نشرت رواية جي.دي.سالينجر التي تحمل العنوان الإنجليزي The catcher in the rye، والذي ترجمه الكاتب الراحل غالب هلسا، بشكل غير موفق في رأيي، إلى “الحارس في حقل الشوفان”، عام 1951.
فشل العنوان العربي في رأيي يكمن في أنه لا يعكس المعنى الذي يعبر عنه العنوان الإنجليزي، وهو “الشخص الذي لا يقوم بعمل مفيد”.
على كل حال، هذه ليست المشكلة الأكبر في الترجمة العربية للرواية، فقد ارتكب المترجم “آثاماً لغوية” أفدح من ذلك، من أخطرها “تهذيب” اللغة. الشخصية الرئيسية في الرواية تستخدم ألفاظاً “غير مهذبة” وشتائم سوقية، وربما لم يكن هذا ملائماً “لذوق القارئ العربي” الذي يحاصر به من يؤلفون رواياتهم بلغة الضاد.
قد يقدم الروائي العربي إلى المحاكمة أو يسجن “لاعتبارات أخلاقية”، وفي أفضل الأحوال يطلب منه ناشره، بشكل ودي، أن يتخلص من التعبيرات “الخادشة للحياء”، كما حصل مع كاتب هذه السطور وأحدث رواياته “غريب”.
لنعد إلى سالينجر والملامح غير المألوفة سردياً التي نجدها في عمله هذا.
من أهمها، في رأيي، إسقاط أسطورة “البلاغة السردية”.
تسود حالياً نظرة نقدية تفترض أن لغة السرد يجب أن تحوز “جماليات معينة”، البعض يفضلها “شعرية”، كما في مدرسة الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي أثّرت بالكثير من الروائيات والروائيين الشباب.
والبعض يميل إلى مدرسة إدوار الخراط، الذي يستخدم لغة باذخة وجميلة في السرد ولا تحمل سمة الرومانسية الشعرية التي تميز لغة السرد عند أحلام مستغانمي ومن تأثروا بها، ويرون استخدام الروائي لغة بسيطة، كما كان يفعل نجيب محفوظ والطيب صالح مثلاً، يرون في ذلك نقطة ضعف فاحشة قد تطيح بالقيمة الأدبية للعمل ككل. ويعتنق هذه النظرة بعض النقاد والأكاديميين، وأعضاء اللجان في الجوائز الأدبية، لكن الأخطر أن بعض دور النشر المهمة أصبحت تعتنق هذه النظرة بتأثير من لجان القراءة التي توظفها.
لغة السرد في رواية سالينجر المشار إليها هي لغة الشخصية الرئيسية، هولدن، وهي لغة تفتقر تماماً إلى البلاغة أو الجمالية اللغوية، بل إنها تكسر قواعد اللغة الإنجليزية في بعض الأحيان. الشخصية تقص حياتها باستطراد عفوي مستخدمة الكثير من الشتائم والتعبيرات “غير المهذبة”، وقبل كل شيء، اللغة البعيدة كل البعد عن الجمالية والبلاغة.
هذه إشكالية يواجهها السارد العربي بأكثر من وجه.
كثيراً ما أقرأ رواية شخصيتها أمية، لا تقرأ ولا تكتب، وفي نفس الرواية شخصية رجل مثقف. حين أقارن لغة حوار الشخصيتين لا أكاد أتبين فرقاً يذكر.
هذا بالنسبة للحوار، أما بالنسبة للغة السرد فحدث ولا حرج. كل “الرواة المشاركين” في الروايات العربية التي قرأتها مؤخراً، وبعضها حصل على جوائز دولة، يستعيرون فخامة لغة المؤلف. يخشى المؤلف لو جعل الشخصية تستخدم لغتها الخاصة أن تسجل مأخذاً عليه وعلى لغة سرده، وهذا ليس مستبعداً، فكثير من النقاد والقراء ليسوا قادرين على فصل الكاتب عن شخصيته، ولا على أي مستوى.
إشكالية نقدية
للغة العربية خصوصية تميزها عن لغات العالم الأخرى، ففي معظم اللغات الأخرى لا فرق يذكر بين لغة الحديث ولغة الكتابة. الوضع مع اللغة العربية مختلف تماماً، فاللغة الفصحى المعتمدة في كتابة النصوص الأدبية مختلفة كثيراً عن “اللغة المحكية”، والتي تختلف بدورها من بلد إلى آخر.
الروائي العربي يخطو الخطوة الأولى باتجاه البلاغة حين يقرر اعتماد اللغة الفصحى، عوضاً عن اللغة المحكية في السرد.
ربما يرى البعض هذا بديهياً، لكن الحقيقة أنه ليس كذلك، وقد حصلت محاولات في مصر تحديداً، لاعتماد اللغة المحكية في السرد القصصي/الروائي.
لم تجد الخطوة ترحيباً بالطبع، لكنها كانت خطوة مهمة، تلفت الانتباه إلى هذه الإشكالية بمستوياتها المختلفة.
المستوى الذي أود مناقشته هنا هو حين يستخدم الروائي تقنية “الراوي المشارك”، فمن تخص لغة السرد؟ الروائي أم الشخصية، التي تقص؟ طبعاً يفترض أن تخص الشخصية، فإذا كانت الشخصية أمية يجب أن ينعكس هذا في لغتها، وهذا لا نجده في الروايات العربية طبعاً.
إحدى الروايات التي قرأتها مؤخراً كانت رواية “ترانيم الغواية” للروائية ليلى الأطرش.
تستخدم الكاتبة تقنية الراوي المشارك في السرد، أي يفترض أن من يقص الأحداث هو الشخصية، الذي قد يكون مثقفاً، متعلماً، لكن أن تكون لغته بهذه الجزالة والفخامة والجمال فهذا يتطلب تفسيراً، لا نجده في الرواية.
أنا كقارئ لا أستطيع إلا أن أفترض أن الكاتبة أعارت شخصية الراوي المشارك اللغة الجميلة للمؤلفة، فهل هذا مشروع نقدياً؟
في رأيي ليس مشروعاً، وأنا من مؤيدي مدرسة سالينجر، لكني لا أظن أنها ستجد الكثير من النقاد والقراء ممن يحبذونها أو حتى يتقبلونها، وربما لو كان سالينجر أرسل مخطوط روايته إلى إحدى دور النشر العربية لكانت رفضتها بدعوى أن “لغتها ركيكة”.
هنا سوف أورد بعض الأمثلة على لغات السرد في أكثر من عمل أدبي، لاستخلاص العبر.
المثال الأول: “استيقظت ذات صباح وحدي دون أن توقظني أمي. أدركت أنني استيقظت وحدي عندما وجدتها مستغرقة في النوم، راقدة على وجهها، وسرني جداً أن أوقظها ولو مرة واحدة في حياتي الصغيرة. قربت فمي من أذنها وناديتها، مرة ومرة وهي لا تستجيب…”
(المصدر: قلب الليل، نجيب محفوظ).
المثال الثاني: “حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أعد لسفري للقاهرة، ذهبت إلى أمي وحدثتها. نظرت إلي مرة أخرى، تلك النظرة الغريبة. افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم، ثم أطبقتهما، وعاد وجهها كعهده”.
(المصدر: موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح).
المثال الثالث: “من رحم الماضي تولد رؤى وظلال وأشخاص، وأسئلة تقيد الخيال، تجهض كل تصور للآتي. وزوابع القلق زئير.
أنهار من ذكريات فاضت في انتظار زيارتي. أيقظت طفولات غادرت في الزمان، ودفق حكايات حملت بؤسها والمرح”.
(المصدر: ترانيم الغواية، ليلى الأطرش)
المثال الرابع: لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.
لم أعد أذكر كيف أصلح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا، وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخيله أحياناً أحاديث مفتعلة. كان هناك شيء من البلور قد انكسر بيننا، ولم يعد هناك أمل لترميمه”.
(المصدر: ذاكرة الجسد، أحلام مستغانمي).
المثال الخامس: “لعبة من طيزي! إذا كنت تقف في الجانب القوي فهي لعبة بالتأكيد.
ثم بعد أن أبعد ورقتي الشرموطة وألقى نظرة وكأنه قد انتصر علي انتصاراً ساحقاً في لعبة تنس الطاولة.
يغيظني جداً عندما أتصور ابن القحبة هذا يقود سيارته الضخمة ويطلب من المسيح أن يرسل له مزيداً من العطايا”.
أما تعبيري المفضل من هولدن فهو “ضحكوا حتى اهتزت أطيازهم”.
(المصدر: الحارس في حقل الشوفان، ج.د.سالينجر. الاقتباسات ليست من ترجمة غالب هلسا مهذبة اللغة طبعاً).
في الأمثلة السابقة هناك ثلاثة نماذج مختلفة: نموذج نجيب محفوظ والطيب صالح، لغة سرد متقشفة، بسيطة، منطلقة من قناعة أن اللغة هي أداة للسرد يضطلع بوظيفة تتجاوز الجمالية، يجب أن تكون قادرة على حمل السرد، لا إمتاع القارئ كعنصر جمالي قائم بذاته.
من جهة أخرى، حين يكون الراوي المشارك من يسرد فيجب أن تعكس لغته كشخصية روائية قدراته اللغوية، ولا يحق للروائي أن يعيره بلاغته وجمالية لغته كما فعلت ليلى الأطرش وأحلام مستغامني في المثالين.
أما سالينجر فقد ذهب أبعد من نجيب محفوظ والطيب صالح، لقد حرر شخصيته من بلاغة اللغة وأخلاقياتها معاً. لم يهذب لغة الشخصية ولا أخلاقها. حين تقرأ تحس بصدق أن من يتحدث هو فتى لا يعبأ كثيرا بالأخلاقيات ولا الاعتبارات الجمالية السائدة، يشتم ويستخدم لغة سوقية، كما أن المؤلف لم يعره بلاغته السردية. جعله يتحدث باسترخاء تام، كأنه يحادث صديقاً في مقهى.
في السرد العربي هناك اعتقاد شائع بأن شخصياتك الروائية يجب أن تقف أمام القارئ بكامل أناقتها المظهرية واللغوية والأخلاقية، بينما جوهر الأدب هو إضاءة البقاع المظلمة عوضا ًعن إخفائها.
ليس مطلوبا من السارد تهذيب لغة شخصياته ولا ملامحها، أخلاقياتها، نواياها.
طبعاً في الواقع العربي لا يمكن فصل أخلاقيات الشارع عن “أخلاقيات السرد”، كلاهما محكومة بمبدأ الاستعراض الزائف للجمال المزعوم، الأناقة، الجمالية الشكلية في كل مظاهر حياتنا ولغتنا.
لم يكن هذا هو الحال دائماً، وربما كانت هذه الظاهرة نتاج مرحلة سياسية تسود حياتنا منذ عقود.
لكن السؤال: هل على الطليعة الإبداعية أن تتماهي مع الأخلاقيات السياسية السائدة وتكون ناطقا باسمها؟