استقلالية الأدب عن ماذا؟ سيطرح القارئ السؤال حين قراءة العنوان.
عن كل شيء، ولنبدأ بالمؤلف.
La mort de l'auteur، أو موت المؤلف، كان عنوان المقال الذي نشره الناقد الأدبي والمنظر الفرنسي رولان بارت عام 1967. يرى بارت أن هناك ضرورة لأن يعيش العمل الأدبي حياته الإبداعية بمعزل عن نوايا مبدعه. للقارئ والناقد مطلق الحرية في تأويل النص، وليس للكاتب أن يعترض.
عاش الشاعر المجري يانوش أراني (Janos Arany) قبل بارت بما يقارب القرن ونصف القرن، لكنه يروي أنه قرأ يوماً مقالاً نقدياً عن إحدى قصائده، وردت فيه العبارة التالية “حين كتب الشاعر تلك القصيدة يبدو أنه فكر….” وأطلق كاتب المقال العنان لتخميناته حول ماذا كان يفكر الشاعر حين كتابته القصيدة. حين قرأ الشاعر المقال قال بالمجرية ساخراً: Gondolta a fene! وهي تعني، مع شيء من التصرف “أكيد، أنت أخبر! “.
إذن، ضيق المبدعين بإصرار النقاد والقراء على أن يؤسسوا قراءتهم للعمل البداعي على افتراضات حول نوايا الكاتب سبق نظرية بارت بسنوات طويلة.
للكاتب مشروع، ورؤية بالتأكيد، لكن الرحلة من الرؤية في شكلها المجرد في وعي الكاتب إلى تبلورها على شكل مشروع روائي مثلاً، تغير بالتأكيد الكثير من الأشياء المتعلقة بجوهر الفكرة وتفاصيلها، ويتغير الكثير أيضاً حين يتحول المشروع إلى عمل أدبي. أما رحلة العمل إلى عالم القارئ، تفاعله مع وعيه، ثقافته، مفاهيمه، تربيته، فهي بدورها تنتج عملاً بملامح جديدة.
أي في المحصلة، من العبث البحث عن ملامح الكاتب بين ثنايا عمله الأدبي.
لكن، ورغم ذلك، فهذا مستوى متقدم من التأويل والتقييم. ما نشهده كثيراً في العالم العربي هو إقحام صلة مباشرة بين الكاتب والعمل، لا كمحتوى بل أحياناً كشخصيات. حدث كثيراً، وعلى مستوى أكاديمي، أن جرت محاكمة الكاتب على خلفية “السلوك الأخلاقي” لشخصياته. وحصل أكثر أن نصبت المحكمة على خلفية ما افترضوا أنه ما يريد الكاتب قوله من خلال العمل. أما قمة البؤس فهي التقييم النقدي للعمل بناء مدى اتفاقك مع التوجه الفكري أو الأخلاقي العام لصاحب العمل.
تي إس إليوت شخص محافظ الفكر، لكنه أنتج بعض افضل الشعر الإنجليزي المعاصر. لعل الاعتداء على الكاتب الكبير نجيب محفوظ على خلفية روايته “أولاد حارتنا” من الأمثلة الصارخة، لكنه لم يكن الواحد. لم يسلم مؤلف واحد تجرأ على المسلمات من شكل من أشكال الاعتداء.
هناك مقولة سائدة في أوساط الكثير من القراء والنقاد العرب مفادها أن “لا يمكن فصل العمل الإبداعي عن مبدعه”، وهي مقولة عجيبة. هذا شكل من أشكال تعسف التقييم الأخلاقي للفن. هل يا ترى يتغير طعم التفاحة لو عرفت أنها مسروقة؟ يمكنك أن ترفض أكلها، شراءها، ترويجها، هذا خيارك ولست ملزما حتى بإبداء الأسباب.
لكن هذا لا يعطيك الحق (موضوعياً) في أن تقول أن التفاحة غير لذيذة، فيما لو كانت لذيذة. أما مهاجمة الكاتب أخلاقيا أو جسديا فمفروغ منه أنه علم جنائي، لا أخلاقي في أبسط التوصيفات. العمل الإبداعي هو كيان متفرد، قائم بذاته، بمعزل عن أي حيثية قيمية، أخلاقية لمبدعه.
في العالم العربي هناك خلط تعسفي بين الماهية الشخصية للمبدع ونتاجه الإبداعي على أكثر من مستوى. هناك ربط جزافي بين النتاج الأدبي/الفني والعلاقة بمنتجه. قبل شهور قليلة أثيرت ضجة شارك فيها كتاب ونقاد في شن هجوم على الكاتب سليم بركات بسبب مقال له أشار فيه إلى علاقة غرامية ربطت الشاعر محمود درويش بامرأة متزوجة وأثمرت طفلة.
قامت الدنيا ولم تقعد: يفترضون أن شاعرنا الأيقونة بالضرورة متماه مع قيمنا وأخلاقياتنا السائدة، ونحن مجتمع محافظ بطبعه، صغاره وكباره، رياديوه ومبدعوه وعلماؤه وسياسيوه. كل من يحظى بحبنا وتقديرنا عليه أن يكون أهلا لذلك، أن لا يصدمنا في أخلاقياتنا، وإلا فقد الحظوة. فجأة يمكن أن يصبح أيقونة الشعر الفلسطيني عديم القيمة. لكن لمحمود درويش طبعاً قيمة وطنية (وأنا أتعمد أن لا أركز على قيمته الشعرية في هذه الحالة تحديداً، فعلى الرغم من مكانته العالمية في خريطة الشعر فإن مكانته الفلسطينية في جزء كبير منها مؤسسة على مزيج من حب الشعر والعشائرية، أقول إن مكانته المعتبرة في الوجدان الفلسطيني هبت للدفاع عن احتمالية خدش الصورة، بأن هاجم مريدوه كاتب المقال، نافين بشكل قاطع أن يكون الشاعر العظيم أهلاً للانجرار وراء الحب بمعزل عن القيم السائدة. هو لم ينجب طفلة في الحرام، لماذا؟ لأنه شاعر يحبه الشعب الفلسطيني، إذن فهو يمثل كل الجوانب الإيجابية التي يجمع عليها، ومنها الاعتبارات الأخلاقية.
وقبل حوالي سبع سنوات رحل الشاعر اللبناني سعيد عقل، واسمه مرتبط بشيئين: توجهاته السياسية المعادية للفلسطينيين، إلى درجة أنه طالب الإسرائيليين بقتلهم. أما الجانب الآخر المرتبط باسمه فهو أشعاره الجميلة، بالفصحى والعامية اللبنانية، والتي غنت فيروز بعضها. انبرت الأقلام، كل من لم يكتف بالكتابة عن موقفه السياسي من الفلسطينيين وأشار إلى مسيرته الشعرية هاجموه وشككوا في وطنيته. “الوطنية” في مرتبة أعلى من “الجمالية” في التعامل مع الإبداع.
نفس الشيء حصل مع المخرج السينمائي اللبناني زياد دويري، الذي صور أحد أفلامه في إسرائيل. انبرى الكثيرون للتحريض على أفلامه، وربط قيمتها الإبداعية بكونه زار إسرائيل، فهو “مطبّع”. ومفهوم التطبيع مفهوم فضفاض يشمل عند البعض زيارة حديقة ساحة العين في الناصرة أو حديقة البهائيين في حيفا أو إقامة فعالية أدبية فلسطينية في مجد الكروم.
الموضوع محسوم في واقع ثقافي مسيس، بالمفهوم الفج للسياسة. الفن مسيس شئنا أم أبينا، هو فعل سياسي/جمالي، لكن ليس بالمفهوم الفج والمباشر الذي يقحمونه عليه.
حين تكتب عن الإنسان، علاقته بالمجتمع، معاركه الشخصية، هزائمه، انكساراته، فأنت تكتب سياسة، لا مشكلة في هذا. المشكلة هي في تسطيح مفهوم “السياسة” وحصرها في ما يسمى الريالبوليتيك Realpolitik فهذه هي الكارثة. حين تربط القيمة الفنية بالعمل بمقولته السياسية المباشرة أو بتوجه صاحبه السياسي أو الأخلاقي.
الكتابة بالدم والكتابة الجمالية
سبق أن رفع الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين شعار “بالدم نكتب لفلسطين”، وأظن هذا حصل في عام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، لكن الشعار في ذلك الوقت كان يحمل مدلولاً آخر، قد يكون حرفياً، فبعض الكتاب الفلسطينيين قتلوا في ذلك الوقت، وسالت دماؤهم حرفياً لا مجازياً، برصاص القوات الإسرائيلية المحتلة، قبل ذلك اغتال الموساد الإسرائيلي غسان كنفاني ووائل زعيتر وغيرهم.
حصل هذا في التاريخ من قبل، فقد قتل الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا بسلاح الفاشية، والناقد البريطاني وأحد أعمدة نظرية الأدب الماركسية كريستوفر كوديول قتل أيضاً في الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها ضمن اللواء الأممي. المستهجن هو تفسير المقولة بدرجة كبيرة من المباشرة والفجاجة، واعتقاد البعض أن هناك ضرورة لتحويل الإبداع إلى أدوات سياسية مباشرة. هذا ليس في صالح الإبداع ولا هو في صالح الفعل السياسي. النوايا لا تساعد الفجاجة والمباشرة السائدة ولا تحولها إلى أداة نضالية، بل تجردها من قيمتها الإبداعية.
في بدايات الاشتراكية في أوروبا الشرقية وقع البعض في الفخ، وأنتجوا أفلاما ومؤلفات فجة، صارت فيما بعد مدعاة لسخرية النقاد بل والمتلقين. احتاج الأمر إلى “ثورة تصحيحية” في أكثر من بلد أوروبي، في المجر عام 1956 وفي تشكوسلوفاكيا عام 1968.
في فلسطين يعيش النقد الأدبي مرحلة الستالينية في أوروبا الشرقية، ويعتمد تأويلاً مبسطاً يصل أحياناً حد السذاجة لمفهوم “الواقعية الاشتراكية”. يبحثون في كل عمل أدبي عن “رسالة” بالمفهوم الفج للكلمة، ولا بد أن تكون تلك الرسالة متماهية مع المفاهيم السياسية السائدة “للوطنية” و”النضال” وما شابه. وحين يخلطون مبادئ النقد الاشتراكي (المؤوَّل بشكل ساذج) مع آخر نظريات الحداثة النقدية، يصبح عندنا مزيج نقدي لقيط، لا هو في الشرق ولا هو في الغرب.
نعود للسؤال عنوان هذه المقالة: استقلالية الأدب، هل هي ممكنة؟
لا يمكن الحصول على إجابة بسيطة لهذا السؤال، لكن يمكن القول بشكل عام: نعم ولا. تأويل وقيمة النص مستقلان عن نوايا كاتبه، مستقلان عن القوالب والمعادلات المقحمة عليهما، ومستقلان عن أي اعتبارات خارجهما.
هل المبدع مستقل؟ بالتأكيد لا، هو نتاج وعيه الاجتماعي والجمالي، وكل ما ينتجه رهن بهذين الشرطين. طبعا هذه إجابة مبسطة لأسئلة في غاية التعقيد، وليست أكثر من محاولة لاستفزاز التفكير في تعقيدات علاقة المبدع بنتاجه الإبداعي.