؤوسيه وبلدهم وصحرائهم وكل شيء فيهم. قال لهم أن جده لأمه، “مايكل ويلسون”، وهو من فخذ مهم من عشيرة أندرسون الكبيرة، كان قد زار المنطقة قبل ستين عاماً، وترك مذكرات لم تُنشر كتب فيها أشياء مذهلة في عشق هذه البلاد، وأنه من يوم أن وقعت عيون جيمس على تلك المذكرات وهو يحلم ويتمنى أن يقتفي أثر جده. الشيء المدهش أن أجداد كل الخبراء الأجانب كتبوا عنا أشياء رائعة في مذكرات لم تُنشر. تباً للناشرين الكسالى! كان الجميع يُنصتون بانبهار ساذج إلى جيمس، وتطوع بعضهم بالتصديق على بعض الحوادث الصغيرة التي ذكر جيمس أن جده مايكل شهدها أو قام بها أثناء مكوثه سنوات طويلة هنا. فقد تذكر بعضهم أن أجداده في مدينة الملح تلك كانوا قد ذكروا شيئاً ما عن افرنجي ساعدهم كثيراً وان وصفهم له يشبه كثيرا وصف جيمس لجده!  

على كل حال مزامير “جيمس القحطاني” اشتغلت بكل نجاح. تسلم عقد العمل والبيت والمسبح والسيارة والخدم والحشم. دخل جيمس بيته الجديد المطل على البحر دخول الفاتحين. مرآه كبيرة وسط البهو الواسع استقبلته بعد أن ودع الحاشية التي أوصلته إلى المكان، خبيراً لا سابق له. تقدم مزهواً خطوتين باتجاه المرآه وحملق في صورته بدقة. تفرس في عيونه الزرقاء اللامعة. مسد شعره الأشقر الناعم الجديد وابتسم. تحسس بشرة وجهه البيضاء باحمرار. فعلاً إنهم أطباء محترفون في ذلك المستشفى، قال لنفسه! نظر أكثر ثم قهقه عالياً عندما رأى “عدنان القحطاني” يحاول الظهور في المرآه ويقفز من خلف صورة جيمس. كرر له اللازمة بلؤم: مُت كمداً يا ابن قحطان!

قبل أن ينقل قدمه خطوة بإتجاه الصالة المطلة على البحر دق جرس الباب الموسيقي بشكل متواصل ومزعج. تحرك جيمس ببطء الخبراء وعجرفتهم وفتح الباب. كانت كل الحاشية التي أوصلته محتشدة وراء الباب، ورئيسهم يحمل ملفه وفيه صورة عن شهادة ميلاد جيمس الأصلية. عيونه حمراء تقدح بشرر، وبصوت من تعرض الى خديعة كبرى قال لجيمس: أنت أمك أسمها “فاطمة دعيبس”؟ أنت مين ومن وين أصلك؟ تعال معنا تعال!

 

بتصرف عن مقالة نُشرت في نوفمبر 2008 ومن يومها ظل جميس القحطاني يكرر مغامراته!

The post مغامرة “جيمس القحطاني”… قصة قصيرة شبه حقيقية ظلت تحدث appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“المثقف” الحذاء”… وتحولات “الاستحذاء” https://rommanmag.com/archives/20284 Fri, 06 Nov 2020 15:23:46 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ab%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b0%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d8%b0%d8%a7%d8%a1/ لنا أن نتخيل، بشكل إجمالي، ثلاثة مواقف للمثقف إزاء حدث أو سلطة أو استبداد يستوجب قولاً وموقفاً واضحاً: الأول، هو الرفض والمعارضة والمقاومة وهو الأكثر نبلاً وجرأة وانسجاماً مع دور المثقف، الثاني هو السكوت بسبب طغيان السلطة وجبروتها، أو لأسباب أقل من ذلك متعلقة بحسابات العيش والحياة ومسؤولياتها. يقف المثقف هنا على الحياد ظاهرياً، قد […]

The post “المثقف” الحذاء”… وتحولات “الاستحذاء” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لنا أن نتخيل، بشكل إجمالي، ثلاثة مواقف للمثقف إزاء حدث أو سلطة أو استبداد يستوجب قولاً وموقفاً واضحاً: الأول، هو الرفض والمعارضة والمقاومة وهو الأكثر نبلاً وجرأة وانسجاماً مع دور المثقف، الثاني هو السكوت بسبب طغيان السلطة وجبروتها، أو لأسباب أقل من ذلك متعلقة بحسابات العيش والحياة ومسؤولياتها. يقف المثقف هنا على الحياد ظاهرياً، قد يعارض ضميرياً لكنه لا يستطيع ترجمة ما بداخله إلى فعل أو قول مُعلن. الثالث، هو المُنحاز للسلطة وهو موقف فيه تنويعات عدة، بعضها يقوم على تسويغات تحاول تقعيد الموقف المُنحاز على أسس سياسية أو تغييرية بعيدة المدى، أو فكرية ملتوية، وبعضها لا يقوم إلا على قاعدة نفاقية مطلقة للسلطة، يذهب معها أينما ذهبت.

تتوزع مواقف جزئية ورمادية بين وحول هذه المواقف الثلاثة المعْلَمية، حسب القضية المعنية، وحسب ما يستتبعه الموقف من أكلاف. المهم هنا هو الإشارة إلى أن شريحة المنافقين والأبواق، ضمن الموقف الثالث، والتي تذهب مع السلطة والسلطان أينما ذهب هي تحديداً موضوع هذه السطور. على ذلك، ليس هنا أي تعميمات غير مُنضبطة، ولا أي ادعاء لأي سلطة أخلاقية أو غيرها تبرر توزيع المواقع والأوصاف على الآخرين. كل ما هنالك تشبث مُبرر بحرية إبداء الرأي إزاء زبد المواقف والإعلام الذي يطفح في وجوهنا.

شريحة المنافقين والأبواق التي نحللها هنا تعرضت، وبسبب تبدلات الزمن والعالم والتكنولوجيا وثورة الإعلام، إلى طفرات شبه فجائية، وعبرت ما يمكن وصفه بـ “الداروينية الحذائية” وبها قطعت شوطاً مذهلاً تجاوز موقعها النفاقي التقليدي كما كنا نعرفه جميعا. الجديد الذي طرأ على هذه الشريحة المُنافقة والمعروفة تاريخياً هو تفوقها على ذاتها النفاقية ودخولها إلى طور جديد، يستند إلى آلية تلقف أفواهها لكل ما يبصقه الحكام من “حكم”، فتمضغها وتتلذذ بها ثم تعيد بصقها في وجوه الناس. الطفرة الداروينية الحذائية قدمت لنا، ثقافياً، وسوسيولوجياً، وإعلامياً، وسياسياً، كائنات مشوهة هي: “المثقف الحذاء”، و”الداعية الحذاء”، و”الإعلامي الحذاء”، و”الأكاديمي الحذاء”، و”السياسي الحذاء”، وغيرهم ممن ينتسبون إلى المرحلة “الحذائية” في التبعية والنفاق. أحد أهم المعالم المميزة لهذه الطفرة الجينية هو تحول هؤلاء من أبواق كانت تُستخدم دائماً من قبل السلطة لخدمتها وترويج خطابها، إلى أحذية يلبسها الحاكم ويدوس بها الآخرين، ثم تواصل دوس الآخرين آلياً حتى عندما يخلعها الحاكم، حيث تظل تشتغل من دون تفكير وطيلة الأربع وعشرين ساعة. أبواق الأمس كانت تنام في الليل مثلاً، تغيب أحياناً عن الفضاء العام، تختفي في بعض الأوقات، تسافر فلا نعلم عنها شيئا لبعض الوقت. أما أحذية اليوم وعلى رافعة الإعلام الاجتماعي المتواصل فإنها تظل تواصل شغلها الاستحذائي على مدار الساعة. لم يحدث في تاريخ النفاق العالمي أن تصدت شريحة من المنافقين لترويج خطابات ومقولات السلطة والاستبداد (والتطبيع الآن) بتواصل مُذهل وبعماء تام ومن دون كلل، إلى درجة تُحرج المُنافَقِ لهم أنفسهم! هنا بالضبط يكمن إبداع الداروينية الحذائية!

من منظور بيولوجي أميبي، تطور هؤلاء جميعاً (أي “المثقف الحذاء” وأشباهه) وتناسلوا من عفن الصيغ التقليدية المعروفة تاريخياً والتي كان قد أُطلق عليها نعوتاً مختلفة مثل أبواق الحكام وشعراء البلاط وعلماء السلطان، وكانت دوماً في موقع الاسترذال والاحتقار في كل الثقافات والأزمان. هنا محاولة لرصد بعض سمات وجوانب “المثقف الحذاء” والتأمل في التحولات التي شهدها هو وأشباهه انتقالاً من مرحلة النفاق التقليدية إلى مرحلة “الحذاء” المُدهشة التي نشهدها حاليا.

تمهيداً لذلك، وكهامش سريع والتزاماً بالأمانة العلمية، عليّ أن أقول إني مدين إلى حالتين صارختين (حذائياً) كانتا وراء “الوحي” بنحت مصطلح المثقف الحذاء، أو الداعية والإعلامي أو الأكاديمي الحذاء. الأولى تخص مذيعاً إماراتياً، جسّد نموذج “الإعلامي الحذاء” قولاً وفعلاً، حيث ظهر على شاشة التلفزيون وهو يحتضن نعلاً ويقول بالنص “لو افترضنا أن هذا النعل هو نعال سيدي صاحب السمو محمد بن زايد… فأنا سوف أقبّل هذا النعال” ثم يقوم بالفعل بتقبيل النعل على الشاشة مفتخراً ومنتشياً (والمقطع موجود على اليوتيوب لمن يريد رؤية مدى الانحطاط). أما الحالة الحذائية الثانية والصارخة فيجسدها “داعية حذاء” على شكل رجل دين أرعن صنعته الشاشة التلفزيونية المسيسة، وقد تجاوز تنعله واستحذاءه المتصهين كل حدود، دائراً مع السلطة حيث دارت، مُنكراً حتى أبجديات الحقوق والقيم والأخلاق والدين. الأمثلة والنماذج التي لفظتها في وجوهنا هذه الأميبيا النفاقية كثيرة جداً في وقتنا الراهن، لكنها انتشرت فجأة في طفرة بُثورية صادمة مع موجة التهافت التطبيعي الخليجي الرسمي على أقدام إسرائيل. هناك أسماء كثيرة سوف تتراكض في رؤوسنا جميعا، وكل اسم منها يبحث عن عنوان ونوع الحذاء الذي يقبع تحته. 

من المهم القول أيضا إن بروز “الداروينية الحذائية” كان قد سبق مرحلة التطبيع وأحذيته، فقد كانت الثورات العربية قد كشفت لنا عن قوائم طويلة من الأحذية: مثقفين أو متثاقفين، دعاة، أكاديميين، إعلاميين، وغيرهم ممن وقفوا إلى جانب الاستبداد والأنظمة ضد الشعوب، وتجاوزت خطاباتهم النفاقية ما كان قد عُرف تاريخياً من أساليب وأنماط التملق والتبعية. وتفادياً للتعميم أو سوء الفهم، ومرة أخرى، ليس ثمة اتهام أو توصيف لكل من تبنى رأيا نقديا ضد هذه الثورة أو تلك، أو حتى من وقف ضد الربيع العربي برمته، بأنه منافق أو حذاء لهذا النظام أو ذاك الحاكم. على القطع لا. فهناك كثيرون كان لهم آراء حرة ليست مرتبطة بنظام هنا أو هناك. الفئة التي تتناولها هذه السطور هي تلك التي التصقت بالحكام الدمويين وتماهت مع الأنظمة المستبدة، وتفوقت على “النفاق المُعتاد” وانتقلت إلى مرحلة الحذاء.

التطور الدارويني الحذائي نشهده في شكل ومضامين وأداء بوق السلطان وعالم السلطان وقد تسارع على رافعة الإعلام الاجتماعي وشاشات التلفزة المُلقمة مالاً ومضموناً من قبل الحاكم. تكنولوجيا الإعلام وسرعته وآنيته فاقمت حالة التبعية والذوبان والانحطاط المعروفة به هذه الكائنات النفاقية، ونقلتها إلى حالة جديدة لها سماتها الخاصة التي تتجاوز بها الانحطاط المعروف. استلزم هذا التحول، أكاديمياً وبيولوجياً أيضاً، نحت مصطلح جديد يلتقط المرحلة المتفاقمة و”أبطالها” بما يسهل علينا جمعياً موضعتهم تحت الضوء ودراستهم عن قرب، وربما يفيدنا في هذه المهمة مصطلح “المثقف الحذاء”، و”الداعية الحذاء” و”الإعلامي الحذاء” (مع الإقرار هنا بالتجاوز المعرفي في استخدام مفردات مثقف، وداعية، وإعلامي لوصف من دخل هذه المرحلة، إذ الغالبية الكاسحة تستلزم استباق الوصف بـ “أشباه”، أي “أشباه مثقفين”، أشباه أكاديميين”… الخ، ذلك أن ثمة فرق كبير بين النعت والمنعوت هنا.

لكن لنتعمق أكثر ونحاول استكناه بعض سمات “المرحلة الحذائية” وافتراقها عن المراحل النفاقية السابقة والمعروفة تاريخياً. مثلاً، كيف يختلف “المثقف الحذاء” عن المثقف المنافق، أو “الإعلامي الحذاء” عن الإعلامي المنافق؟ يمكن هنا التأمل في أربع تمظهرات أولية، وقابلة للزيادة، تساعدنا في تتبع تحول مثقف أو داعية أو إعلامي أو أكاديمي من مرحلة النفاق العادي إلى مرحلة النفاق الحذائي، ومروره في تبدلات “الاستحذاء” و”التنعل” – أي تحوله كليا إلى نعل!

أولاً: العلاقة العضوية والاستشعارية مع قدم الحاكم

في المرحلة الحذائية الداروينية للنفاق تتطور لدى “المثقف الحذاء”، القريب دوماً من قدم الحاكم، خاصية استشعار دائمة تحاول التنبؤ باتجاه أي حركة لتلك القدم، بغية التحرك السريع والتموضع الآلي في نفس الاتجاه وبحيث يستقبل الحذاء قدم الحاكم بالسرعة والسلاسة المطلوبة. هناك فيلق من هذه الأحذية مرميٌّ على عتبات الحاكم وتستعر بينها حرب تنافس ضروس حول أكثرها استعداداً للانتعال من قبل قدمه، ولذلك هناك تحفز دائم ونشاط كبير ومزايدة حتى على الحاكم نفسه في ترويج عبقريته و”رؤيته” وسوى ذلك. التجسيد العملي لهذه العلاقة الاستشعارية التنبؤية نراه على شاشات التلفزيون وفي الإعلام الاجتماعي وعلى منصات مثل توتير والفيسبوك وانستغرام وغيرها. هنا الساحة الأهم والاشرس للاستنعال والاستحذاء، إذ يريد كل “مثقف حذاء” أن يركض إلى الأمام حاملاً قدم الحاكم ومسابقاً الآخرين ليظفر بالرضى والعطايا. وهذا يستلزم نشاطاً متواصلاً على تلك المنصات يصل الليل بالنهار، وكما أن هذه المنصات الإعلامية لم تكن مُتاحة “للمنافق التقليدي”، فإن العمل الشاق الذي تفرضه واقعة الإعلام الاجتماعي على “المثقف الحذاء” لم يواجهه “المثقف المنافق” في مراحله الداورينية السابقة.

ثانياً: “الاستحذاء” من وراء الحدود 

ليس شرطاً أن يتواجد “المثقف الحذاء” قريباً من قدم الحكام فيزيائيا، ومرة أخرى بسبب ثورة الإعلام وما وفرته من إمكانيات هائلة للاستنعال والاستحذاء عن بعد. وهذه سمة أخرى تصف وتفرق “المثقف الحذاء” عن سابقيه من مثقفي النفاق. الآن وكما نشهد، هناك مثقفون أحذية عابرون للحدود، وقد يتواجدون في أكبر مدن العالم وأكثرها حرية من ناحية التفكير والتعبير، ومع ذلك هم مقيمون افتراضياً على عتبات الحاكم في كامل جهوزيتهم لقدمه المُنتظرة وبأمل انتعالهم. ليس مهما أن يُضاف تعريف جغرافي بعيد مثل “مقيم في واشنطن” أو “مقيم في باريس” أو مقيم في لندن”، بعد اسم “المثقف الحذاء”، لأنه عملياً وحذائياً ولحظياً مُنتعل من قبل حاكم هنا في شرقنا الحزين، يستلذ بانتعاله وانتعال من يشبهونه.

ثالثاً: الاستنقاع تحت قدم الحاكم

السمة الثالثة المُذهلة لـ “المثقف الحذاء” كما لأشباهه الآخرين من إعلاميين ودعاة وأكاديميين، هي التشبث الغريب بأقدام الحاكم من “لحظة تبلور الوعي الحذائي” النفاقي وحتى الممات، إلى درجة الوصول إلى حالة “الاستنقاع”. يمكن للمرء أن يفهم (من دون أن يُقر أو يقبل) نفاق مثقف هنا أو أكاديمي هناك لفترة عابرة من الزمن، لتحسين أحواله أو لأي سبب من الأسباب. لكن أن تطول وتُستطال حقب النفاق، عقوداً وعقوداً حتى الممات، فهذا ينقل المنافق المعني إلى الطور الحذائي الاستنقاعي، حيث تنحل جينات وDNA قدم الحاكم في جينات “المثقف الحذاء” من طول الانتعال، وبالتالي لا يستطيع هذا “المثقف الحذاء” التخلي عن علاقة التلذذ السادي المعكوسة الناجمة عن دوس القدم السلطوية عليه وفي قلبه، فيستنقع تحتها متأبداً.

رابعاً: التفاهة الثقافية والمعرفية

ليس مطلوباً من “المثقف الحذاء” وأشباهه المنتمين إلى طور الدوارينية الاستحذائية أيّ ثقافة أو تعليم أو عمق أو معرفة حقيقية. ربما كان هذا أو بعضه من مستلزمات المثقف المنافق الكلاسيكي، لكن اليوم ومع امتطاء “المثقف الحذاء” لمنصات تويتر وسواه من وسائل إعلاء التافهين، فلا حاجة لأي من ذلك. كل الـ “سي في” المطلوب من “المثقف الحذاء” و”الإعلامي الحذاء” على وجه التخصيص هو امتلاك قاموس كبير من البذاءة والشتم، والقدرة على الكذب والتفوق فيه، وأولاً ودائماً الإبداع في إعلان الولاء المستديم على مدار الساعة لقدم الحاكم. أسماء براقة ومثقفون وإعلاميون ورؤساء تحرير صحف ومديرو معاهد بحثية أكاديمية و”مستشارون” ودعاة دين وقوائم طويلة من الأحذية الصارخة ليل نهار، نبحث في سجلها المعرفي أو “السي في” فلا نجد ما يُبهر، سوى الاندراج الذليل في سوق أحذية الحاكم.

هذه “بعض” وليس كل السمات التي يمكن أن نتأملها لفهم ظواهر الأحذية النفاقية المتفطرة في الفضاء العربي، والقائمة مفتوحة لإضافة سمات أخرى. كلها تنطبق على “الأكاديمي الحذاء” و”الداعية الحذاء” والإعلامي الحذاء” كما انطبقت على “المثقف الحذاء” الذي استخدمناه في النص كممثل لهذه الشرائح جميعاً. في حالنا العربي الراهن، هناك مئات من الحالات الحذائية يشغلها التنافس في ميدان التقرب المسعور إلى قدم الحاكم، ولن يكون صعباً على القارئ أن يغمض عينيه ويمرر أسماء كثيرة في ذهنه سوف تستدعيها قراءة هذه السطور، ويُصنفها حسب انتماءاتها الحذائية. علينا أن نراقب عن كثب هذه الطفرة الداروينية المفاجئة والصادمة التي أنتجت كائنات نفاقية ظننا أنّ نموّها توقف عند حدود بيولوجيا التملق المعروفة، والتي اعتاد التاريخ أن يتمخط عليها جانبا كلما سرد علينا حكاياتها، لكنها فاجأتنا بحدة الظهور. مزيدٌ من المراقبة حتى نعرف إن كان هناك مرحلة قادمة لهذه الكائنات تأخذها إلى ما هو أكثر هبوطاً من مستوى الحذاء!

The post “المثقف” الحذاء”… وتحولات “الاستحذاء” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وطن قومي لليهود… في بوتسوانا (يرفضها البيض!) https://rommanmag.com/archives/20174 Mon, 03 Aug 2020 07:16:12 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%88%d8%b7%d9%86-%d9%82%d9%88%d9%85%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d9%81%d9%8a-%d8%a8%d9%88%d8%aa%d8%b3%d9%88%d8%a7%d9%86%d8%a7-%d9%8a%d8%b1%d9%81%d8%b6%d9%87%d8%a7-%d8%a7%d9%84/ خلال سنتي 1938  و1939  تطورت فكرة في أوساط رجال أعمال أوروبيين بيض في بوتسوانا حول استقدام عائلات يهودية من بعض البلدان الأوروبية التي يتعرض فيها اليهود إلى اضطهاد، للعمل في الأراضي الزراعية الشاسعة غير المُستغلة هناك. لم تكن الفكرة وليدة نزعة إنسانية أو أخلاقية للمساعدة في إنقاذ اليهود بل كانت مدفوعة بأهداف اقتصادية بحتة، إذ […]

The post وطن قومي لليهود… في بوتسوانا (يرفضها البيض!) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
خلال سنتي 1938  و1939  تطورت فكرة في أوساط رجال أعمال أوروبيين بيض في بوتسوانا حول استقدام عائلات يهودية من بعض البلدان الأوروبية التي يتعرض فيها اليهود إلى اضطهاد، للعمل في الأراضي الزراعية الشاسعة غير المُستغلة هناك. لم تكن الفكرة وليدة نزعة إنسانية أو أخلاقية للمساعدة في إنقاذ اليهود بل كانت مدفوعة بأهداف اقتصادية بحتة، إذ كان التفكير يحوم حول استقطاب اليهود المستثمرين وأصحاب الكفاءة الزراعية والشباب والقادرين على الإنفاق على أنفسهم فقط.

المُثير والمُلفت في هذا المشروع الذي لم يُكتب له النجاح أن عدد العائلات اليهودية التي اقترح استقدامها لم يزد على المائتين. ومع ذلك رفض المندوب السامي البريطاني، وليام كلارك، في جنوب افريقيا الفكرة، والذي كانت بوتسوانا تتبع لإدارته. وكان المسوغ الأساسي لرفض المندوب السامي يقوم على أن هذا العدد سوف يعني تغييرا كبيرا في ديموغرافية الأقلية البيضاء في المنطقة المُستهدفة في بوتسوانا (مقاطعة تاتي)، وقد تهدد هذه “الكثرة” اليهودية سمة سيطرة البيض البريطانيين في المقاطعة. في حالة بوتسوانا لم يكن مطروحا إقامة “وطن قومي” كما في حالات أخرى، لكن أهميتها تنبع من الرفض الشديد لها برغم قلة العدد المُقترح استقدامه، وفي مقدار العنصرية البيضاء ضد اليهود، وتفيد في عقد مقارنات مهمة بما كان يحدث في فلسطين في الزمن نفسه. 

في تلك السنوات أي ثلاثينيات القرن الماضي، وللمقارنة، كان هناك مندوب سامي بريطاني آخر وفي بلد بعيد عن بوتسوانا، في فلسطين، اسمه هربرت صاموئيل كان قد قضى ما يقارب عشرين سنة  منهمكا في زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي استقبلت في ثلاث سنوات فقط بين 1933 و1936 أكثر من 174,000 يهودي. وحتى عندما أصدرت بريطانيا ما عُرف بـ “الكتاب الأبيض” سنة 1939 لتهدئة العرب والفلسطينيين وضمان وقوفهم معها ضد المانيا وتركيا عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية واعتبره البعض “تنازلا” كبيرا من بريطانيا لأنه فرض قيودا على الهجرة اليهودية، فإن تلك القيود كانت تنص على السماح لـ 75 ألف يهودي للهجرة إلى فلسطين خلال السنوات الخمس التي تلت إصدار الكتاب الأبيض. ويُذكر أيضا هنا أنه في نفس تلك السنة كانت الحركة الصهيونية قد عقدت الاتفاق الشهير مع الحكم النازي في ألمانيا (هعفاراه) والذي قضى بالسماح لهجرة 50 ألف يهودي إلى فلسطين ومعهم مائة مليون دولار من ثرواتهم. ويُذكر أيضا انه برغم قيود الكتاب الأبيض المُفترضة فإن عشرات الألوف من اليهود تمكنوا من الهجرة سرا إلى فلسطين من خلال جهود المنظمات الصهيونية في تلك الفترة. كانت لندن إذن تستمع لمعارضة البريطانيين البيض في مستعمراتها الجنوب افريقية إزاء هجرة مجرد عشرات من العائلات اليهودية خشية تغيير الميزان الديموغرافي للأقلية البيضاء هناك، وفي نفس الوقت تسهر على ضمان هجرة مئات الألوف منهم إلى فلسطين، مُحتقرة شعبها الأصلي وغير عابئة بمصيره ومستقبله. 

في تلك السنوات كانت بوتسوانا، ومثل بقية البلدان الأفريقية الجنوبية، تقع تحت حكم التاج البريطاني. وكانت البلد الأكبر والأهم في منظومة “الكومنولث” البريطانية في المنطقة هي جنوب افريقيا والتي تمتعت بنوع من الحكم الذاتي في إطار الكومنولث، بما في ذلك السيطرة على اقتصادها. آنذاك وبحسب دستور ووفق عليه سنة 1906 كانت جنوب أفريقيا تنظر إلى بقية البلدان المجاورة (بوتسوانا، وليسوثو، وسويزلاند) بكونها تابعة لها ويجب أن تُضم إليها في وقت من الأوقات. وللضغط على بوتسوانا للخضوع لفكرة الانضمام هذه، فرضت جنوب افريقيا (المحكومة من الأقلية البيضاء – الافريكانرز) مقاطعة اقتصادية على بوتسوانا وخاصة على تصدير الماشية لسوقها، وهي السوق الأكبر والأهم بالنسبة لبوتسوانا ذات الاقتصاد المُنهك. والمفارقة هنا كمنت في أن الاقتصاد في البلدين كان محكوما بأقليات بيضاء مُتنافسة، بينما الغالبية السوداء سواء في بوتسوانا او جنوب افريقيا لم يكن لها أدنى مساهمة في إدارة بلدانها سواء اقتصاديا ام سياسيا. كانت الوظيفة الأساس التي “خُصصت” للأغلبية السوداء هو اشتغالها كمصدر للعمالة الرخيصة في مزارع ومصانع البيض. 

على ذلك، كانت فكرة استقدام اليهود إلى بوتسوانا فكرة البيض أنفسهم، بهدف تقوية اقتصادهم وتمكينهم من البلاد، أي بوتسوانا، وأريد استجلابهم إلى منطقتين على وجه التحديد هما إقليمي تاتي وتولي بلوك، وكلاهما كان قد تم “تطهيره عرقيا” من السود المحليين. وكما كان الحال في جنوب افريقيا وروديسيا، حُشر السود في بوتسوانا في معازل سكانية مزدحمة خاصة بهم، وحُظر عليهم السكن في مناطق البيض، وخاصة في الإقليميين المذكورين الذين كانا خاضعين تحديدا لشركات بريطانية أو افراد وملاك بريطانيين. المهم هنا هو ملاحظة ان قرارا ديموغرافيا كبيراً بشأن البلد مثل جلب مهاجرين يهود من أوروبا كان قرارا أوروبيا أيضا، ولم يُستشر فيه اهل البلاد الأصليين وزعمائهم. 

من منظور أوسع، لم يكن يهود شرق أوروبا مُرحب بهم في جنوب افريقيا عموما، ليس فقط في أوساط البيض وهو الأمر المُتوقع، ولكن أيضا من قبل الجالية اليهودية نفسها المستقرة في البلاد والثرية. وسواء في أوساط البيض او أوساط الجالية اليهودية المُترسخة، كانت النظرة العامة ترى أن أولئك اليهود الذين قد يهاجروا من الدول الأوروبية الشرقية فقراء وغير نافعين وغير قابلين للاندماج، وانهم بالاجمال سوف يلوثون “الحضارة الأوروبية في جنوب افريقيا”. وكان الحزب القومي، الممثل للافريكانز البيض من الهولنديين والألمان المان والمعارض للحكومة التي يسيطر عليها الإنكليز، هو رأس الحربة ضد قدوم اليهود. وقد تأثر الحزب بالدعاية النازية خاصة مع صعود هتلر وتبنى موقفها ضد اليهود، وضد هجرتهم إلى جنوب افريقيا، رغم أن أعداد اليهود المهاجرين إليها لم تتعد العشرات في كل عام او المئات في أحسن الأحوال. وبسبب هذه العدائية لليهود في جنوب أفريقيا فقد كان توجيههم إلى بوتسوانا يشكل في نظر بيضها الأمر الأكثر قبولاً.

ظهرت فكرة استقدام مهاجرين يهود إلى بوتسوانا في فبراير 1938 عندما قُدمت اقتراحات إلى المفوض البريطاني المقيم في بوتسوانا، آردن كلارك، بهذا الصدد وتسكينهم في مقاطعة تولي بلوك. وكانت هذه المقترحات تُقدم بتنسيق مع الجمعية الصهيونية في جوهانسبرغ في جنوب افريقيا، والتي اقترحت شراء أراض كل المقاطعة لهذا الغرض. اشترط كلارك ان لا يكون القادمون فقراء وأن يُضمن بأن الأراضي التي سوف يقطنونها سوف تُطور بشكل ملائم. بيد أن الأمر برمته كان لا بد كان لا بد من استشارة المندوب السامي البريطاني في جنوب افريقيا بشأنه وهو الذي لم يتحمس للفكرة كون الأراضي المقترحة لا تصلح لليهود، وبأنها صالحة لتربية الماشية فقط، هذا فضلا عن اعتراضه على العدد “الكبير” المُقترح، كما أشير اعلاه. وعلى الضد من هذه الفكرة جادل مؤيدو الاستقدام بأن الأرض زارعية واليهود سوف يستثمرونها بخبراتهم “المشهودة” والتي تدفعهم للهجرة إلى فلسطين لزراعتها، وانهم سوف يحولون المقاطعة البوتسوانية إلى أرض تدر لبنا وعسلا! كما تعهد أصحاب الفكرة بالحصول على تمويل لها من لجنة صاموئيل روتشايلد في بريطانيا، وكذلك بتعليم وتدريب المهاجرين اليهود على الزراعة والتواؤم مع المنطقة. وعلى العموم فقد تمكنت فكرتهم في نهاية المطاف من ضمان قبول مشروط من قبل المفوض السامي البريطاني في جنوب افريقيا. 

وإثر ذلك القبول ازداد حماس اردن كلارك المفوض المقيم في بوتسوانا، وباشر اتصالاته ليس فقط في تولي بلوك، بل وأيضا في المنطقة الثانية، تاتي، التي تخضع لسيطرة تامة لشركة بريطانية (اسمها أيضا شركة تاتي)، وتعمل على استثمار أراضيها. في البداية لم يرحب مدير هذه الشركة بفكرة قدوم يهود إلى المنطقة التي يسيطر عليها، وحامت حول مواقفه شكوك العداء لليهود، خاصة وانه لم يستشر مجلس إدارة الشركة في لندن. وما لبثت فكرة الاستقدام إلى مقاطعة تاتي أن فشلت بعد تراجع المندوب السامي في جنوب افريقيا عن موقفه عندما أخبر بأن عدد العائلات التي يتم الحديث عنه قد يصل إلى المائتين وبمعدل أربعة أفراد للعائلة الواحدة، بما يعني كما أشير أعلاه، إلى احتمال اختلال التركيبة السكانية للأقلية البيضاء في تلك المقاطعة. خلال المفاوضات والتداول حول الفكرة والإعداد، كان مجلس إدارة شركة تاتي في لندن قد استحسن فكرة وجود عدد محدود من العائلات اليهودية (عشر عائلات فقط) لاستصلاح واستغلال 35 هكتار من المنطقة، لكن هذا العدد لم يقنع أصحاب الفكرة على الارض. تحولت الجهود بعد ذلك إلى المنطقة الثاني، تولي بلوك، خاصة وان أراضيها كانت مملوكة من قبل افراد او شركات صغيرة ويمكن اقناعهم بالفكرة، وبسبب المعرفة المسبقة برغبتهم في بيع أراضيهم. وفرت منطقة تولي بلوك مليون هكتار غير مُستغل واعتقد ان بإمكانها ببساطة استيعاب خمسين عائلة يهودية لزراعتها واستثمارها، وعلى ذلك فلم تظهر في الأفق صعوبات واعتراضات قوية على مشروع إقامة مستوطنة يهودية صغيرة هناك. 

والمثير في تفصيلات المفاوضات والاستشارات “العابرة للحدود والحكومات” ان رئيسي جنوب افريقيا وروديسيا بالإضافة إلى سياسيي وبيروقراطي لندن انخرطوا في النقاش حول السماح ل “عشر عائلات” يهودية بالقدوم إلى منطقة تالي. وعندما وافقت هذه الأطراف على هذا “العدد” ارفقت الموافقة بشرطين: أن تكون هذه العائلات مؤهلة وقادرة على كسب معيشتها، وان تمتلك رأس المال المناسب. بعد هذه الموافقة تواصلت “شركة تاتي”، الحاكم الفعلي للمنطقة، مع مجلس المندوبين اليهود في جوهانسبرغ للتباحث حول الأرض ومساحتها ومكانها وبعض التفاصيل الأخرى. كان تاريخ هذه الاتصالات شهر آب (أغسطس) 1939، وفي الشهر التالي اندلعت الحرب العالمية الثانية وتوقفت كل تلك الجهود فشل “المشروع”، وكانت رياح الهجرة بعشرات الآلاف قد حُسمت بإتجاه فلسطين التي لم يكن هناك من يُدافع عنها دبلوماسيا وسياسيا كما كان ينبغي في وجه الجبروت الكولونيالي البريطاني والصهيوني.
 

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.

The post وطن قومي لليهود… في بوتسوانا (يرفضها البيض!) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وطن قومي لليهود… في أمريكا: “آرارات كنعان في جزيرة غراند” https://rommanmag.com/archives/20099 Thu, 04 Jun 2020 11:15:15 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%88%d8%b7%d9%86-%d9%82%d9%88%d9%85%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d8%a2%d8%b1%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7/ في سنة 1813 وصل شاب امريكي يهودي في السابعة والعشرين من عمره إلى تونس العثمانية التي كانت تحت حكم عثمان باي بن علي (احد ملوك الاسرة الحسينية)، ليستلم منصبه كقنصل أمريكا في المملكة التونسية. موردخاي مانويل نوح، وهذا اسمه والمولود في فيلادلفيا سنة 1785، كان قد بذل جهودا كبيرة قريبا من دوائر صنع القرار في […]

The post وطن قومي لليهود… في أمريكا: “آرارات كنعان في جزيرة غراند” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في سنة 1813 وصل شاب امريكي يهودي في السابعة والعشرين من عمره إلى تونس العثمانية التي كانت تحت حكم عثمان باي بن علي (احد ملوك الاسرة الحسينية)، ليستلم منصبه كقنصل أمريكا في المملكة التونسية. موردخاي مانويل نوح، وهذا اسمه والمولود في فيلادلفيا سنة 1785، كان قد بذل جهودا كبيرة قريبا من دوائر صنع القرار في واشنطن ليظفر بهذه الوظيفة. وكان مما قاله للرئيس الأمريكي آنذاك جيمس ماديسون لإقناعه بمنحه المنصب ان ديانته اليهودية سوف تساعده في مهمته لأنه سيكون في وسط أربعين الف يهودي في شمال افريقيا. بعد سنتين من عمله في تونس عزله وزير الخارجية جيمس مونرو عبر رسالة سوف تطبع مسيرة هذا الشاب السياسية والكتابية والفكرية فيما بعد، حيث قال الوزير إن التقدير الاولي في تعيينه لم يأخذ بالحسبان ان يهوديته سوف تكون عائقا في أدائه وظيفته على اكمل وجه. لا يُعرف على وجه الدقة ما الذي اخفق فيه نوح في تونس، لكن المهم في قصته هو ما قام به بعد عودته الى أمريكا، واستثماره لما تحصل عليه من خبرة وزيارات وعلاقات في أوروبا خلال الفترة القصيرة التي قضاها قنصلا في تونس. 

عززت قصة فشله في منصبه الدبلوماسي والمُسوغ الذي استخدم في إقالته من توجهاته القومية الدينية، وصارت تتنافس مع ليبراليته العامة التي كانت السمة شبه الغالبة لأوائل اليهود المهاجرين من أوروبا والمتأثرين بدعوات الاندماج في “الامة الامريكية”. تبلورت عند نوح فكرة أخرى استحوذت على تفكيره، وهي شراء ارض كافية لإقامة كيان يهودي عليها ضمن الشكل الاتحادي الرسمي للولايات المتحدة، وقد يتطور هذا الكيان ليصبح ولاية كما هي بقية الولايات. ولتحقيق هذا الهدف استهدفت جهد نوح تحديدا جزيرة غراند Grand Island التابعة لولاية نيويورك والمحاذية لنهر وشلالات نياغارا على الحدود الكندية، وبالفعل نجح في شراء تلك الجزيرة في سنة 1824. وقع اختيار نوح على جزيرة غراند بسبب موقعها المميز والاستراتيجي سواء لولاية نيويورك او حتى لامريكا ذاتها، وبسبب محاذاتها لكندا، إضافة إلى خصوبة ارضها واعتدال مناخها. كانت الجزيرة أصلا موطن احدى قبائل الهنود الأصليين وقد اشترتها ولاية نيويورك منهم في ظروف ملتبسة، وكانت الولاية مهتمة بإستثمار وإعمار الجزيرة وعدم تركها من دون سكان، وهو الاهتمام الذي استغله نوح في محاولة اقناع قادتها ببيع الأرض له لإقامة مدينة عليها يكون سكانها من اليهود، وقد قدم الى مجلس الولاية طلبا بهذا الامر سنة 1820. وفي سياق محاولات اقناع الولاية ومن حوله بالفكرة ركز على ان مشروعه سوف يجلب إلى الجزيرة التجار والصناع والفنانين وأصحاب المال من يهود القارة الأوروبية، إضافة إلى خبراء الزارعة الذين سيحولون الجزيرة إلى مستعمرة مزدهرة. وأضاف نوح في مرافعاته لاقناع الولاية ببيعه الجزيرة ان وجود مستعمرة يهودية فيها سوف يعني إمكانية الدفاع عن ثغر حدودي متقدم وجاهز ضد أي هجوم بريطاني مستقبلي (من الجهة الكندية) من دون أي كلفة حقيقية على الولاية، حيث ستقوم المستعمرة بهذا الدور. وإثر مناقشة طلب نوح قرر مجلس الولاية تعيين لجنة خاصة لدراسة المُقترح، الامر الذي اعتبرته بعض الصحف آنذاك قبولاً اوليا بالفكرة، ومنها صحيفة ال Albany Daily Advertiser  التي نشرت مقالا في اليوم التالي للقرار يشير إلى اليهود سوف يتمكنون من بناء القدس الخاصة بهم وبناء هيكلهم بأمن وسلام في جزيرة غراند. وعلى الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي كانت محاولات نوح تلقى صدىً معقولا لدى أوساط اليهود المتابعين لجهوده.

لكن قبل تطور تلك الاحداث وشراء الجزيرة بالفعل، من المفيد تتبع جذور الفكرة في رأس الشاب المتحمس ونضوجها، والتي يبدو ان التنظير الديني والقومي لها تولد لديه خلال رحلاته عبر أوروبا خلال وبعد عمله كقنصل لامريكا في تونس. واحدى اهم الرحلات التي كان نوح قد قام بها كانت الى بريطانيا وفيها التقى برجال دين مسيحيين من انصار فكرة إعادة اليهود الى فلسطين، واعتبار ان عودة “الشعب المختار” إلى “وطنه القديم” هي الخطوة الضرورية الاولى لظهور المسيح مرة ثانية. في لندن التقى قساوسة انجليكانيين معادين للرق وساهموا في الحملات لالغاء العبودية، وربط نوح بين تلك الحملات والدعم الذي تحظى به وفكرة “تحرير اليهود” وتجميعهم والدعم الذي يمكن ان تحظى به من قبل نفس الجهات. في نفس الفترة التي نشط فيها نوح في البلدان الأوروبية، كان هناك نشاط “جمعية لندن للتبشير باليهودية في اوساط اليهود”، والتي ترأسها القس لويس وي الذي كان مُتحمسا جدا لفكرة إعادة اليهود الى فلسطين، وقرر ان يسافر إلى روسيا ويقابل القيصر الكسندر لإقناعه دينيا بضرورة تحرير اليهود. وبالفعل سافر وي ومعه وفد ديني عبر أوروبا وقابل القيصر اربع مرات سنة 1808، وتحدث طويلا مع القيصر الذي كان متدينا آنذاك وشاركه الصلاة وتلاوة الانجيل، وناقشا معاً مصير اليهود. وقد اقترح القيصر منح اليهود ارضا في شبه جزيرة القرم، في أوكرانيا، لكن المشروع لم ير النور. الأهم من ذلك ان القيصر وجه دعوة إلى القس وي لحضور مؤتمر القوى الاوروبية الكبرى الذي سوف يعقد في نفس السنة، للترويج لفكرة تحرير يهود اوروبا في أوساط قادتها، ومنحهم حق المواطنة والمساواة في البلدان الأوروبية. كان القس قد اقنع القيصر بأن الخطوة الأولى لإعادة اليهود إلى “وطنهم القديم” تكمن في تأهيلهم حسب مبادئ الحضارة (الأوروبية) والمعرفة العامة، لأنهم لو عادوا الى “ارض إسرائيل” وهم على حالتهم تلك فإنه لن يستطيعوا حتى فلاحة الأرض. اعتبر القس وي انه قام بمهمته المقدسة بعد ان قدم مقترحاته للقادة الأوروبيين، وتوقع ان الامة اليهودية سوف تظهر للوجود خلال ثلاث سنوات بعد ذلك! 

وفي زيارات لاحقة لاكثر من بلد اوروبي وبعد تبلور فكرة المدينة اليهودية في جزيرة غراند وشرائه لها، وخلال لقاءاته مع يهود تلك البلدان كان يكرر على مسامعهم ان أمريكا تفتح أبوابها لليهود المضطهدين في أوروبا، وان “دولة يهودية جديدة” تعادل فلسطين في المساحة سوف تقوم في الولايات المتحدة، وتحت حمايتها. وفي سنة 1824 كانت معظم أراض الجزيرة قد بيعت تحت اشراف مجلس البلدية واشترى نوح من خلال احد المستثمرين الوسطاء ما يعادل الفي هكتار تحتوي اهم المواقع في الجزيرة والتي يمكن ان تُقام عليها مدينة تجارية. وفي شهر سبتمبر من نفس العام ذهب نوح ومعه مئات من مؤيدي الفكرة إلى الجزيرة واقاموا احتفالاً حظي بتغطية إعلامية كبيرة آنذاك لتدشين الحجر الأساسي ل “مدينة آرارات كنعان”، وهو الاسم الذي اختاره نوح. وآرارات هي المدينة القديمة (التي تقع اليوم في شرق الاناضول قريبا من حدود أرمينيا) والتي تقول الاسطورة ان سفينة نوح رست عليها بعد الطوفان! كما شهدت مدينة بافالو القريبة من الجزيرة حضورا احتفاليا لنوح حيث رافقته فرق موسيقية في مسيرة اتجهت نحو كنيسة المدينة، ومعها اعلن قيام “مدينة لجوء اليهود” في الجزيرة المجاورة. وفي مشهد يستدعي اسطورة الطوفان استأجر نوح مركبا ابحر فيه الى ارارات ووضع على ظهره أنواع مختلفة من الحيوانات والطيور، واسماه “سفينة نوح”.

منح موردخاي نوح نفسه لقب ومنصب “قاضي إسرائيل” وزعيم آرارات، التي كانت ما زالت قيد التأسيس، واعتبرها المدينة التي تقوم فيها “حكومة الشعب اليهودي تحت رعاية وحماية دستور وقانون الولايات المتحدة”، وان رعاية الرب هي التي مكنته من إنشائها في أمريكا – “ارض اللبن والعسل”. كما اصدر “اعلان استقلال” خاص به وبمدينته. وفي نفس الوقت أكد نوح ان هذا لن يعني نسيان الحلم اليهودي القديم بالعودة الى الأرض المقدسة، ارض الأجداد، حينما تسمح الظروف. ثم نصب نوح نفسه قائدا وراعيا ليهود العالم، وبدأ بإصدار تعليمات وفرمانات لجالياتهم، واعتبر ان زعمائهم في أوروبا نواب له، كما طالبهم بالصلاة في الكنس باللغة العبرية. ومن طرائف قراراته انه اصدر قرارا يحظر تعدد الزوجات على يهود شمال افريقيا الشمالية، وقرارا اخر اعتبر فيه الهنود الحمر في أمريكا من سلالة القبيلة الإسرائيلية الضائعة وبالتالي ضرورة أعادتهم إلى “شعب الله المختار”. 

لم تحظ طموحات نوح وقراراته سواء في التوجه نحو إقامة مدينة آرارات كمركز ليهود العالم، او اعلانه تزعمهم وقيادتهم بموافقة او استحسان المنظمات والاصوات اليهودية المؤثرة سواء في امريكا او أوروبا. وتباينت المواقف من مشروعه ومن شخصيته أيضا، وهاجمه العديد من القيادات اليهودية واعتبره كثيرون تافها ومغرورا. واصدر بعض حاخامات المانيا وبريطانيا بيانات اتهمته بخيانة الوعد الإلهي لأنه تجرأ على محاولة بناء الامة اليهودية قبل عودة المسيح. بيد ان تأثيره وكذلك إعادة الإعتبار له في التفكير الصهيوني اللاحق حظي بإهتمام كبير، خاصة في المرحلة الثانية من حياته وبعد فشل مشروع آرارات. ففي هذه المرحلة ركز نوح جهوده على “عودة اليهود الى ارض الميعاد” ودعوة الدول الكبرى الى ضرورة مساعدة اليهود المضطهدين للحصول على وطن لهم كبقية أمم العالم. وفي عام 1844 وبعد ان اصبح ذا تأثير ونفوذ كبير كرجل اعمال ومؤسس لصحف عديدة وغيرها، صار يدعو لإغتنام فرصة ضعف الدولة العثمانية وارهاصات سقوطها، واحتلال مصر من قبل بريطانيا بما يسهل الوصول إلى فلسطين ومنحها لليهود. وإلى حين حصول ذلك دعا الى إمكانية الحصول على موافقة السلطان العثماني لإصدار تفويض يسمح لليهود بشراء فلسطين والبدء في إقامة مستوطنات زراعية فيها. 

The post وطن قومي لليهود… في أمريكا: “آرارات كنعان في جزيرة غراند” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وطن قومي لليهود… في أنغولا (فلسطين البرتغالية) https://rommanmag.com/archives/20055 Sat, 02 May 2020 07:54:28 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%88%d8%b7%d9%86-%d9%82%d9%88%d9%85%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%86%d8%ba%d9%88%d9%84%d8%a7-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b1/ فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي بين سنوات 1933 و1945 كان يريد أنغولا وطنا لليهود وملجأً يهاجرون إليه وليس فلسطين، وروزفلت كان اقل الرؤساء الأمريكيين حماسا للصهيونية ورأى أن مشروعها في فلسطين سوف يعرض مصالح وعلاقات أمريكا مع العالم العربي للخطر. وإلى سنة 1939، أي بعد تغول المشروع الصهيوني في أرض فلسطين بشكل كبير تحت الرعاية البريطانية، […]

The post وطن قومي لليهود… في أنغولا (فلسطين البرتغالية) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي بين سنوات 1933 و1945 كان يريد أنغولا وطنا لليهود وملجأً يهاجرون إليه وليس فلسطين، وروزفلت كان اقل الرؤساء الأمريكيين حماسا للصهيونية ورأى أن مشروعها في فلسطين سوف يعرض مصالح وعلاقات أمريكا مع العالم العربي للخطر. وإلى سنة 1939، أي بعد تغول المشروع الصهيوني في أرض فلسطين بشكل كبير تحت الرعاية البريطانية، وفكرة إقامة وطن قومي لليهود في منطقة اخرى من العالم غير فلسطين كانت ما تزال قائمة وقوية، كما تشير كثير من الوثائق والسجلات. وقد تعاظم الاهتمام بمسألة البحث عن جهات يهجر إليها اليهود في آخر ثلاثينيات القرن الماضي بالتوازي مع صعود النازية في المانيا وأوروبا. 

في 14 كانون ثاني 1939 وجه روزفلت عبر وزير خارجيته، كورديل هال، رسالة إلى سفيره في لندن جوزيف كنيدي لإيصالها للحكومة البريطانية تتضمن معلومات وأفكاراً مُثيرة وغير معروفة بالقدر الكافي عن رأي روزفلت تجاه مشكلة يهود شرق أوروبا والجهة المُثلى التي يمكن أن يرسلوا إليها، في ضوء تلاحق الاخبار حول اضطهادهم المتصاعد من قبل ألمانيا النازية وتسببْ ذلك في هجرات كثير منهم. خشيت الولايات المتحدة ومعها بقية دول أوروبا الغربية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، …) ان يتجه سيل الهجرة اليهودية الى حدودها، وأصدرت قوانين تمنعهم عملياً الوصول إليها. مقابل ذلك نشطت تلك الدول جميعها من خلال ما عُرف آنذاك ب “لجنة عبر الحكومات للاجئين” Intergovernmental Committee for Refugees، التي تأسست في أعقاب مؤتمر إيفان في فرنسا في شهر يوليو 1938، لتأمين مناطق استقبال لهجرات يهود أوروبا الشرقية. عملت هذه اللجنة على إيجاد حلول وقائية سريعة لكنها فشلت. وقبيل أحد اجتماعاتها في لندن، قدم سومر ويلز، وكان وزير دولة للشؤون الخارجية في أمريكا، توصية للرئيس روزفلت بتبني اقتراح فتح انغولا أمام الهجرة اليهودية المتزايدة بسبب معاداة السامية في ألمانيا وأوروبا الشرقية، وارفق له مسودة رسالة تحمل هذه الفكرة لإرسالها للسفير البريطاني في لندن وطرحها على السياسيين هناك. ويبدو أن روزفلت قد اعتمد تلك التوصية كما تُظهر ارشيفات وزارة الخارجية الامريكية، إذ بالفعل وجه رسالة الى سفيره في البلاط البريطاني وفيها يشير الى ما رآه المسألة الملحة التي تواجه جماعات مختلفة دينيا في شرق ألمانيا وشرق أوروبا، مُوضحا بأن الجماعة المقصودة الأهم هنا هي يهود القارة. ثم يفصل في رأيه بأن الحل الافضل هو توجيه هجرات اليهود إلى أفريقيا، وتحديدا الى انغولا. وهنا ترجمة لأهم ما جاء في تلك الرسالة الطويلة: 

“… إنني مقتنع بأن حل مشكلة (يهود) المانيا وكذلك اوروبا الشرقية يتطلب اقامة وطن يهودي قادر على استيعاب هجرة يهودية غير محدودة وكبيرة. وهناك شك في قدرة فلسطين على استيعاب تدفق مثل هذه الهجرات والمحافظة عليها حتى لو تم تجاوز العقبات السياسية، وهذا يدفع للبحث عن مناطق محتملة اخرى في العالم. … هناك عدة مقترحات قُدمت بشأن هجرة استيطانية واسعة في مناطق مثل كاليفورنيا الدنيا، ومدغشقر، والغينيتين، لكن احتمالات الاستيطان في هذه المناطق لا تبدو كافية للقول بأن اقامة وطن يهودي في اي منها سوف يكون عملياً (ولا يفسر لنا روزفلت لماذا لم يكن عملياً مثلا إقامة مثل هذا الوطن في كاليفورنيا او أي منطقة أخرى في الولايات المتحدة!). ومن مناطق العالم الاقل تقدما توفر افريقيا الأمل لتنمية مستقبلية ومعقولة لاستيعاب عدد كبير من السكان. ومن ضمن المناطق المناسبة لاستعمار ابيض كبير في افريقيا، تقدم أنغولا المكان الافضل بما لا يقاس من ناحية الفرص المادية والمناخية والاقتصادية. … إن إقامة وطن يهودي في انغولا كانت قد بُحثت بقوة في سنوات ١٩١٢ و١٩١٣، وثمة قانون استعمار يهودي بشأن أنغولا وافق عليه بالإجماع مجلس النواب البرتغالي سنة ١٩١٢. وحقيقة أنه لم يتبلور شيء عملي عن ذلك المشروع تُعزى إلى عدة أسباب منها غياب التنظيم الكافي واندلاع الحرب العالمية، لكن لم يكن هناك أي شك إزاء صلاحية الأرض التي استهدفت. انني اعتقد ان المشكلة الحقيقية للاجئين اليهود من المانيا وتهديدات مشكلة الهجرة غير الطوعية اليهودية من البلدان الاوروبية الاخرى تتطلب جهدا سباقا وجديا لخلق وطن بديل لهؤلاء الناس”. 

الجهود التي أشار اليها روزفلت في رسالته إزاء محاولة الاستيطان اليهودي في انغولا تعود بداياتها الى سنوات ١٨٨٦ و١٨٩١ (اي قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا بأكثر من عقد من السنوات)، ثم تجددت سنة ١٩٠٧، لكنها عادت وتبلورت على شكل مشروع فعلي وجدي سنة ١٩١٢. استندت تلك الجهود إلى إمكانية إغراء البرتغال بأن وجود اليهود في انغولا سوف يعزز من السيطرة الكولونيالية على ذلك البلد، ويساهم في تنميته، كما يتيح للبرتغال، اخلاقياً، تعويض اليهود عن ما اقترفته البرتغال ضد يهودها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر عندما تم طردهم، أو فُرض على من بقي منهم التحول للمسيحية الكاثوليكية (حين أصدر الملك مانويل سنة ١٤٩٧ قانونا ينص على طرد اليهود او تحويلهم قسريا إلى المسيحية). 

كانت انغولا في العقد الأول من القرن العشرين ما تزال مستعمرة برتغالية، بيد أنها احتاجت إلى سكان بيض واستثمارات واستصلاح أراض مما تجاوز قدرة البرتغال المالية على توفيره آنذاك. ومن هذه الثغرة بالذات والحاجة البرتغالية الكولونيالية إلى تثبيت وجودها في انغولا من كافة النواحي وخاصة الاقتصادية والسكانية، رأى بعض الصهاينة فرصة تلوح في الأفق. على ذلك، لقيت المُقترحات الخاصة بتهجير وتوطين اليهود في أنغولا آذانا صاغية واستحساناً في الدوائر السياسية البرتغالية خاصة مع ما رافقها من وعود بأن الرساميل اليهودية في أوروبا سوف تساهم بفعالية في هذا الاستيطان. تبلورت تلك المقترحات في مشروع قُدم إلى مجلس النواب، تم اقراره بشكل شبه جماعي وفي وجه اقلية معارضة في شهر يونيو 1912، مُترجماً الفكرة الاساسية في المقترح وهي السماح بهجرة يهودية جماعية إلى أنغولا والاستيطان فيها. فصل المشروع أيضا في آليات الاستيطان ونوعية المهاجرين ومساحة الأرض التي تُمنح لكل عائلة وضرورة استثمار تلك الأرض زراعياً ثم مضاعفتها في حال نجاح الاستثمار، إضافة إلى منح الجنسية البرتغالية للمهاجرين. 

مسار دبلوماسي ومسار ميداني استكشافي

في أعقاب التقدم الايجابي الكبير والقبول الاولي من قبل الحكومة البرتغالية للفكرة بشكل عام، نشطت القيادات الصهيونية على مسارين شبه متوازيين، الأول سياسي دبلوماسي، والثاني ميداني استكشافي. استهدف المسار الأول تفعيل وتكثيف المفاوضات مع الحكومة البرتغالية والضغط عليها لترجمة المشروع على الأرض بالكيفية التي تريدها المنظمة الإقليمية. ولهذا الغرض وصل إلى لشبونه وفود عديدة من أفرع المنظمة من أوروبا قبل شهر من التصويت على القانون، وعلى رأسهم إسرائيل زانغويل رئيس المنظمة اليهودية الإقليمية نفسه. والمسار الثاني ميداني استقصائي يقضي بإرسال بعثة علمية تستكشف المنطقة المُستهدفة بالاستيطان، وهي هضبة بنغيولا المشاطئة للمحيط الأطلسي، ذات الموقع الاستراتيجي والمساحة الشاسعة، ٤٥ الف ميل مربع، أي أكثر من ضعف مساحة فلسطين التاريخية.

كان مُقترح الاستيطان اليهودي في أنغولا هو الموضوع الأهم في المؤتمر السنوي للمنظمة اليهودية الاقليمية الذي انعقد في فيينا في حزيران 1912، وحضره أكثر من ثمانين وفد وخمسمائة عضو. وناقش المؤتمر التفاصيل المختلفة للقانون البرتغالي بشأن الاستيطان اليهودي في انغولا بتوسع وتفصيل، ثم قرر في نهاية المطاف رفض المشروع بسبب عدم قبول البرتغال منح اليهود المُقرر تهجيرهم الى هناك حكماً ذاتياً في المنطقة. وقد استقبل هذا الرفض في الدوائر السياسية في لشبونه وفي أوساط اليهود النافذين فيها والمؤيدين للقانون بغضب شديد. والمثير في الأمر هنا هو إصرار المنظمة ورئيسها زانغويل على مسألة الحكم الذاتي، في الوقت الذي وفر فيه عرض الحكومة البرتغالية حلا عمليا وسريعا لما كانت المنظمة تدعي انها تريد الوصول إليه وهو إنقاذ يهود روسيا من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له.  يجب ان يُشار هنا أيضا إلى أن ردود فعل وآراء السكان الاصليين في أنغولا لم تحظ بأي اهتمام جدي وحقيقي، كما هي الحالة في معظم المحاولات الاستعمارية. وليس هناك في الأدبيات الخاصة في مشروع توطين اليهود في أنغولا إلا أقل القليل عن تلك الردود سواء التي كانت قد صدرت أو تلك المُتوقعة في حال تنفيذ المشروع. 

الى جانب المسار الدبلوماسي، اشتغلت المنظمة اليهودية الإقليمية على مسار ثان ميداني وعملي يهدف إلى استكشاف منطقة هضبة بنغيولا وتقديم دراسة مُفصلة حول ملاءمتها لتوطين اليهود فيها، من النواحي الزراعية وخصوبة الاراضي، والمناخ، والامراض، وتوفر المياه، وسوى ذلك. ولهذا الغرض نظمت المنظمة بعثة علمية في يوليو ١٩١٢، ترأسها البروفسور والخبير الجغرافي جون وولتر غريغوري، أستاذ الجيولوجيا والمساحة في جامعة غلاسكو في اسكتلندا آنذاك. غريغوري كان أهم الجغرافيين والاستكشافيين الكولونياليين البريطانيين، وقد اشرف على اكثر من ثلاثين بعثة استكشافية كولونيالية في العالم، وكتابة تقاريرها المفصلة عن المناطق التي درسها ومن ضمنها تقريرا عن صلاحية منطقة شرق ليبيا للاستيطان اليهودي سنة  ١٩٠٩ أنجزه لصالح نفس المنظمة. وبالفعل وصلت البعثة الاستكشافية، التي كانت الحكومة في لشبونه على معرفة بمهمتها وشجعتها، ميناء لوبيتو في انغولا في شهر آب ١٩١٢ ومكثت في المنطقة ما يُقارب الشهرين، وكتبت تقريرا طويلا ومفصلاً غطى كل الجوانب التي كانت محط اهتمام المنظمة اليهودية وقادتها. 

فصول التقرير واجزاؤه المختلفة مليئة بالتفاصيل التقنية والجغرافية والمناخية بشكل مُدهش، وليس ثمة إمكانية هنا لإيراد ولو جزء بسيط منها. لكن وباختصار شديد، تناولت تلك التفاصيل معظم جوانب الحياة الخاصة بالهضبة الانغولية، ووصف طبيعتها الجغرافية، ونوع تربتها، ومناخها، وصلاحيتها للزراعة، وتوفر المياه فيها، وقلة عدد سكانها، وموقعها بالنسبة لانغولا بشكل عام، ثم افريقيا عموما خاصة مع مشروع مرور خط سكة الحديد الاستراتيجي عبرها والذي ينطلق من مينائها على المحيط الأطلسي ويتواص إلى قلب القارة الافريقية. كانت الأسئلة الاساسية المُناط بالبعثة ورئيسها الإجابة عليها علميا وبناءً على دراسة ميدانية تتعلق بأمرين حيويين الاول صلاحية المنطقة للإستعمار الاوروبي الابيض، والثاني خلوها من الأمراض القاتلة والتأكد من أن قلة السكان في المنطقة لا تعود إلى وجود اوبئة مستوطنة. قدم غريغوري في التقرير اجابة مشجعة وايجابية على كلا السؤالين مؤكدا صلاحية المنطقة لاستعمار الرجل الأبيض (ومن ضمنه اليهود)، وخلوها من أية أوبئة فتاكة ونفى اي علاقة بين قلة عدد السكان فيها ووجود أية أمراض وبائية. وذكر في التقرير بشكل مُلفت، وفي سياق المقارنة، ان “أرض انغولا افضل بشكل قاطع من فلسطين … ولا استطيع التفكير بأية منطقة اخرى يمكن ان توفر فرصا افضل … تستجيب لطموحات المنظمة اليهودية الإقليمية”. وقد تضمن التقرير حلولاً لأية مشكلات متوقعة سواء مع “الأقلية” الأنغولية من السكان الأصليين، أو أية مشكلات استثمارية واقتصادية. وبالنسبة للسكان الأصليين فقد اقترح تقديم “هدايا” لرؤساء القبائل لشراء سكوتهم ومباركتهم لمشروع الاستيطان. وأشار غريغوري الى ان عدم قدرة البرتغال اقتصاديا على تنمية المنطقة سوف يسهل عملية الحصول على الأرض لتنميتها من قبل المهاجرين اليهود. 

انتعشت آمال المنظمة الاقليمية بعد حصولها على تقرير غريغوري ورأت فيه أداة لتجديد محاولة اقناع الحكومة البرتغالية بتعديل قانون الاستيطان اليهودي، واتاحة المجال لمشاركة المنظمة في إدارة المنطقة، واضافة بعد البنود التي تتيح ولو مستقبلا تبلور نوع من الحكم الذاتي لليهود فيها. إلا ان حكومة لشبونة ظلت على موقفها إزاء حتمية سيطرتها على آليات تنفيذ الاستيطان وعدم السماح ل “دولة داخل الدولة” بالنشوء. وقد ادى ذلك الموقف في نهاية الأمر إلى فشل مساعي المنظمة الاقليمية في الحصول على هضبة بنغيولا الأنغولية، والبحث عن مكان آخر في العالم.

The post وطن قومي لليهود… في أنغولا (فلسطين البرتغالية) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وطن قومي لليهود… في ليبيا (سيرينيكا) https://rommanmag.com/archives/20028 Mon, 06 Apr 2020 12:04:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%88%d8%b7%d9%86-%d9%82%d9%88%d9%85%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d9%8a%d8%a8%d9%8a%d8%a7-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%83%d8%a7/ في عام 1909 نشرت المنظمة الاقليمية اليهودية Jewish Territorial Organization تقريرا موسعاً كتبه فريق بعثتها الاستكشافية لمنطقة شرق ليبيا (وتحديداً منطقة بُرقه) يحمل العنوان التالي: “عمل البعثة التي أرسلتها المنظمة الاقليمية اليهودية تحت رعاية الحاكم العام لطرابلس لإختبار الأراضي المقترحة لهدف الاستيطان اليهودي في سيرينيكا (وهو الاسم الإغريقي القديم لمنطقة شرق ليبيا)”. ديباجة الغلاف الخارجي […]

The post وطن قومي لليهود… في ليبيا (سيرينيكا) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في عام 1909 نشرت المنظمة الاقليمية اليهودية Jewish Territorial Organization تقريرا موسعاً كتبه فريق بعثتها الاستكشافية لمنطقة شرق ليبيا (وتحديداً منطقة بُرقه) يحمل العنوان التالي: “عمل البعثة التي أرسلتها المنظمة الاقليمية اليهودية تحت رعاية الحاكم العام لطرابلس لإختبار الأراضي المقترحة لهدف الاستيطان اليهودي في سيرينيكا (وهو الاسم الإغريقي القديم لمنطقة شرق ليبيا)”. ديباجة الغلاف الخارجي أبرزت أن هدف المنظمة الإقليمية اليهودية “هو الحصول على أرض ما على أساس الحكم الذاتي لليهود الذين لا يستطيعون او لا يريدون البقاء في البلدان التي يقيمون فيها حاليا” – والمقصود بشكل خاص يهود أوروبا الشرقية وروسيا. كاتب التقرير هو البروفسور جون وولتر غريغوري، وهو جغرافي ومُستكشف بريطاني كرس خدماته في سبيل مشروعات الاستعمار البريطانية وإحتلالاتها في أفريقيا وآسيا، وهو أيضاً من ترأس البعثة الاستكشافية التي أرسلتها نفس المنظمة إلى أنغولا سنة 1912 لذات الغرض.

 يتكون التقرير من 52 صفحة من القطع الكبير (والخط الصغير) إضافة إلى 9 صفحات هي المقدمة التي كتبها إسرائيل زانغويل، رئيس المنظمة الإقليمية اليهودية، ومعها في الصفحات الاولى خارطة لمنطقة شمال شرق ليبيا وأخرى لشمال إفريقيا عموما وموقع ليبيا منها، إضافة إلى موقع الأرض المقترحة في الجغرافية الاقليمية العامة. والمنطقة التي مسحها التقرير وأطلق عليها اسم “سيرينيكا” شملت الأراضي الشاسعة من شرق ليبيا المشاطئة للبحر المتوسط وتضم بنغازي وطبرق ودرنه وبرقة ومحيطاتها. وعلى وجه الدقة يُعرف التقرير سيرينيكا بأنها “المنطقة الواقعة في الشمال الأفريقي بين مصر وسيرت. وتضم المساحة بين البحر المتوسط والخط الواصل بين بومبا في الشرق، والزاوية الجنوبية الشرقية لخليج سيرت جنوب بنغازي”. 

تضمن التقرير عدة أجزاء شملت تفصيلات مثيرة ودقيقة عن كل الجوانب التي اعتقدت البعثة الاستكشافية انها ضرورية للاستيطان اليهودي، إضافة إلى المقدمة التاريخية والسياسية المطولة التي كتبها زانغويل. توفر قراءة هذه الاجزاء فكرة غنية عن التفاصيل الدقيقة بل والمُذهلة التي قامت بها البعثة ثم أوردتها في التقرير، ويصعب تلخيصها في مقالة قصيرة، وربما إيراد “محتويات” التقرير يضع القارئ في صورة تلك التفصيلات وطبيعة المهمة التي قامت بها تلك البعثة وعملها وشمولية دراستها وتضمنت هذه المحتويات العناوين التالية: “خريطة لمسار البعثة الاستكشافية”، “خريطة سيرينيكا”، “مقدمة تاريخية وسياسية”، “تقرير عام كتبه جون غريغوري”، “تقرير زراعي كتبه الخبير جون تروتر” مع 17 صورة فوتوغرافية توضيحية، “تقرير عن المياه والهندسة، كتبه الخبير ريغنالد ميدلتون وآخرون”، “تقرير طبي وعن الصحة العامة، كتبه الدكتور م. د. ايدير”، ملحق بعنوان “اليهود واليهودية في سيرينيكا القديمة”، كتبه البروفسور ناحوم شلاوتز، من جامعة السوربون في باريس”. 

شرق ليبيا في التفكير الاستيطاني اليهودي

يحتوي التقرير على أفكار وتضمينات مهمة ليس فقط لجهة تركيز الاهتمام على منطقة شرق ليبيا، بل وايضا لغايات التعمق في فهم آليات العقلية الاستعمارية الصهيونية والغربية معا في تلك المرحلة، ونظرتهما للبلدان المُستهدفة بالاستعمار وكذلك لشعوبها وسكانها الأصليين. ومقدمة التقرير التي كتبها زانغويل يمكن اعتبارها من أهم ما ورد فيه، حيث يشرح زانغويل مراحل الاهتمام الاستعماري الغربي واليهودي في منطقة شرق ليبيا، ويذكر في البداية كيف أن المنطقة ظلت أرضا مجهولة ومغلقة في وجه الاستكشافات الاستعمارية إلى أن اهتمت بها منظمته. ويشير الى تقرير كتبه السناتور الايطالي جياكومو دي مارتينو عن شرق ليبيا سنة 1907، أشار فيه إلى أهمية المنطقة للاستعمار الأوروبي، ويقول فيه: “سيرينيكا (شرق ليبيا) تقع على حدود أوروبا على البحر، حيث مهد الفن المتحضر، قريبة من أوروبا وتعيش في حالة من البربرية التامة. (وسبب ذلك) هو حسد تركيا التي فضلت … عزل المنطقة عن العالم، حيث لا يستطيع المرء الترحال في سيرينيكا من دون إذن”. كما أشار دي مارتينو إلى رحلات استكشافية سابقة قام بها رحالة طليان لمنطقة شرق ليبيا سنة 1881. 

يُسجل زانغويل توافق الآراء حول روعة المنطقة ومناخها وخصوبة تربتها وخضرتها، ويركز على “ماضيها اليهودي المشرق”، وكيف وقعت تحت سيطرة الإغريق وازدهرت خلال حكمهم إلى درجة نافست فيها قرطاجة تجاريا ونافست مصر من ناحية خصوبة الأراضي. ثم كيف وقعت المنطقة في طي الإهمال والنسيان، ويقتبس خلاصات الرحالة الطليان السابقين بأن “… العرب والاتراك دمروا كل شيء”، لكن بالإمكان إعادتها إلى ماضيها المزدهر عبر إيجاد العمالة والعلم الحديث”! يستنتج زانغويل من هذه التقييمات “أنه إذا كانت سيرينيكا توفر فرصة مغرية للاستعمار بشكل عام، فإنها بدت منطقة ممنوحة من السماء للاستعمار اليهودي على وجه الخصوص”. ويتابع الإشارة إلى تقارير عدة بعثات استكشافية للمنطقة اجمعت على وصفها ب “منطقة للاستعمار المستقبلي”. والتأمل في هذه التقارير وخطابها ولغتها ومضامينها، يدلل وبشكل جلي على تجذر النظرة الاستعمارية وحليفتها اليهودية الاستعمارية التي اعتبرت أن سكان البلاد الاصليين لا يستحقونها، وأن الأولى احتلالها والسيطرة عليها من قبل الكولونياليين الأوروبيين وحلفائهم اليهود لإحيائها وبعثها من جديد. 

يقتبس زانغويل من رحالة استعماريين آخرين قولهم: “إن موقع سيرينيكا يوفر افضلية التواصل القريب بين المستوطنين والثقافات الاوروبية من ناحية ومع اليهودية الاوروبية من ناحية ثانية. وقربها من أوروبا يجعل الامدادات للدفاع عنها متوفرة في حال اندلاع اي عنف. انه من الصعب فعلا ايجاد ارض اخرى تمتلك افضليات الموقع والمناخ والقرب من روسيا ورومانيا، أهم مناطق الاضطهاد والهجرة، وكذلك وقوعها على المتوسط، وقربها من فلسطين المركز العاطفي الكبير، وينعدم فيها ايضا التنافس بين الأديان الثلاثة الكبرى والغيرة بين الطوائف. وهي أفضل بكثير من فلسطين من ناحية قلة عدد السكان، ذلك أنه حتى المراكز القريبة منها مثل طرابلس بمساحتها البالغة ٤٠٠,٠٠٠ ميل مربع ليس فيها سوى مليون من السكان … وعليه فإن سيادة النفوذ اليهودي يمكن أن تُضمن عن طريق المحافظة على سيل ثابت من الهجرة”. وثمة بعد استراتيجي آخر يشير إليه زانغويل تمثل في اهتمام بريطانيا تحديداً في المشروع بسبب الموقع الحساس للمنطقة بالنسبة لمستقبل النفوذ البريطاني ومستعمراته. فالموقع الذي توفره سيرينيكا بالغ الأهمية إذ تحاذي حدود مصر الواقعة تحت النفوذ البريطاني، وثمة امكانية مستقبلية لبناء خط سكة حديد يصل المنطقة مع السويس، بما يقلص من الرحلة بين لندن وبومباي بأربع وعشرين ساعة لتصبح ثلاثين ساعة فقط.

يُفصل زانغويل في الجهود التي شرعت بها منظمته الإقليمية لتحقيق أحلام دي مارتينو في سيرينيكا، ويقول بأن مراسلاتٍ كانت قد بدأت سنة 1907 بين المنظمة عبر جهود احد اعضائها البارزين، د. ناحوم شلوتز، وحاكم طرابلس التركي المارشال رجب باشا، الذي يصفه زانغويل بالانفتاح على المشروع اليهودي والقدرة السياسية والاستنارة، والذي شغل في نفس الوقت منصب قائد القوات التركية في كل أفريقيا. والموقف اللين من قبل السلطات العثمانية، ورجب باشا تحديدا، إزاء فكرة توطين اليهود في شرق ليبيا، يثير الانتباه ويستحق التوقف عنده. وبإعمال قدر كبير من حسن النية وموضعة ذلك الموقف في سياقه التاريخي يمكن رده إلى خشية إستانبول بشكل عام من الاطماع الإيطالية في ليبيا، سواء في منطقة طرابلس او الشمال الليبي برمته وصولا إلى الشرق الساحلي. ويبدو ان ثمة قناعة ما سادت في أوساط الحكم العثماني آنذاك بأن وجود اليهود بشكل او بآخر قد يعيق أو يُساهم في إحباط تلك الاطماع. هذا بالإضافة إلى ان مثل هذه المعاملة “الليبرالية” مع اليهود تأتي ضمن سياق فهم تاريخ السياسة والممارسة العثمانية في الأمصار المختلفة الواقعة تحت سيطرتها ومن ضمنها ليبيا إزاء مسألة اليهود والأقليات الدينية في المناطق الخاضعة للسلطنة. وعلى العموم فإن القراءة المُعمقة في تفاصيل وحيثيات الحوارات والاجتماعات والمراسلات تُوحي بأن الطرفين، المنظمة اليهودية والسلطات العثمانية، كانا يُمارسان قدرا كبيرا من التخادع وجس النبض واستكشاف النوايا الحقيقية للطرف الآخر. 

احتقار أهل شرق ليبيا والعنصرية تجاههم

يتوقف زانغويل عند ملاحظات البروفسور جون غريغوري في التقرير وتقديراته لاحتمالات وحجم العداء الذي قد ينشأ وسط سكان المنطقة، وفي هذه الوقفه يُسطر وبلا حياء نظرته العنصرية الاستعلائية ضد السكان الأصليين، ناسخاً اسوأ ما أنتجته العنصرية الاستعمارية الاوروبية. فهؤلاء السكان في سيرينيكا، والذي قدر التقرير عددهم ب ثلاثين الفاً، سوف يشكلون نفس العائق التاريخي الذي واجهته كل محاولات استيطان الاراضي التي تتسم بقلة عدد السكان الأصليين وبكونهم في الغالب بدو متنقلين. وفي العادة “فإن مثل هؤلاء البدو سرعان ما يختفون مع قدوم الحضارة، إذ يبحثون عن أراض جديدة للصيد تكون افضل وأكثر بعدا، وعليه فإن بدو سيرينيكا سوف يجدون في الجنوب مساحات واسعة للترحال اليها. أما حق ملكية الارض الذي يدعيه البدوي بسبب تمتعه بالتنقل فوقها فهو حق لم يُعترف به ابدا في التاريخ”. ثم يقترح زانغويل إمكانية إنشاء فرق عسكرية يهودية للدفاع عن المشروع الاستيطاني، ويقول “ليس هناك أي سبب يحول دون ان يجهز اليهود الروس كتيبة من اللاجئين تكون وظيفتها الدفاع الذاتي، اعتماداً على خبرة الألوف ممن شاركوا منهم في الحرب ولا زالوا يحملون ندوبها، وعادوا من جبهات القتال حيث المعسكرات المتجمدة في منشوريا”. 

تفاصيل مُذهلة في دراسة المنطقة

مكثت البعثة الاستكشافية عدة أسابيع في شرق ليبيا بعد أن وصلتها في يوليو 1909. ومسحت مناطق شاسعة في محيط برقة ودرنه وبنغازي، وعبر غريغوري في التقرير عن استغرابه لوجود عرب مستقرين وزراعيين، خاصة مع ندرة المياه في المنطقة، واشار الى ان المنطقة الخصبة الأنسب للاستيطان اليهودي هي القطاع الواقع إلى شمال الهضبة العالية الواقعة بين بنغازي ودرنه. يفصل التقرير في الحديث عن الثروات المعدنية في سيرينيكا وطبيعتها الجيولوجية ويشير إلى وجود الفوسفات، والى الطبيعة الصخرية للأرض، وكذلك الى وجود طبقات الحجر الجيري في تكوين أرض المنطقة. ثم يشير إلى أن اكثر ما خيب الآمال في الرحلة الاستكشافية هو ندرة المياه، والذي لا يعود بالضرورة للتبخر بقدر ما يعود الى طبيعة التربة المسامية وامتصاص طبقة الحجر الجيري لمياه الأمطار. ويورد غريغوري ان معدلات سقوط الأمطار في المنطقة تتراوح بين 350 إلى 500 ملم، وهو قريب من معدل الأمطار التي تسقط في اسبانيا وهنغاريا وجنوب روسيا. اما التربة فإن غريغوري يصفها بأنها خصبة وحمراء وغنية، وقابلة لزراعة محاصيل عديدة، وبأنها تنتمي بحسب ما قال خبير التربة وعضو البعثة، المستر تروتر، الى الصنف الأفضل من وجهة نظر الخبراء الزراعيين. ولكن، وهنا نلاحظ الدقة في الإختبارات، فإنه وبعد اخذ 13 عينة منها وفحصها ظهر أنها تعاني من قلة النيتروجين! ثم يفصل غريغوري وبالاستناد الى الفحوصات الجيولوجية لفريقه في نوعيات الأرض التي تم زيارتها، ويقسمها إلى صخرية، ومنحدرات، واراض زراعية وغابات، وهضاب، وأراض رملية، موزعا بالاميال المربعة نصيب كل قسم منها. ويُضمن هنا صوراً مقطعية للأرض توضح طبقاتها المختلفة وتفصيل مكونات كل طبقة. 

فشل مشروع توطين اليهود في شرق ليبيا وأوقفت المنظمة الإقليمية اليهودية جهودها في ذلك الاتجاه في ضوء تأكيد تقرير البعثة الاستكشافية على أن المشكلة الكبرى في استيطان المنطقة تكمن في ندرة المياه. أضيف الى ذلك تعقد الظروف السياسية ومنها الانقلاب التركي على السلطان عبد الحميد، وسيطرة ضباط تركيا الفتاة، وبروز خيارات أخرى مُحتملة للاستكشاف والتوطين اليهودي في أفريقيا وغيرها. 

The post وطن قومي لليهود… في ليبيا (سيرينيكا) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>