ظلت حرب حزيران 1967 جرحاً غائراً في وجدان الفلسطينيين والعرب. في ستة أيام فقط احتلت إسرائيل أراض هائلة لمصر والأردن وسورية، بما فيها سيناء والضفة الغربية وكل القدس وهضبة الجولان، وتضاعفت مساحة ما صارت تحتله إسرائيل إلى ثلاثة أضعاف ما كانته قبل الحرب. شكلت تلك الحرب، وجزء كبير من أسرارها ما زال قيد المجهول، فضيحة عسكرية وسياسية وقيادية بكل المعاني. كيف هُزمت ثلاثة جيوش عربية بمثل تلك السرعة المذهلة؟ ربما احتاجت الدبابات الإسرائيلية والمشاة ونقل العتاد، في وقت السلم فضلاً عن وقت تخوض فيه حرباً، إلى أكثر من ستة أيام لو أرادت تغطية تلك المساحات الشاسعة، والوصول إلى حدود قناة السويس والإطلال على دمشق، والتموضع فوق كل جبال الضفة الغربية وغور الأردن. قصة سقوط الجولان وحدها تذهب بالعقل إذ لا يمكن تخيل سقوط تلك الهضبة المنيعة من دون خيانات. على كل حال، ثملت إسرائيل بذلك النصر الذي فاجأها ودفع غطرستها وغرورها إلى حدود قصوى بكونها القوة التي قهرت كل العرب ولن يحلموا بهزيمتها.
هذه الأيام تذكرت تلك الحرب والتسمية اللئيمة والمُذلة التي تصر إسرائيل والأدبيات الغربية على استخدامها: “حرب الأيام الستة”، بدل حرب حزيران 1967، للتذكير الدائم بكسر الإرادة وللإبقاء على سيكولوجيا الهزيمة ضاربة العمق في الوجدان الجمعي العربي. هذه الأيام دخلت الحرب الراهنة يومها السادس والمدن الإسرائيلية تحت القصف، وتعليمات المقاومة تحدد ساعات حظر التجول. لأول مرة في تاريخ إسرائيل يجتاحها هذا الرعب من داخل فلسطين ومن قبل فلسطينيين. لن نخدع أنفسنا طبعاً ونقول إن ثمة نصراً عسكرياً كاسحاً يحدث، خاصة في ظل الإجرام الإسرائيلي الدموي ضد قطاع غزة ومدنييه. لكن هناك دروس انتصار عديدة لا يجب التقليل منها، أولها درس الكرامة الذي جاءت به حرب الأيام الستة الجديدة، حرب هبة القدس وسيفها.
هي الكرامة وانتعاش الروح النضالية التي انفجرت في كل فلسطين وفي بلدان اللجوء، تأييداً واندفاعاً احتاج الفلسطينيون أن يستنشقوا هواءها. اختنقنا من المذلة التي تلاحقت جولاتها: نظام أوسلو والتنسيق الأمني ومطاردة المقاومين، عربدة إسرائيل والمستوطنين في طول وعرض فلسطين والقدس، الخنوع العربي وارتماء المطبعين العرب عند أقدام إسرائيل، سيادة ثقافة الهزيمة “الواقعية” وقبول نفايات السياسات الأمريكية حتى لو كانت بمستوى وساخة “صفقة القرن”، الحصار اللاإنساني على مليوني فلسطيني في قطاع غزة، دوس حقوق اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا، وغير ذلك كثير. نتنياهو تبجح في أكثر من تصريح هذه السنة قائلاً بأن إسرائيل فرضت نفسها على العرب بالقوة، ولأنهم لن يقروا إلا بإسرائيل قوية.
وفجأة، انعكست عقارب زمن ما. سواعد ناس القدس وغزة والضفة والداخل تنصهر في معادلة فينيق سماوية البعد والأفق. ستة أيام وإسرائيل وجيشها وبحريتها وطائراتها الأكثر تقدماً في العالم وترسانتها الاستخباراتية على الأرض وفي السماء، لا تستطيع إيقاف صفعات مقاومة تلك السواعد التي أعادت للناس كرامتهم. هناك الكثير مما قد يُقال تقويماً لحسابات الربح والخسارة، لكن هذه الكلمات تتوقف هنا عند رمزية الأيام الستة وحسب.
الأيام الستة لقطاع غزة، أو لنسميه “قطاع المستحيل” رفعت سماء الذل التي هبطت علينا منذ عقود. سيزيف الفلسطيني يحمل السماء على كتفيه، يسطر ستة أيام لم تستطع فيها دولة الترسانة وشعب الجيش إلا أن يهرب إلى الملاجئ جراء ثورة اللاجئين. السواعد التي أمطرت إسرائيل بالصواريخ هي سواعد أولاد وأحفاد اللاجئين الذي اقتلعتهم إسرائيل من مدنهم وقراهم في فلسطين، ودفعتهم نحو غزة، وهناك حشرتهم في غيتو الاختناق. أرادتهم أن يموتوا، أن يبتلعهم البحر، أو أن يخنقهم ضنك الحياة. كسروا إرادة عدوهم، وجاءوا يمتطون سموات وطنهم عائدين إلى حيث غادر آباؤهم وأمهاتهم وأجدادهم. من حقنا في لحظة ارتفاع السماء هذه أن نحلق بكرامة حرب الأيام الستة الجديدة، وبعدها يخلق الله ما تنتقدون.