ثمة توق نحو “التحرر” يربط بين ثيمات هذا النص البديع ويرافق أحداثه وشخوصه. توقٌ يتبدى خجِلا حينا ويعلو صادحاً أحايين. لكن، نظلم النص والرواية والرّاوية إذا اختزلنا الكم الجمالي الكبير والمُمتع الذي يفيض به هذا العمل في مهمة التبشير برسالة ما، حتى لو كانت بمنزلة “التحرر”، لا يزعم النص أصلا التصدي لها. ما بين أيدينا سبك ينحتُ بتؤدة لوحة كثيفة لناس وأزمان وأمكنة سجلت تحولات عُمان والعُمانيين من زمن إلى زمن، ورصدت عبورا عسيرا نحو مجتمع حديث. يتشارك شخوص الرواية العيش في حيز جغرافي وقبلي وجمعي محدد يمحي فردانياتهم، فيتكور كل منهم في عالمه الخاص، المختلف وأحيانا المنفصل، يهيم فيه حالما أو طامحا أو حانقاً أو قانعا. المُشترك بينهم تغزله جوخة الحارثي ببساطة تُحاكي حياتهم القروية والبدوية، والمنفصل في حياة كل منهم تذهب به ومعه الحارثي إلى أبعد مدى، وصولا إلى الكواكب. تُحرره من قيود المشترك وتترك له تحديد أو عدم تحديد وجهته أنى شاء. في عيشهم المُشترك نراهم مُقادين بوطأة التقاليد وجبروت الانصياع لعادات متوارثة. في هيامهم الفردي نراهم بشرا آخرين، أكثر إنسانية، متحللين من قيود مكانهم وزمانهم واجتماعهم. يُناجي عاشقان منهم نجوما مُقمرة تتراقص، كما في ليالي الحب اللاهب بين عزان ونجية، متمددَين فوق رمل الصحراء عرايا إلا من ضوء النجوم، يبتسمان للجن حارس عشقهما الأمين.
نتحسس توق التحرر في ثنايا السرد والحدث وفي جوانيات الأفراد، نساء ورجالا، أحرارا وعبيدا، بل وأيضا شعبا وجماعة مهجوسين بتحرر وتحرير من السيطرة البريطانية قبل الاستقلال، وأيضا من سيطرة السلطان بن تيمور الذي أراد خنق الناس في سجن الأمية والتخلف. في الرواية، لم ترد لفظة أو ثيمة “التحرر” بالوضوح والمباشرة المُعبر عنها هنا، كما ليس ثمة أي منزع ادعائي به، أو حتى حنق متراكم بسبب غيابه، أو غضب على المتلكئين في إحداثه والمساهمة في إنجازه. جمالية هذا التوق للتحرر تكمن في نسجه العفوي في بنية السرد وبناء شخوصه، في قصص رائقة وجميلة ومريرة وتمثلات لشخصيات عادية وأخرى قلقة ومأساوية منتشرة على أفق زمني عريض يمتد على اتساع القرن العشرين، تتلاحق فيه ثلاثة أجيال بهدوء غير مُفتعل. الناس بالكاد تتغير وزمنهم يمر بطيئا وعادياً رغم سرعته خارجهم. في زمنهم، تنتقل التقاليد بثقة وعناد من أجيال تموت إلى أجيال تولد. يموت صانعو التقاليد (أو تقتلهم) وتبقى هي صلدة لا تلين. أو ربما نعتقد أنها تبقى صلدة وعنيدة، كما تخادعنا في ظاهرها، فيما هي تتفتت داخليا، تأكلها هشاشة مُتنامية ويفضحُ تناقضاتِها الزمنُ المُتبدل ذاته واختباراته التي لا تتوقف. انفتاح النص المحبوك بلغة شفيفة على تأويلات وتأملات عدة، وحكايا الناس العاديين الذين ترصدهم جوخة الحارثي بتلصص لذيذ وهم ينتقلون بين عوالم سريعة التحول على عكس زمنهم البطيء، هو أحد الإبداعات التي قادت الرواية للفوز بجائزة “مان بوكر” البريطانية الشهيرة سنة 2019 في صنف الروايات المُترجمة.
“العوافي”، مكان الرواية وأحداثها، قرية بسيطة قريبة من مسقط شهدت منذ عشرينيات القرن الماضي على التكوين الحديث للمجتمع والدولة العُمانيين، وظلت مشدودة إلى زمنها الخاص، تقاوم ما يشدها إلى زمن العاصمة مسقط بتحولاته السريعة. يروح ويجيء شخوص الرواية بين العوافي ومسقط، مشدودين إلى هنا ومشدودين إلى هناك، في ذات السيرورة التمزقية التي أنتجها التحديث العصي في مجتمعات ودول العرب والعالم الثالث. هذه هي الخلفية الأعرض لأحداث الرواية وناسها. التفصيل الأضيق فيه وجوه البشر وأسماؤهم وأنفاسهم وقصصهم الصغيرة. هنا في العوافي أناس بسطاء توارثوا العادات واللغة والأفراح والأتراح والتجارة والفقر والحب والعبيد من أجدادهم. ريشة الحارثي ترسم اللوحة الإجمالية للمكان وناسه في المسودة الأولى، ثم تعود مرة أخرى لتعمق خطوط نساء المكان، سيدات القمر، وتحدد ملامحهن فنتابع حركة الجميع على اللوحة الكبيرة، لكن مع أضواء خاصة مركزة، spot lights، تلاحق حركة النساء، وأدوارهن، وأحلامهن، وقمعهن، وتمردهن، وآهاتهن المكتومة. في “التشكيل النسوي” لسيدات القمر نرى الساكتة والصارخة، الخانعة والقوية، العاشقة واللامبالية، الحرة والعبدة، الأمية والمتعلمة. تُحركهن رفيقتهن جوخة الحارثي بعفوية من يبحثن من دون أن يدرين عن تحقق أسطورة القديمة للقمر الذي يعنون الرواية. تقول الأسطورة إن أبناء القمر كانوا جنسا واحدا، وخلقوا بأربعة أرجل وأربعة أيدٍ ورأسين ثم انفصل كل منهم إلى شطرين، وتاهت الأنصاف في الكون في رحلة أبدية يبحث فيها كل شطر عن شطره الذي يكمله (ص 176).
شخوص المكان يحومون حول التاجر سليمان وبيته وعائلته وامتداداته القبلية والصداقية، وحول بيت عزان وبناته وأهله وتفرعاته. التاجر سليمان هو أحد أعيان العوافي، ورث مهارة التجارة عن والده، وعنه أيضا ورث الصرامة والدقة وحصافة الإدارة العائلية، ومنها السطوة الدائمة على من حوله. أحد اهم الضحايا المباشرين لكل هذه الخصال كان ابنه عبدالله الذي ترعرع وكبر مسحوقا في ظل شخصية أبيه النافذة.
عزان رجل عادي بالكاد يشد الانتباه، وكذا زوجته العادية سالمة. دراما البيت، والرواية، تشتعل أكثر حول بناته الثلاث ميا وخولة وأسماء، عالم كل منهما يعج بتفاصيل صغيرة وحميمية. ميا تعلمت الخياطة باكرا فصارت مهربَ أيامها، تخيط وتحلم بالزواج من حبيب شبه خرافي، لم تنتظره طويلا وتزوجت من عبدالله، الابن الأكبر للتاجر سليمان وأنجبت منه طفلة أصرت على تسميتها لندن، تبعتها بسالم، ثم وليد آخر كبر وظل يعاني من التوحد. عبدالله شخصية باهتة مقارنة بوهج سيدات القمر، أحب ميا وتماشى مع رغباتها، وقبل حتى التسمية الغريبة لابنته، بما جر عليه تهكم وانتقاد رجال ونساء العوافي. كيف يقبل أن تتحكم به زوجته وتطلق هذا الاسم الأجنبي على وليدته؟ خولة تريد ابن عمها ناصر الذي سافر إلى كندا ليكمل دراسته، تحلم به يوميا، وتمضي ساعات طوال من يومها تتزين له أمام المرآة، أو تقرأ روايات عبير الرومانسية. لما عاد بعد فشله الدراسي وانقطاع منحته، تزوج خولة حسب وصية أمه التي أخذ ما ورثه عنها، ثم سافر بعد أسبوعين وعاد إلى مونتريال، إلى صديقته الكندية. أسماء تعيش في عالم مختلف، تطالع كتبا تراثية وتولع بها، تقرأ الشعر العمودي وتحفظه، ولأن رغبة الأمومة تعصف بها فقد وافقت فورا على الزواج من خالد ابن عيسى المهاجر في مصر، ومنه أنجبت أربعة عشر ولدا وابنة. نعرف أن عيسى هرب من عُمان بعد فشل الثورة ضد السلطان السابق الذي دعمه الإنجليز، ولم يعد إلى عُمان إلا بعد العفو العام مع السلطان الجديد.
يبهت الرجال هنا، وتلمع النساء. خالد زوج أسماء يهرب إلى الرسم حتى يتخلص من خيال أبيه عيسى المهاجر إلى مصر بعد حرب الجبل الأخضر وحيث سكن فيها عقودا. خالد عاش ذكريات أبيه الذي ظل يعيش بدوره تاريخ أجداده الذين ناضلوا ضد البريطانيين والوهابيين. جده الأكبر، منصور بن ناصر، كان من بين الفرسان الذين حاربوا مطلق المطيري قائد غارات الوهابيين المتكررة على عُمان، وشارك في الواقعة الشهيرة التي تمسك خلالها العُمانيون بسيوفهم حتى تيبست أيديهم مع حلول الليل، و”أعلنت النساء عبر الغناء أنهن نقعن الأيدي المحاربة في الماء حتى أفلتت السيوف” (ص 192). كان عيسى فخورا بأبي مسلم البهلاني الشاعر العُماني الذي برأيه لا يقل أهمية عن أحمد شوقي، وهو أيضا من أسس أول جريدة عُمانية في مطلع القرن العشرين، أسماها النجاح وأصدرها من زنجبار حيث كان يعيش (ص 193). كان خالد يستمع إلى بطولات أبيه وأجداده فيتقزم هو. حفظ عن ظهر قلب تفاصيل حرب الجبل الأخضر ضد الإنجليز والسلطان بن تيمور المُتحالف معهم في أواسط خمسينيات القرن الماضي. طمعِ الانجليز في النفط المُكتشف حديثا في الأراضي العمانية الداخلية، فنقضوا اتفاقية السيب (1920) التي منحتهم الساحل العماني فيما منحت الداخل للعُمانيين ودولة الإمامة الخاصة بهم. خاضت القبائل العُمانية حرباً قاسية تحت قيادة الإمام غالب الهنائي، لكن ما كان لهم أن ينتصروا ضد قوة البريطانيين وطائراتهم. سيطر الإنجليز والسلطان بن تيمور الذي حظر المدارس على العُمانيين حتى لا يتعلموا ثم يثورون عليه.
عبدالله وخالد وأحمد المتثاقف الأرعن حبيب لندن، وحتى محمد شقيقها المُتوحد، باهتون. عزان قبلهم كان باهتا أيضا. لم تردعه رصانته الظاهرية ولا تدينه عن الوقوع في غرام نجية، سيدة سيدات القمر، تعيش في الصحراء، قوية وباذخة الجمال، مُتحررة يرغبها الجميع ويخشونها، فيما هي تشتهي عزان وحده وتريده خليلها، فكان. قصة الوله والعشق هذه هي واحدة من ذرى النص. نجية، من نسي الناس اسمها ونادوها بالقمر لفرط جمالها، تملك ذاتها وماشيتها ورعيها وصحراءها. مثالٌ مجبول برمل المكان ينبض بالحياة لـ “تمكين المرأة” قبل أن يُستورد هذا المصطلح الحديث من الخارج ويُتبجح به. نجية هي التي أحبت عزان وقالت لصديقتها “أريده وسأحصل عليه”. ولما ذكّرتها صديقتها بأنه متزوج ولن يترك زوجته سالمة ابنة الشيخ مسعود من أجلها، ردت عليها: “من قال لك أني أريد أن أتزوجه؟ القمر لا تُؤمر أحدا عليها… أنا لم أخلق لأخدم رجلا وأطيعه… عزان سيكون لي ولن أكون له، سيأتيني حين أشاء ويذهب حين أشاء… منذ رأيته في الرمسة مع الرجال وأنا أعرف أن هذا الرجل سيكون للقمر… لم يخلق الرجل الذي يرفضني بعد…”. عندما فاجأته ذات ليلة وهو عائد مشيا إلى العوافي وسألها من أنت وماذا تريدين، نظرت مباشرة في عينيه وقالت “أنا نجية وأُلقّبُ بالقمر وأريدك انت” (ص 38-40).
ظريفة “العبدة” هي الأخرى إحدى نجوم القمر في الرواية، حضورها بديع، مختلف ومتناقض. اشتراها سيدها التاجر سليمان سنة ١٩٤٢ وهي في يفاعة عمرها، ابنة ستة عشر عاما. أحبها وتزوجها، فتحولت العبدة إلى حبيبة وزوجة وخليلة وسيدة قلب سيدها. لكن الزمن أعادها إلى حيث كانت حين غضب عليها السيد فطلقها وزوجها إلى واحد من عبيده، حبيب، الذي أنجب منها ابنها الوحيد سنجر. ترعرع هذا الأخير في بيت سيدها، فنشأ عبدا مثلها يخدم السيد وأبناءه، لكن اشتعلت في داخله نار التمرد التي ورثها عن أبيه حبيب الذي كان قد أستُرق وهو صغير ورفض أن يقر بأن هذه البلاد بلاده وأن أهلها أهله، كما كانت ظريفة تردد لإقناعه.
ظل كثيرٌ من العبيد يعيشون في ظل أسيادهم حتى بعد أن أصدر السلطان قرار منع الرق وتحريرهم سنة ١٩٢٤. لكن حبيب هاجر وحاول أن يقنع ظريفة بمرافقته مع ابنهما سنجر، مُكررا لها أنهما أحرار رسميا. رفضت ظريفة، احتفظت بسنجر ابنها، وجادلت زوجها كيف “نترك أرضنا وبلادنا وبلاد أهلنا وأجدادنا لأرض غريبة، ما نعرف ناسها ولا أولها ولا آخرها” (ص ١١٠). سنجر كبر وتمرد وترك أيضا أمه ظريفة وهاجر إلى الكويت، ليعيش حراً كما كان يقول لها، رافضا أن يفني حياته عبدا. كانت ثقافة الأسياد المتوارثة تحظر على العبيد إطلاق أسماء “الأحرار” على أبنائهم، لكن سنجر يتوعد بالدوس على هذا التقليد، ويعد بأن يسمي أولاده أحمد وعلي ومحمود. ظريفة كانت “حرة” في حياتها أكثر من “الحرات” من سيداتها، تذهب حيث تشاء، وتفرح وقت تشاء، ترقص، تخالط الجميع، لا تحسب حساب أحد. وكذا كن بنات “العبدات” يرقصن ويركضن من دون قيود أو حدود، فيما تراقبهن بنات “الحرات” المقيدات بالعادات بشغف وغيره مكبوتين (ص ١٤٨). زواج بنات عزان الثلاث كان في جزء منه، وعلى تواضع نجاحات زيجاتهن، تحررا من إرث القيود والعادات (ص ١٤١).
سيرورة التحرر في مسيرة سيدات القمر أسرع منها في مسيرة ذكور العوافي ومسقط. عبدالله ظل أسير صورة أبيه ونقده وسطوته حتى بعد مماته. صار أيضا يتصرف مع ابنه وابن ميا (سالم) كما كان يتصرف معه والده. كأن الأجيال تنجب ذاتها، والزمن البطيء بالكاد يسمح لجديد ما باحتلال أي مساحة في الحياة. عندما ماتت ظريفة حزن الجميع، ليس فقط على موتها كأم لهم، بل لأنها ماتت في مستشفى وحيدة بعدما كانت مُحاطة بأبناء وأحفاد التاجر سليمان الذي مات قبلها. عبدالله حلم بأبيه يؤنبه ويدليه في بئر عميق ويتركه هناك لأنه انشغل في مسقط عن ظريفة وموتها، وعبدالله يرجوه في الحلم “ارفعني، لن أترك ظريفة، حبيبتك، أمك، ابنتك، عبدتك، سيدتك، تموت وحيدة في مستشفى منسي” (ص 152).
للقمر سيدات أخريات نسجت حكاياهن جوخة الحارثي في نصها الحميم. تناسلت كل منهن من أمهات وجدات نجدُ أثرهن هنا وهناك بين السطور، أو تناسل عنهن بنات وحفيدات حملن القصص إلى نهايات القرن العشرين، ودلفن في الألفية التي تلت. منهن حفيظة التي حبلت في عمر السابعة عشرة وأنجبت مولودة سمراء، لم تعرف من كان أباه بالضبط من بين عدة رجال وأقعوها. بعد سنتين حبلت حفيظة مرة أخرى ووضعت ابنة بيضاء، ولم تكن متأكدة من أب المولودة أيضا، عاقبوها. لكن بعد ثلاث سنين ولدت ابنتها الثالثة، وكانت هذه الأخيرة، إذ اهتدت بعدها إلى حبوب منع الحمل. خلال رحلتها متعددة الرجال والولادات كان حفيظة قد حظيت بلقب “باص الشعب”! جُلدت مرة، وسُجنت مرة، لكنها لم تُقتل وظلت حرة!
سرحت بنا جوخة الحارثي وسط الأقمار التي أبدعت صنع وجوهها بتمهل، تاركة غموضا هنا أو هناك، ثم دلفت بنا، يسبقنا الشغف إلى النهاية، إلى بوابات الأسطر الأخيرة في الرواية لنعرف القفلات الختامية للحكايات. هناك في نهاية النص يكتمل ما ظل غير مكتمل من أسئلة، ويدور النص ببراعة ومهارة دورة كاملة على ما سبق من حكايا فنعرف مثلا كيف ماتت أو بالأحرى قُتلت أم عبدالله على يد عمته القوية، وكيف غرق زيد، وكيف انكشفت للناس قصة عشق نجية وعزان. لكننا لا نعرف، أو لا تريد لنا الحارثي أن نعرف، مآلات أنصاف الأقمار التي ظلت مفتوحة تسبح في الكون باحثة عن أنصافها الأخرى.