فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي بين سنوات 1933 و1945 كان يريد أنغولا وطنا لليهود وملجأً يهاجرون إليه وليس فلسطين، وروزفلت كان اقل الرؤساء الأمريكيين حماسا للصهيونية ورأى أن مشروعها في فلسطين سوف يعرض مصالح وعلاقات أمريكا مع العالم العربي للخطر. وإلى سنة 1939، أي بعد تغول المشروع الصهيوني في أرض فلسطين بشكل كبير تحت الرعاية البريطانية، وفكرة إقامة وطن قومي لليهود في منطقة اخرى من العالم غير فلسطين كانت ما تزال قائمة وقوية، كما تشير كثير من الوثائق والسجلات. وقد تعاظم الاهتمام بمسألة البحث عن جهات يهجر إليها اليهود في آخر ثلاثينيات القرن الماضي بالتوازي مع صعود النازية في المانيا وأوروبا.
في 14 كانون ثاني 1939 وجه روزفلت عبر وزير خارجيته، كورديل هال، رسالة إلى سفيره في لندن جوزيف كنيدي لإيصالها للحكومة البريطانية تتضمن معلومات وأفكاراً مُثيرة وغير معروفة بالقدر الكافي عن رأي روزفلت تجاه مشكلة يهود شرق أوروبا والجهة المُثلى التي يمكن أن يرسلوا إليها، في ضوء تلاحق الاخبار حول اضطهادهم المتصاعد من قبل ألمانيا النازية وتسببْ ذلك في هجرات كثير منهم. خشيت الولايات المتحدة ومعها بقية دول أوروبا الغربية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، …) ان يتجه سيل الهجرة اليهودية الى حدودها، وأصدرت قوانين تمنعهم عملياً الوصول إليها. مقابل ذلك نشطت تلك الدول جميعها من خلال ما عُرف آنذاك ب “لجنة عبر الحكومات للاجئين” Intergovernmental Committee for Refugees، التي تأسست في أعقاب مؤتمر إيفان في فرنسا في شهر يوليو 1938، لتأمين مناطق استقبال لهجرات يهود أوروبا الشرقية. عملت هذه اللجنة على إيجاد حلول وقائية سريعة لكنها فشلت. وقبيل أحد اجتماعاتها في لندن، قدم سومر ويلز، وكان وزير دولة للشؤون الخارجية في أمريكا، توصية للرئيس روزفلت بتبني اقتراح فتح انغولا أمام الهجرة اليهودية المتزايدة بسبب معاداة السامية في ألمانيا وأوروبا الشرقية، وارفق له مسودة رسالة تحمل هذه الفكرة لإرسالها للسفير البريطاني في لندن وطرحها على السياسيين هناك. ويبدو أن روزفلت قد اعتمد تلك التوصية كما تُظهر ارشيفات وزارة الخارجية الامريكية، إذ بالفعل وجه رسالة الى سفيره في البلاط البريطاني وفيها يشير الى ما رآه المسألة الملحة التي تواجه جماعات مختلفة دينيا في شرق ألمانيا وشرق أوروبا، مُوضحا بأن الجماعة المقصودة الأهم هنا هي يهود القارة. ثم يفصل في رأيه بأن الحل الافضل هو توجيه هجرات اليهود إلى أفريقيا، وتحديدا الى انغولا. وهنا ترجمة لأهم ما جاء في تلك الرسالة الطويلة:
“… إنني مقتنع بأن حل مشكلة (يهود) المانيا وكذلك اوروبا الشرقية يتطلب اقامة وطن يهودي قادر على استيعاب هجرة يهودية غير محدودة وكبيرة. وهناك شك في قدرة فلسطين على استيعاب تدفق مثل هذه الهجرات والمحافظة عليها حتى لو تم تجاوز العقبات السياسية، وهذا يدفع للبحث عن مناطق محتملة اخرى في العالم. … هناك عدة مقترحات قُدمت بشأن هجرة استيطانية واسعة في مناطق مثل كاليفورنيا الدنيا، ومدغشقر، والغينيتين، لكن احتمالات الاستيطان في هذه المناطق لا تبدو كافية للقول بأن اقامة وطن يهودي في اي منها سوف يكون عملياً (ولا يفسر لنا روزفلت لماذا لم يكن عملياً مثلا إقامة مثل هذا الوطن في كاليفورنيا او أي منطقة أخرى في الولايات المتحدة!). ومن مناطق العالم الاقل تقدما توفر افريقيا الأمل لتنمية مستقبلية ومعقولة لاستيعاب عدد كبير من السكان. ومن ضمن المناطق المناسبة لاستعمار ابيض كبير في افريقيا، تقدم أنغولا المكان الافضل بما لا يقاس من ناحية الفرص المادية والمناخية والاقتصادية. … إن إقامة وطن يهودي في انغولا كانت قد بُحثت بقوة في سنوات ١٩١٢ و١٩١٣، وثمة قانون استعمار يهودي بشأن أنغولا وافق عليه بالإجماع مجلس النواب البرتغالي سنة ١٩١٢. وحقيقة أنه لم يتبلور شيء عملي عن ذلك المشروع تُعزى إلى عدة أسباب منها غياب التنظيم الكافي واندلاع الحرب العالمية، لكن لم يكن هناك أي شك إزاء صلاحية الأرض التي استهدفت. انني اعتقد ان المشكلة الحقيقية للاجئين اليهود من المانيا وتهديدات مشكلة الهجرة غير الطوعية اليهودية من البلدان الاوروبية الاخرى تتطلب جهدا سباقا وجديا لخلق وطن بديل لهؤلاء الناس”.
الجهود التي أشار اليها روزفلت في رسالته إزاء محاولة الاستيطان اليهودي في انغولا تعود بداياتها الى سنوات ١٨٨٦ و١٨٩١ (اي قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا بأكثر من عقد من السنوات)، ثم تجددت سنة ١٩٠٧، لكنها عادت وتبلورت على شكل مشروع فعلي وجدي سنة ١٩١٢. استندت تلك الجهود إلى إمكانية إغراء البرتغال بأن وجود اليهود في انغولا سوف يعزز من السيطرة الكولونيالية على ذلك البلد، ويساهم في تنميته، كما يتيح للبرتغال، اخلاقياً، تعويض اليهود عن ما اقترفته البرتغال ضد يهودها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر عندما تم طردهم، أو فُرض على من بقي منهم التحول للمسيحية الكاثوليكية (حين أصدر الملك مانويل سنة ١٤٩٧ قانونا ينص على طرد اليهود او تحويلهم قسريا إلى المسيحية).
كانت انغولا في العقد الأول من القرن العشرين ما تزال مستعمرة برتغالية، بيد أنها احتاجت إلى سكان بيض واستثمارات واستصلاح أراض مما تجاوز قدرة البرتغال المالية على توفيره آنذاك. ومن هذه الثغرة بالذات والحاجة البرتغالية الكولونيالية إلى تثبيت وجودها في انغولا من كافة النواحي وخاصة الاقتصادية والسكانية، رأى بعض الصهاينة فرصة تلوح في الأفق. على ذلك، لقيت المُقترحات الخاصة بتهجير وتوطين اليهود في أنغولا آذانا صاغية واستحساناً في الدوائر السياسية البرتغالية خاصة مع ما رافقها من وعود بأن الرساميل اليهودية في أوروبا سوف تساهم بفعالية في هذا الاستيطان. تبلورت تلك المقترحات في مشروع قُدم إلى مجلس النواب، تم اقراره بشكل شبه جماعي وفي وجه اقلية معارضة في شهر يونيو 1912، مُترجماً الفكرة الاساسية في المقترح وهي السماح بهجرة يهودية جماعية إلى أنغولا والاستيطان فيها. فصل المشروع أيضا في آليات الاستيطان ونوعية المهاجرين ومساحة الأرض التي تُمنح لكل عائلة وضرورة استثمار تلك الأرض زراعياً ثم مضاعفتها في حال نجاح الاستثمار، إضافة إلى منح الجنسية البرتغالية للمهاجرين.
مسار دبلوماسي ومسار ميداني استكشافي
في أعقاب التقدم الايجابي الكبير والقبول الاولي من قبل الحكومة البرتغالية للفكرة بشكل عام، نشطت القيادات الصهيونية على مسارين شبه متوازيين، الأول سياسي دبلوماسي، والثاني ميداني استكشافي. استهدف المسار الأول تفعيل وتكثيف المفاوضات مع الحكومة البرتغالية والضغط عليها لترجمة المشروع على الأرض بالكيفية التي تريدها المنظمة الإقليمية. ولهذا الغرض وصل إلى لشبونه وفود عديدة من أفرع المنظمة من أوروبا قبل شهر من التصويت على القانون، وعلى رأسهم إسرائيل زانغويل رئيس المنظمة اليهودية الإقليمية نفسه. والمسار الثاني ميداني استقصائي يقضي بإرسال بعثة علمية تستكشف المنطقة المُستهدفة بالاستيطان، وهي هضبة بنغيولا المشاطئة للمحيط الأطلسي، ذات الموقع الاستراتيجي والمساحة الشاسعة، ٤٥ الف ميل مربع، أي أكثر من ضعف مساحة فلسطين التاريخية.
كان مُقترح الاستيطان اليهودي في أنغولا هو الموضوع الأهم في المؤتمر السنوي للمنظمة اليهودية الاقليمية الذي انعقد في فيينا في حزيران 1912، وحضره أكثر من ثمانين وفد وخمسمائة عضو. وناقش المؤتمر التفاصيل المختلفة للقانون البرتغالي بشأن الاستيطان اليهودي في انغولا بتوسع وتفصيل، ثم قرر في نهاية المطاف رفض المشروع بسبب عدم قبول البرتغال منح اليهود المُقرر تهجيرهم الى هناك حكماً ذاتياً في المنطقة. وقد استقبل هذا الرفض في الدوائر السياسية في لشبونه وفي أوساط اليهود النافذين فيها والمؤيدين للقانون بغضب شديد. والمثير في الأمر هنا هو إصرار المنظمة ورئيسها زانغويل على مسألة الحكم الذاتي، في الوقت الذي وفر فيه عرض الحكومة البرتغالية حلا عمليا وسريعا لما كانت المنظمة تدعي انها تريد الوصول إليه وهو إنقاذ يهود روسيا من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له. يجب ان يُشار هنا أيضا إلى أن ردود فعل وآراء السكان الاصليين في أنغولا لم تحظ بأي اهتمام جدي وحقيقي، كما هي الحالة في معظم المحاولات الاستعمارية. وليس هناك في الأدبيات الخاصة في مشروع توطين اليهود في أنغولا إلا أقل القليل عن تلك الردود سواء التي كانت قد صدرت أو تلك المُتوقعة في حال تنفيذ المشروع.
الى جانب المسار الدبلوماسي، اشتغلت المنظمة اليهودية الإقليمية على مسار ثان ميداني وعملي يهدف إلى استكشاف منطقة هضبة بنغيولا وتقديم دراسة مُفصلة حول ملاءمتها لتوطين اليهود فيها، من النواحي الزراعية وخصوبة الاراضي، والمناخ، والامراض، وتوفر المياه، وسوى ذلك. ولهذا الغرض نظمت المنظمة بعثة علمية في يوليو ١٩١٢، ترأسها البروفسور والخبير الجغرافي جون وولتر غريغوري، أستاذ الجيولوجيا والمساحة في جامعة غلاسكو في اسكتلندا آنذاك. غريغوري كان أهم الجغرافيين والاستكشافيين الكولونياليين البريطانيين، وقد اشرف على اكثر من ثلاثين بعثة استكشافية كولونيالية في العالم، وكتابة تقاريرها المفصلة عن المناطق التي درسها ومن ضمنها تقريرا عن صلاحية منطقة شرق ليبيا للاستيطان اليهودي سنة ١٩٠٩ أنجزه لصالح نفس المنظمة. وبالفعل وصلت البعثة الاستكشافية، التي كانت الحكومة في لشبونه على معرفة بمهمتها وشجعتها، ميناء لوبيتو في انغولا في شهر آب ١٩١٢ ومكثت في المنطقة ما يُقارب الشهرين، وكتبت تقريرا طويلا ومفصلاً غطى كل الجوانب التي كانت محط اهتمام المنظمة اليهودية وقادتها.
فصول التقرير واجزاؤه المختلفة مليئة بالتفاصيل التقنية والجغرافية والمناخية بشكل مُدهش، وليس ثمة إمكانية هنا لإيراد ولو جزء بسيط منها. لكن وباختصار شديد، تناولت تلك التفاصيل معظم جوانب الحياة الخاصة بالهضبة الانغولية، ووصف طبيعتها الجغرافية، ونوع تربتها، ومناخها، وصلاحيتها للزراعة، وتوفر المياه فيها، وقلة عدد سكانها، وموقعها بالنسبة لانغولا بشكل عام، ثم افريقيا عموما خاصة مع مشروع مرور خط سكة الحديد الاستراتيجي عبرها والذي ينطلق من مينائها على المحيط الأطلسي ويتواص إلى قلب القارة الافريقية. كانت الأسئلة الاساسية المُناط بالبعثة ورئيسها الإجابة عليها علميا وبناءً على دراسة ميدانية تتعلق بأمرين حيويين الاول صلاحية المنطقة للإستعمار الاوروبي الابيض، والثاني خلوها من الأمراض القاتلة والتأكد من أن قلة السكان في المنطقة لا تعود إلى وجود اوبئة مستوطنة. قدم غريغوري في التقرير اجابة مشجعة وايجابية على كلا السؤالين مؤكدا صلاحية المنطقة لاستعمار الرجل الأبيض (ومن ضمنه اليهود)، وخلوها من أية أوبئة فتاكة ونفى اي علاقة بين قلة عدد السكان فيها ووجود أية أمراض وبائية. وذكر في التقرير بشكل مُلفت، وفي سياق المقارنة، ان “أرض انغولا افضل بشكل قاطع من فلسطين … ولا استطيع التفكير بأية منطقة اخرى يمكن ان توفر فرصا افضل … تستجيب لطموحات المنظمة اليهودية الإقليمية”. وقد تضمن التقرير حلولاً لأية مشكلات متوقعة سواء مع “الأقلية” الأنغولية من السكان الأصليين، أو أية مشكلات استثمارية واقتصادية. وبالنسبة للسكان الأصليين فقد اقترح تقديم “هدايا” لرؤساء القبائل لشراء سكوتهم ومباركتهم لمشروع الاستيطان. وأشار غريغوري الى ان عدم قدرة البرتغال اقتصاديا على تنمية المنطقة سوف يسهل عملية الحصول على الأرض لتنميتها من قبل المهاجرين اليهود.
انتعشت آمال المنظمة الاقليمية بعد حصولها على تقرير غريغوري ورأت فيه أداة لتجديد محاولة اقناع الحكومة البرتغالية بتعديل قانون الاستيطان اليهودي، واتاحة المجال لمشاركة المنظمة في إدارة المنطقة، واضافة بعد البنود التي تتيح ولو مستقبلا تبلور نوع من الحكم الذاتي لليهود فيها. إلا ان حكومة لشبونة ظلت على موقفها إزاء حتمية سيطرتها على آليات تنفيذ الاستيطان وعدم السماح ل “دولة داخل الدولة” بالنشوء. وقد ادى ذلك الموقف في نهاية الأمر إلى فشل مساعي المنظمة الاقليمية في الحصول على هضبة بنغيولا الأنغولية، والبحث عن مكان آخر في العالم.