أنور حامد - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/267rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:26 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png أنور حامد - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/267rommanmag-com 32 32 “الواقع” و”الواقعية” وتوقعات مشوشة من الروائي العربي https://rommanmag.com/archives/20655 Fri, 08 Oct 2021 15:44:34 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%82%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%82%d8%b9%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d9%88%d9%82%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d8%b4%d9%88%d8%b4%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84/ شهد المجتمع الفلسطيني (والعربي بشكل عام) تحولات جذرية في الثلاثين سنة الماضية أدت إليها عدة عوامل ، لعل أهمها انهيار المنظومة الاشتراكية، وقبلها انتصار الثورة الإيرانية في مقابل فشل المشروع اليساري والعلماني العربي. أدى ذلك إلى مظاهر واضحة وأخرى أقل وضوحا. من الظواهر الواضحة انتشار التدين وما يترتب عليه من مظاهر شكلية وعملية (الحجاب والنقاب) وانحسار […]

The post “الواقع” و”الواقعية” وتوقعات مشوشة من الروائي العربي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
شهد المجتمع الفلسطيني (والعربي بشكل عام) تحولات جذرية في الثلاثين سنة الماضية أدت إليها عدة عوامل ، لعل أهمها انهيار المنظومة الاشتراكية، وقبلها انتصار الثورة الإيرانية في مقابل فشل المشروع اليساري والعلماني العربي.

أدى ذلك إلى مظاهر واضحة وأخرى أقل وضوحا. من الظواهر الواضحة انتشار التدين وما يترتب عليه من مظاهر شكلية وعملية (الحجاب والنقاب) وانحسار مظاهر الحياة اللادينية التي كانت تميز معظم المجتمعات العربية في ستينيات القرن الماضي  حتى نهاية الثمانينيات. قبل ثلاثين عاما كان شرب الكحول غير مقبول اجتماعيا في القرى والمدن الصغيرة، لكنه كان يباع في محلات البقالة في نابلس مثلا.

أما ظاهرة مراقبة سلوك الآخرين ومحاولة التدخل به (يصلي، يصوم في رمضان، يرتدي البنطلون القصير (الشورت)، محجبة، منقبة، حاسرة الرأس…إلخ…) فهي بدورها حديثة. في بلدتي ذات البضعة آلاف نسمة كان هناك مسجد واحد في الستينات، وكان كافيا لاستيعاب المصلين، الآن هناك أربعة مساجد تقام فيها الصلاة عبر مكبرات الصوت. توازيا مع هذا التغير المظهري يمكن ملاحظة الشي ذاته في المظاهر الثقافية.

“ما تبقى لكم”

العنوان هو في الأصل لرواية قصيرة (نوفيلا) لغسان كنفاني، واستعرته لسبب. الحديث هنا عما تبقى من ثقافة اليسار (بعد هزيمته كمشروع سياسي). مع انتقال المشروع الديني (الإسلام السياسي) إلى الواجهة لوحظ انحسار المظاهر الثقافية في حياة المجتمعات العربية. على مدى ما يقارب عقدين من الزمان اقتصرت الكتب المتداولة على الكتب الدينية بمستوياتها وأشكالها المختلفة: من الخرافات إلى كتب التنظير السياسي ذي الطابع الديني إلى الأدب ذي الطابع الديني.

في السنوات العشر الأخيرة شهدنا انتعاشا تدريجيا لقراءة الأعمال الأدبية. لا يزال توزيع الكتب متواضعا لدرجة محزنة، حيث تطبع معظم دور النشر العربية ألف نسخة للكاتب المنتشر، إلا في حالات استثنائية جدا، كفوز الرواية بجائزة أدبية ما، عندها يقبل القراء على شرائها، لكن القراءة انتعشت مع ذلك، وانتعشت معها سوق الكتب الموازية، كدور النشر السوداء (التي تطبع الكتب من وراء ظهر المؤلفين)، وتلك التي تروج نسخا إلكترونية من الكتب على الإنترنت.

وكما حصل مع اليسار على مستوى المظهر، حيث حاول المحافظة على وجوده باستعارة “مظهر” الآخر، فاصبحت تجد ماركسية محجبة، وماركسيا يصلي الأوقات الخمسة في الجامع، حصل الشيء ذاته على مستوى الثقافة، لكن بشكل موارب.

ولدت مفاهيم أدبية (أخلاقية) الطابع، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي،  تقيم العمل الروائي بناء على مدى التزامه بالمعايير “الأخلاقية” السائدة، سواء بمفهومها الضيق أو الأوسع قليلا.

نشأت ظاهرة “نوادي القراءة”، وهي مجموعات من الأشخاص المهتمين بالأدب، يقرأون أعمالا أدبية ويناقشونها معا، وأحيانا يدعون أحد المؤلفين لمناقشة عمل من أعماله. حين النظر إلى هذه الظاهرة على السطح فقد نشعر بشيء من التفاؤل، لأن القراء أخيرا كسروا احتكار الكتب الدينية، ولكن حين نتعمق قليلا في الظاهرة يتراجع تفاؤلنا.

ما تبقى من ثقافة “اليسار” هي قشور المفاهيم السياسية والأيديولوجية، وهذا واضح في كل مظاهر الواقع الأدبي: توجهات النقد الأدبي السائد، طريقة تعاطي القراء مع العوالم الروائية ومحاكمة المبدعين أخلاقيا.

لا أدري إلى أي مدى يقرأ القراء الجدد أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وحنا مينه وغيرهم، لكن من الواضح أن المفاهيم النقدية التي يطبقونها على الأعمال الأدبية الحديثة النشر اختزلت الأدب بكونه نتاجا سياسيا بالمفهوم الضيق جدا للسياسة. كل الكتابات الروائية لنجيب محفوظ هي كتابات سياسية، لكن مفهوم السياسة عنده بالطبع لا يعني “الوعظ” الشعاراتي والأخلاقي.

يرى الكاتب غالي شكري أن نجيب محفوظ كان “الحزب السياسي الفاعل الوحيد” في عهد عبد الناصر. طبعا الإشارة هنا إلى المضامين السياسية لرواياته، وتجدها فيها كلها تقريبا. لكن “السياسة” في أدب نجيب محفوظ  لا تتخذ الشكل المباشر الذي يتوقعه قراء اليوم. السياسة نجدها في عمق الفكرة وتصوير الشخصيات.

في “التعاطي الحديث مع الأعمال الروائية أصبح هناك خلط مؤلم للمفاهيم، ناتج عن التأويل السطحي لها، وهذا أنتج مفاهيم متناقضة. من جهة يعتقد بعض النقاد أن رواية ما “شعاراتية بامتياز” إذا كانت بعض شخصياتها ممن يرددون الشعارات، و”غير واقعية” إذا كانت تصور واقعا يختلف في ملامحه عن “واقع الصالونات”، أي ما نرغب باستعراضه أمام الغرباء بفخر واعتزاز.

لا يمكن أن يكون أولئك قد قرأوا ثلاثية نجيب محفوظ، حيث تسير فيها مظاهرات حاشدة تردد الشعارات، وتحتدم النقاشات بين شخصياتها التي تستعرض توجهها السياسي بل وانتماءها الحزبي في الحوار، لكنها هنا جزء من تصوير المشهد العام.

وفي نفس الوقت يعبر محفوظ عن رؤية سياسية بطريقة مواربة، من خلال قصة حب مثلا، أو التفاصيل الدقيقة لحياة عائلة. السياسة عنده ليست معادلة لمشاط الأحزاب والتنظيمات وترديد الشعارات، بل هي تنعكس في نمط حياة الناس، موقعهم في المشهد الاجتماعي، مظالمهم، انتهازيتهم، تضحياتهم الإنسانية  .

في الواقع الفلسطيني (وربما العربي) يحاكم قراء نوادي القراءة (والكثير من النقاد) الأعمال الروائية بروح “الشعارات السياسية والأخلاقية” المباشرة، وفي نفس الوقت إذا صادفوا شخصية تردد شعارات سياسية (كجزء من ملامحها الأصيلة) يعتقدون أن الرواية “شعاراتية”.

هذا الاستسهال وتبسيط المفاهيم النقدية ناجم عن “تأميم النقد” الذي صاحب بداية تعافي عادة القراءة. أصبح “النقد الأدبي” مشاعا يعتقد الجميع أنه من اختصاصهم، ويتداولونه بثقة بالغة بالنفس.

“بناتنا مش هيك”

من المظاهر التي نجمت عن “مشاعية النقد” التأويل (السياسي) و (الأخلاقي) المباشر للعمل الروائي. قبل أيام استضافني أحد نوادي القراءة الفلسطينية لمناقشة أحدث رواياتي. غالبية من تحدثوا حاكموا العمل محاكمة “أخلاقية-سياسية”. اعترض البعض على أن فتاة تنتمي لتنظيم يساري تقيم في الرواية علاقة جسدية مع حبيبها. “بنات اليسار مش هيك” اعترضت إحدى المتحدثات بغضب.

ولكن ما هو الذي تعترض عليه القارئة “اليسارية” ؟ هل هو جانب تقني ؟ مصداقية في التصوير الروائي” هشاشة في رسم ملامح الشخصية ؟ افتقار الشخصية للإقناع ضمن مرجعها السردي الذاتي؟

كل هذا مشروع، وليس للروائي أن يعترض عليه. القارئ هو من يقرر إن كانت الشخصية بملامحها وسلوكها قد أقنعته أم لم تقنعه. لكن الاعتراض جاء على “السلوك غير الأخلاقي للشخصية”. لا أدري كيف أفكك هذا التعبير “السلوك غير الأخلاقي”. شخص يساري يرى في علاقة حب بين شخصيتين “سلوكا غير أخلاقي”. هذا من جهة. ومن جهة أخرى: حتى لو كان السلوك غير أخلاقي، هل يحظر علينا أن نصور سلوكا غير أخلاقي في أعمالنا الأدبية ؟ هل يفترض أن تكون رواياتنا استعراضا لأخلاقيات المجتمع ؟ متى نشأت هذه المفاهيم النقدية ؟ وماذا وراءها ؟

وعودة إلى نجيب محفوظ، الذي هو شخصية مرجعية ربما، لمكانته العربية والعالمية، حين أتأمل في أحد أعماله ، تحديدا رواية “اللص والكلاب” التي كتبت في ستينيات القرن الماضي، أجد أن نماذج “الإخلاص” والشهامة والتضامن الإنساني هي “بائعة هوى” و”لص” و”معلم قهوة يتاجر بالمخدرات” ، بينما النماذج التي تمثل الخذلان والخيانة هي “الزوجة” و”الصديق” و”المثقف اليساري”.

لنتصور أن قراء نجيب محفوظ قبل ستة عقود أو أكثر كانوا يتداولون مفاهيم نقدية تفكك هذا التعاطي السردي بشكل صحيح، بينما الكثير من قرائنا (ونقادنا) الآن لا يرون الفرق بين الشخصية الروائية، سلوكها وأخلاقياتها وما تمثله، وبين المؤلف، أفكاره السياسية ومفاهيمه الاجتماعية. لهذه الظاهرة أسباب كثيرة، منها الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة، والتي تغترف بشكل بائس من ثقافة مهزومة، فتنتج مفاهيم كاريكاتيرية لفكر لم يستطع الوقوف على رجليه أصلا ومني بهزيمة.

الظاهرة سياسية بامتياز، فكما نلاحظ أن الناشطين السياسيين يلوكون شعارات هزمت مرارا وتكرارا، دون أي نقد أو إعادة نظر،  فهم أيضا يتداولون مفاهيم كاريكاتيرية للأدب والثقافة. نحن نعيش في واقع سياسي، ثقافي مأزوم، ولا يمكن أن يكون الخروج منه مبنيا على تداول العناصر المكونة لهزيمته، وهذا ينطبق على السياسة كما ينطبق على الظواهر الثقافية. حين تتشكل الطليعة الثقافية وتصبح ذات وزن مؤثر في الوعي السائد عندها سيكون هناك أمل في تشكل طليعة سياسية تقود عملية نهوض الوعي من سباته الذي طال.

وعودة إلى عنوان رواية كنفاني “ما تبقى لكم”: ونحن الآن على أعتاب موسم الزيتون يخطر ببالي أحد المفاهيم المرتبطة بالموسم. في منطقة سكني في الضفة الغربية نسميها “البعارة”، وهي تعني أن يعود الأطفال واليافعون إلى أشجار الزيتون بعد انتهاء الكبار منها ويبحثوا عن ثمار تركت سهوا، فيبيعونها ويحصلون على دخل ينفقونه على مسراتهم الصغيرة.

“البعارة الثقافية والسياسية” للاسف ليست بهذه الرومانسية.

The post “الواقع” و”الواقعية” وتوقعات مشوشة من الروائي العربي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مآزق “غير إبداعية” في النقد الأدبي https://rommanmag.com/archives/20621 Mon, 06 Sep 2021 08:12:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%a2%d8%b2%d9%82-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%a5%d8%a8%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%82%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8%d9%8a/  يكاد يكون قولاً دارجاً أن اللغة هي مأزق مبدع النصوص. هذا يعني أن الرحلة من “الفكرة” إلى النص المعبر عنه لغوياً شاقة وطويلة، يفقد خلالها “المشروع الإبداعي” الكثير. في هذا المقال سأناقش مستوى آخر من مأزق اللغة. هناك إشكالية تطال الأعمال الإبداعية، متعلقة بالصوابية السياسية، بالمواقف السياسية، يواجهها الإبداع (السينما والأدب) في كل العالم.  منذ مقتل الشاب الأفروأمريكي […]

The post مآزق “غير إبداعية” في النقد الأدبي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
 يكاد يكون قولاً دارجاً أن اللغة هي مأزق مبدع النصوص. هذا يعني أن الرحلة من “الفكرة” إلى النص المعبر عنه لغوياً شاقة وطويلة، يفقد خلالها “المشروع الإبداعي” الكثير. في هذا المقال سأناقش مستوى آخر من مأزق اللغة. هناك إشكالية تطال الأعمال الإبداعية، متعلقة بالصوابية السياسية، بالمواقف السياسية، يواجهها الإبداع (السينما والأدب) في كل العالم. 

منذ مقتل الشاب الأفروأمريكي جورج فلويد على يد شرطي أبيض البشرة حدثت حراكات بأشكال متنوعة، انطلقت من الولايات المتحدة وانتشرت إلى أماكن أخرى من العالم. أحد هذه الحراكات كان امتدادا لحراك انطلق قبل ذلك بسنوات، احتجاجا على نفس الفعل، لكنه اكتسب زخما أكبر بعد مقتل الشاب فلويد. وكان من مظاهر الاحتجاج على الثقافة العنصرية التخلص من تماثيل تحتفي بشخصيات يربطها المحتجون بأفكار عنصرية. أثارت هذه الأفعال جدلاً كان قد أثير في مراحل تاريخية سابقة على خلفية أعمال أدبية/فنية كانت مقبولة ضمن ثقافة العصر الذي أنتجها، لكنها لم تعد كذلك في عصر الصوابية السياسية. القضية تطرح إشكاليات سياسية، اجتماعية، فكرية، جمالية تتعلق بالإبداع، وسؤالا نقديا ما فتئ يشغل النقاد والقراء: أين يقف المبدع من شخصيات رواياته؟  

ثقافة الكاتب وثقافة المجتمع

في إحدى الروايات الفلسطينية تحاول الأم إقناع ابنها بالزواج فتقول له إنها ستبحث له عن عروس شقراء، خضراء العينين. يتساءل الابن مازحاً: ضروري يعني تكون شقرا فتجيبه الأم: مش ضروري يا حبيبي، إن شاء الله إيدها بتسخم الحيط، المهم تعجبك (طبعا الكناية هنا عن كون الفتاة داكنة البشرة، تنضح بالعنصرية). لكن السؤال: هي عنصرية من؟ هل على الكاتب أن يدفع فاتورة الثقافة الاجتماعية التي تصورها رواياته؟

لعل من أشهر الأفلام والأعمال الأدبية العالمية التي واجهت هذه الإشكالية فيلم/رواية “ذهب مع الريح” للكاتبة الأمريكية مرغريت ميتشل. تتهم الرواية بأنها تروج أفكاراً عنصرية، على اعتبار أنها تصور الثقافة السائدة في زمنها، وهي ثقافة التمييز العنصري بكل تعقيداتها، ومنها تعقيدات علاقة الأسود “بسيده” الأبيض. هناك أكثر من توجه في التعامل مع هذه القضية الشائكة، وهي إشكالية أوسع من كيفية تمثيل الثقافة القائمة على التمييز العرقي فنيا.

في السياق الفلسطيني يواجه المبدعون على الناحيتين، الإسرائيلية والفلسطينية نفس الإشكالية. قبل سنوات سحبت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من المقرر الدراسي رواية للروائية دوريت رابنيان وعنوانها الإنجليزي “All the rivers”، والسبب أنها تصور علاقة عاطفية بين فنان فلسطيني وامرأة إسرائيلية، يهودية. لا تريد الثقافة التي يمثلها نتنياهو وبقية اليمين وجزء كبير من المجتمع الإسرائيلي أن يظهر الفلسطيني في الأدب الإسرائيلي “عاشقاً” أو شخصاً جديراً بحب امرأة إسرائيلية. الفلسطيني له ملامح فقيرة في الوعي الإسرائيلي السائد وهي التي يجب أن تصور في الأدب والفن أيضاً: ملامح شخص يكره، يريد أن يقتل، وبالضرورة “متخلف” حتى في مشاعره، فكيف تجرؤ روائية إسرائيلية على تصويره كفنان تقع في حبه امرأة إسرائيلية؟ هذه “خيانة”!

والآن كيف تبدو الصورة على الناحية الأخرى؟

شبح التطبيع 

هناك مفهوم سياسي يتداوله الفلسطينيون بمجانية واستسهال، ودون أن يملك الكثيرون تعريفاً محدداً له، هو: التطبيع. تتراوح ماهية هذا المفهوم بين “إقامة فعالية ثقافية في بلدة أو مدينة فلسطينية خلف الخط الأخضر، لجمهور فلسطيني” و “إقامة علاقات مع سلطة الاحتلال بأي شكل من أشكال تمظهرها”، وبين الحالتين المتطرفتين تتسع المساحة لكثير من الأشكال، منها مثلاً ترجمة الأدب الفلسطيني إلى العبرية أو العبري إلى العربية، قراءة الأدب العبري، مشاهدة الأفلام التي يتعامل مخرجها مع الشخصيات الإسرائيلية بحيادية إبداعية، قراءة وكتابة أعمال أدبية يتعامل فيها الكاتب/الفنان مع الشخصيات الإسرائيلية بحيادية إبداعية… الخ.

ما حصل مع المخرج اللبناني زياد دويري يلقي ضوءاً على المدى الذي يذهب إليه بعض المتلقين في تعاملهم مع الموضوع. خلط البعض كل ما يمكن من عناصر القضية لاتخاذ موقف عام من شخص ومجمل نتاجه الفني. حصل أن قام زياد دويري بتصوير فيلم “الصدمة” في إسرائيل. هذا خيار من حق أي شخص أن يكون له موقف منه، هذا شأن يخصه. لكن هذا الموقف من شخص مخرج الفيلم لا يفترض أن يؤثر على التقييم الموضوعي (الفني) للفيلم والموقف منه. قد ينتج من تعتبره مناضلاً سياسياً فيلماً متدني القيمة أو يكتب رواية هابطة فنياً، وفي المقابل يمكن أن تختلف أخلاقياً أو أيديولوجياً مع مبدع آخر ولا يؤثر ذلك على تقييمك الإبداعي لنتاجه. وبالتأكيد لا يمكن اتخاذ مواقف من الأعمال الإبداعية “بأثر رجعي”، بمعنى أن خلافك مع المبدع عند نقطة ما لا يفترض أن يغير موقفك من أعمال له كنت قد أعجبت بها سابقا.

أين يقف الكاتب من شخصيات روايته؟ 

من المفروض أن يرسم الكاتب ملامح شخصياته الروائية بحيادية تامة برسم المصداقية الإبداعية، ويترك للقارئ اتخاذ ما يشاء من مواقف والتعبير عن ما يريد من مشاعر تجاهها. وتلزم المصداقية السردية الكاتب أن لا يهتدي سوى بالسياق في اختياره شخصياته. هذا يعني أن من حق الكاتب الفلسطيني ومن متطلبات عمله، إلى جانب تصوير الجندي والمستوطن ورموز الاحتلال الإسرائيلي الأخرى، أن يفرد مساحة لشخصيات إسرائيلية في أدوار أخرى تضطلع بها في الحياة، وأن يرسم ملامحها بحيادية موضوعية.

من المعروف للجميع أن الجندي على الحاجز في مدن وبلدات الضفة الغربية كثيراً ما يمارس التنكيل بحق المواطن الفلسطيني العادي الذي يتعامل معه بافتراض أنه هناك لتنفيذ عملية ضده، إلى أن يثبت العكس، وهذا أدى في أكثر من الحالات إلى إطلاق النار وقتل الفلسطيني بمجرد الشبهة. ومن المعروف أن الكثير من المستوطنين في الضفة الغربية يتعاملون مع المواطنين الفلسطينيين بعدوانية وعنف.

لكن ماذا حين لا تكون العلاقة بين فلسطيني وإسرائيلي محكومة بالمواجهة القاتلة؟ كيف يتصرف الطبيب الإسرائيلي في مستشفى مع مرضاه الفلسطينيين؟ وكيف يفترض أن يصور الروائي الفلسطيني تعامل موظف الاستقبال في فندق في تل ابيب مع نزيل فلسطيني؟ كثير من القراء والنقاد يستنكرون التصوير الحيادي لهذه المواقف، ويرغبون باستبعاد أي علاقة بين فلسطيني وإسرائيلي على صفحات الرواية خارج نطاق المواجهة وثنائية الاحتلال والاستيطان مع الفلسطيني الخاضع للاحتلال.

هل العمل الإبداعي مستقل عن مبدعه؟ 

يرى الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” أن الفن قائم بذاته، ورغم أنه لا يخدم غرضا خارج ذاته، إلا أنه يثير تداعيات داخل المتلقي ترتبط برسائل اجتماعية الطابع. لكن هل المبدع مسؤول عن طبيعة التداعيات التي يستثيرها عمله؟

العلاقة بين الفن ومتلقيه عملية تفاعلية، محكومة بعوامل معقدة، من بينها وعي المتلقي والظروف التي ساهمت في صياغته. المادة الإبداعية هي مجرد “منطلق” يستثير وعي المتلقي ويحفزه لإفراز رد فعل ما. والحالة هذه فالمبدع غير مسؤول عن طبيعة ما يستدعيه عمله من أفكار ومشاعر ومواقف. على المبدع أن يلتزم بالصدق الموضوعي في تعامله مع مادته الإبداعية، وهو في المقابل يمتلك هامش حرية معتبراً في المساحات التي يتيح لشخصياته التفاعل فيها. من حقه أن يصور الشخصية بما يتطلبه السياق السردي، دون أن يكون محكوما بمواقف أخلاقية أو سياسية مسبقة.

في المقابل، من حق المتلقي أن يحكم على العمل الإبداعي بكل جزئياته، بما فيها الرسالة التي يضطلع بها، دون أن يعزل الجزئيات عن سياقاتها. تسليط الموقف الأخلاقي، الأيديولوجي العام كالسيف على المبدع كفيل بخنقه وشل أدواته، وعندها لن ينتج سوى “مسوخ” إبداعية. كما قلنا، من حق المتلقي اتخاذ موقف أخلاقي من العمل، لكن دون عزل جزئياته وتأويلها بمعزل عن سياقه العام، ودون إسقاطه على الموقف الشخصي من المبدع. طبعاً، في واقع سياسي كالذي نعيشه تعتبر هذه الإشكاليات بمثابة متفجرات، مجرد إثارتها تثير الاستهجان في الأوساط المهنية والشعبية، فما بالك بممارستها!

The post مآزق “غير إبداعية” في النقد الأدبي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الرواية التي تحولت إلى شبه “مدرسة نقدية” https://rommanmag.com/archives/20570 Sat, 24 Jul 2021 07:08:46 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84%d8%aa-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%b4%d8%a8%d9%87-%d9%85%d8%af%d8%b1%d8%b3%d8%a9-%d9%86%d9%82%d8%af%d9%8a%d8%a9/ نشرت رواية جي.دي.سالينجر التي تحمل العنوان الإنجليزي The catcher in the rye، والذي ترجمه الكاتب الراحل غالب هلسا، بشكل غير موفق في رأيي، إلى “الحارس في حقل الشوفان”، عام 1951. فشل العنوان العربي في رأيي يكمن في أنه لا يعكس المعنى الذي يعبر عنه العنوان الإنجليزي، وهو “الشخص الذي لا يقوم بعمل مفيد”. على كل […]

The post الرواية التي تحولت إلى شبه “مدرسة نقدية” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

نشرت رواية جي.دي.سالينجر التي تحمل العنوان الإنجليزي The catcher in the rye، والذي ترجمه الكاتب الراحل غالب هلسا، بشكل غير موفق في رأيي، إلى “الحارس في حقل الشوفان”، عام 1951.

فشل العنوان العربي في رأيي يكمن في أنه لا يعكس المعنى الذي يعبر عنه العنوان الإنجليزي، وهو “الشخص الذي لا يقوم بعمل مفيد”.

على كل حال، هذه ليست المشكلة الأكبر في الترجمة العربية للرواية، فقد ارتكب المترجم “آثاماً لغوية” أفدح من ذلك، من أخطرها “تهذيب” اللغة. الشخصية الرئيسية في الرواية تستخدم ألفاظاً “غير مهذبة” وشتائم سوقية، وربما لم يكن هذا ملائماً “لذوق القارئ العربي” الذي يحاصر به من يؤلفون رواياتهم بلغة الضاد.

قد يقدم الروائي العربي إلى المحاكمة أو يسجن “لاعتبارات أخلاقية”، وفي أفضل الأحوال يطلب منه ناشره، بشكل ودي، أن يتخلص من التعبيرات “الخادشة للحياء”، كما حصل مع كاتب هذه السطور وأحدث رواياته “غريب”.

لنعد إلى سالينجر والملامح غير المألوفة  سردياً التي نجدها في عمله هذا.

من أهمها، في رأيي، إسقاط أسطورة “البلاغة السردية”.

تسود حالياً نظرة نقدية تفترض أن لغة السرد يجب أن تحوز “جماليات معينة”، البعض يفضلها “شعرية”، كما في مدرسة الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي أثّرت بالكثير من الروائيات والروائيين الشباب.

والبعض يميل إلى مدرسة إدوار الخراط، الذي يستخدم لغة باذخة وجميلة في السرد ولا تحمل سمة الرومانسية الشعرية التي تميز لغة السرد عند أحلام مستغانمي ومن تأثروا بها، ويرون استخدام الروائي لغة بسيطة، كما كان يفعل نجيب محفوظ والطيب صالح مثلاً، يرون في ذلك نقطة ضعف فاحشة قد تطيح بالقيمة الأدبية للعمل ككل. ويعتنق هذه النظرة بعض النقاد والأكاديميين، وأعضاء اللجان في الجوائز الأدبية، لكن الأخطر أن بعض دور النشر المهمة أصبحت تعتنق هذه النظرة بتأثير من لجان القراءة التي توظفها.

لغة السرد في رواية سالينجر المشار إليها هي لغة الشخصية الرئيسية، هولدن، وهي لغة تفتقر تماماً إلى البلاغة أو الجمالية اللغوية، بل إنها تكسر قواعد اللغة الإنجليزية في بعض الأحيان. الشخصية تقص حياتها باستطراد عفوي مستخدمة الكثير من الشتائم والتعبيرات “غير المهذبة”، وقبل كل شيء، اللغة البعيدة كل البعد عن الجمالية والبلاغة.

هذه إشكالية يواجهها السارد العربي بأكثر من وجه.

كثيراً ما أقرأ رواية شخصيتها أمية، لا تقرأ ولا تكتب، وفي نفس الرواية شخصية رجل مثقف. حين أقارن لغة حوار الشخصيتين لا أكاد أتبين فرقاً يذكر.

هذا بالنسبة للحوار، أما بالنسبة للغة السرد فحدث ولا حرج. كل “الرواة المشاركين” في الروايات العربية التي قرأتها مؤخراً، وبعضها حصل على جوائز دولة، يستعيرون فخامة لغة المؤلف. يخشى المؤلف لو جعل الشخصية تستخدم لغتها الخاصة أن تسجل مأخذاً عليه وعلى لغة سرده، وهذا ليس مستبعداً، فكثير من النقاد والقراء ليسوا قادرين على فصل الكاتب عن شخصيته، ولا على أي مستوى.

إشكالية نقدية

للغة العربية خصوصية تميزها عن لغات العالم الأخرى، ففي معظم اللغات الأخرى لا فرق يذكر بين لغة الحديث ولغة الكتابة. الوضع مع اللغة العربية مختلف تماماً، فاللغة الفصحى المعتمدة في كتابة النصوص الأدبية مختلفة كثيراً عن “اللغة المحكية”، والتي تختلف بدورها من بلد إلى آخر.

الروائي العربي يخطو الخطوة الأولى باتجاه البلاغة حين يقرر اعتماد اللغة الفصحى، عوضاً عن اللغة المحكية في السرد.

ربما يرى البعض هذا بديهياً، لكن الحقيقة أنه ليس كذلك، وقد حصلت محاولات في مصر تحديداً، لاعتماد اللغة المحكية في السرد القصصي/الروائي.

لم تجد الخطوة ترحيباً بالطبع، لكنها كانت خطوة مهمة، تلفت الانتباه إلى هذه الإشكالية بمستوياتها المختلفة.

المستوى الذي أود مناقشته هنا هو حين يستخدم الروائي تقنية “الراوي المشارك”، فمن تخص لغة  السرد؟ الروائي أم الشخصية، التي تقص؟ طبعاً يفترض أن تخص الشخصية، فإذا كانت الشخصية أمية يجب أن ينعكس هذا في لغتها، وهذا لا نجده في الروايات العربية طبعاً.

إحدى الروايات التي قرأتها مؤخراً كانت رواية “ترانيم الغواية” للروائية ليلى الأطرش. 

تستخدم الكاتبة تقنية الراوي المشارك في السرد، أي يفترض أن من يقص الأحداث هو الشخصية، الذي قد يكون مثقفاً، متعلماً، لكن أن تكون لغته بهذه الجزالة والفخامة والجمال فهذا يتطلب تفسيراً، لا نجده في الرواية.

أنا كقارئ لا أستطيع إلا أن أفترض أن الكاتبة أعارت شخصية الراوي المشارك اللغة الجميلة للمؤلفة، فهل هذا مشروع نقدياً؟

في رأيي ليس مشروعاً، وأنا من مؤيدي مدرسة سالينجر، لكني لا أظن أنها ستجد الكثير من النقاد والقراء ممن يحبذونها أو حتى يتقبلونها، وربما لو كان سالينجر أرسل مخطوط روايته إلى إحدى دور النشر العربية لكانت رفضتها بدعوى أن “لغتها ركيكة”.

هنا سوف أورد بعض الأمثلة على لغات السرد في أكثر من عمل أدبي، لاستخلاص العبر.

المثال الأول: “استيقظت ذات صباح وحدي دون أن توقظني أمي. أدركت أنني استيقظت وحدي عندما وجدتها مستغرقة في النوم، راقدة على وجهها، وسرني جداً أن أوقظها ولو مرة واحدة في حياتي الصغيرة. قربت فمي من أذنها وناديتها، مرة ومرة وهي لا تستجيب…”

(المصدر: قلب الليل، نجيب محفوظ).

المثال الثاني: “حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أعد لسفري للقاهرة، ذهبت إلى أمي وحدثتها. نظرت إلي مرة أخرى، تلك النظرة الغريبة. افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم، ثم أطبقتهما، وعاد وجهها كعهده”.

(المصدر: موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح).

المثال الثالث: “من رحم الماضي تولد رؤى وظلال وأشخاص، وأسئلة تقيد الخيال، تجهض كل تصور للآتي. وزوابع القلق زئير.

أنهار من ذكريات فاضت في انتظار زيارتي. أيقظت طفولات غادرت في الزمان، ودفق حكايات حملت بؤسها والمرح”.

(المصدر: ترانيم الغواية، ليلى الأطرش)

المثال الرابع: لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.

لم أعد أذكر كيف أصلح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا، وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا.

تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخيله أحياناً أحاديث مفتعلة. كان هناك شيء من البلور قد انكسر بيننا، ولم يعد هناك أمل لترميمه”.

(المصدر: ذاكرة الجسد، أحلام مستغانمي).

المثال الخامس: “لعبة من طيزي! إذا كنت تقف في الجانب القوي فهي لعبة بالتأكيد.

ثم بعد أن أبعد ورقتي الشرموطة وألقى نظرة وكأنه قد انتصر علي انتصاراً ساحقاً في لعبة تنس الطاولة.

يغيظني جداً عندما أتصور ابن القحبة هذا يقود سيارته الضخمة ويطلب من المسيح أن يرسل له مزيداً من العطايا”.

أما تعبيري المفضل من هولدن فهو “ضحكوا حتى اهتزت أطيازهم”.

(المصدر: الحارس في حقل الشوفان، ج.د.سالينجر. الاقتباسات ليست من ترجمة غالب هلسا مهذبة اللغة طبعاً).

في الأمثلة السابقة هناك ثلاثة نماذج مختلفة: نموذج نجيب محفوظ والطيب صالح، لغة سرد متقشفة، بسيطة، منطلقة من قناعة أن اللغة هي أداة للسرد يضطلع بوظيفة تتجاوز الجمالية، يجب أن تكون قادرة على حمل السرد، لا إمتاع القارئ كعنصر جمالي قائم بذاته.

من جهة أخرى، حين يكون الراوي المشارك من يسرد فيجب أن تعكس لغته كشخصية روائية  قدراته اللغوية، ولا يحق للروائي أن يعيره بلاغته وجمالية لغته كما فعلت ليلى الأطرش وأحلام مستغامني في المثالين.

أما سالينجر فقد ذهب أبعد من نجيب محفوظ والطيب صالح، لقد حرر شخصيته من بلاغة اللغة وأخلاقياتها معاً. لم يهذب لغة الشخصية ولا أخلاقها. حين تقرأ تحس بصدق أن من يتحدث هو فتى لا يعبأ كثيرا بالأخلاقيات ولا الاعتبارات الجمالية السائدة، يشتم ويستخدم لغة سوقية، كما أن المؤلف لم يعره بلاغته السردية. جعله يتحدث باسترخاء تام، كأنه يحادث صديقاً في مقهى.

في السرد العربي هناك اعتقاد شائع بأن شخصياتك الروائية يجب أن تقف أمام القارئ بكامل أناقتها المظهرية واللغوية والأخلاقية، بينما جوهر الأدب هو إضاءة البقاع المظلمة عوضا ًعن إخفائها.

ليس مطلوبا من السارد تهذيب لغة شخصياته ولا ملامحها، أخلاقياتها، نواياها.

طبعاً في الواقع العربي لا يمكن فصل أخلاقيات الشارع عن “أخلاقيات السرد”، كلاهما محكومة بمبدأ الاستعراض الزائف للجمال المزعوم، الأناقة، الجمالية الشكلية في كل مظاهر حياتنا ولغتنا.

لم يكن هذا هو الحال دائماً، وربما كانت هذه الظاهرة نتاج مرحلة سياسية تسود حياتنا منذ عقود.

لكن السؤال: هل على الطليعة الإبداعية أن تتماهي مع الأخلاقيات السياسية السائدة وتكون ناطقا باسمها؟

The post الرواية التي تحولت إلى شبه “مدرسة نقدية” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“ثغرات سردية” نغفرها، و”مواقف” لا نغفرها… https://rommanmag.com/archives/20542 Thu, 24 Jun 2021 14:46:19 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ab%d8%ba%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%b3%d8%b1%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d9%86%d8%ba%d9%81%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%8c-%d9%88%d9%85%d9%88%d8%a7%d9%82%d9%81-%d9%84%d8%a7-%d9%86%d8%ba%d9%81%d8%b1%d9%87%d8%a7/ كنت ضيفا في فعالية أدبية في رام الله. أبدت إحدى القارئات من الحضور ملاحظة على تفصيل ما في إحدى رواياتي. ورد في الرواية أن المختار رافق دورية الاحتلال لاعتقال فلسطيني في إحدى القرى. قالت القارئة إن منصب “المختار” لم يعد موجودا، وقد ألغي قبل الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية ببضع سنوات. ابتسمت للملاحظة، وقلت: […]

The post “ثغرات سردية” نغفرها، و”مواقف” لا نغفرها… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كنت ضيفا في فعالية أدبية في رام الله. أبدت إحدى القارئات من الحضور ملاحظة على تفصيل ما في إحدى رواياتي. ورد في الرواية أن المختار رافق دورية الاحتلال لاعتقال فلسطيني في إحدى القرى. قالت القارئة إن منصب “المختار” لم يعد موجودا، وقد ألغي قبل الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية ببضع سنوات. ابتسمت للملاحظة، وقلت: لا مشكلة، فقلب القارئ كبير، وسيسامحني ببضع سنوات، سيغفر لي هذا “الخطأ”.

القارئة أجابت بعصبية فاجأتني: القارئ لا يغفر ولا يفترض أن يغفر أخطاء الكاتب.

ابتسمت مرة أخرى وقلت: بتموني …

بعيدا عن “الطرفة” أعلاه، هل من حق الكاتب أن ينتظر “طيبة قلب القارئ الذي يغفر الهفوات البسيطة”؟ في الواقع نظرية الأدب لا تنظر للموضوع على أنه “هفوة” أو “زلة”، والقارئ أو المشاهد (في حال الأفلام) يغفر فعلا، لكن بشروط.

أتذكر فيلم “صوت الموسيقى” الذي شاهدته أكثر من مرة، لأنه فيلم جميل بأكثرمن مقياس. من منكم فكر في المشهد التالي؟ الرجل (كريستوفر بلامر) يقاطع خطيبته (شارمن كار) خلال حديثها معه عن أنسب هدية للزواج تقدمها له، يقاطعها فجأة ليخبرها بأنه لن يكون هناك زواج لأنه يحب المربية (جولي أندروز)… يضع المشاهد، أوروبي وأمريكي ومن نابلس، يده على قلبه ويتوقع عاصفة مدمرة . أن تنهض الخطيبة غاضبة وتذهب لتنتف شعر الحبيبة. لكنها تبتسم بتفهم وتقول له: أحسست بذلك. أتمنى لكما السعادة.

هل هذا رد فعل مقنع؟ هل تتخلى عن خطيبها بهذا البرود وهذه البساطة؟ لا بالتأكيد، لكن المخرج لم يرد أن يستثمر في هذه اللحظة الدرامية بالذات في نزاع جانبي، بل يريد السير قدما في الخط الدرامي المركزي.. ونحن كمشاهدين غفرنا ذلك بطيبة خاطر، من أجل خاطر بقية الفيلم الجميل. ومن منكم شاهد فيلم “دكتور جيفاغو”، بطولة عمر الشريف؟ هل تذكرون المشهد الذي ينزل فيه البطل (عمر الشريف) من القطار أثناء سفره وعائلة زوجته 

 (جيرالدين شابلن) ليتبول؟ هنا يلاحظه أفراد من البوليس السري فيلقون القبض عليه وينفصل عن عائلته. حين يتحرر ويلتحق بهم في القرية البعيدة التي رحلوا إليها من موسكو يجدهم قد غادروا إلى مكان مجهول. يمكث هناك ويزور المكتبة في قرية مجاورة ليفاجأ أن عشيقته (جولي كريستي) تعمل في تلك المكتبة! يا سبحان الله على هذه الصدفة الجميلة! في الظروف الطبيعية قد يستبعد المشاهد (والقارئ) صدفة كهذه، لكن دراما الفيلم المحكمة والجميلة كانت بحاجة لهذه الصدفة، فهل تفهمنا كقراء ومشاهدين؟ بالتأكيد! من أجل خاطر بقية الفيلم الرائع (والرواية الرائعة).

لماذا أروي هذا ؟ لأن بعض القراء والنقاد يغفلون أن “التواطؤ” مع المبدع جزء من اللعبة في حال كان الشيء المطلوب قراءته أو مشاهدته بجرعة زائدة من التفهم “تفصيلا غير ذي بال” ولا يتكرر كثيرا وفي حال كانت بقية الفيلم أو الرواية محكمة وتبرر هذا التفهم. يقول الناقد الماركسي البريطاني كريستوفر كودويل في كتابه “الواقع والوهم” وهو من المؤلفات المهمة في نظرية الأدب الماركسية “لأن الأدب هو ما هو عليه فإنه يصور واقعا أبعد من الواقع وأكثر تعقيدا فالأدب لا يصور القمح بماهيته المادية المحددة ولا الحصاد بجوهره الواقعي بل الماهية المعقدة والثرية، الجوانب العاطفية والاجتماعية لعلاقة القبيلة بتجربة الحصاد”.

هنا يتحدث كودويل عن جانب آخر ومستوى آخر من عدم جواز استخدام الواقع المادي مرجعا لمحاكمة الواقع الإبداعي. المبدع ليس معنيا بتقديم صورة يستطيع القارئ أو الناقد مقاربتها بكل تفاصيلها الدقيقة بمكونات الواقع ومنظومته المادية والمنطقية. طبعا الخيار هو للكاتب، وهو رهن بالملامح المحددة لمشروعه الروائي الراهن، فكما هو معروف نجيب محفوظ حريص جدا على تقديم صورة مادية دقيقة لجغرافية المشهد الذي يقدمه في رواياته. هذا مدهش، لكنه لا يلزم روائيا آخر ينظر للمشهد من زاوية أخرى ويوظفه بطريقة مختلفة.

أليست هناك إذن “ثغرات لا تغتفر” في السرد؟ بالتأكيد، فالأصل أن يكون العمل الروائي بنيانا متماسكا بدون ثغرات، ويفضل أن يخلو حتى من “الهنات” كالتي أشرنا إليها سابقا، لكن المقصود هنا قضيتان أساسيتان. الأولى أن الناقد (والقارئ) يحاكم العمل بكليته ومجمله، يبحث عن مدى تماسكه كبنيان درامي، كمشروع متكامل، ومع أن من حقه بل من الضروري الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة، لكن تفصيلا هنا وآخر هناك ليس كافيا للانتقاص من قيمة العمل. الناحية الأخرى أن علاقة العمل الدرامي التخيلي بما يسمى “الواقع” ليست بالمباشرة التي يفترضها البعض، قراء ونقاداً.

أما سيغموند فرويد فيرى، حسب تأويل رينيه ويليك وأوستن وارن في كتابهما “نظرية الأدب”، أن الفنان يهرب من واقع لا يستطيع التماهي معه إلى واقع يخلقه في خياله ويخلق قوانينه الداخلية كما يشتهيها لا كما فرضت عليه في الواقع، وفي هذا الواقع الموازي،يطلق لخياله العنان”، أي يبتدع قوانين تحكم سير الأشياء لا علاقة لها بالقوانين المادية التي نعرفها. هل من حق القارئ أو الناقد أن يطلق أحكاما على تلك القوانين التي يبتدعها الكاتب؟ نعم ولا. من حقه محاكمة الصورة الكلية لا القوانين التي تحكمها. من حقه أن يفحص ما إذا كان “النموذج البديل” الذي حاول المؤلف خلقه في عمله الأدبي متسق، وفقا لقوانينه الداخلية. هل يقدم لنا “نظاما متماسكا” بمنظومة قوانين واضحة ومفهومة ومترابطة تشكل بنيانا قادرا على الوقوف على قدميه؟ مرة أخرى، الوضوح و”الفهم” هنا ليس وفقا للمعايير العامة، بل لمعايير العمل ذاته، فليس من المعقول أن نحاكم ملامح “الواقع” في مسرح العبث مثلا أو في الفن السريالي بناء على مرجع من خارجها. 

ما أريد قوله هو أن من حق الناقد والقارئ أن يحاكم العمل الإبداعي، أن يقبله أو يرفضه، أن يعجب به أو يلفظه، لكن دون أن يفرض عليه قوانين من خارجه. طبعا في الواقع العربي الشائع، حتى على مستوى الكثير من النقاد، هو الحكم على العمل ومبدعه بناء على الموقف السياسي، الأخلاقي من قضايا معينة. هم يخلقون تمثال شمع للمبدع بناء على موقفهم منه خارج نطاق الاعتبارات الإبداعية.

هل تذكرون الضجة التي قامت حين ذكر سليم بركات أن لمحمود درويش ابنة من عشيقة سرية متزوجة؟ هبّ مريدو الشاعر وحواريوه للدفاع عن أيقونتهم ضمن اعتباراتهم الأخلاقية. محمود درويش شاعرنا المحبوب، أيقونتنا، بطلنا، فهو إذن لا يمكن أن يأتي بفعل لا يلائم التمثال الشمعي الناصع البياض الذي صنعناه له. لا يقيم علاقة مع امرأة متزوجة، وبالتأكيد لا ينجب منها طفلة خارج الزواج، لا “يسكر”، لا يدخن الحشيش. بالنسبة للسجائر لست واثقا إن كانت صورته في الوعي الجمعي تسمح له بها، أما القهوة فقد أصبحت ملازمة لصورته الرومانسية. 

القارئ والناقد صارم في حكمه، ليس فقط على النص، بل على الحياة الشخصية لمبدع النص. أي خروج عن “الإجماع الأخلاقي” أو الأيديولوجي سوف ينسف العلاقة بين الاثنين ويقوضها من أساسها. المبدع بالنسبة لقارئه العربي لا يمكن أن يكون “ميتا” كما يفترض رولان بارت، بل هو حي يرزق حتى بعد موته، ويطاردونه مع نصوصه باعتباراتهم الأخلاقية والأيديولوجية بعد موته. كما يطاردونه بالنموذج الأخلاقي/السياسي الذي خلقوه له ويدافعون بشراسة عنه في وجه من “يحاول خدشه”. العلاقة بالأدب في مجتمعنا علاقة شخصية بالمبدع، والموقف الأدبي من نتاجه الإبداعي مبني على الموقف الأخلاقي/السياسي منه. يتجاوز ذلك أحيانا كل الحدود، يصل حد الشتائم وانتهاك القيمة الإنسانية للشخص.

هذا يحدث على مستوى النخبة أيضا. قبل ثورات الربيع العربي كان الفنان زياد الرحباني يحظى بشعبية واسعة بين أوساط الشباب والمثقفين. زياد الفنان لم يتغير، روحه الإبداعية ما زالت على حالها، لكن حصل استقطاب حاد في أوساط جمهوره بسبب موقفه من الأحداث في سوريا. موقفه السياسي، أيا كان، لم يؤثر على موسيقاه، على روحه الساخرة، على أي شيء له علاقة بفنه، لكن جمهوره يعامله كما كل المبدعين، كرزمة كاملة، لا يفصل فنه عن موقفه السياسي، ولا حتى عن حياته الشخصية. عليه أن يكون “أيقونة” و “قدوة” في كل شيء.

هذه واحدة من الوسائل المضمونة لقتل المبدع وإبداعه.

The post “ثغرات سردية” نغفرها، و”مواقف” لا نغفرها… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
استقلالية الأدب… هل هي ممكنة؟ https://rommanmag.com/archives/20507 Thu, 27 May 2021 08:18:02 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%82%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d9%87%d9%84-%d9%87%d9%8a-%d9%85%d9%85%d9%83%d9%86%d8%a9%d8%9f/  استقلالية الأدب عن ماذا؟ سيطرح القارئ السؤال حين قراءة العنوان. عن كل شيء، ولنبدأ بالمؤلف. La mort de l'auteur، أو موت المؤلف، كان عنوان المقال الذي نشره الناقد الأدبي والمنظر الفرنسي رولان بارت عام 1967. يرى بارت أن هناك ضرورة لأن يعيش العمل الأدبي حياته الإبداعية بمعزل عن نوايا مبدعه. للقارئ والناقد مطلق الحرية في تأويل […]

The post استقلالية الأدب… هل هي ممكنة؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
 استقلالية الأدب عن ماذا؟ سيطرح القارئ السؤال حين قراءة العنوان.

عن كل شيء، ولنبدأ بالمؤلف.

La mort de l'auteur، أو موت المؤلف، كان عنوان المقال الذي نشره الناقد الأدبي والمنظر الفرنسي رولان بارت عام 1967. يرى بارت أن هناك ضرورة لأن يعيش العمل الأدبي حياته الإبداعية بمعزل عن نوايا مبدعه. للقارئ والناقد مطلق الحرية في تأويل النص، وليس للكاتب أن يعترض. 

عاش الشاعر المجري يانوش أراني (Janos Arany) قبل بارت بما يقارب القرن ونصف القرن، لكنه يروي أنه قرأ يوماً مقالاً نقدياً عن إحدى قصائده، وردت فيه العبارة التالية “حين كتب الشاعر تلك القصيدة يبدو أنه فكر….” وأطلق كاتب المقال العنان لتخميناته حول ماذا كان يفكر الشاعر حين كتابته القصيدة. حين قرأ الشاعر المقال قال بالمجرية ساخراً: Gondolta a fene! وهي تعني، مع شيء من التصرف “أكيد، أنت أخبر! “.

إذن، ضيق المبدعين بإصرار النقاد والقراء على أن يؤسسوا قراءتهم للعمل البداعي على افتراضات حول نوايا الكاتب سبق نظرية بارت بسنوات طويلة.

للكاتب مشروع، ورؤية بالتأكيد، لكن الرحلة من الرؤية في شكلها المجرد في وعي الكاتب إلى تبلورها على شكل مشروع روائي مثلاً، تغير بالتأكيد الكثير من الأشياء المتعلقة بجوهر الفكرة وتفاصيلها، ويتغير الكثير أيضاً حين يتحول المشروع إلى عمل أدبي. أما رحلة العمل إلى عالم القارئ، تفاعله مع وعيه، ثقافته، مفاهيمه، تربيته، فهي بدورها تنتج عملاً بملامح جديدة.

أي في المحصلة، من العبث البحث عن ملامح الكاتب بين ثنايا عمله الأدبي.

لكن، ورغم ذلك، فهذا مستوى متقدم من التأويل والتقييم. ما نشهده كثيراً في العالم العربي هو إقحام صلة مباشرة بين الكاتب والعمل، لا كمحتوى بل أحياناً كشخصيات. حدث كثيراً، وعلى مستوى أكاديمي، أن جرت محاكمة الكاتب على خلفية “السلوك الأخلاقي” لشخصياته. وحصل أكثر أن نصبت المحكمة على خلفية ما افترضوا أنه ما يريد الكاتب قوله من خلال العمل. أما قمة البؤس فهي التقييم النقدي للعمل بناء مدى اتفاقك مع التوجه الفكري أو الأخلاقي العام لصاحب العمل.

تي إس إليوت شخص محافظ الفكر، لكنه أنتج بعض افضل الشعر الإنجليزي المعاصر. لعل الاعتداء على الكاتب الكبير نجيب محفوظ على خلفية روايته “أولاد حارتنا” من الأمثلة الصارخة، لكنه لم يكن الواحد. لم يسلم مؤلف واحد تجرأ على المسلمات من شكل من أشكال الاعتداء.

هناك مقولة سائدة في أوساط الكثير من القراء والنقاد العرب مفادها أن “لا يمكن فصل العمل الإبداعي عن مبدعه”، وهي مقولة عجيبة. هذا شكل من أشكال تعسف التقييم الأخلاقي للفن. هل يا ترى يتغير طعم التفاحة لو عرفت أنها مسروقة؟ يمكنك أن ترفض أكلها، شراءها، ترويجها، هذا خيارك ولست ملزما حتى بإبداء الأسباب.

لكن هذا لا يعطيك الحق (موضوعياً) في أن تقول أن التفاحة غير لذيذة، فيما لو كانت لذيذة. أما مهاجمة الكاتب أخلاقيا أو جسديا فمفروغ منه أنه علم جنائي، لا أخلاقي في أبسط التوصيفات. العمل الإبداعي هو كيان متفرد، قائم بذاته، بمعزل عن أي حيثية قيمية، أخلاقية لمبدعه.

في العالم العربي هناك خلط تعسفي بين الماهية الشخصية للمبدع ونتاجه الإبداعي على أكثر من مستوى. هناك ربط جزافي بين النتاج الأدبي/الفني والعلاقة بمنتجه. قبل شهور قليلة أثيرت ضجة شارك فيها كتاب ونقاد في شن هجوم على الكاتب سليم بركات بسبب مقال له أشار فيه إلى علاقة غرامية ربطت الشاعر محمود درويش بامرأة متزوجة وأثمرت طفلة.

قامت الدنيا ولم تقعد: يفترضون أن شاعرنا الأيقونة بالضرورة متماه مع قيمنا وأخلاقياتنا السائدة، ونحن مجتمع محافظ بطبعه، صغاره وكباره، رياديوه ومبدعوه وعلماؤه وسياسيوه. كل من يحظى بحبنا وتقديرنا عليه أن يكون أهلا لذلك، أن لا يصدمنا في أخلاقياتنا، وإلا فقد الحظوة. فجأة يمكن أن يصبح أيقونة الشعر الفلسطيني عديم القيمة. لكن لمحمود درويش طبعاً قيمة وطنية (وأنا أتعمد أن لا أركز على قيمته الشعرية في هذه الحالة تحديداً، فعلى الرغم من مكانته العالمية في خريطة الشعر فإن مكانته الفلسطينية في جزء كبير منها مؤسسة على مزيج من حب الشعر والعشائرية، أقول إن مكانته المعتبرة في الوجدان الفلسطيني هبت للدفاع عن احتمالية خدش الصورة، بأن هاجم مريدوه كاتب المقال، نافين بشكل قاطع أن يكون الشاعر العظيم أهلاً للانجرار وراء الحب بمعزل عن القيم السائدة. هو لم ينجب طفلة في الحرام، لماذا؟ لأنه شاعر يحبه الشعب الفلسطيني، إذن فهو يمثل كل الجوانب الإيجابية التي يجمع عليها، ومنها الاعتبارات الأخلاقية.

وقبل حوالي سبع سنوات رحل الشاعر اللبناني سعيد عقل، واسمه مرتبط بشيئين: توجهاته السياسية المعادية للفلسطينيين، إلى درجة أنه طالب الإسرائيليين بقتلهم. أما الجانب الآخر المرتبط باسمه فهو أشعاره الجميلة، بالفصحى والعامية اللبنانية، والتي غنت فيروز بعضها. انبرت الأقلام، كل من لم يكتف بالكتابة عن موقفه السياسي من الفلسطينيين وأشار إلى مسيرته الشعرية هاجموه وشككوا في وطنيته. “الوطنية” في مرتبة أعلى من “الجمالية” في التعامل مع الإبداع.

نفس الشيء حصل مع المخرج السينمائي اللبناني زياد دويري، الذي صور أحد أفلامه في إسرائيل. انبرى الكثيرون للتحريض على أفلامه، وربط قيمتها الإبداعية بكونه زار إسرائيل، فهو “مطبّع”. ومفهوم التطبيع مفهوم فضفاض يشمل عند البعض زيارة حديقة ساحة العين في الناصرة أو حديقة البهائيين في حيفا أو إقامة فعالية أدبية فلسطينية في مجد الكروم.

الموضوع محسوم في واقع ثقافي مسيس، بالمفهوم الفج للسياسة. الفن مسيس شئنا أم أبينا، هو فعل سياسي/جمالي، لكن ليس بالمفهوم الفج والمباشر الذي يقحمونه عليه.

حين تكتب عن الإنسان، علاقته بالمجتمع، معاركه الشخصية، هزائمه، انكساراته، فأنت تكتب سياسة، لا مشكلة في هذا. المشكلة هي في تسطيح مفهوم “السياسة” وحصرها في ما يسمى الريالبوليتيك Realpolitik فهذه هي الكارثة. حين تربط القيمة الفنية بالعمل بمقولته السياسية المباشرة أو بتوجه صاحبه السياسي أو الأخلاقي.

الكتابة بالدم والكتابة الجمالية

سبق أن رفع الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين شعار “بالدم نكتب لفلسطين”، وأظن هذا حصل في عام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، لكن الشعار في ذلك الوقت كان يحمل مدلولاً آخر، قد يكون حرفياً، فبعض الكتاب الفلسطينيين قتلوا في ذلك الوقت، وسالت دماؤهم حرفياً لا مجازياً، برصاص القوات الإسرائيلية المحتلة، قبل ذلك اغتال الموساد الإسرائيلي غسان كنفاني ووائل زعيتر وغيرهم.

حصل هذا في التاريخ من قبل، فقد قتل الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا بسلاح الفاشية، والناقد البريطاني وأحد أعمدة نظرية الأدب الماركسية كريستوفر كوديول قتل أيضاً في الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها ضمن اللواء الأممي. المستهجن هو تفسير المقولة بدرجة كبيرة من المباشرة والفجاجة، واعتقاد البعض أن هناك ضرورة لتحويل الإبداع إلى أدوات سياسية مباشرة. هذا ليس في صالح الإبداع ولا هو في صالح الفعل السياسي. النوايا لا تساعد الفجاجة والمباشرة السائدة ولا تحولها إلى أداة نضالية، بل تجردها من قيمتها الإبداعية.

في بدايات الاشتراكية في أوروبا الشرقية وقع البعض في الفخ، وأنتجوا أفلاما ومؤلفات فجة، صارت فيما بعد مدعاة لسخرية النقاد بل والمتلقين. احتاج الأمر إلى “ثورة تصحيحية” في أكثر من بلد أوروبي، في المجر عام 1956 وفي تشكوسلوفاكيا عام 1968.

في فلسطين يعيش النقد الأدبي مرحلة الستالينية في أوروبا الشرقية، ويعتمد تأويلاً مبسطاً يصل أحياناً حد السذاجة لمفهوم “الواقعية الاشتراكية”. يبحثون في كل عمل أدبي عن “رسالة” بالمفهوم الفج للكلمة، ولا بد أن تكون تلك الرسالة متماهية مع المفاهيم السياسية السائدة “للوطنية” و”النضال” وما شابه. وحين يخلطون مبادئ النقد الاشتراكي (المؤوَّل بشكل ساذج) مع آخر نظريات الحداثة النقدية، يصبح عندنا مزيج نقدي لقيط، لا هو في الشرق ولا هو في الغرب.

نعود للسؤال عنوان هذه المقالة: استقلالية الأدب، هل هي ممكنة؟

لا يمكن الحصول على إجابة بسيطة لهذا السؤال، لكن يمكن القول بشكل عام: نعم ولا. تأويل وقيمة النص مستقلان عن نوايا كاتبه، مستقلان عن القوالب والمعادلات المقحمة عليهما، ومستقلان عن أي اعتبارات خارجهما.

هل المبدع مستقل؟ بالتأكيد لا، هو نتاج وعيه الاجتماعي والجمالي، وكل ما ينتجه رهن بهذين الشرطين. طبعا هذه إجابة مبسطة لأسئلة في غاية التعقيد، وليست أكثر من محاولة لاستفزاز التفكير في تعقيدات علاقة المبدع بنتاجه الإبداعي.

The post استقلالية الأدب… هل هي ممكنة؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فصلٌ من «غريب» https://rommanmag.com/archives/20467 Wed, 21 Apr 2021 14:32:48 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d8%b5%d9%84%d9%8c-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b1%d9%8a%d8%a8/ الرواية التاسعة للكاتب الفلسطيني أنور حامد، صدرت أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، عمان) ودار كل شيء (حيفا).   كانت زيارته الأولى للجامعة. أقنع المدير بأنه يريد الاستفسار عن دورات اللغة الإنجليزية، وطبعا لم يذكر شيئا عن الهدف الخفي ، وهو دخول أجواء الجامعة، التعرف على طلابها وطالباتها.  تنامى إحساسه بالغربة عن محيطه المدرسي […]

The post فصلٌ من «غريب» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الرواية التاسعة للكاتب الفلسطيني أنور حامد، صدرت أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، عمان) ودار كل شيء (حيفا).

 

كانت زيارته الأولى للجامعة. أقنع المدير بأنه يريد الاستفسار عن دورات اللغة الإنجليزية، وطبعا لم يذكر شيئا عن الهدف الخفي ، وهو دخول أجواء الجامعة، التعرف على طلابها وطالباتها.

 تنامى إحساسه بالغربة عن محيطه المدرسي منذ حصل الشرخ في شخصيته المثالية التي كان، وكان لا بد من محاولة مد جسور مع طلاب وطالبات الجامعة. فكر بفرصة لزيارة الجامعة وها هي قد سنحت.

غادر البلدة في الصباح الباكر، موعد ذهابه إلى المدرسة، بعد أن أقنع المدير بالسماح له بالتغيب ليوم واحد.

وصل الجامعة قبل العاشرة وجلس في  الكافتيريا إلى إحدى الطاولات، وبدأ يتأمل المشهد . شبان وفتيات يتخاطفون الساندويتشات وأكواب القهوة، يتضاحكون، يتجادلون في السياسة، يجلس بعضهم إلى طاولات في البوفيه ويغادر آخرون إلى شؤونهم. المكان ليس كبيرا، ولكنه شعلة نشاط وحركة. وهو يحدق فيهم مبهورا  هل أكون جزءا من هذا الجو الحيوي ؟ ولو لأسابيع قليلة ! هذا كفيل بأن يشحنني بطاقة لاحتمال ما تبقى من السنة الدراسية ! ثم ماذا ؟ ماذا بعد انتهاء الفصل الدراسي ؟

فجأة وجدها تقف فوق رأسه. كانت تبتسم . تلفت حوله بارتباك. 

-على مين بتدور ؟

سألت، والابتسامة لا تفارق شفتيها.

زاد ارتباكه. هل هي من بنات البلد ؟ هل تعرفه؟ رفع رأسه وتأمل وجهها، لم يتعرف على ملامحها.

-مالك ؟

سألت

-لا ولا أشي 

قال والارتباك ما زال يسيطر عليه.

-غريب

قالت.

انتفض. هي تعرفه إذن. تعرف اسمه ، لكن من تكون ؟ 

-أول مرة بتيجي هون ؟

-أول مرة

-شو إسمك ؟ 

نظر إليها باستغراب، ألم تنطق به منذ لحظات ؟

-ما بتعرفي إسمي ؟

انفجرت بالضحك، أما هو فشعر بالارتباك.

-من وين بدي أعرفه ؟

-من شوي حكيتيه. إسمي غريب

-فش إسم غريب، كل الأسماء بتصير مألوفة. أنا إسمي مها

-وأنا إسمي غريب

-جد ؟ هذا إسمك ؟

هنا وضعا حدا للبلبلة التي سببها إسمه وبدأ الجو بينهما يزداد ألفة. جلست إلى طاولته، وسألته عن وضعه، إن كان طالبا في دورة اللغة الإنجليزية . أجاب بالنفي، وقال إنه ينوي الالتحاق.

-طيب تعال أعرفك عالجامعة ، شربت إشي ؟

-لا لسة 

وقفت ودعته لمرافقتها. 

-روح نجيب إشي نشربه 

توجها معا للوقوف في الطابور. 

-ولي مها !

التفتا معا إلى مصدر الصوت ، كانت فتاة تحمل مجموعة من الكتب تنظر إليهما، غمزت بعينها : مين الشاب ؟ أخوك الصغير ؟

-لا ولي. أخوي أصغر من هيك . بعدين هو في الكويت، شو بده يجيبه ؟. هذا غريب. جاي يسجل لدورة إنجليزية

-إسمك غريب ؟

-نعم

-أهلين فيك، بشوفكم بعد الغدا، عندي محاضرة 

وقفا في الطابور.

-هذا إسمه أبو الشباب

-مين ؟

-مسؤول الكافتيريا. يلا لما تيجي تدرس هون بتحس بإلفة، صرت عارف أبو الشباب

وضحكت بعذوبة. 

اشتريا شطيرتين وكوبين من القهوة، وعادا إلى الطاولة.

-إحكيلي غريب

-عن شو؟

ضحكت مها وابتسم بدوره. كان لضحكاتها مفعول السحر في تبديد إحساسه بالغربة. 

-عن شو ؟ عن حالك . من وين إنت ؟ شو اهتماماتك ؟ ليش جاي عبيرزيت ؟ شو رأيك بالعملية الأخيرة ؟ هيك أشيا يعني

ارتبك عقب سماعه سؤالها الأخير. كان حريصا فيما يتعلق بالقضايا السياسية. هيك خبط لزق ؟ هل يعقل أن توجهي لي سؤالا كهذا بعد دقائق من تعارفنا ؟ ه

ما مبرر هذا الشعور بالأمان ؟ هل طلاب الجامعة يحسون بالثقة تجاه كل من يدخل الحرم الجامعي ؟ وعلى أي أساس ؟  كان حسه الأمني متيقظا. لكنه الآن في مأزق. ماذا يقول لها ؟ رأيه بالعمليات التي تستهدف المدنيين لم يكن مقبولا في أوساط أصدقائه، وكثيرا ما تعرض للسخرية بسببه، فكيف سيبوح به لغريبة قابلها منذ دقائق؟ هل يقول لها إنه يرفضها لأنه يرفض أن نتشبه بهم ؟ إذا قلدنا أساليبهم واستهدفنا المدنيين فكيف سنهاجمها حين نكون ضحيتها ؟ وهل سيكون لمهاجمتها مصداقية أمام الآخرين إذا كنا نمارس الشيء ذاته ؟ لا، عليه أن يكون حذرا. هو لا يعرفها.

ركز في وجهها، للمرة الأولى منذ بدءا الحديث. لون عينيها كان غريبا، لا يستطيع أن يحدد إن كان بنيا أم أسود. شعرها خروبي، مموج، ينسدل على كتفيها بحرية. كانت أقصر منه قليلا. حدثها عن نفسه لكنه تجاهل الجزء الأخير من سؤالها. لم تلح في استجوابه.

-بتحب تتعرف علي أجواء الصفوف ؟

هز رأسه: ممكن ؟

ضحكت مرة أخرى: وليش ما يكون ممكن ؟

استغرب .هو يعيش  في أجواء المدرسة، حيث كل شيء تقريبا، خارج نطاق النظام الصارم،”غير ممكن” .

-يلا خلص ساندويشتك وخلينا نقوم، عندي صف  ” دراسات ثقافية مع الدكتورة إلهام 

غادرا الكافتيريا واتجها إلى الصف.

كان الحضور لا يتجاوز العشرة، شبابا وفتيات يرتدون الجينز ، مظهرهم بسيط.كانوا  يثرثرون في قضايا متنوعة.

دخلت الدكتورة إلهام مبتسمة. لم تطلب مها إذنا لحضوره، ولم تعترض الدكتورة على وجوده في الصف. كان متوترا.

بدأت الدكتورة الحديث.

-شو موضوعنا للنقاش اليوم ؟ 

طرحت السؤال.

-عن التعامل مع ظاهرة الاغتراب المجتمعي 

رد أحد الطلاب.

بدأ قلبه يدق بتسارع . “هذه حياتي. ما هو شعورك حين تكون حياتك مادة للنقاش في صف جامعي ؟”

-ماهر إنت كان رأيك إن لا ضرورة للتماهي مع ثقافة المجتمع 

رد ماهر : صحيح إلهام، تصوري، لو النخبة مجبورة تتماهى مع الثقافة  السائدة ، عوضا عن دفعها للأمام ، كيف ممكن تساهم في تطور المجتمع ؟

قاطعته مها: لكن المجتمع لا يتطور بالتنظير ، إذا ما كان التطور عضوي مش رح يحصل أصلا

كان يتابع بانبهار ، ويحاول أن يطبق وجهات النظر المختلفة على حالته. أدلى ثلاثة آخرون بدلوهم، ثم فجأة نظرت الدكتورة إليه مبتسمة وسألت: وشو رأي ضيفنا ؟ شو إسمك أول ؟

-إسمي غريب 

-غريب أهلا فيك، وطبعا من حقك تشارك في النقاش، إذا بدك طبعا 

ازدادت دقات قلبه تسارعا، وأخرج منديلا ورقيا مسح به العرق عن جبينه. لديه ما يقوله، لديه الكثير، لكنها المرة الأولى التي يتحدث فيها في مكان عام. في المدرسة يستمع إلى محاضرات المدير والمدرسين عن مستقبله الذي تتهدده “أفكاره الغريبة”، وفي البيت يكمل الوالد من حيث توقف الأساتذة، وهو لا يعلق ولا يبدي أي رد فعل. تعلم أن أفضل رد فعل هو أن يفصل نفسه عن محيطه تماما بمجرد أن يبدأوا المحاضرة . وحين ينتهون يبتسم بحيادية ويعود بوعيه إلى المكان.

تلفت حوله. كان واضحا أنه يهم بالحديث. نظر إلى مها، كانت تبتسم له وتهز رأسها مشجعة. وقف. 

-ما فش داعي توقف، في الجامعة ما بنوقف لما نحكي

قالت الدكتورة إلهام.

جلس، ركز نظراته في الدكتورة وانهمر الكلام.

-الموضوع اللي بتناقشوه هون نظريا هو حياتي ، أنا من سنتين بعيش الصراع والمواجهة. أنا طبعا طالب مدرسة أعيش في قرية، هامش الحرية في حياتي محدود، وخطواتي مرصودة من الجميع: المدرسة، العائلة، الشارع. أنا عشت حالة تحول بطيء استمر سنتين  من التدين للتفكير النقدي الحر. سنتين من العذاب، حطيت كل الثوابت في حياتي تحت المجهر: المؤسسة التعليمية، الدين، العائلة، المجتمع، السياسة. حاليا أنا في فكري وشخصيتي نقيض اللي كنته من سنتين.لكن في سلوكي ما تغير إشي، مقيد بنفس القيود اللي عاملتلي حالة انفصام بين أفكاري وحياتي.

كان يتحدث بسلاسة، فهو يتحدث عن حياته، وكان الجميع ينصتون باهتمام. كان الشعور غريبا وغير مسبوق. النظرات المسلطة عليه، تعقيب الطلاب والطالبات والدكتورة إلهام على ما قال، بندية تامة، أسلمه لحالة غير مسبوقة من النشوة. في هذه اللحظة اتخذ القرار: سيلتحق بهذه الجامعة في العام القادم. لن توافق العائلة، فهم يرسمون مستقبله بعناية لأنه طالب متفوق في المدرسة، ولا يمكن أن يوافقوا  على دراسته مادة أدبية في بيرزيت، وهو ما يريده.

انتهى السيمينار، وخرج مع مها.

-شو هذا يا زلمي ؟ أبدعت

قالت وهي تلكزه في كتفه.

ابتسم بخجل.

-يعني بكل سهولة بتقدر تكمل الكورس معنا . بتحكي بتناقش بمستوى متقدم. من وين كل هذا؟ 

لم يجب.

-جد بحكي. إحنا في التوجيهي كنا هبايل

في الطريق إلى المطعم استمعت مها إلى قصة التشظي، تمزقه بين ذاته التي شكلتها سنتان من الصراع الدائم بين قراءاته وتفكيره من جهة وعالمه القديم من جهة أخرى ، بين سارتر ودوبوفوار وأدلر  وماركس وفرويد من جهة، وفكر القبيلة والمؤسسة والإرث الاجتماعي من جهة أخرى.  قصة صمته وهو يستمع إلى كل من هب ودب يبيع ويشتري في حياته ومستقبله، يحذره من نفسه، يدعوه إلى التشبث بما يتشبثون به، ينذره  بالويل والثبور وعظائم الأمور إن ركب رأسه.

كانت مها تنظر إليه نظرات غريبة، وكان يهرب بعينيه من نظراتها

-يا زلمي كل هذا يطلع منك ؟

ضحك.

-شو اللي طلع مني ؟

-شو رأيك تدخل عني الامتحان وبعزمك على غدا في الكافتيريا ؟

مرة أخرى ارتفعت ضحكته، وبدأ يتخلص بسرعة مما تبقى من توتره

بعد الغداء نزلا إلى رام الله، كان لا بد من زيارة مقهى ركب قبل عودته إلى عنبتا. دعا مها، واشترط أن يدفع هذه المرة. لم يكن معه الكثير من النقود ، لكنه وسط حالة الانتشاء التي كانت تغمره لم يفكر بعاقبة هذه الدعوة على ميزانيته.

-ما قلت لي ، شو جابك عالجامعة ؟ في هدف محدد للزيارة ولا بس هيك شمة هوا ؟

نظر إليها غريب وانفجر بالضحك.

ابتسمت بدورها وهي تنظر إليه: مالك ؟ شو اللي بيضحكك ؟

-طبعا أنا جاي لهدف، بس ما أنجزته

-شو الهدف؟

سألت  بفضول.

-كنت بدي استفسر عن دورات لغة إنجليزية مكثفة في العطلة الشتوية

-هاي بسيطة يا زلمي. أنا بجيب لك المعلومات.

نظر إليها بامتنان. هذا يعني أن الصلة بينهما لن تنقطع بنهاية زيارته.

-بكون ممنونك كثير.

أحضر النادل البوظة ووضعها أمامهما.

-بوظة ركب رفاه نادر بالنسبة لي

ضحكت  مها: رفاه ؟ ول ليش ؟ متوفرة خير ألله

-متوفرة في رام الله، وأنا من قرية بعيدة، نسيتي ؟

قالت مبتسمة:  طيب هذا سبب تزورنا كلما اشتهيت البوظة

بادلها الابتسامة وفكر: هذه دعوة صريحة، لن أرفضها. لكن كيف ؟ الدوام المدرسي لن يكون عائقا، سآتي بعد الدوام، لكن من أين أوفر تكاليف السفر ؟

نظرت في ساعتها.

-أنا لازم أرجع عالجامعة، عندي محاضرات بعد الظهر. بس رح أشوفك، صح ؟ هاي مش آخر زيارة إلك لبيرزيت.

قال بحماس: أكيد مش آخر زيارة.

-طيب يلا قوم أوصلك لسيارات نابلس.

انتشى لهذا العرض السخي. دقائق إضافية سيقضيها بصحبتها. واضح  أنه يستمتع برفقتها. كانت أول فتاة يقترب منها بهذا القدر، وأربكه الموضوع إلى حد ما، ومنحه شعورا لذيذا غير مسبوق.

اتجها نحو سيارات نابلس. حين وصلا مدت يدها، صافحته وقالت مبتسمة: إجعلها بعودة

بادلها ابتسامة وقال: أكيد

انتظرت جلوسه في سيارة الأجرة ثم لوحت له وغادرت. أما هو فبقي طوال الطريق يستعيد الوقت اللذيذ الذي قضاه بصحبتها، حديثها، ثقتها بنفسها، ضحكتها، جرأتها غير المألوفة. ليست له أي صلة بفتيات بلده ولا يعرف أي فتاة أخرى. مها كانت أول فتاة يقضي معها وقتا نوعيا، يخوض معها نقاشات، يدعوها إلى مقهى. حصل كل هذا في مشوار واحد. لكن يا لسوء حظه ! هي بعيدة، فرصة اللقاء بها ستكون نادرة. 

نظر من شباك السيارة. يحب الطريق بين رام الله ونابلس والمناظر على الجانبين. ليس فيها شيء مميز، مرتفعات وهضاب، قرى بمنازل بسيطة، لكن المشهد يمنحه راحة نفسية. يراقب البيوت تبتعد والسيارة تنهب الطريق . يحاول دائما أن يجلس بجوار النافذة.

-ظايل حدا ما دفعش ؟

_أنا

قال، وأخرج الأجرة من جيبه وناولها للسائق.

حين وصل نابلس فكر في أن يزور أحد محلات الكنافة. بوظة وكنافة في نفس اليوم؟! أي رفاهية هذه ! لا باس بقليل من الدلال الذاتي.

توجه إلى محلات بسيس القريبة من الكراج. صواني الكنافة الساخنة أثارت شهيته، فمصمص شفتيه.

-تفضل عمي

ناداه رجل كان يقطع الكنافة ويضعها في صحون.

دخل، جلس إلى إحدى الطاولات. حضر إليه شاب:

-تفضل

-نص وقية ناعمة

جاء طلبه خلال لحطات، فبدأ يأكله بشهية. حين انتهى دفع الحساب وغادر باتجاه كراج طولكرم. 

استقل سيارة أجرة كانت تنتظر الراكب الأخير ، وحين أخذ مقعده فيها انطلق السائق باتجاه طولكرم. وصل بلدته في مزاج مرح. 

حين وصل البيت وجد أخته سلمى المتزوجة في طولكرم في ضيافتهم. كانت تجلس مع أمه وأخته رنا على الشرفة.

سلم، وصافح أخته.

-أهلا وسهلا. وين زمان ما شفناك ؟

سألها.

-طيب وإنت ليش ما بتطل ؟ سمعت إنك كنت في طولكرم، كان ميلت تغديت عندي.

-والله يختي ما كنت في مزاج منيح

تنهدت أخته: بعرف .شو بدهم منك، الله يلعنهم ؟

-روحي يا رنا إعملي قهوة

قالت أمه.

وقفت رنا، أخرجت له لسانها وتوجهت إلى المطبخ.

ابتسم غريب.

-كيف كان مشوارك ؟

سألته سلمى.

-يما لليش رحت إنت على بيرزيت ؟

-يما لازمتني دورة تقوية

-أبوك قال لغتك الأنكليزية منيحة.

تجاهل ملاحظتها، وخاطب سلمى: لقيت دورة مكثفة في عطلة الشتا

-طيب ممتاز

-كثير ضرورية، بس مش عارف من وين أدبر القسط

-بتتدبر ما تهمل هم

قالت. أخته تعمل في التدريس، واشترط والده حين تزوجت أن تحتفظ براتبها. أثار الموضوع في حينه جدلا مع عائلة العريس، لكن والده أصر. قال إنه يريد أن تكون ابنته مستقلة اقتصاديا. استهجن والد العريس هذه اللغة، لكن والده أصر، وهكذا كان.

-الله يخليلنا اياك 

قالت الأم موجهة الحديث لابنتها.

أحضرت رنا الصينية وعليها دلة القهوة والفناجين.

-ما جبتلكش فنجان

قالت مشاكسة.

-عزا ليش ؟

سألت والدته مستنكرة.

-بتمزح، هيها جايبة أربع فناجين

قالت سلمى.

صبت رنا القهوة للجميع، وتناول كل فنجانه.

شرب قهوته ودخل غرفته. يبدو أن مشكلة قسط بيرزيت ستحل بأسهل مما تصور. بقي أن يقنع والده بالسماح له، مبدئيا، بالتسجيل للدورة.

The post فصلٌ من «غريب» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
اغتراب الأدب: نقد ما بعد الحداثة وواقع ما قبل الإقطاع https://rommanmag.com/archives/20450 Fri, 09 Apr 2021 10:13:16 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d8%ba%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d9%86%d9%82%d8%af-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%af%d8%a7%d8%ab%d8%a9-%d9%88%d9%88%d8%a7%d9%82%d8%b9-%d9%85/ نشأ المسرح في بلاد الإغريق ونشأت الرواية في أوروبا، وكلاهما كان على علاقة عضوية بواقعه الاجتماعي الراهن. في البداية اتخذ المسرح الإغريقي شكل مهرجانات شعبية تمجد الآلهة أطلق عليها “ديونيسيا المدينة”، نسبة إلى الإله “ديونيسوس”، حيث أدى الرجال أغنيات تمجد ديونيسوس وترحب به. كانت أثينا المركز الرئيسي لتقاليد المسرح. عُرفت حينها الكوميديا والتراجيديا كشكلين منفصلين من أشكال […]

The post اغتراب الأدب: نقد ما بعد الحداثة وواقع ما قبل الإقطاع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نشأ المسرح في بلاد الإغريق ونشأت الرواية في أوروبا، وكلاهما كان على علاقة عضوية بواقعه الاجتماعي الراهن. في البداية اتخذ المسرح الإغريقي شكل مهرجانات شعبية تمجد الآلهة أطلق عليها “ديونيسيا المدينة”، نسبة إلى الإله “ديونيسوس”، حيث أدى الرجال أغنيات تمجد ديونيسوس وترحب به. كانت أثينا المركز الرئيسي لتقاليد المسرح. عُرفت حينها الكوميديا والتراجيديا كشكلين منفصلين من أشكال الأداء المسرحي. وضع أرسطو في مؤلفه “الشعرية” وصفا للبنيان المثالي للتراجيديا.

كانت الكوميديا أيضا أحد الأعمدة المهمة للمسرح الإغريقي، واعتمدت على التقليد والمحاكاة. وكتب أريسطوفانيس معظم مسرحيات الكوميديا في ذلك الوقت، بقي منها 11 مسرحية، أهمها “ليسيستراتا”، وهي تحكي قصة امرأة قوية تقود تحالفا أنثويا لإنهاء الحرب في بلاد الإغريق. أما الرواية فنشأت واتخذت شكلها السردي في أوروبا في القرن الثامن عشر، وكانت وليدة التطور الاجتماعي المصاحب لنمط الإنتاج الرأسمالي، وبداية تبلور الثقافة الاجتماعية التي تحتفي بالفرد.

كان نشر رواية دانييل ديفو “روبنسون كروزو” عام 1719 حدثا استثنائيا، توج محاولات سابقة للكتابة الروائية. ما ميز رواية ديفو هي عناصر تبدو الآن أساسية في جنس الرواية كما يرى جون مولان في مقاله بعنوان “ظهور الرواية”، وأهمها أن موضوعها كان شخصا عاديا، واتخذت عالمه العادي موضوعا. حتى عندما تجنح الرواية إلى استخدام حياة أبطالها (العاديين) من أجل التعبير عن رؤية فلسفية للمؤلف، هي تستخدم الإنسان العادي وحياته العادية لتعبر من خلاله عن “مقولتها غير العادية” إن صح التعبير.

العالم العربي: الزبدة دون الحليب

مع أن المسرح العربي ظهر بشكله البدائي في أيام الخلافة العباسية، وكان يعتمد على الهزل والسخرية والإضحاك، إلا أن الشاعر أدونيس يرى أن مفهوم ومقومات المسرح في تناقض واضح مع الثقافة الدينية للمجتمع العربي.

فالمسرح بمفهومه القديم والحديث قائم على الإشكال، والثقافة الدينية في المجتمع العربي تتسم بالبنية الخالية من الإشكال لأنها تقوم على الإيمان المطلق، الذي لا يفسح مجالا للتساؤل. وكيف يمكن أن يزدهر المسرح في ثقافة لا يكون الإنسان مركزها؟ فالإنسان، مسرحيا، هو مركز الكون، لكن الله هو مركز الكون في الثقافة الدينية للإنسان العربي. لكن أدونيس ليس الوحيد الذي لفت الانتباه إلى هذا التناقض، وإن كان هو من شكك بوجود مسرح عربي قديم أو حديث.

ومن أوجه التناقض بين مفهوم المسرح وطبيعة المجتمع والثقافة العربية كما يرى الباحث محمد عزيزة، أن الصراع أساس المسرح وهو ليس من سمات المجتمع العربي. ويقسم عزيزة الصراع في المجتمع الإغريقي إلى أربعة أشكال: الصراع العمودي، أي تمرد الفرد ضد إرادة الآلهة، والصراع الأفقي، أي ثورته على قوانين المجتمع، والصراع الديناميكي الناجم عن رفضه لمصيره، والصراع الداخلي الذي يدور بين الإنسان وذاته. ولا تتسامح الطبيعة الدينية للمجتمع العربي مع أشكال الصراع هذه.

إذن، حين تكاثرت العروض المسرحية في المدن العربية لم تنبثق من أرضية اجتماعية، فكرية ، فلسفية أدت لتطور المسرح بشكل عفوي، بل كانت قشرة ثقافية طافية على سطح التطور الاجتماعي. لذلك لن نفاجأ أن العروض المسرحية العربية قفزت على كل الحدود والحواجز، فصرنا نشاهد عروضا مسرحية ما بعد حداثية في مجتمعات بقيت ثقافتها الاجتماعية عالقة في مرحلة الإقطاع، أو ما قبله.

وكان لهذا الانفصام عن الواقع الاجتماعي أثر في غياب التراكم في التجارب المسرحية العربية، من بغداد إلى بيروت إلى رام الله. بقيت التجارب، وبعضها كانت ناجحة، تتحرك في جزر معزولة، فمن جهة بقي جمهورها نخبويا، ومن جهة أحرى لم تؤسس لثقافة مسرحية عربية بملامح تنتمي إلى الثقافة السائدة. يعني، ما حصل هو أن النخبة الثقافية العربية استعارت منجز ثقافات أخرى وحاولت محاكاتها، بدرجات متفاوتة من النجاح، ثم أفلت تلك التجارب قبل أن ترسي تقاليد يبنى عليها.

الرواية واستمرار “المحاكاة”

وبالنسبة للرواية العربية الحديثة، كانت بداياتها كلاسيكية، مؤسسة على المنجز الأوروبي بدورها. كان التأثير الروائي أعمق وأثرى من نظيره المسرحي، فقد خطت خطوات واثقة منذ عمالقة السرد الكلاسيكي العربي كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس.

تطور السرد الروائي العربي كثيرا منذ البدايات في مصر («زينب» لمحمد حسين هيكل) وسوريا حيث ينسب لفرانسيس مراش إصدار أول رواية عربية بعنوان «غابة الحق في تفصيل الأخلاق الفاضلة وأضدادها» عام 1866، لكن البدايات كانت تفتقر للمقومات الفنية للرواية الكلاسيكية. وفي فلسطين كانت رواية «الوارث» لخليل بيدس التي صدرت في حيفا عام 1920 والتي حاولت أن تحاكي البدايات الروائية الأوروبية في نزعة الوعظ الأخلاقي. ومن لبنان كانت روايات جورجي زيدان التاريخية.

ولعل روايات طه حسين «الأيام» بجزأيها (1929، 1939) و«أديب» (1935) كانت بدايات الرواية العربية الحديثة ثم رواية «إبراهيم الكاتب» لإبراهيم المازني وعباس محمود العقاد ورواية «سارة» عام 1938. وربما كانت رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، الصادرة عام 1933، أول عمل روائي عربي حديث يعتد به من ناحية البنيان الفني والمفهوم السردي.

ثم توالت على مسرح الأدب الروائي العربي أسماء كرست الرواية الكلاسيكية العربية المؤسسة على الرواية الأوروبية، كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وحنا مينة والطاهر وطار وعبدالرحمن منيف والطيب صالح وغيرهم، قبل أن تظهر الاتجاهات الشابة، المجددة في الأدب الروائي في أنحاء العالم العربي.

الرواية الحديثة واغتراب الأسلوب

كما أنتجت الحرب العالمية الثانية حركة “الغاضبين” في الأدب الأوروبي، الذي تمرد على كثير من أساسيات الشكل والمضمون، فنشأ “مسرح العبث” والرواية بأشكالها المعاصرة المتعددة، تركت حرب عام 1967 بين العرب وإسرائيل أثرا على أشكال السرد، الروائي والمسرحي.

تحلل المبدعون من الأشكال التقليدية وبدأوا التجريب، فظهرت أشكال تحاكي المسرح الغربي، من برتولت بريخت إلى صاموئيل بيكيت. لم يؤسس التجريب المسرحي العربي، كما أسلفنا، ثقافة مسرحية راسخة تقوم على تراكم التجارب، بل بقي أشبه بالطفرات المنعزلة وغير المتواصلة. بالنسبة للرواية، كان الوضع أفضل نوعا ما، حيث حصل تراكم ما في التجارب، وإن كانت المفاهيم النقدية بقيت حائرة ومرتبكة وتقوم على التوليف والتركيب باستخدام عناصر من هنا وهناك. ما أصبح شائعا في الفترة الأخيرة هو تبني شكل سردي دون غيره، واعتماده أساسا للجودة، وهو قائم على أفضلية الإبداع الشكلي.

أصبح النقاد ودور النشر والكثير من القراء ينظرون باستخفاف لأي عمل روائي ينتهج السرد الكلاسيكي، يستثمر في الشخصيات والحبكة أكثر من الشكل السردي وجمالية اللغة. أصبح معيار الجودة بالنسبة للنقد الشائع بمستواه النخبوي أو ما يريد إعطاء الانطباع بالنخبوية هو البعد عن الكلاسيكية والاهتمام أكثر بالإبداع في الشكل السردي، كذلك لم تعد لغة تشبه لغة السرد عند نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف إدريس مقبولة لنقاد وقراء الرواية العربية الحديثة. أصبحت لغة السرد المقبولة أكثر من غيرها هي إما الشعرية، الرومانسية، التي تشبه لغة أحلام مستغانمي، أو تلك المؤسسة على ثراء موسوعي كلغة إدوار الخياط.

وزادت الجوائز الأدبية في تكريس هذه النظرة، فبينما يمكن أن تفوز روايات متنوعة في أسلوب سردها بجائزة مان بوكر البريطانية، دون أن يكون السرد الكلاسيكي نقطة ضعف تؤثر سلبا على تقييم الرواية، وهذا يؤكده فوز رواية العمانية جوخة الحارثي «سيدات القمر» بالجائزة قبل عامين، أصبحت الجوائز العربية تستبعد تقريبا أي رواية لا تلتزم مبدأين اثنين: لغة سرد باذخة، وشكل سرد حداثيا تجريبيا. وبينما تحصل روايات سوزان أبو الهوى وإيزابيلا حماد المكتوبة بالإنجليزية، والتي تنتهج شكلا سرديا خطيا بسيطا ولغة كلاسيكية بعيدة عن الشعرية والثراء الشكلي، على اهتمام مستحق في الغرب، ليتجاهل مثلها في العالم العربي من النقاد والصحافة الثقافية والقراء على حد سواء.

في الغرب الذي قلده العالم العربي، والذي أنتج موسيقى التكنو والراب وقبلها الروك والبوب دون أن يؤثر ذلك على مكانة الموسيقى الكلاسيكية، اتسع صدر القارئ والناقد لأشكال السرد الكلاسيكية بينما فتح أحضانه لكل تجديد جمالي. أما الواقع الثقافي العربي فهو يفضل طي الصفحة ولا يحبذ النظر إلى الخلف، بل أستطيع أن أقول أنه يؤسس نظامه القيمي على افتراض أن التغير في القيم الجمالية يحدث باتجاه تصاعدي، أي أن كل جديد هو بالضرورة أفضل من كل قديم، وهو افتراض ساذج بكل المقاييس، لكنه الافتراض السائد في الواقع الأدبي العربي الحالي.

The post اغتراب الأدب: نقد ما بعد الحداثة وواقع ما قبل الإقطاع appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أزمة القراءة… مرآة لمجتمع مأزوم https://rommanmag.com/archives/20408 Thu, 04 Mar 2021 17:00:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%85%d8%b1%d8%a2%d8%a9-%d9%84%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9-%d9%85%d8%a3%d8%b2%d9%88%d9%85/ كنت في العاشرة، السن الذي يكون فيه الإنسان متعطشا لمصادر تغذي خياله، حكايات، قصص أطفال. طلبت من والدي مبلغا لشراء “قصص أطفال” من مكتبة “الطبري” في طولكرم. كان والدي مدرسا، رب عائلة كثيرة الأطفال قليلة الموارد. رد علي قائلا: مكتبة البيت عامرة بما شئت من القصص والروايات. أصبت بخيبة أمل، فالكتب التي تعج بها رفوف […]

The post أزمة القراءة… مرآة لمجتمع مأزوم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كنت في العاشرة، السن الذي يكون فيه الإنسان متعطشا لمصادر تغذي خياله، حكايات، قصص أطفال. طلبت من والدي مبلغا لشراء “قصص أطفال” من مكتبة “الطبري” في طولكرم. كان والدي مدرسا، رب عائلة كثيرة الأطفال قليلة الموارد.

رد علي قائلا: مكتبة البيت عامرة بما شئت من القصص والروايات.

أصبت بخيبة أمل، فالكتب التي تعج بها رفوف مكتبة العائلة للكبار، وأنا أريد قصص أطفال.

بدأت “أجاهد” للاندماج في عوالم روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في سن مبكر. عانيت كثيرا، لكني مع الوقت بدأت أتعود على قراءة “كتب الكبار” تلك.

كان هذا في نهاية ستينيات القرن الماضي.

كانت القراءة جزءاً من نشاط العائلات والمكتبة المنزلية، جزءاً من محتويات البيوت. كان في مدرستنا مكتبة لا بأس بها، كذلك كانت هناك مكتبات عامة ثرية في نابلس وطولكرم.

ابتداء من عقد السبعينيات أخذت القراءة تأخذ منحى جديدا: أصبحت نشاطا سياسيا، تغير مدلولها ومجالها.

أصبحت التنظيمات السياسية، خاصة اليسارية منها، تدرج قراءة الكتب المختلفة ضمن النشاطات التنظيمية لرفاقها.

هذا طبعا نشّط عملية القراءة، وإن كان حصرها معرفيا في اتجاه معين. انتشرت الأدبيات السوفياتية على نطاق واسع، وكذلك المؤلفات “ذات الطابع الثوري” أو اليساري، على حساب الكلاسيكيات, أصبح قراء غسان كنفاني وإميل حبيبي ومكسيم غوركي ونيكولاي أوستروفسكي أكثر من قراء آرنست همنغواي وويليام غولدنغ ونجيب محفوظ.

ثم جاء المد الإسلامي وانحسار اليسار، فأثر هذا على التوجهات المعرفية. أصبح اهتمام القراء منصبا على كتب الدين، وتراجعت الآداب وكتب الفكر.

بقي هذا الحال لفترة طويلة، أثرت على وضع دور النشر وتراجع توزيعها، وأدت في النهاية إلى انتشار ثقافة نشر جديدة اعتمدت حين عاد الاهتمام بقراءة الكتب، وهي إجبار الكاتب، إن كان جديدا، وبغض النظر عن قيمة منتجه، على دفع جزء من تكاليف النشر. وأصبحت الكتب تطبع بعدد محدود من النسخ كطبعة أولى، لا يتجاوز الألف نسخة في أحسن الأحوال.

أزمة ثقافة، ثقافة أزمة

تغيرت الأوضاع تدريجيا، وبدأت القراءة تصبح نشاطا رائجا، خاصة مع انطلاق جوائز الرواية والقصة. ساهم ذلك في تسليط الضوء على أعمال روائية وقصصية دون غيرها، وزيادة توزيع تلك الأعمال، وصدور عدة طبعات من الفائزة منها. 

بدأ سوق النشر يشهد انتعاشا، وظهر سوق النشر الموازي أيضا، أي “نشر السوق السوداء”. 

أصبح هناك مغامرون و”لصوص كتب” يتربصون بالأعمال التي تصل قوائم الجوائز الأدبية ويصدرون منها طبعات رخيصة على ورق سيء النوعية، ويبيعونها للقراء الذين يفضلون توفير أي مبلغ من سعر الكتاب، ولا يكترثون إن كانت دار النشر شرعية أو “سوداء”. كل ما يهمهم هو الحصول على نسخ رخيصة ، ولو من وراء ظهر المؤلف والناشر. لا بل أصبح هذا مقبولا والاعتراض عليه مستهجنا.

كذلك ازدهر ترويج الكتب المطلوبة على شكل نسخ PDF ، يستخدمها أشخاص كطعم لاجتذاب طالبيها والاستفادة منهم بشكل أو بآخر.

الغريب أن ما يرى فيه البعض “ظاهرة صحية تعكس ازدهار القراءة” يعكس في جوهره ازدراء للنتاج الأدبي، المعرفي، وبخساً مزرياً لقيمته بحيث أنه لا يستحق إدراجه ضمن الأولويات التي تخصص لها ميزانيات. من الواضح أن المجتمعات العربية مجتمعات فقيرة وميزانيات أفرادها محدودة، لكن أولويات الإنفاق من تلك الميزانيات المحدودة تعكس الموقع الذي تحتله الكتب والقراءة في حياة الناس. ثمن الكتاب من المكتبات المحترمة التي تحصل على نسخها من دور النشر، يتراوح بين 4-10 دولارات. هذا ليس مبلغا يستهان به عند شخص ميزانيته محدودة أصلا، لكن لو قارناه باشياء أخرى يستهلكها نفس الشخص الفقير لوجدنا أنه ينفق على الأكل والشرب والتدخين بأريحية. إذن المسألة مسألة أولويات.

مقارنات “ظالمة”

دعيت أكثر من مرة لفعاليات أدبية في لندن ومدن بريطانية أخرى. لفت انتباهي أنه كان على جمهور تلك الفعاليات شراء تذاكر لحضورها، ومن ثم شراء نسخ من كتبنا.

طبعا لا يمكن مقارنة دخل المواطن البريطاني بدخل مواطن عربي فقير. فعلاً؟ لندع الأرقام تتحدث: دخل شخص متواضع أو متوسط الدخل في بريطانيا يتراوح بين 1500-3 آلاف جنيه شهريا. يبدو هذا المبلغ مرتفعا إذا قورن بمتوسط دخل الإنسان العربي، لكن لنتريث قليلا: تكاليف المعيشة هنا مرتفعة، وفي العادة تبتلع تكاليف السكن والفواتير الأساسية أكثر من ثلثي الدخل. يعني القارئ البريطاني عنده استعداد لدفع عشر جنيهات على الأقل ثمنا للنسخة ومثلها ثمنا لتذكرة الدخول، أي ما يعدل واحدا في المئة من دخله المتوسط. هذه هي النسبة التي سيتكلفها القارئ العربي من دخله لشراء نسخة شرعية من الكتاب.

أما إذا أدخلنا شعوب أوروبا الشرقية، الفقيرة، في المقارنة، فستنهار خطوط دفاع المبررات العربية لاستباحة الكتب.

في المجر، مثلا، يبيعون الكتب الجديدة بما يقابل 7 يورو للنسخة الواحدة، ومعدل الدخل لا يتجاوز 400 يورو. طبعا هذا لا يناسب ميزانية الجميع، فماذا يفعلون؟ لا يلجأون لنسخ مسروقة أو مزورة، بل يزدهر سوق الكتب المستعملة. هناك الكثير من المحلات المتخصصة ببيع النسخ المستعملة بسعر زهيد. إذن القضية قضية مبدأ، لا إمكانيات مادية.

وجوه أخرى للأزمة

هذه ليست المظاهر الوحيدة لغبن المبدع العربي حقوقه، فهو في العادة  بالكاد يحصل على أي دخل من كتبه. هذا هو الجانب المادي فقط، لكن هناك جانب أكثر إيلاما، وهو تعامل أبناء المهنة معه، من صحفيين ثقافيين، جوائز أدبية، نقاد.

مرة أخرى أجد نفسي مضظراً “للمقارنة الظالمة” مع الواقع الأوروبي.

بدأت نشاط الكتابة الروائية والنشر في بلد أوروبي (المجر). طبعا بدأت رحلة الانتشار من “الصفر” بمعنى الكلمة: بلد غريب، إسمي لا يعني شيئا لأي قارئ أو ناشر أو ناقد. لم تكن لي علاقات في الوسط الأدبي أو الإعلامي وبالتالي فلا يمكن الحديث عن “علاقات عامة”. مع ذلك، حظيت بانتباه أهل المهنة، من صحفيين ثقافيين ونقاد، وبالتالي قراء، منذ أول رواية نشرتها باللغة المجرية. لم أكن حائزاً على جوائز ولا حتى مدرجا في قوائمها الطويلة أو القصيرة، مع ذلك أخذت مؤلفاتي حقها من اهتمام أهل المهنة، لأن العمل الأدبي هو موضوع الاهتمام لا مؤلفه.

في العالم العربي أنت ومؤلفاتك رهن بمعادلات السوق العجيبة: عليك أن تحصل على جائزة ما، أو تصل إلى القوائم الطويلة أو القصيرة لتلك الجوائز. طبعا حظك، موضوعياً، فقير، في الوصول إلى تلك القوائم، وذلك لأن الأعمال الإبداعية التي تستحق الاهتمام أكثر عدداً بكثير مما تستطيع الجوائز بقوائمها الطويلة والقصيرة استيعابه، وحظك رهن بذائقة أعضاء اللجنة التي تختار الروايات الفائزة، خاصة أن بعض تلك الجوائز والمنصات الثقافية تعيد التدوير: تصل روايتك إلى  القائمة الطويلة أو القصيرة لجائزة البوكر مثلاً فتصلك دعوة للمشاركة في معرض الشارقة السنوي للكتاب أو مهرجان طيران الإمارات، فتدعوه محطات تلفزيونية ضيفاً في برامجها، فيراك القراء فيشترون كتبك، فيراك الصحفيون الثقافيون فيكتبون عنك، فتلتفت إليك لجان جوائز أدبية أخرى… وهكذا.

أما إذا لم تصل إلى تلك القوائم، أو اخترت عدم المنافسة على الجوائز أصلاً بسبب بؤس واقعها، فقد حكمت على نفسك بالاستبعاد من بقية  حلقات السلسلة، مهما كانت القيمة الإبداعية لما تكتبه.

وهكذا تنشأ ظواهر عجيبة: مثلاً، أن يكون هناك مؤلف يحظى نتاجه باهتمام أكاديمي ملحوظ، تكتب عن نتاجه دراسات أكاديمية في أكثر من بلد وبأكثر من لغة، لكن الصحافة الثقافية والنقاد الذين يلهثون وراء الجوائز لا يرون مصلحة في دراسة أعماله أو الكتابة عنها.

أما أكثر الظواهر بؤساً فهي تحول النتاجات الإبداعية إلى “أعراس” بالمعنى العشائري للكلمة: ستجد كاتباً احتشد على منصة إشهار عمله الروائي الأول عدد كبير من النقاد والأكاديميين والصحفيين، وستجد صحافياً ثقافياً يكتب عن رواية لمؤلف صديق بمجرد أن يقرأ خبر صدورها، وسيتضح من العموميات التي يكتبها أنه لم يقرأ العمل، لكنه يطريه إطراءً شديداً “عالعشم”.

ستجد صحفياً ثقافياً آخر يكتب عن روائي في دولة بعيدة، ويتجاهل آخر ربما يقيم في نفس مدينته، وذلك لاعتبارات الربح والخسارة.

هذا غيض من فيض من مظاهر بؤس واقع الأدب ومقومات الانتشار في العالم العربي، وواضح أن الأمور متجهة نحو الأسوأ.

قبل أسابيع قرأت خبراً عن ازدهار مبيعات الكتب في بريطانيا، حيث بيع 200 مليون كتاب خلال العام المنصرم، بسبب ظروف الإغلاق التي فرضها وباء كورونا.

شهد العالم العربي، في المقابل، شكلا آخر من “الازدهار”: ازداد توزيع النسخ الإلكترونية المسروقة.

The post أزمة القراءة… مرآة لمجتمع مأزوم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الكتابة الروائية والتمثيل: المعرفة والتقمص  https://rommanmag.com/archives/20376 Tue, 09 Feb 2021 09:05:32 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%85%d8%ab%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%81%d8%a9-%d9%88%d8%a7/ كنت أعمل على تحرير مادة إخبارية تتعلق برفض الممثلة الأمريكية كيرا نايتلي أداء مشاهد جنسية في أفلام من إخراج رجال فقفزت إلى ذهني تداعيات تتعلق بموضوع شبيه في لب نظرية النقد الأدبي. كيرا نايتلي ترى أن مخرجة (أنثى) أقدر على فهم السيكولوجية الجنسية للمرأة، وأن المخرج (الذكر) ربما يسقط على المشهد تصوراته الخاصة. نحن هنا […]

The post الكتابة الروائية والتمثيل: المعرفة والتقمص  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كنت أعمل على تحرير مادة إخبارية تتعلق برفض الممثلة الأمريكية كيرا نايتلي أداء مشاهد جنسية في أفلام من إخراج رجال فقفزت إلى ذهني تداعيات تتعلق بموضوع شبيه في لب نظرية النقد الأدبي.

كيرا نايتلي ترى أن مخرجة (أنثى) أقدر على فهم السيكولوجية الجنسية للمرأة، وأن المخرج (الذكر) ربما يسقط على المشهد تصوراته الخاصة.

نحن هنا أمام إشكالية معقدة يقف أمامها الروائيون أيضاً من الجنسين، والنقاد الذين يتعاملون مع أعمالهم الروائية.

السؤال أثاره الأكاديمي والناقد الفلسطيني د. عادل الأسطة على مستوى آخر. هو يعتقد أنه ليس من حق روائي الكتابة عن مدينة لم يكن مقيما فيها، وكتب أكثر من مقال حول هذا الموضوع وأدرج عدة أمثلة لروايات تدور أحداثها في مدن لم يقض المؤلف جزءاً من حياته فيها.

يقول الأسطة مبررا  رؤيته النقدية ” :

“ما كنت لأذهب إلى ما أذهب إليه لولا قراءتي عددًا من الروايات التي تجري أحداثها في بيئة غير بيئة الكاتب، وزمان لم يكن شاهدًا عليه، وملاحظتي ورود أخطاء فيها تشير إلى أنّ الكاتب يكتب عن زمنه هو، لا عن الزمن الروائيّ المسترجع والمتخيّل أوّلًا. كما يبدو الكاتب في مثل هذه الروايات غير محيط إحاطة تامّة بالمكان الذي يكتب عنه، ما يوقعه في أخطاء عديدة في الكتابة عن المكان”.

بغض النظر عن هوية الأعمال الروائية التي يتحدث عنها الأكاديمي الفلسطيني وما إذا كان اعتراضه النقدي الذي أورده هنا له ما يبرره في الروايات المشار إليها، كل هذا غير ذي صلة هنا. السبب أنه لا يمكن تأسيس مبدأ نقدي على ظاهرة محددة مرتبطة بأعمال محددة، هذا لو كانت استنتاجات الناقد وملاحظاته المتعلقة بتلك الأعمال صحيحة.
 

Keira Knightley plays the French writer Colette in this biographical movie directed by Wash Westmoreland

يوجد مبدآن من أساسيات الكتابة الروائية: المعرفة والتقمص

لنعد قليلا إلى إشكالية الممثلة الهوليوودية . هي تعتقد أن الأمر مرتبط بالهوية الجنسية للمخرج، عملياً تؤسس رؤيتها على مبدأ شبيه بالذي يرتكز إليه  الأكاديمي الفلسطيني الأسطة.

هي ترى أن المخرجة أنثى أقدر على فهم وبالتالي تجسيد الانفعالات الجنسية لامرأة على الشاشة من مخرج “ذكر”.

و عادل الأسطة يرى أن من ولد ونشأ وترعرع في مدينة القدس أقدر على تصوير مشاهد الحياة في أزقتها.

كلاهما يلغي مبدأ أساسيا في الكتابة الروائية والتمثيل بشكل عام: المعرفة كأساس لتقمص المشهد، وبالتالي تقديمه روائيا أو سينمائيا.

الموضوع ليس مقصورا على المشهد الجغرافي الذي يقدمه الكاتب في روايته إذن، وهل فعلاً عليك أن تكون من سكان القدس أو يافا أو أي مدينة أو قرية أخرى حتى تستطيع الكتابة عنها. بلعبة بسيطة نستطيع أن نرى عبثية الموضوع، كل ما علينا فعله هو  “مط” المبدأ قليلا فيصبح المبدأ النقدي المزعوم كالتالي: المخرج السينمائي الذي يخرج فيلما عن المثليين يجب أن يكون مثليا، وإذا كان بطل الفيلم من العالم السفلي فيجب أن يكون المخرج مجرما أباً عن جد، وفي حال كان موضوع الفيلم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن يكون إما إسرائيليا أو فلسطينيا. ونفس المبدأ في حالة الكتابة الروائية. لا أظن أن “لعبتي” هنا فيها إجحاف بحق أصحاب الأطروحة المشار إليها، سواء من عالم الأدب أو التمثيل السينمائي، فالمبدأ هو ذاته في جميع الحالات.

الصنعة: craftsmanship

هناك متطلبان أساسيان للكتابة (والتمثيل والإخراج السينمائي أيضا) وهما “الصنعة” أي امتلاك المبدع، سواء كان مخرجا سينمائيا أو روائياً، المهارات التي تؤهله لإنتاج العمل الإبداعي، والمعرفة أي حيازة ما يكفي من الفهم المؤسس على المعلومات عن الموضوع.

في حال الرواية، مرتكزات الكتابة كثيرة وصعب أن أحصرها هنا، لكن ليس بينها أن تنتمي موضوعيا لما تكتب عنه. يمكنك أن تكتب عن أكثر القضايا خصوصية لامرأة أو طفل أو رجل مسن، بينما أنت كاتب أربعيني ذكر. 

هناك كاتبات عربيات مرموقات، لكن أعمالهن الروائية/القصصية التي كانت “الروح الأنثوية” فيها قوية لم تكن أفضل أعمالهن: سحر خليفة، نوال السعداوي، رضوى عاشور. أحسست فيها الصوت الأيديولوجي قويا وواضحا. بينما كتب رجال أعمالا تقترب من إنسانية المرأة بشكل احتراف ومبرر معرفيا.

كما يمكنك الكتابة عن أي حقبة تاريخية تشاء، وأي بيئة جغرافية تختار، ما يتطلبه ذلك هو أن تكون قادرا على “تقمص” عالم الشخصية، مشاعرها ، انفعالاتها، لغتها، وهو متطلب شديد التعقيد. كثيرا ما يحس القارئ بالاغتراب عن العمل الروائي الذي يقرأه أو الفيلم الذي يشاهده، لأن الشخصية غير مقنعة في سلوكها، خطواتها، لغتها، انفعالاتها. هذا يعني أن المبدع غير متمكن من أدواته، ولا علاقة لذلك لا بجنسه ولا بسنه أو مكان سكناه.

شكسبير وسيكولوجية الحب

في إحدى مسرحيات شكسبير التي تحمل عنوان “حلم ليلة صيف” يظهر تمكن الكاتب الإنجليزي من السيكولوجية الأنثوية في قضية دقيقة جدا: المشاعر الخاصة! كيف تفكر وتتصرف المرأة العاشقة وكيف تكون انفعالاتها؟ 

موهبة شكسبير معروفة لنا في مسرحياته الأخرى وكيفية إدارة المشاهد فيها وتوجيه خطوات شخصياتها، لكن المسرحية المشار إليها هنا تمس قضية في غاية الحساسية: أدق مشاعر المرأة العاشقة.

نستطيع أن نقول ذات الشيء عن الروائي الكبير نجيب محفوظ، فقد تنوعت شخصياته ومشاهده الروائية إلى درجة كبيرة، هو يكتب عن مجرمين، نشطاء سياسيين، مومسات، عشاق، أطفال. من حق القارئ أن يتساءل: هل عرف الكاتب كل هذه النماذج البشرية؟ هل عاش في كل تلك الأحياء الشعبية والقصور والڤلل؟ بالتأكيد لا، نجيب محفوظ كان ينتمي إلىى الطبقة الوسطى لكنه كتب عن عالم كل الطبقات والفئات العمرية والأجناس.

طبعا لا ضرورة لأن يكون الكاتب أو المخرج السينمائي بعظمة شكسبير أو موهبة نجيب محفوظ حتى يستطيع اللعب وفقاً لقوانين اللعبة.

معرفة ملابسات وأجواء ما تكتب عنه متطلب أساسي للكتابة الروائية، ومن هنا تتنوع مستويات الكتابة والكتاب. حين أتحدث عن “المستويات” هنا أقصد الجانب التقني تحديدا، فالجوانب الأخرى للأعمال الإبداعية نسبية ولا يمكن تصنيفها نوعيا بسهولة. يمكن للقارئ أو الناقد أن يختلف مع رواية، أن لا يحبها، أن لا يعتبرها “عملا عظيما” بينما يرى آخرون العكس، هذا مشروع، لكنه مشروط أيضا. يجب أن يجتاز المتطلبات الفنية الأساسية، ومنها أن يتحلى المبدع بالمتطلبات المعرفية، التقنية والخبرة اللازمة لإنتاج العمل.

مستويات إشكالية

طبعا تتباين مستويات التحدي الذي يواجه المبدع، حسب الشخصية التي يرغب بتقديمها، ومدى بعدها الموضوعي عنه.

قد يتمكن روائي (ذكر) في الستين من الكتابة عن  التجربة العاطفية الأولى لشاب في العشرين، بالاتكاء على الذاكرة والقيام ببعض الأبحاث. تجربة الفتاة المراهقة مع دورتها الشهرية الأولى، الرعب، الضياع، الحيرة وكل الانفعالات المصاحبة شيء لا يمكن أن يعرفه ذاك الروائي لكن هذا لا يعني أنه يحظر عليه الكتابة عنه. هناك أكثر من وسيلة لحيازة المعرفة، منها القراءة، البحث النظري والميداني. يمكنه الدخول إلى الإنترنت وقراءة عدد غير محدود من الأبحاث، كما يستطيع إجراء مقابلات مع فتيات شابات ما تزال التجربة حية في ذاكرتهن.

وفي المقابل، بإمكان كاتبة، أنثى، أن تكتب بمستوى معقول من الأمان عن السيكولوجية الجنسية للرجل، وحيازة المعرفة عبر نفس القنوات المذكورة.

التغيرات التقنية وتطور المعارف ساهمت بتخفيف الأعباء عن المبدعين، بأن جعلت الوصول إلى اي معلومات يحتاجونها سهلا.

هناك تحديات كبيرة تفرضها كتابة رواية جيدة، لكن ليس من بينها معرفة تفاصيل شوارع القدس أو يافا عبر الإقامة في المدينتين لفترات زمنية طويلة .

The post الكتابة الروائية والتمثيل: المعرفة والتقمص  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جبرا إبراهيم جبرا و”البحث عن الفلسطيني الأيقونة” https://rommanmag.com/archives/20345 Thu, 14 Jan 2021 13:29:51 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d8%a8%d8%b1%d8%a7-%d8%a5%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85-%d8%ac%d8%a8%d8%b1%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%ab-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a/ مما ترتب على النكبات المتلاحقة التي تعرض لها الفلسطيني منذ عام 1948 وردود أفعاله عليها أنْ تحول إلى “أيقونة”، “نمط” ، “ستيريو تايب”، صورة بملامح ثابتة لا تشبه ملامح الإنسان العادي متعدد الألوان والحالات. الفلسطيني تحول إلى “نمط” في الوعي الذاتي وفي وعي الآخر أيضا. لم تتدرج ألوان صورة الفلسطيني في وعي الإنسان العربي بل […]

The post جبرا إبراهيم جبرا و”البحث عن الفلسطيني الأيقونة” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مما ترتب على النكبات المتلاحقة التي تعرض لها الفلسطيني منذ عام 1948 وردود أفعاله عليها أنْ تحول إلى “أيقونة”، “نمط” ، “ستيريو تايب”، صورة بملامح ثابتة لا تشبه ملامح الإنسان العادي متعدد الألوان والحالات.

الفلسطيني تحول إلى “نمط” في الوعي الذاتي وفي وعي الآخر أيضا.

لم تتدرج ألوان صورة الفلسطيني في وعي الإنسان العربي بل حصل فيها استقطاب ثنائي حصرها بالأبيض والأسود: فهو “الفدائي”  الذي خرج من هزيمة الجيوش العربية عام 1967  ثائرا على ما ترتب على ذلك بالسلاح وقرار المواجهة من جهة، و”النذل الذي باع أرضه” من جهة أخرى.

اقتحمت الصورة الرومانسية للفدائي الوعي العربي، فجذبت الكثير من المتطوعين العرب للانضمام إلى التنظيمات الفلسطينية. فبينما كان رد الفعل الرسمي العربي على هزيمة الجيوش العربية في عام 1967 واهنا ومرتبكا لم يتردد الفلسطيني: قرر المقاومة، حمل السلاح وبدأ في تجميع القليل الذي يملكه من خبرة وعتاد كما بدأ في بناء علاقات عربية ودولية للاتكاء عليها في المواجهة الصعبة مع عدو هزم الجيوش العربية الرسمية.

على الجانب الآخر كان للفلسطيني صورة نقيضة: اللاجئ الذي ترك أرضه، وفي نظر البعض “الذي باعها”، ساكن المخيمات البائسة، منزوع الهوية، صاحب “وثيقة السفر” التي لا تسّهل له دخول الحدود بل تسلط الأضواء عليه وتجلب العسس.

أما على مستوى الوعي الفلسطيني ذاته فقد كانت هناك أشكال مختلفة للفلسطيني ودلالات متناقضة فهو “الثوار” الذين حملوا السلاح قبل عام 1948 وهو “الإقطاعي” الذي كان يتحكم بحياة الفلاحين، وإن كان حضور هذا النموذج شبه معدوم في الأدبيات الفلسطينية، وإن وجد جرى تسطيح شخصيته. وهو “اللاجئ” أو كما كان يسميه فلسطينيو الضفة “المهاجر” الذي تغير اسمه لاحقا إلى “ابن المخيم” متعدد الدلالات حسب فكرك الذاتي: “فابن المخيم” يحمل دلالة إيجابية بالضرورة في الخطاب الثوري الاستعراضي. أما في الوعي الشعبي فليست الصورة بهذه الرومانسية. اعرف حالات رفضت فيها عائلات فلسطينية تزويج ابنتها لشخص أحبته لأنه “ابن مخيم”. 

كذلك هو الفدائي الذي حمل السلاح بعد الهزيمة وتحول إلى أيقونة.

الفلسطيني النموذج

كان جبرا إبراهيم جبرا أحد ثلاثة يعتبرهم الكثير من النقاد “آباء الرواية الفلسطينية الحديثة”،  مع غسان كنفاني وإميل حبيبي.

وقد شق كل من الثلاثة طريقا مختلفا عن الآخر، ورصفه بالكثير من الإيحاءات والأفكار واقتراحات لمعالم الرواية الفلسطينية التي ستأتي.

غسان كنفاني كان مولعا بالحداثة، فقد استعار أنماطا سردية من الغرب وحاول توطينها فلسطينيا.

هو أول من وظف أسلوب “تيار الوعي” في السرد وهو أسلوب للسرد قائم على محاولة تصوير تشابك الأفكار والمشاعر وتداخلها في وعي الراوي. كان أول من أشار إليه أليكزندر بين عام  1855 في مؤلفه الذي يحمل عنوان The senses and the Intellect.

وكان ممن استخدموه في وقت لاحق جيمس جويس وفرجينيا وولف وويليام فوكنر وآخرون.

واستخدم كنفاني أيضا تعدد الأصوات السردية، وأساليب أخرى اعتبرت في حينه، ولا تزال، تقنيات ثورية في السرد الفلسطيني.

أما رائد الأدب الفلسطيني الساخر إيميل حبيبي فقد أسس مدرسة فريدة في السرد، وغير مسبوقة لا فلسطينيا ولا عربيا، واستعرضها في رائعته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، وظف فيها العربية الكلاسيكية القديمة بشكل ظريف واستخدم التراث في الوقت الذي قدم فيه شخصيات مغرقة في فلسطينيتها.

متشائل إميل حبيبي كان شخصية مركبة، نفسيا وأخلاقيا وسرديا، كثف فيها المؤلف ملامح الإنسان الفلسطيني العادي واستحضر تناقضاته  بشكل صادم.

لم يستخدم حبيبي تقنيات سرد تقليدية، بل اجترح سرده الخاص المؤسس، كما قلنا، على لغة سلفية وتداعيات تاريخية، ودمجها بسخرية تغترف من الوضع الفلسطيني الراهن.

أما شخصيات جبرا إبراهيم جبرا فشكلت ملامحها وسيرة حياتها رد الفعل الفلسطيني على نكبته وصاغ مؤلفها سرديا الفلسفة الشعبية القائمة على “التميز كسلاح لمواجهة النكبة والتهميش”.

مع تأسيس دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين وتشريد جزء من الشعب الفلسطيني وانقسام الباقين ما بين رهائن في كنف الدولة المعادية الوليدة ورعايا (على أرضهم) ولكن ضمن وصاية دولة عربية أخرى هي الأردن، ولاجئين في مخيمات في سوريا والأردن ولبنان، بدأ تشكل الوعي الفلسطيني الجديد القائم على الإحساس بأنه “وحيد في مواجهة المجهول” وأن نجاته رهن بتميزه واكتسابه معارف ومهارات تجعل الدول العربية الوليدة بحاجة إليه.

هكذا كان وليد مسعود في رواية «البحث عن وليد مسعود»، فلسطينيا عالي التأهيل وناجحا وثريا، يجد مكانه في المجتمع العراقي الذي انخرط به، ويصبح مدعاة للحسد والغيرة من أقرانه، فهو ليس فقط ثريا ومثقفا، بل جذاب للنساء أيضا، تطارده الحسان، ويتسابق المثقفون من الجنسين لحضور حفلاته وولائمه الباذخة.

وطبيعي أن يستدعي “الفلسطيني الناجح” انفعالات متناقضة في معارفه العرب، منها الحب والجاذبية، ومنها النقيض، الغيرة والكراهية الناجمة عنها، فشخصيات «البحث عن وليد مسعود» تتوزع على هذين القطبين:  أشخاص يحبونه بل يعشقونه ويعجبون لنجاحه وتميزة ، وغالبية هؤلاء من النساء اللواتي يتحول الموضوع عندهن إلى جاذبية جنسية، وآخرون يحسون تجاهه بغيرة لأسباب كثيرة منها نجاحه المهني وشعبيته في أوساط النساء.

نجد في هذه الرواية “التمثيل السردي” لجانب من رد فعل الفلسطيني على وضعه، الفلسفة التي تمكنت من ذهنية حتى أبسط الفلسطينيين، والقائمة على ضرورة “التفوق”، كما هي حال وليد مسعود، فالعرب لا يحبونك بالضرورة ، بلغة البسطاء الشعبية، فعليك أن “تبهرهم” حتى تستطيع أن تحصل على مكان غير الذي تستدعيه الكراهية أو “عدم الحب” في أفضل الأحوال. ولعل الحملات الدعائية التي انفجرت مؤخرا بشكل مفاجئ في بعض الدول العربية تضيء هذا الجانب الذي ربما كان مموها في الماضي تحت ضغط “الأخلاقيات” التي لم تكن لتسمح باستعراضه. لكن ها هي الظروف الموضوعية ساعدت، مما أدى إلى “فضح المستور”.

قبل أن يحول جبرا هذا الواقع إلى مجازات مركبة، كان الجوهر بهذه الفجاجة: أنت كفلسطيني تسبب إرباكا للعربي، ربما يكون ناجما عن شعور بالذنب تجاهك اختلط بإعجاب لقدرتك على النجاة، فأنتج، بشكل غاية في الغرابة، شعورا بالغيرة التي تتحول مع الوقت إلى كراهية.

الخطاب الشعبي العربي حافل بإحالات على “النمط الباذخ لحياة بعض الفلسطينيين” لاستباق أي لوم فلسطيني للعرب بسبب خذلانهم. وهناك طبعا ترويج مقولة أن الفلسطيني “باع أرضه” وهي تتكرر في الخطاب الشعبي العربي وخطاب بعض الأنظمة.

جبرا أضاء نموذج الفلسطيني الناجح في هذه الرواية وحاول تصوير ما أثاره نجاحه على كافة المستويات (لا المهنية فقط، بل المعرفية فهو عالي الثقافة، بل والجنسية، فهو جذاب للنساء بشكل غير طبيعي).

الفلسطيني في هذه الرواية ذو حضور طاغ على أكثر من مستوى كما أسلفنا، حتى “الغياب” في حالته يشكل حضورا طاغيا، فهو الذي كان حديث كل من احتك به قبل اختفائه بقي موضوعا لحديث الجميع، من أحبوه ومن خاصموه، بقي يتسيد المشهد حتى بعد خروجه منه.

إن هذه “الثيمة” ، ثيمة الحضور القوي الذي يتولد من الغياب، متجذرة في الممارسة الشعبية الفلسطينية قبل أن تتحول إلى مجاز أدبي عند مبدعين فلسطينيين كجبرا ومحمود درويش في وقت لاحق.

غياب الفلسطيني في هذه الرواية لا يقترن بطي ملفه بل على العكس، غيابه تحديدا هو الذي يفتح الكثير من الملفات المتعلقة به وبآخرين تقاطعت طرقهم مع دروبه أثناء مسيرة حياته. كما شكل حضوره عبر غيابه منطلقا للكثيرين من دائرة معارفه لمراجعة الذات ومحاولة تعريفها بدلالة علاقتها به.

جبرا في هذه الرواية يحول الفلسطيني إلى “أيقونة”، تكتسب ملامح “مستيكية”، بمغزى “الغموض”، أو “الطبيعة الفوقية” التي تقارب “الأسطورية” بمدلول معين. لكنها تحمل ضمن “نجاحها” الأسطوري بذور أفولها الوجودي. غياب وليد مسعود كشف عن وجوه لأخطار تحدق بكيانه عبر فتح الملفات المشبوهة التي يمكن ربطها باختفائه.

الفلسطيني لا يغيب، فإن غاب فيزيائيا عن المشهد بقيت “أشباحه” الكثيرة، وربما هذا ما يشكل مأزقا للإسرائيلي الذي استطاع هزيمة الفلسطيني عسكريا وسياسيا، لكنه لم يستطع هزيمته وجوديا، بقيت “أشباحه” تقض مضجعه، كما قال أحد كبار الضباط الإسرائيليين المتقاعدين يوما للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد. قال الجنرال إن الإسرائيليين يخافون الفلسطيني. كيف يشكل الأعزل، المعدم، المنزوع الأفق، مصدر تهديد لدولة محصنة بالجدران والأسلحة؟ هم يخافون “أشباح” الفلسطيني، تزورهم في كوابيسهم أشباح تحمل مفاتيح.

وكما نرى في رواية جبرا، فإن “شبح” الفلسطيني، حاضر ليس فقط في وعي عدوه ، الإسرائيلي، بل هو يحاصر “خصومه” من ذوي القربى الذين يرون فيه تهديدا لامتيازاتهم ومنافسا شديد التفوق في أكثر من سياق.

طبعا ما فعله جبرا هو “اجتزاء” لصورة الفلسطيني في واقعه، فهناك أكثر من نموذج اختار الخنوع أو المسايرة عوضا عن التميز لكي يحتفظ لنفسه بموقع خارج وطنه الذي فقده. هناك من يستخدمون النفاق، وهناك من يلجأون، عند نجاحهم، إلى استعارة ذهنية الطغاة المتجبرين. لكنهم في النهاية يشتركون مع وليد مسعود، الفلسطيني المهدد في وجوده، بوعي متجذر قائم على أنه لا موطئ لقدمه، فقد الأرض التي يقف عليها، وعليه أن ينتج مسوغا لوقوفه بأكبر درجة ممكنة من الأمن على أرض ليست أرضه.

ما فعله جبرا في هذه الرواية هو شكل من أشكال “تنميط” الفلسطيني، حصره بقالب واحد محدد، وهو ليس القارب الحصري بالتأكيد الذي اتخذه الفلسطيني بعد النكبة، لكن ربما كان جبرا يحاول أن يحتفي بهذا النمط ويبشر بطريقته في “النجاة”. فالفلسطيني بعد النكبة أمام تحدي “النجاة”، عدم التلاشي أو الانقراض أو التماهي الكامل مع القوالب التي تحتويه. عليه أن يبقى مميزا، حاملا علاماته الفارقة التي تبقي عليه مضاء، لافتا، مميزا وسط ظروف حياة كفيلة بإلغائه. هذا ما يحاول أن يبشر به جبرا عبر عدد من أعماله، ولعل النموذج الأوضح لهذه الرسالة التبشيرية يطالعنا في رواية «البحث عن وليد مسعود».

The post جبرا إبراهيم جبرا و”البحث عن الفلسطيني الأيقونة” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>