محمد الزقزوق - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/279rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Wed, 06 Nov 2024 17:40:03 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png محمد الزقزوق - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/279rommanmag-com 32 32 نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا https://rommanmag.com/archives/21666 Mon, 14 Oct 2024 06:08:53 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%83%d9%85%d8%a7-%d9%84%d9%88-%d8%a3%d9%86%d9%87-%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d8%a8%d8%ad%d8%b1%d8%a7/ في مارس من العام الماضي، تركتُ رفح بعد أن أمضيتُ فيها ما يقارب الثلاثة أشهر، نازحاً وهارباً من آلة الحرب التي كانت تطحن مدينة خانيونس من رأسها حتى قدميها. كنتُ قد قررتُ العودة إلى خانيونس، أو بالأحرى إلى منطقة المواصي، أقصى غرب المدينة، وبجوار البحر، على الرغم من أن العملية العسكرية فيها كانت لا تزال […]

The post نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في مارس من العام الماضي، تركتُ رفح بعد أن أمضيتُ فيها ما يقارب الثلاثة أشهر، نازحاً وهارباً من آلة الحرب التي كانت تطحن مدينة خانيونس من رأسها حتى قدميها. كنتُ قد قررتُ العودة إلى خانيونس، أو بالأحرى إلى منطقة المواصي، أقصى غرب المدينة، وبجوار البحر، على الرغم من أن العملية العسكرية فيها كانت لا تزال في ذروتها، وكانت الدبابات الإسرائيلية قد وصلت بالفعل إلى أقصى نقطة يُمكن أن تصلها في المدينة، حيث لا يبقى بعدها سوى منطقة المواصي، وهي شريط زراعي صغير بمحاذاة الشاطئ تماماً.

أردتُ أن أتركَ رفح بكلّ ما يَموجُ داخلها من ضجيجٍ وطوابير ومعاناة وملامح عدوانية كانت تظهر وسط وجوه الناس الشاحبة. النازحون الذين جاؤوا إلى المدينة مع بداية الحرب في أكتوبر من العام الماضي، ومنذ قدومهم، انغمسوا في تفاصيل حياة النزوح المتوغّلة في قسوة لا مثل لها. قلت: أريد أن أعود إلى هناك، إلى الجمال الذي سبق وأن خنته، كما وصف حسين البرغوثي الدير الجواني في “سأكون بين اللوز”. 

لم تكن رفح بالنسبة لي مدينة يُمكن أن تُشعرني بالغربة، إلّا أنني في الحرب، وبطريقةٍ لا أستطيع تفسيرها، وجدتُ نفسي غريباً ومهملاً فيها. وعلى الرغم من أنه إلى حين مغادرتي رفح كانت آلة الحرب لم تدخلها بعد، فإن المدينة كانت مُستنفدة ومُرهَقة بصورةٍ لافتة؛ ازدحام خانق، وفوضى، ومشاجرات عائلية هنا وهناك. لذا نضجت داخلي أكثر وأكثر فكرة ترك المدينة والذهاب إلى هناك، إلى المواصي، واحة الجمال النائمة على كتف البحر، وإن أحاطت بها الدبابات من كل الاتجاهات، وإن أقام النازحون في أراضيها الزراعية خيامهم، وإن تطايرت شظايا القذائف في سماواتها.

البحر يغسل وجه المدينة 

حزمنا الحقائب ووضعناها داخل السيارة، وتحركت السيارة بنا قاصدةً مواصي خانيونس، سالكةً طريق البحر. كنّا في بدايات الربيع، ولم يكن لأحد أن يتسنى له ملاحظة ذلك، إذ جعلت الحرب الأشياء كلها -عداها- عديمة المعنى، هذا إن كان للحرب معنى! فقط أصوات القذائف المُنتشرة في الاتجاهات كلها، ورائحة الموت، ومحاولة الهروب من تلك المشاهد السوداء كلها هو ما يشغل الناس، ومحاولة العيش في حياة استحالت أشكالها إلى جحيمٍ حقيقيّ. لذا، لم ينتبه أحد أن غيوم يناير السوداء تنحصر، وأن سماءً صافية وأكثر إشراقاً مع نسمات لطيفة معلنةً بداية الربيع يمكن رؤيتها بالفعل.

اجتازت السيارة بشقّ الأنفس زحام الخيام المنتشرة في الأراضي الخالية وبين البنايات السكنية، وحتى على الأرصفة وفي الطرقات. وأخيراً، وصلنا إلى شارع البحر. كنتُ إلى ما قبل اندلاع الحرب بأيام لم أزر البحر، ومرَّ ما يزيد على خمسة أشهر لم أرَ فيها الشاطئ. لذا شعرتُ بمجرد أن وصلت السيارة إلى الشارع المحاذي للبحر، وبعد أن صار بالإمكان رؤية الشاطئ على هذا النحو، بقشعريرة دافئة مريحة تتسلل إلى جسدي ودماغي وخلاياي العصبية التي ظلّت متشنّجة ومستنفرة طيلة تلك الأيام الطويلة. كان شعوراً خادشاً ومفاجئاً، لكني سمحت له بالحلول داخلي من دون أن يوقفه سلسال الأسئلة والهواجس التي ظلّت تطفح من رأسي وتسيل على الأرض، وتلتصق بجميع الجدران التي استندت إليها.

كانت السماء صافية بلا غيوم، سوى سحابات رقيقة بيضاء، فيما الموج شديد البياض يتدافع برتابة. موجات تتلوها موجات، بحر أزرق فوقه سماء زرقاء صافية مع موجات بيضاء وديعة وهادئة، ورمال صفراء ناعمة. تمرّ نسمات باردة منعشة وسط تلك اللوحة المسالمة التي لم تلوّثها آلة الحرب بعد.

على امتداد الشاطئ كانت مجموعات كبيرة من الناس تجلس في هيئات مختلفة؛ بعضهم في حلقات، وآخرون ممتدون على رمال الشاطئ الصفراء، وآخرون يغتسلون داخل البحر. بدا لي المشهد كما لو أنه الملاذ الذي نبحث عنه؛ فالجنود وراءنا والبحر أمامنا. لا نريد له أن ينشقّ، نريد منه فقط أن يتسع لنا، لتلك الوجوه المتعبة والأجساد التي تراكم عليها غبار الحرب، والأنوف التي عششت فيها رائحة الموت والبارود.

ارتبط البحر في ذاكرة الطفولة المبكرة بحالة الحرمان والمنع. كنا وإلى ما قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة في العام 2005، لا نستطيع أن نذهب إليه في الوقت الذي نريد، لذا ظلّت جميع صور البحر في ذاكرتي المبكرة محبوسة وتحيط بها الجدران، إلى أن حدثت المعجزة، وانسحبت إسرائيل من مستوطنات قطاع غزة، وانجرفنا كما لو أننا السيل تجاه البحر؛ مجموعات وحشود كبيرة، كبار وصغار، نركض تجاه البحر القريب البعيد، وهناك، وحين وصلنا، ألقى الجميع أنفسهم في مياه البحر المالحة. كانت لحظة الاتصال تلك لغزاً ظل يُعيد تعريف علاقتي مع البحر كلما نظرتُ إليه. أذكر أن هذا العناق الهائل مع البحر أدى إلى غرق ثمانية أشخاص في حينها.

كان البحر فرصتنا للتطهّر من بؤس اللحظات المرعبة التي أحاطت بنا خلال انتفاضة الأقصى، فرصتنا للاغتسال والانعتاق والذوبان مع ذلك المالح الذي يشبه الدموع. وقد أعاد مشهد الناس المُستلقين على رمال الشاطئ، أو الممددين وسط زرقة مياهه، تلك اللحظة التي التحم بها الناس بعد سنين من الحرمان. كانت الطائرات تحوم في الأجواء، وأصوات القذائف تُسمع في مَدَياتٍ قريبة، فيما الناس يُغرِقون رؤوسهم المثقلة بالضجيج والموت والفظاعة في مياه البحر المالحة. كل جسدٍ من تلك الأجساد التي غاصت في زرقة البحر، كان كأنه حشد هائل من الدموع المالحة، وجاء وقت أن يرتمي في حضن أمه، البحر.

كانت المدينة كلها على الشاطئ. الناس كلهم، جميع تلك الوجوه التي كنتُ أُصادفها في شوارع المدينة وأزقتها، كلهم يلوذون بذلك الأرزق الوديع، عيون تنظر في ذلك المدى المفتوح بين السماء وسطح البحر، المدى الخالي من مشاهد الدمار الهائلة التي كانت تتعاظم خلف ظهورنا في كل دقيقة تلوك فيها الآليات العسكرية شارعاً أو مبنى أو حديقة.

حين غمر الماء جسدي

في ذاكرة الطفولة البعيدة، وفي الأوقات القليلة التي كان يُسمح لنا فيها بدخول البحر، أذكرُ أن جدتي، وفي طقسٍ بدا لي سراً بحرياً عجيباً، كانت فيما نحن نقترب من الماء بخوف وتوجّس، تغمر رؤوسنا في الماء كلما جاءت موجة. طقس بحريّ عجيب كان يُعرف بـ “السبع موجات”: نغمر رؤوسنا مع كل موجة، إلى أن تمر فوقنا سبع موجات متتالية. كان الاعتقاد أن هذا الغمر المتكرر في موج البحر من شأنه أن يفكّ الكرب والضيق، أن يذوّب غمامات الحزن المُلبّدة داخل النفس والجسد. يمرّ الموج ساحباً معه الضيق والحزن، فكل موجة تأخذ معها جزءاً من السواد المترسّب في قاع الروح. وموجة تلو الأخرى، يذوب السواد ويأخذه الموج بعيداً في مدى البحر الواسع.

قلت محدّثاً نفسي فيما أرى الصغار والكبار يغمرون رؤوسهم في موج البحر: أي بحرٍ يمكن له أن يذوّب كل هذا الحزن؟ كانت الحرب في أوجها، والموت يضرب الأبواب ويدخل في الدوائر كلها، وكنا نغرق في بحر خساراتنا في مسارٍ لا مثل له من الفقد والبتر. أيُّ بحر هذا الذي يمكنه أن يبتلع تلك الآهات والآلام والفظاعات كلها؟

نضجت داخلي، فيما أرى الناس يتوارون بين الموج ويظهرون، الرغبة في أن يغمر ماء البحر جسدي. كنتُ قد تشبعت بالقلق والتشنج بعد ليالٍ طويلة من الخوف، ليالٍ من المكوث في ظلام اللحظة، ومن تعقيد المسألة التي تجعل الموت والحياة خطّين متقاربين في دائرة الحرب المجنونة. 

تقدّمت نحو البحر. كان الهواء يدفع وجهي وجبهتي، لامست المياه قدماي وسَرَت في جسدي قشعريرة، ثم بلحظة واحدة ألقيتُ هذا الجسد المنهك في ذلك الماء المالح؛ جسدٌ مثقل يخفف من أثقاله ضغط الماء ويرفعه إلى أعلى بعينين مغلقتين وأذنين تسمعان صوت الماء. كان الماء يرفعني إلى أعلى. ونظرت إلى تلك السماء الزرقاء الخالية من الطائرات، وساد صمت طويل، كما لو أنه ليس بحرًا.

The post نافذة صغيرة من غزة: كما لو أنه ليس بحرا appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نافذة صغيرة من غزة: ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف؟  https://rommanmag.com/archives/21598 Tue, 16 Jul 2024 18:41:51 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%81%d8%b9%d9%84%d9%88%d8%a7-%d8%a8%d8%b9%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%83-%d9%8a/ “جئتُ إليك من هناك نهاية العام، عامُ النهايات”. سركون بولص، آلة الزقوم.                                                                          لم يخطرْ على بالي وقت سَماعي لقصيدة “آلهة الزقوم” للعراقي سركون بولص، أنَّها ستكون النص الشِعريّ العربيّ الأكثر صدقاً ودقةً وذكاءً وتجسيداً لحقيقة الحياة داخل غزة في الحرب المُشتعلة منذُ اكتوبر من العام الماضي، حينَ عُدتُ لسماعها بعد أول فرصة توفرَ فيها انترنت […]

The post نافذة صغيرة من غزة: ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف؟  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

“جئتُ إليك من هناك
نهاية العام، عامُ النهايات”.

سركون بولص، آلة الزقوم.                                                                         

لم يخطرْ على بالي وقت سَماعي لقصيدة “آلهة الزقوم” للعراقي سركون بولص، أنَّها ستكون النص الشِعريّ العربيّ الأكثر صدقاً ودقةً وذكاءً وتجسيداً لحقيقة الحياة داخل غزة في الحرب المُشتعلة منذُ اكتوبر من العام الماضي، حينَ عُدتُ لسماعها بعد أول فرصة توفرَ فيها انترنت بسرعةٍ جيدة يسمح للنص بأن يتدفق دونَ قطع في سيرورته، قلتُ: يا إلهي، أنه يقول ما أريد قوله تماماً، أيُ تطابقٍ هذا؟ كنتُ أريد سماعها تحديداً لا قراءتها، كان ثمة موسيقى تصويرية تُلازم النص ضمن إيقاع زمني يُترجم مزيح المشاعر الذي يتضمنها: اليأس ثم السؤال ثم الصراخ فاللامبالاة.

دحرجَ النص وموسيقاه بطريقة ما جلمود المشاعر المُتحجّرة التي كانت تُثقِلُ روحي وتُقيّدُها بأصفاد الخوف والقلق والنزوح والدهشة، ولا حزن سوى حجارة رصينة في قاع الروح دحرجها النص إلى حزنٍ بدا دافئاً وعميقاً يسرى كما السر وصوت الوشوشات عميقاً في ثنايا الجسد وينهار على هيئة دموع.

“ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف
ماذا فعلوا بعينيك وحق الله؟ .

سركون بولص، آلة الزقوم.                                                                         

  تملتُ وجهي صدفةً في مرآةٍ كانت على ناصيةٍ في زقاقٍ صغير بينَ تَجمّع ٍكبيرٍ من خيام النازحين، كانَ وجهاً شاحباً ومُصفرّاً، وفيه عينين تماماً كما يَصفها سركون بولص، منطفئتين كأن شيئاً ما سرقَ ضياءهما، دُهشت وتَمَسمرتْ قدماي، وشعرت للحظة أنني لا استطيع المسير، لولا تدافع الناس في أزقةِ مخيمات النزوح بمنطقة مواصي خانيونس، والذي أَجبرني على الاستمرار في المسير مُتجاوزاً صدمة ما عكستهُ المرآة لوجهٍ بدا وجهاً لشخصٍ آخر.

كنتُ إلى حينَ مغادرتي لبيتي نازحاً منهُ للمرّة الأولى لم أرَ وجهي مُطلقاً، فلا مرايا في الخيام، ولم يكن مهماً بالنسبةٍ لي وأعتقد لغيري كثيرين مُراعاة وجود مرآة بين الأغراض التي يأخذونها معهم في رحلة النزوح، كنتُ قد رأيتُ وجهي مرّة قبل مغادرتي البيت، ولم يكنَ ما عكسته المرآة وقتها مطمئناً، على الرغم أنني في حينها لم أكن قد عشتُ تجربة النزوح بعد.

كانَ وجهاً شاحباً مُصفرّاً فيما ترتخي تحت العينين هالتين كبيرتين من السواد، بينما يتقوّس على جانبي الوجه بمُحاذاةِ الأنف من الجانبين خطين مقوسين يختفيان حين يعتري الوجه أية إيماءات حيث لا يمكن تميزها عن الإيماءات الأخرى، فيما يظهران بوضوح حين يكون الوجه ساكنا، في أعلى الوجه ظهرت خطوط إضافية في الجبهة، كان يُمكنني ملاحظتها بوضوح كوني كنتُ فيما قبل الحرب أعي وأُراقب وجودها جيداً، أما بقية الجسد فيعتريه الهُزال والنُقصان الواضح في الوزن.

بعدها بعدةِ أسابيع رأيتهُ مجدداً في عيون آخرين، كنّا ثلاثة أصدقاء لم نتمّكن من لقاء بعضنا البعض منذُ ما يزيد عن خمسة أشهر، تفرّقنا بفعلِ النزوح إلى أماكن مختلفة وسط جغرافيا بدت لنا جديدة، فلقد صاغت تجمعات الخيام كلَّ جغرافيا الساحل الغزيّ صياغةً جديدة مخنوقة وضيقة، ولذا تضاءلت كثيراً فرص أن نلتقي، حين إلتقينا للمرّةٍ الأولى بعد انقطاع دام ما يزيدُ عن خمسة أشهر، شَعَرَ كلٌ منّا بشعورٍ ما من الخجل تجاه الآخر، شعور سخيف ومؤذي من الانكماش والتواري وكأن كلَّ واحدٍ منّا يرغبُ في تجاوز ما شاهدهُ في وجهِ الآخر من قسوة، كلُّ وجهٍ من الثلاثة وجوه كانَ يختزل الحرب داخله: وهج الشمس، ضجر الانتظار، شقاء المسير في الطرق الوعرة، الهُزال والخوف وغيرها الكثير الكثير، وعزَّ على كلّ واحدٍ منّا أن يرى الآخر على هذه الشاكِلة، إلا أننا بعد دقائِقٍ ثقيلة مرّت كأنها دهر، تمكنّا من تجاوز تلك الحالة، بخليط من عباراتِ المواساة والسخرية.

سرنا في الطريق بينَ حشود النازحين المُتدافعة، نحاول أن نصل إلى أي مكان يُمكن أن نجلس فيه للحديث، إلى جانب الطريق كان ثمة ميزان على الأرض، ميزان كبير من تلك الموازين التي تُستخدم لوزن البضائع، كان أحد النازحين وفي محاولة لإيجاد طريقةٍ ما لكسب المال، قد وضعهُ على جانب الطريق معلّقاً فوقَهُ لافتةً صغيرة من الكرتون مكتوبٌ عليها بخط اليد:

“اعرف وزنك على واحد شيقل” ولأن الناس جميعهم وبعد هذه الشهور المتتالية من الحرب وبسبب فداحة المأساة فيما يخص وفرة الأغذية بالإضافة إلى المجهودات اليوميّة الشاقة التي كانوا يتكبّدونها في جلب مياه الغسيل والشرب والمشي كيلومترات على الأقدام وغيرها من أنماط الحياة اليومية الشاقة والمضنية، كانوا قد فقدوا جزءً كبيراً من وزنهم، وجدَّ من فكرَّ في وجود ميزان إلى جانب الطريق، أنَّها ربمّا تكون فكرة جيدة، فالجميع على الأغلب يرغبُ في أن يعرفَ كم من الكيلوجرامات قد فقد بعد كل هذه الشهور، أثار الميزان فضول ثلاثتنا تجاه معرفة وزننا، وبدأنا تباعاً نقف على الميزان واحداً تلو الأخر، ثم نُدهش حينً نعرف ما فقدناه من أجسادنا خلال شهورٍ قليلة، كانت قيمة أقل واحد فينا خسارةً بالوزن هي عشرة كيلو جرامات، صُعقنا من حجم الخسارة التي لا يمكن حدوثها إلا إن كنّا في حالة إضراب عن الطعام، وأطلقنا ضحكة ساخرة عملاقة من كل برامج الحميات الغذائية والروجيم، لا يوجد برنامج أكثر فعالية من هذا، فقط حرب كهذه كفيلة بإن تُحدث المعجرات.

كانت ليالي القصف وتشنجات الخوف وخفقات القلب وارتعاشات اليد، وما جال في الرأس من وساوس، وما اختبرته الأعصاب من مشاعر، وموجات الكآبة والحزن، بالإضافة إلى لفح أشعة الشمس في طوابير الانتظار، ومشاهد الدمار ورائحة البارود وأصوات الانفجارات وغيرها الكثير الكثير قد فعلت أفاعيلها وأحدثت في الجسد والوجه ما أحدثت، فيما بقي ما أحدثته في الوعي والوجدان والنفس أكثر قسوة وإيلاماً وإن أخفاهُ الجسد خلف الجلد والعظام والأوعية الدومية.

وكنتُ كلما نظرت إلى وجه المّارة في سيارات النقل أو بين الخيام أجدّ وجوهاً تموت، قلت محدثاً نفسي ما الذي جرى؟ أنَّها وجوه تموت يا إلهي، أنها وجود تموت، تأكلها الشمس وتخطف نضارتها الكآبات، أنها ملامح متشنجة، تشنجت بهول الصدمة وبشاعة المأساة وتراكمت عليها الآلام والأسئلة.

وجوه تحملُ ألم كثيف مُعتصر ومُركز تركته الأيام الماضية، خوف مهيمن يُغطي اللحظة الراهنة، وقلق وأفكار وهواجس لا حصر لها حول توقع ما هو أسوأ في قادم الأيام.

وجالت في رأسي وساوس وأفكار لا حصر لها، عن الوجوه التي تموت في أجسادٍ حيّةٍ تتحرك وسط مشاهد الخراب والدمار، أنها وجوه الناس في غزة، الذين كلّما سألناهم عن أحوالهم، أجابوا: أنهم بخير إجابة سريعة ميكانيكة يكشف زيفها فقط أول نظرة تصطدم بالوجه الميت، وكنتُ حينَ أسير في الطرقات أُواجهُ صعوبةً كبيرة في التعرّف على وجوه أصدقاء جمعتني بهم سنوات الدراسة والعمل، بعد أن نحتت الحرب ووجوههم كما تُنحت الصخور، بأزاميل الخوف والفقد والخسارة، بعضهم كان يُحاول أن يتجنب أن يراه أحد، يمشي بذات الوجه الميت فيما يحاول الابتعاد عن مصادفات قد توضّح لأحدهم حجم المعاناة التي كابدها خلال أشهر قليل فقط، وآخرون يمرون دون أن أتمكن حتى من معرفتهم.

وجود تموت وعيون مصفرّة مطفأة وأجساد هزيلة يعتبرها نقصان فادح في الوزن لسوء التغذية، وثياب متسخة وأقدام متغبرّة ومتشققة من صلافة الطريق، هكذا بدا مشهد المّارة المتجولون بين الخيام، مسير محبط بائس يركض في دوائر مفرغة من المعاناة والعوز فيما تُلاحقها نيران القذائف من مكانٍ لآخر، أيُ حجيمٍ هذا؟ أي حجيم.

The post نافذة صغيرة من غزة: ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف؟  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نافذة صغيرة من غزة: لا مفر من الخيمة https://rommanmag.com/archives/21584 Mon, 17 Jun 2024 08:55:11 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%84%d8%a7-%d9%85%d9%81%d8%b1-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8a%d9%85%d8%a9/ مازلت أتذكرُ جيداً مع بدايات الحرب موجة القلق والتأزم التي شعرتُ بها حين رأيت للمرّة الأولى أول تَجمّع خيام تم إنشاؤه لاستقبال النازحين القادمين من شمال وادي غزة تجاه جنوبها، كان هذا التَجمّع عبارة عن مئات الخيام البيضاء المُتراصة إلى جانبِ بعضها البعض، والتي نُصِبت في أرضٍ خاليةٍ بالقرب من مبنى “الصناعة” وهو مقرّ للتعليم […]

The post نافذة صغيرة من غزة: لا مفر من الخيمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مازلت أتذكرُ جيداً مع بدايات الحرب موجة القلق والتأزم التي شعرتُ بها حين رأيت للمرّة الأولى أول تَجمّع خيام تم إنشاؤه لاستقبال النازحين القادمين من شمال وادي غزة تجاه جنوبها، كان هذا التَجمّع عبارة عن مئات الخيام البيضاء المُتراصة إلى جانبِ بعضها البعض، والتي نُصِبت في أرضٍ خاليةٍ بالقرب من مبنى “الصناعة” وهو مقرّ للتعليم المهني يتبع وكالة الغوث. 

كنّا لا نزال في بداية الحرب، في مُنتصف أكتوبر من العام الماضي، وكانت موجات النزوح الأولى تتوالى تباعاً، كانت آلاف العائلات تتوافد إلى مدينة خانيونس، وكنّا نشاهدُ سيارات النقل وهي تنقل العائلات مع أمتعتها: حقائب للملابس، بعض الأدوات المنزليّة القليلة، كان الناس مع بداية الحرب يعتقدون أنهم لن يمكثوا في حالة النزوح سوى أسابيع معدودة، أو ربمّا شهرين على أبعد تقدير، ولذا لم يكونوا مهتمين بنقل الكثير من أغراضهم، كانوا يكتفون بحقائب الملابس والأوراق الثبوتيّة والنقود والمصوغات وبعض الأغطية والفرشات. 

ولقد اُستقبِلَ جزءٌ كبير من العائلات مع بدايات النزوح في بيوتِ أقارب وأصدقاء أو معارف، ثم استقبلت مدارس وكالة الغوث والتي تتحوّل عادةً إلى مراكز ايواء أعدادً إضافية من العائلات النازحة، كلُّ هذا كان لا يزال مقبولاً ومستوعباً بالنسبة لنا، بالنظر إلى سياق الحروب وموجات التصعيد السابقة التي عشناها في غزة خلال الـسبعة عشر عاماً الماضية، إلا أن كثافة العائلات التي نزحت من مناطق واسعة من جغرافيا شمال قطاع غزة، والتي لم يكن من السهل استيعابها إلا باللجوء إلى فكرة تجمّع الخيام، كان استثناءً ومؤشراً مرعباً ومخيفاً. 

وأذكرُ أنني حينَ رأيت على مواقع التواصل الاجتماعي في حينها هذا التجمّع أُصبت بانقباضٍ شديد، وشعور هو مزيج من مشاعر الأسى والخوف معاً، مشاعر أعتقد أنها مُبررة بالنظر إلى ما حركتهُ هذه المشاهد من تجارب وانعكاسات سابقة، أولا: لانعكاسها العام في وعينا الجمعي كفلسطينين، فالخيمة وتجمّع الخيام وصولاً إلى مفردة المخيم، تُحيلنا سريعاً إلى نكبة العام 48 وكل ما يتصل بها من سياقات الفقد والخسارة، فقد المكان والانقطاع عن سيرورةِ الحياة والانتقال إلى حياةِ اللجوء وما يرتبط بها من المعاناة والألم والفقد والتردي، وهذا كلَّهُ هو تحريك لسردية معجونة بالألم والقسوة. ثانياً: انعكاسها الخاص عليه بصورةٍ شخصيّةٍ، واسترجاع لذاكرة مُبكرة مع الخيمة، حينَ هُدمَ بيت العائلة للمرّة الثانية في اجتياح إسرائيلي لمخيم خانيونس مع ذروة نشاط انتفاضة الأقصى.

 حدثَ ذلك في مارس من العام 2003 وفقدنا ليلتها منزل العائلة بعدَ أن نجونا من موتٍ محقق، كُنت لا أزال حينها طفلاً في الصف السابع الابتدائي، وعشت تفاصيل فقدان البيت وأن تصبح نازحاً بلا مؤى بكلِّ بشاعة تلك التجربة وقسوتها، إلا أن مشهداً كان لا يزال عالقاً في ذاكرتي كلّما استرجعت تلك التجربة، هو مشهد الخيمة التي أحضرها الصليب الأحمر لنا كمأوىٍ مؤقت.

كان مشهداً مُرّاً وبشعاً وما يزال إلى اليوم محفوراً بصورةٍ مؤلمةٍ في وعيي وذاكرتي، ولذا استجلب ربمّا المشهد المبكر لتجمّع الخيام مع بدايات الحرب في اكتوبر الماضي كلَّ تلك المشاعر الممزوجة بالألم، وكل تلك التجارب بتفاصيلها المرهقة، ووجدتي متشنجاً وأعتقد غيري الكثيرين محاولين تجاوز فكرة الخيمة وتجمّع الخيام، بمعنى آخر تجاوز سياق فقدان البيت والمكان المتغلغلة في أعماق وعينا كفلسطينين منذ العام 1948 وصولاً إلى 2023. 

ذلك المشهد الذي لم يكن سوى باكورة مشاهد لا نهاية لها لتجمعات هائلة من خيام النازحين التي ستملأ كل الأماكن والزوايا والمساحات في كل مكان، والتي لن نستطيع تجاوزها أو الهروب منها، كما لو أنها قدراً محتوماً لا فرار منه. 

داخل الخيمة، خارج العالم 

بقيت مشاهد تجمّع الخيام التي شاهدتُها مشاهد مُشوهة ومؤلمة أحاول تجاهلها والهروب منها، إلى أن ساقتني قدماي في رحلة النزوح الطويلة من مكان إلى آخر هروباً من نيران الحرب التي بدت تتسع وتتوهج بصورة مرعبة، كنتُ قد نَزحت للمرّة الثانية في ديسمبر من العام الماضي إلى بيتِ أقاربنا في منطقة حي الأمل بخانيونس، وكان نُزوحاً داخل المدينة نفسها ولذا كان من السهل اللجوء إلى بيتٍ من بيوتِ الأعمّام والأقارب المنتشرة في جغرافيا المدينة والآمنة ولو بصورةٍ نسبية، ولذا لم يكن نزوحاً يستعدي التفكير بالخيمة.

 ولقد ساقتني قدماي في تلك الفترة للمرّة الأولي إلى تجمّع الخيام، هو ذاته الذي كنتُ قد شاهدتُ صوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان المسير بين الخيام وعلى أطراف المخيم، هو مسير في لوحة يسيل منها التعب، شيء يشبه ما يمكن الشعور به حين تشاهد لوحة “العطش” لاسماعيل شموط، ثمة موت محبوس وبطيء يمكث في قيعان الحالة برمتها، الصيغة نفسها مركبة تركيباً منزوعاً من الآدمية ويهدر بصورةٍ بشعة وسريعة كل ما هو إنساني وحي في المكان. 

كانت الخيام قد نُصبت إلى جوار بعضها البعض في مساحة ضيقة تنعدم فيها الخصوصية وتُحوّل كل من يسكنها إلى حالة آدمية واحدة مُتماهية وممزوجة ببعضها البعض، فيما يُلغي استقلالية الفرد من حيث كونه ذاتاً انسانيةً قادرةً على أن تنفصل فسيلوجياً أو نفسياً عن البقية، تقارب مخنوق يُجبر الجميع على أن تتداخل خصوصياتهم بطريقةٍ تنعدم فيها فرص الحفاظ على مساحة خاصة لقضاء الحاجة أو لطبخ الوجبات اليومية أو تبادل الهموم الأسرية أو حتى الحديث الحر والخاص بين أفراد الأسرة الواحدة. 

فيما الشمس تُحوّل الخيمة نهاراً إلى ما يشبه الدافئة الزراعية، حيث ترتفع بصورةٍ مرعبة درجات الحرارة ما يجعل البقاء داخل الخيمة بقاء داخل جحيم حقيقي، أما إذا ما هبت رياح قوية فمن الممكن أن تَقلع الخيمة من أرضها بكل ما فيها وعليها، وإذا ما أمطرت ينزلق من زواياها ماء المطر كما لو أنه الطوفان وما من سفينة نوح، تُنقذ المعذبين من الماء الهابط من السماء والخارج من الأرض.

كان المشهد برمته يشبه ديستوبيا مرعبة، مكاناً خاصاً من الجحيم، وكنتُ فيما أتجوّل بين الخيام محاولاً تجنب أن تنزلق قدماي في أخاديد مياه الصرف الصحي التي شقت لنفسها مجالات ضيقة في الأرض، أفكر في أن كل من هم داخل تجمع الخيام خارج العالم، أنه منفى، ليس فقد لنفي الناس عن قضاياها واسئلتها، إنما لنفيهم عن آدميتهم وكرامتهم ولياقاتهم الإنسانية، وكنتُ فيما أنا غارق في بشاعة المشهد أفكر أن واحدة من أهم أشكال النجاة في هذه الحرب محاولة النجاة من الخيمة. 

“خيمة عن خيمة بتفرق”  

أطبقت إسرائيل اجتياحاً واسعاً وشاملاً على مدنية خانيونس في يناير من العام الجاري، وكنّا في العائلة كمن يحاول أن يتشبث في آخر قطعة حطام في سفينة تغرق، انتظرنا طويلاً قبل أن نتخذ قرار الخروج من خانيونس، انتظرنا إلى أن اقتربت الدبابات إلى حد الموت، ولم يعد أمامنا خيارات إلا الخروج من المدينة، والخروج من المدينة هو الدخول في الخيمة. 

كنّا نحاول أن نُرجئ قرار الخيمة أطول فترة ممكنة، لا نريدها، لا نريد شكلها ولا مهانتها ولا نهاراتها المشتعلة ولا لياليها الباردة، إلا أنه لا مفر منها في نهاية الأمر، فالجميع سيكون مضطراً إلى الدخول في الخيمة مهما حاول الهروب منها خاصة في ظل اتساع رقعة العملية العسكرية والتي  وصلت مديات عميقة في كل زوايا خانيونس. 

وبهذا بدأت رحلة البحث عن الخيمة، كنّا مجموعة من العائلات الكثيرة في عائلتنا الممتدة، ولم يكن لدينا خطط حول كيفية الحصول عليها، ولم نكن نعرف أن الخيمة ليست خيمة فقط وانتهي الأمر، أنها مجالاً واسعاً من الاختلافات والتباينات، والاختلاف في الخيمة يؤشر إلى الاختلاف الطبقي فيمن يسكنها، فهي ليست خيام واحدة موحدة كالتي حوَت داخلها الوزير والغفير إبّان نكبة العام 1948، أنها خيام تختلف في شكلها ومساحتها وارتفاعها وسعتها وقدرتها على مقاومة تقلبات الجو، فالخيم الاماراتية والتي من المفترض أنها توزع مجاناً، تُعد أكثر تلك الخيام جودةً فهي أكثرها ارتفاعاً ولديها قماش قادر على أن يُقلل إلى حد بعيد من تسرب الأمطار إليها وتُباع بسعر يقترب من الألف دولار، تليها الخيم القطرية والتركية ثم الكوتية ثم الجزائرية والمصرية في الأقل جودة.

وليس من السهل الحصول على خيمة من تلك الخيم بصورة مجانية، ولذا تمكنت العائلات التي لديها القدرة المادية على شراء الخيمة والتي لا يقل سعر أردئها عن أربعمئة دولار من شراء خيمة، فيما صنعت العائلات الفقيرة لأنفسها خيماً من أكياس النايلون وعصي المكانس والأخشاب، خيم في غاية السوء ولا يمكن لها أن تقي شر الشمس أو المطر أنها شر بحد ذاتها. 

وبهذا تحوّلت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية على امتداد الساحل الغزي إلى تجمعات متصلة ومتتالية من الخيام المختلفة، خيام جيدة مزودة بلوحات طاقة شمسية للتزود بالكهرباء لنازحين لديهم إمكانيات مادية أعلى وأخرى بالية ممزقة تقلعها من جذورها أي نفخة هواء لنازحين فقراء، والصيغة كلها حمقاء ومقرفة، كوميدا سواء مرعبة في مشهد يغرق كله بالبؤس. 

وكالعائلة وجدنا لأنفسنا مكاناً وسط تركيبة الخيام هذه، مشهداً متوسطاً في خياماً معقولة تُعاني كغيرها وتنام في مشهد الضياع هذا تحت أصوات الانفجارات وطائرات الاستطلاع، بأيادٍ متمسكة بعمود الخيمة تحاول أن تمنع رياح يناير الباردة من أن تقتلعها من أرضها إلى سماء تضئ فيها الانفجارات. 

The post نافذة صغيرة من غزة: لا مفر من الخيمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نافذة صغيرة من غزة: طاولة بيع الكتب في سوق النازحين https://rommanmag.com/archives/21561 Sat, 01 Jun 2024 18:52:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%b7%d8%a7%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%b3/ في الطريق المُطل على البحر بمنطقة مواصي خانيونس، حيثُ ينزح عشرات الآلاف في خيامٍ متزاحمة ومتراصة على جانبي الطريق، كنتُ أسيرُ مُجهداً وسط حشد هائل من المّارة وسيارات النقل التي تنقل الناس عبر شارع الرشيد، أو طريق البحر كما هو دارج تسميتهُ بين الناس في قطاع غزة.  طريقٌ طويلة ومزدحمة أصبحت مركز المدينة، بعد أن […]

The post نافذة صغيرة من غزة: طاولة بيع الكتب في سوق النازحين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الطريق المُطل على البحر بمنطقة مواصي خانيونس، حيثُ ينزح عشرات الآلاف في خيامٍ متزاحمة ومتراصة على جانبي الطريق، كنتُ أسيرُ مُجهداً وسط حشد هائل من المّارة وسيارات النقل التي تنقل الناس عبر شارع الرشيد، أو طريق البحر كما هو دارج تسميتهُ بين الناس في قطاع غزة.

 طريقٌ طويلة ومزدحمة أصبحت مركز المدينة، بعد أن اجتاحت الآليات العسكرية الإسرائيلية المدينة حتى أطرافها الغربية بالقرب من منطقة المواصي على شاطئ البحر، وحشرت الناس من سكان خانيونس، ومن سكان المناطق الأُخرى شمال وادي غزة والذين نزحوا إليها في تلك المنطقة، وكان مجرد النظر إلى الناس في هذه الطريق وما يعتلي وجوههم الشاحبة وعيونهم المُصفّرة؛ بسبب عدوى التهاب الكبد الوبائي التي انتشرت بينهم، بالإضافة إلى أجسادهم الهزيلة يثير في النفس الكآبة. 

 أُناس متعبون في طريقٍ ضيقة على جانبيها عربات بيع صغيرة ووسطها سيارات نقل وعربات تجرها الأحصنة والحمير، فيما الناس تسير في مسافاتٍ ضيقةٍ ومحدودةٍ داخل هذه اللوحة شديدة الكآبة والاختناق، كنتُ أسير وسط هذا المشهد البائس أُمرر عينيّ بلا هدف على عربات بيع كل شيء التي أقامها الناسُ على جانبي الطريق، عرباتٌ لبيع المعلبات التي توزعها الجهات والمنظمات الإعاثية الدولية: علب فول وفاصولياء وبازيلاء وسردين وتونة، علب بأشكالٍ وأحجامٍ ومذاقاتٍ مختلفة، مرصوصة فوق بعضها البعض برتابة وشكلها يُثيرُ الاشمئزاز، عرباتٌ أخرى لبيع المسروقات التي سُرقت من بيوت الناس بعد أن تركوها ونهبها اللصوص: أنابيب غاز الطهي، وبطاريات الشحن، وألواح الطاقة الشمسية، وأواني مطبخ، طناجر وأطباق، جميعها سُرقت من بيوت الناس، عرباتٌ أخرى تبيع أقراص الفلافل المقلية على نار الخشب، وعرباتٌ لبيع المياه الصالحة للشرب وأخرى لببيع الملابس المسروقة كذلك، وبين كل تلك العربات كنت أسير مُمرراً عينيّ بلا هدف، مرور بطيء رتيب ميت لا معنى له، إلى أن وقعت عيناي على طاولة لبيع الكتب، حوّل المشهد عينيّ المريضتين بالكآبة إلى عينين متشنجتين ومستيقذتين كأنما أصابهما تيارٌ كهربائي، أثار مشهد الكتب المُرتبة إلى جوار بعضها البعض بطريقةٍ منظمةٍ على مفرشٍ نظيف فوق طاولة أكثر أناقة من الطاولات جاراتها المصنوعات من خشب “المشاطيح” بطريقةٍ بدائية ومتواضعة، موجة عارمة من مشاعر مختلطة ومتناقضة: نوستولجيا وحنين إلى مكتبتي الخاصة في ببتي والتي قاومت كل محاولات الانجرار للبدء بحرق كتبها، بعد أن انقطع غاز الطهي مع بداية الحرب ونفذت بسبب اعتماد الناس في الطبخ على الورق وقطع الكارتون، كل الأوراق والكراتين المُهملة في الشارع، وكدتُ أنزلق في حفرة حرق الكتب لإشباع جوع الصغار، لولا صاحب البقالة أسفل البناية حيث أسكن والذي قدم لي مجموعة من قطع الكرتون لأستخدامها وقود في “فرن الطينة” وبهذا جعلني أحافظ على وجود الكتب داخلها بحالتها وعددها دون أن ينقص منها كتاباً واحداً إلى أن غادرتُ البيت نازحاً منه إلى مدينة رفح بعد أن اجتاحت الآليات العسكرية خانيونس، وإلى جوار الشعور بالحنين إلى المكتبة الذي أثاره شكل الكتب على الطاولة، شعرتُ بالحزن كون الكتب على الأغلب مسروقة من مكتباتٍ عامة أو خاصة، ولم أكن قادراً على تخيّل أن تُسرق مكتبي التي بذلتُ مجهوداً جسدياً ونفسيا هائلا لتجنب حرقها، بالإضافة إلى الشعور بالدهشة، فمن سيتهم بالكتب الآن في هذه المَقتلة التي أكلت الأخضر واليابس؟ من سيدفع نقوداً لشراء الكتب في الوقت الذي يتضور فيه الناس جوعاً وفقراً وعوز؟ ومشاعر أخرى من الارتباك العام من وجود طاولة لبيع الكتب في مشهد يغرق بالمأساة والألم على ذلك النحو.

أخبار قالتها عربة الكتب عن المدينة

بعد أن تمكّنت من استيعاب المشهد بكل تفاصيله وما تزامنَ معها من مشاعرٍ مختلفة، وقفتُ أنظرُ بتأنٍ نظراتٍ فاحصةٍ إلى الكتب المرصوصة على طاولة الكتب في جانب الطريق، العناوين التي تنام إلى جوار بعضها البعض في حرب الإبادة فيما يسير الناس من جانبها بعيونٍ ميتة وقلوب يأكلها الحزن ووجوه يعتلها الوجوم وترتخي فوقها التعاسة، كانت العناوين في أغلبها لكتبٍ مؤلوفةٍ بالنسبة لي، كتب سبق وأن قرأتها في مكتبةٍ ما، أو حتى اقتنيتها في مكتبي الخاصة في أيامٍ خلت كنتُ فيها أقطعُ مسافاتٍ طويلةٍ لاقتناء كتاب.

“الأم” لمكسيم غوركي و”العمى” لجوزيه ساراماغو، “الحنين إلى كاتالونيا” لجورج أورويل، و”الأيام” لطه حسين، ومجموعة أخرى من الكتب الدينية المهتمة بالتصوّف الرسالة القشيرية وديوان شعر ابن الفارض، كان النظر إلى الكتب على الطاولة يسيرُ ضمن وتيرة عادية ومطمئنة، فالكتب يُمكن أن تكون في أي مكتبة عامة أو حتى متجر كتب، وقد تكون مأخوذة منه، إلى أن وقعت عيني على كتاب “ظهيرة: قصائد في عربة الاسكافي” للصديق نضال الفقعاوي والذي كان موجوداً بينَ الكتب على الطاولة. 

 للوهلة الأولى شعرتُ بسعادةٍ غامرة لوجود المجموعة الشعرية لنضال بين الكتب الموجودة على الطاولة، فلقد أحببت القصائد وعشت معها سنوات، كنت فيها كلّما مرَّ وقتٌ عدتُ إليها وقرأت فيها، إلى أن هالتني فكرة أن الكتاب ربمّا يكون مأخوذاً من مكتبي الخاصة، وهذا يعني أن شقتي قد تكون تعرضت للسرقة، كانت الدبابات الإسرائيلية قد دخلت بالفعل إلى كل الأماكن في مدينة خانيونس، وكنا نتابع أخبار التقدم الإسرائيلي في مناطق وأحياء مختلفة من المدينة، وكنّا نستدل على مدى توغل الآليات في قلب المدنية ليست فقط بأصوات الانفجارات وأعمدة الدخان التي كانت تبدو لنا حيث كنّا ننزح في منطقة المواصي على الأطراف الغربية من مدينة خانيونس قريبة، ولكن بجحم المسروقات التي كان الناس يرونها معروضةً للبيع في شارع البحر، قلتُ محدثاً نفسي: إن كان هذا الكتاب قد أُخذ من مكتبي بالفعل فهذا يعني أن الدبابات وصلت المنطقة حيث أسكن وأنَّ الجيش ربمّا دخل الشقة، وأنَّ اللصوص دخلوها بعده، وقلت: أن طريقةً واحدةً فقط تجعلني أتأكد من إذا ما كانت نسخة الكتاب هذه الموجودة على الطاولة مأخوذة من مكتبتي أم لا؟ وهي أن أقوم بفتح الصفحة الأولى من الكتاب واقرأ إذا ما كان هناك اهداء خاص بي، فقلد كان نضال قد خط لي اهداءً خاصة في أولى صفحات الكتاب بخطِ يدهُ. 

جلستُ القرفصاء واقتربتُ من الكتاب فيما صاحب طاولة الكتب ينظر إليَّ خلسةً فيما أقوم بفتح الكتاب، لاقرأ الاهداء التالي: إلى صديقي حسام شحاتة. تنفست الصعداء وابتسمت كوني تأكدت أن الكتاب لم يؤخذ من المكتبة، أي أن البيت لم يُسرق أو ربما أن الجيش لم يدخله بعد، فيما قلت محدثا نفسي: أحدهم يجب أن يُخبر حسام أن بيتهُ قد سُرق.

هل يقرأ أحدهم في زمن الحرب؟ 

رفعتُ رأسي موجهاً عينيّ المطمئنتين بعض الشيء بعد التأكد من أن الكتاب على طاولة بيع الكتب لمن يكن مؤخوذاً من بيتي إلى الشاب صاحب الطاولة الذي كان لا يزال ينظر إليَّ خلسةً نظرات يشوبها الشك وتعتريها الأسئلة، وقلت مُحدثاً نفسي: خير وسيلة للدفاع الهجوم، سأقوم أنا بمباغة الشاب وطرح الأسئلة عليه قبل أن يبدأ هو بطرحها عليَّ، بعد أن لاحظت وابل من الأسئلة يكاد يندفع من عينيه وفمه، قلت له: من أين حصلت على هذه الكتب؟ وعلى عكس ما كنت أعتقد أن السؤال سيكون مفاجئاً أو ربما مربكاً له، قال لي بهدوء شديد: بعضها كُتبي الخاصة، وأخرى اشترتها من بعض اللصوص الذين تورطوا بها حين وجدوها داخل الخزانات الخشبية التي سرقوها من بيوت الناس، كانوا على وشك حرقها في أفران الطينة، وقمت بشرائها منهم بثمنٍ زهيد، هل يتهم أحد بشراء الكتب الآن؟ سألته.

 قال: الكثيرين، صدقني يأتون يومياً إلى الطاولة، بعضهم يشتري الكتب وأنا أبيعها بأسعارها الاعتيادية وعلى الرغم من ذلك يقومون بدفع المبالغ التي أعرضها ويشترونها، وآخرين يكتفون بتصفح بعض الكتب ويواصلون طريقهم بين العربات المتلاصقة. لكن بعض الكتب مسروقة يا عزيزي، ماذا لو جاء صاحب الكتاب ليشتريه؟

 قال: ليس مهماً أناس كًثر قاموا بشراء مقتنيات من بيوتهم، سُرقت منها ووجدوها في سوق المسروقات. ابتسم كلانا وتركته وتابعت المسير. 

لم تكن إجابات بائع الكتب في سوق النازحين بمنطقة خانيونس، الإجابات المختصرة والواضحة والصريحة، سوى مدعاة لملاحظة كيف يحاول الناس حماية أنفسهم من وحش الحرب الذي يلتهم بنهمٍ وبشاعةٍ لا مثيل لها أرواحهم، تلك الأرواح التي راكمت عليها بشاعات الحرب أكوام هائلة من الألم والفظاعة. 

 تشبه الحرب آلة بتروس هائلة وكثيرة كتلك الموجودة في المصانع العملاقة والتي تصهر كل ما يُقذف داخلها من أكوامِ الخردة والحديد، وهكذا تفعل الحرب في أرواح الناس، صهرٌ واستهلاكٌ مرعب ومرير في تفاصيل المعاناة اليومية، خوف وفقد ووقوف لا ينتهي في طوابير النزوح التي تستهلك كل ما هو آدمي، وفي ظل هذا السياق المُتنامي من الخسارات والفقد والهدر للآدمية التي يتعرض إليها النازحون يومياً، يمكن فهم ما يحاولون فعله بشراء الكتب وقراءتها، يُشكِّل الكتاب فرصة لمماسة فعل آدمي يتحدى آلة الحرب اللانسانية، القراءة بهذا المعنى فعلاً مضاداً لحالة التوّحش التي تبني نفسها بصورٍ هرمية ومتسارعة، توّحش يمكن ملاحظته في النمط العام للحياة العدوانية التي يعيشها النازحون في جغرافيا ضيفة، شريط ضيق محدود على شاطئ بحر غزة من رفح جنوباً حتي النصيرات وفي وسط القطاع، والذي حُشر فيه الناس فيما سُكبت عليهم فيه كل أشكال العذاب والألم. ولكي تحمي نفسك من خشونة الحياة المفرطة في هذا المنصهر الضيق عليك أن تحتمي بشئ يحافظ على كونك انساناً  مستيقظاً قادراً على التعاطي الانساني الحرّ مع ما يحيط بك من أشكال الألم دونما أن يحوّلك هذا الألم إلى جلمود من الصخر. 

وهنا جاء الكتاب ليفعل ذلك، القراءة كفعل لمواجهة التوحّش والحفاظ على الكينونة الانسانية من التآكل بين رحى الحرب التي تطحن كل شيء، وأبشع ما تطحنه هو القدرة على الإحساس بالألم كما يجدر بالإنسان يُباد أن يشعر ويعيش. 

The post نافذة صغيرة من غزة: طاولة بيع الكتب في سوق النازحين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نافذة صغيرة من غزة https://rommanmag.com/archives/21360 Mon, 06 Nov 2023 16:34:36 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d8%a7%d9%81%d8%b0%d8%a9-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ مُنذ بداية الحرب انعقد لساني تماماً، ودخلت في ما يُشبه حالة خرس، لا يُمكنني الحديث عن شيء ولا التعاطي كما يجب مع حدث مهول بحجم الحرب الدامية المشتعلة منذ ما يزيد عن شهر، كل ما أفعله منذ بداية الحرب أني أشاهد فقط بحواس مرهقة وروح خاملة وعقل مشوش ومرتبك ولا يُمكنهُ استيعاب ما يحدث.  في […]

The post نافذة صغيرة من غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مُنذ بداية الحرب انعقد لساني تماماً، ودخلت في ما يُشبه حالة خرس، لا يُمكنني الحديث عن شيء ولا التعاطي كما يجب مع حدث مهول بحجم الحرب الدامية المشتعلة منذ ما يزيد عن شهر، كل ما أفعله منذ بداية الحرب أني أشاهد فقط بحواس مرهقة وروح خاملة وعقل مشوش ومرتبك ولا يُمكنهُ استيعاب ما يحدث.

 في هذا المدنية التي تشبه الجحيم، غزة، اللعنة والكابوس الذي يلاحقنا والذي رفضت الخروج منه بعد أن قُدمت لي فرصة على طبق من ذهب، لكني عُدت لأشهد من جديد حرب غزة التي ربما تكون الأخير بعد ١٧ حرباً وموجة تصعيد عشتها جميعها ونجوت منها جسداً إلى الآن، لكن نُدباً وجراحاً غائرةً في الروح والوجدان لا يمكن شفاؤها، ستظل تؤلمني ما حييت.
 

أخبار عاجلة لا تنتهي

لا يمكن في مدينة كغزة أن تخطط لأسابيع أو أيام، التجارب السابقة وكل محاولة للتفكير المنطقى تدفع للعيش يوماً بيوم، دون أن يكون هناك خطة حتى وإن كانت لأسبوع واحد فقط، لكننا سذج وطيبين وتطوينا موجات النسيان وننسى أنه لا يحق لنا فعل ذلك، لا ينبغي لنا أن نعلّق إطاراً جديداً على حائط بيت تحت نيران القصف، أو شراء أثاث جديداً يُمكن أن تحرقه نيران القذائف، أو الحفاظ على أجساد يمكن أن تمزقها حمم الصواريخ، أو بناء أحلام ستتبخر مع أدخنة هذا الجحيم، نحن كائنات محكوم عليها أن تظل مشبوحة في حياوات جامدة كلّما حاولنا تحريكها يصرخ في وجهنا العالم بأنه لا يحق لكم ذلك. 

وفي هذا الجحيم تتراجع كل الأشياء وتبدو عديمة القيمة، أمام جوهرية البقاء على قيد الحياة دون أن تنتهي هذه الحرب لتجد أن نقصاً أو نسفاً ما حدث لصورة العائلة  في غفلة من زمن الحرب التي تتسارع فيها الأحداث وتحوّل قصصاً وحيوات وتجارب إلى تقارير صحفية وأرقام في سجلات وزارة الصحة وهيئات الأمم المتحدة، يبدو النظر إليها باهتاً يثير الشعور بالأسف اللحظي، ثم سرعان ما تتداعى وتتوارى أمام هول الأحداث الجديدة. 

يا لها من قسوة لا يمكن تحملها تلك التي تحول عائلات بأكملها إلى خبر عاجل يعيش للحظات ثم تطويه أخبار عاجلة أخرى. 
 

يا الله مزيداً من الخوف

ينبغي في الحرب أن نظل قادرين على الخوف، الخوف الذين لا يؤكد الشعور فيه فكرة النجاة، لكنه مهم لنظل قادرين على إنعاش إنسانيتنا التي تنهشها آلة الحرب فيما يحولنا إلى جلود من الصخر، الخوف الذي يجعلنا قادرين على توصيف موقعنا في هذا التأرجح المستمر بين الحياة والموت، والذي يعني أننا لا نزال قادرين على الشعور بأن ثمة أشياء يجدر الإحساس بالخوف من فقدانها، كالحياة مثلاً. 

الناس في غزة ليست كائنات خارجة عن سياق الفهم، وليست كائنات بطباع خاصة تمكّنها من تحمل كل هذا الألم المهول، أنهم أُناس عاديون لديهم مخاوفهم وآمالهم وأفكارهم البسيطة والمتفائلة تجاه الحياة، لكنها الحرب التي تنهش الروح وتشعل نيرانها الهائلة في كل مساحات الحياة المخضرة، فيبدون للناظر من خلف شاشات التلفزة كائنات قوية وقادرة على مواجهة كل هذا الجحيم، إلا أنهم في الحقيقة ينهارون في كل لحظة.

إلا أن ثمة مشهداً لانهيار عظيم سيعيشه الجميع في غزة بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، ونستفيق لنجد كل هذه الخرائط الكبيرة من الألم التي امتدت وتمتد في أرواحنا وأجسادنا، ومن فقدناهم ومن لا نريد فقدانهم.

The post نافذة صغيرة من غزة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“غزاوي: سرديّة الشقاء والأمل”… الإبحار من غزة وفيها https://rommanmag.com/archives/21348 Tue, 24 Oct 2023 08:04:13 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ba%d8%b2%d8%a7%d9%88%d9%8a-%d8%b3%d8%b1%d8%af%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%82%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%b1-%d9%85/ صدرَ عن مؤسسةِ الدراسات الفلسطينيّة، في نهاية نيسان الماضي كتاب: غزاوي سرديّة الشفاء والأمل لكاتبه جمال زقوت، يُقدِم الكتابُ مذكرات من حياة اللجوء في مخيمِ الشاطئ داخل قطاع غزة، لمناضلٍ من جيل ما بعد النكبة الفلسطينيّة العام 1948، في سياقٍ سرديّ يجمعُ في ثناياه بين التجربةِ الشخصيّة بتفاصيلها الخاصة والحميميّة، وبين المشهد العام والمشترك. كما […]

The post “غزاوي: سرديّة الشقاء والأمل”… الإبحار من غزة وفيها appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صدرَ عن مؤسسةِ الدراسات الفلسطينيّة، في نهاية نيسان الماضي كتاب: غزاوي سرديّة الشفاء والأمل لكاتبه جمال زقوت، يُقدِم الكتابُ مذكرات من حياة اللجوء في مخيمِ الشاطئ داخل قطاع غزة، لمناضلٍ من جيل ما بعد النكبة الفلسطينيّة العام 1948، في سياقٍ سرديّ يجمعُ في ثناياه بين التجربةِ الشخصيّة بتفاصيلها الخاصة والحميميّة، وبين المشهد العام والمشترك. كما يُقدِم الكاتب في إطار هذه السرديّة إضاءاتٍ على مجموعة من التحولات التي عاشها المجتمع الغزي في مراحلٍ مفصليّة من تاريخه، وما يرتبطُ بهذه المراحل من محطات: اللجوء والنزوح والحكم العسكري المصري في غزة في الحقبة الناصرية، وبدايات الاحتلال بعد هزيمة حزيران العام 1967، و المقاومة التي بدأت مباشرةً ضده. 

الكِتاب لجمال زقوت: سياسي فلسطيني من مواليد مخيم الشاطئ في غزة العام 1948، أُعتِقلَ الكاتب عدة مرات جَرّاء نشاطَهُ السياسي المُقاوم وأبعدتهُ سلطاتُ الاحتلالِ الإسرائيلي خارج فلسطين في الأول من آب عام 1998 بتهمةِ المشاركة في تأسيس القيادة الوطنية المُوّحدة للانتفاضةِ الأولى، وصياغة ندائها الأول ” رقم 2 “، وقد عاد إلى قطاع غزة العام 1994 وشَغِلَ عدداً من المواقع السياسيّة. 

 تُجرى رمّان ثقافيّة هذه الحواريّة مع الكاتب؛ للتعرّف أكثر وعن قرب إلى التفاصيل المُتصلة بمشروعِ الكتاب، بما يشملُ مجريات وأحداث وتفاصيل تُذكر داخلهُ للمرّةِ الأولى، محاولةً تقديم إطلالة مُعمقة حول ماهية الكتاب وتفاصيله من خلال الحديث مع الكاتب. 

منذُ لحظةِ التلقي الأولى لعنوان الكتاب، يُمكِن لنا فهم الشقاء في مسيرةٍ يحيطُ بها بؤسُ الحياةِ في تجلياتٍ متعددة: اللجوء، حياة المخيم، هزيمة حزيران، الشتات والنزوح، وسياق الفقد والأسر والإبعاد، لكن كيف يمكن لنا فهم الأمل وسط هذه المساحة الواسعة من مفرداتِ اليأس، كيف يُمكنكَ تعريف الأمل بعد كلّ هذه السنوات؟

قبلَ الإجابةِ عن سؤال الأمل، أود أولاً القول: إنني إنسانٌ متفائل بطبعي، فالتفاؤلُ الثوريّ قرارٌ ذاتي، وكما يقول غرامشي: “تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة”، وهذا له مبرراته وسياقه التاريخي، وهو الأمر الّذي حاولتُ أن أُقدمه خلال صفحات هذا الكتاب.

بدايةً فكرة إنتاج سرديّة لها علاقة بصورةٍ أساسيّةٍ بالموضوع أكثر من الذات، ولا أُفشي سراً حين أقول: أنني دائماً كنتُ أجدُ الكثيرَ من تشجيعِ الأصدقاء على مسألةِ تدوين التجربة، من حيثُ كيفيّةِ معايشتي وإدراكي لها، بالإضافةِ إلى الطريقةِ التي صقلت بواسطتها هذه التجربة شخصيتي ووعي العام بما يجري في واقعنا الفلسطيني على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي، والحقيقة أن هذا التشجيع ظلًّ مستمراً من قبل مجموعة واسعة من الأصدقاء الذين كانت تجمعني بهم جلساتُ استرجاع الذكريات والتفاصيل المتعلقة بحياةِ المخيمِ وممارساتِ الاحتلالِ وبطشِهِ وجرائِمِهِ بحقِ شعبنا وتطلعاته للحريةِ والكرامة، بالإضافة إلى بعضِ القصصِ الشخصيّةِ الأخرى، وظلّتْ هذه المحاولات ساكنة في دواخلي؛ لأنَّ الانغماسَ في العمل اليومي لم يوفر لي الوقت كي أعود بتلك الذاكرة إلى سراديبِ تفاصيلها بغية تدوينها؛ لتصبح ملكية عامة وشهادة تُضاف للرواية الفلسطينيّة المليئة بالتضحيات والآلام والآمال الصغيرة والكبيرة.

مع بدايةِ انتشارِ وباء كورونا واجتياحه للعالم، وما فرضتهُ الحكوماتُ والأنظمةُ من إجراءاتِ عزلٍ وحجرٍ وتقييدٍ شاملٍ للحركة، وجميعها لم تكن سوى تعبير عن عجزِ هذه الأنظمة وميلها الدائم إلى الرغبة في السيطرة على عقولِ مواطنيها واخضاعهم لإجراءاتها القمعية بسبب أو بدونه.

 وقد وجدتُ في الأشهرِ الأولى من دخولِ مرحلةِ الوباء فرصةً لتحدي محاولاتِ الهَيمنة على عقولِ الناس، والتي كانت تمارسُها الحكومات المُختلفة من خلال ترويج بعض الإشاعات التي أظهرت العالم وكأنهُ سيندثر. حينها طرحتُ على نفسي هذا الافتراض،  وهو: أنَّ الوباء سيعصفُ بصورةٍ جديّةٍ بكلِّ مكوناتِ الحياةِ في فلسطين، ثم وجدت نفسي أمام سؤال: ألم تكن النكبة أخطر بمئةِ مرّة من هذا الهاجس المُسمى كورونا؟ وهي التي على أثرها فقدَ الفلسطيني أرضهُ وبيتهُ وذكرياتهُ وصورهُ ونفسه، بمقاربةٍ تاريخيّةٍ كانت النكبة صورةً من صورِ الإبادةِ الجماعيّة التي تُشبِهُ ما تُسببهُ الأوبئة أو ربمّا تتفوقُ عليه؛ لأنَّ جميعَ الشعوبِ التي تعرضتْ على مدارِ التاريخِ الإنسانيّ للأوبئةِ ظلّتْ على الأقل موجودةً على أرضِها، بينما الفلسطيني فقدَ أرضه، لقد فجّرَ هذا السؤال وتلك المقاربة الرغبة العارمة لديّ تجاهَ البدءِ في الكتابة، وبدأتُ بالفعلِ مشروع كتابة هذه السرديّة، حيثُ كنتُ أكتبُ وعلى مدارِ سبعة وثمانين يوماً بمعدل ست إلى سبع ساعاتٍ يومياً، لقد كانت الكتابةُ جزءً من حالةِ التحدي للحظةِ الراهنة، وفي ذات الوقت جزءً من الاستجابةِ إلى الرغبةِ المُخزّنةِ لتدوينِ تجربتي، فكلُّ ما كتبتهُ في هذا الكاتب وهو نتاجٌ حقيقيٌّ لما عايشتهُ من أحداثٍ وتفاصيل كنتُ شاهداً عليها، وتفاعلتُ معها وتأثرتُ وأثرتُ بها، بل وما اختبرتهُ من مشاعرٍ وتجاربٍ حوّلتنِي من لاجئٍ مُعدمٍ في أسرةٍ فقيرةٍ تعيشُ في أزقةِ المخيمِ داخلَ بيتِ من غرفتين، يعيشُ فيهِ ثمانيةُ أخوة بالإضافةِ إلى والديّ، إلى ما أصبحتُ عليه، والأدوار التي قمتُ بها، ولذلك ورجوعاً إلى سؤالِ الأمل، أعتقد أن الأملَ قرارٌ وواجبٌ ومسؤولية، وأكثر تجليات هذا الفهم للأمل حضوراً؛ هو ما قامَ به ملايينُ الاجئين الفلسطينين الذين عاشوا فتراتٍ طويلةٍ على أملِ العودةِ إلى بلادِهم، إلا أنَّ هذا الأملَ لم يكن مجردَ مبررٍ للانتظار، فهؤلاء لم يركنوا إلى أن تُمنَحَ لهم العودةُ دونَ كفاحٍ مُنظم ، فقد عوضوا أنفسهم عن فقدانِ الأرضِ والبيتِ ومصادر الرزق بالتعليم، وما يتصلُ به من شرفِ العيش والعصاميّة من أجلِ المساهمةِ في بناءِ أجيالٍ قادرةٍ على امتلاكِ الوعي.

 طوال وقت الكاتبة كنتُ أقارنُ بينَ قدرةِ الناسِ وأملهم في التخلّصِ من وباءِ كورونا مقابل القدرة والأمل والطاقة الفلسطينيّة الهائلة التي تَشكّلتْ في مواجهة النكبة،  أعتقدُ أنَّ الأملَ دائماً قابل لأن يصبحَ حقيقةً إذا ارتبطَ بالإرادةِ والقرارِ بالعملِ والتضحية.
 

الكِتابُ هو سيرةٌ ذاتيّة، وكالكثيرِ من كُتبِ السير الذاتيّة في الإطارِ الفلسطيني، فإنَّ مساحةَ العام المشترك تبدو طاغية ومتشابهة في الوقت ذاته، ما الّذي دفعكَ إلى كتابةِ هذه السيرة الذاتية؟ ما الّذي وجدت أنهُ من المهم كتابته؟ خاصة أنها تجربتكَ الأولى في الكتابة؟ 

فيما يخصُ التفاصيل الجديدة والمختلفة، لنبدأ من المخيم، كُتِبَ الكثيرُ من الكتبِ والسِير حول المخيم، ولكنها بحسبِ معرفتي اقتصرت على تناولِ المخيم في سياقِهِ النضالي وكونَهُ مركزاً للنضال والمقاومة وهذا صحيح، لكنني في هذا السرديّة حاولتُ أن أتحدثَ عن تفاصيلٍ دقيقةٍ تتعلّقُ بيومياتٍ عاديةٍ مُعاشة في تفاصيلِ المخيم، حالاتُ الفقرِ الشديد، وتناول وجبات محدودة وعدم وجود مرحاض في المنزل، ووجود مرحاض عام متشرك في المخيم لا تتوفر فيه المياه، أنا تحدثتُ عن هذه التفاصيل وعن الأسرةِ الفلسطينيّة التي اعتقدتْ أنها “بالإخصاب الانجابي” يُمكن لها أن تمحو محاولات الطمس والإذابة، أن يصحو مثلا طفلٌ على والديهِ وهم في علاقةٍ حميميةٍ وأثر ذلك على تكوينِهِ المعرفي وصحتهِ النفسيّة، حاولت أن أتحدثَ عن ذلك بالإضافة إلى الحكايات التي توقفت عندَ زمنِ ما قبل المخيم، والذين كانوا يجتمعون في مساحاتٍ ضيقةٍ مُطلّةٍ على البحر مثل: “ساحة الشوا” أو هنا وهناك؛ ليتبادلوا قصص ما قبل النكبة، والحديث أيضاً عن البحر نفسه الّذي غرِقَ فيه الكثيرُ من الأصدقاء، لكنهُ في الوقتِ ذاتهُ كانَ سبباً في انقاذِ المخيم من المجاعة الحقيقيّة، وحاولت كذلك أن أُوثِقَ الفترة الناصرية بما لها وما عليها، بالإضافة إلى حديثي عن الأشخاص الذين وصفتهم بـ تعبير:”على البركة” والذين وصلوا إلى حالاتٍ من فقدانِ العقل أو تَخيّل أشياء غير حقيقية، وهذه الحالات تتصلُ كذلك بالنكبة وممارساتِ الاحتلال، شخصية عشيش العَتّال في مركز تموين وكالة الغوث ” الأونروا” ، واّلذي كان لا يرتدي سوى ملابس مصنوعة من قطع “الخيش”، ويجمع الأموال التي يكسبها من عتالته دون أن يعيش حياته بالحدِ الأدنى، وعندما مات تفاجأ أهلُ المخيم أنَّ بحوزتِهِ فرشة كاملة من المال، ليكتشفوا في النهاية أن كلَّ ما لديه هي أموالٌ منتهية الصلاحيّة وغير معمول بها. هذه التفاصيل التي أردتُ أن أتحدثَ عنها والتي أعتقد أنها لم تذكرْ من قبل.

عن الإرتكازِ إلى الذاكرة في عمليةِ الكتابة، كيفَ تُحدد ذاكرتُكَ أولويات المهم فالأقل أهمية؟ وهل منهجية بناء السرد في هذا الكتاب اعتمدت على استرجاع الحدث من حيث كونهُ مفصلاً تاريخياً؟ أم من حيث كونَهُ جملةً من المشاعر المُعاشة؟ 

كلاهما معاً، وحاولتُ أن أضبطَ حالة استرجاع الأحداث من حيث كونها تاريخاً، ومن حيث كونها أيضاً جملة مشاعر معاشة في إطارٍ زمني، حيث أن الحالة العامة في المخيم تطورتْ من مخيمٍ يعيشُ تفاصيلَ الفقرِ والبؤس ويعتمدُ على صيد البحرِ والبرتقال وبطاقة التموين التي تُمنح للاجئين لتلبيةِ احتياجاتِهِم الأساسيّة، إلى مخيمٍ يعملُ ويُنتج. صحيح أنَّ العمل ومع شديد الأسف بدأ داخل الأراضي المحتلة ومن قبلِها في دول الخليج، لكنه كان يعني أن تطوراً بدأ يَحدث، ولذلك حاولت أن أضبطَ إيقاعَ الأحداثِ بوتيرةٍ زمنيةٍ تراتبيةٍ نامية، بدايةً من المدرسةِ، ثم العمل في الداخلِ المحتل، ثم الدراسة والجامعة وكل هذه المراحل وتطوراتها وارتباطها بالزمن كانت محرك أساسي في استرجاعِ الأحداثِ وترتيبِ أولوياتِها وأهميتها، أتذكر في بيروت حين كنت هناك، وفي جنازة شقيقي الشهيد رُفعت يافطات تحملُ شعار “لا صوتَ يعلو على صوتِ تحريرِ الجنوب” لقد حركَ هذا الشعار داخلي مشاعرَ تجاوزت حالة الحزن على استشهاد شقيقي، فهو اختار هذا الطريق لنفسه، لكنني أعتقدت دوماً  أنَّ الشعارَ الأنسب هو لا صوت يعلو فوق صوت تحرير فلسطين، وهنا دعني أُسجل حقيقة تاريخيّة، هي أنني وقت ذهابي إلى الضفة الغربية؛ لنقاش تطورات وأعمال الانتفاضة الفلسطينيّة، ظلَّ هذا الشعار يدورُ في رأسي، وظلَّ ما ارتبطَ به من أحداث عالقاً وحيّاً وحينها قلت: أن الشعار يجب أن يكون لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة ، وهكذا يعلب الإيقاع الزمني وتطورات الأحداث دوراً هاماً في بناء السرديّة ونموها. 

تذكرُ في أكثرِ من موقعٍ داخل الكتاب دور اليساريين الفلسطينين، في تعزيزِ وعيكَ وإدراككَ بما يدورُ حولكَ من أحداث، وذلك من خلالِ رفدهم لك بالعديدِ من الكتب التي شكَّلتْ وبصورةٍ مبكرةٍ وعياً وإداركاً  لما يدور حولك من أحداث، أخبرنا عن هذا الدور، ولماذا ينحسر ويتراجع دور القوى اليساريّة التوعوي في الوقت الحالي؟ 

أولاً: أودُّ أن أقول: أنني انتميتُ لأسرةٍ انحيازُها الأول في تلك المرحلة كان للحركةِ الشيوعيّة، و أقول وبصراحة: أنَّ الفضلَ الأول في جنينيةِ الوعي الّذي تشكَّل لديّ في فهمِ وإداركِ الحياة وما يدور حولي من أحداثٍ يرجعُ لأصدقاءِ الأسرة وأبناءِ العمومة من الشيوعيين، ليس فقط في رفدي بالكتب التي ساعدتني على التخلّص من حالةِ الهيمنةِ والترهيب والتخويف التي حاولَ أن يزرعَها في عقلي مدرسُ الدين في طفولتي، والتي وصلت إلى درجةٍ  أعتقدُ حينها أنني الشخص الوحيد الّذي سيكون في الجنةِ من عائلتي وأنهم جميعاً سيدخلون النار، بل أيضاً من خلال إتاحةِ التجربة لاختبار الأشياء دون أن يناقشوني مرةً واحدةً في حينها بأنَّ هذا صواب وهذا خطأ، الأشكاليّة الحقيقيّة فيما تفعلهُ التيارات الإسلاميّة، أنها تُلصقُ اجتهاداتها الفكريّة بالدين وبالتالي يصبح الاتجاه الفكري مغلقاً، والحقيقة وبالرجوع إلى سؤالك حول تراجع دور القوى اليسارية، أنا أظنُ للأسف أن اليسارَ الفلسطيني الّذي لعب دوراً غير مسبوق، ليس فقط في إبقاءِ جذوة الوعي متقدّة؛ بل أيضاً في تحديدِ بوصلة هذا الوعي اتجاه القضايا الوطنيّة، يشهد واقعاً مُحزناً الآن؛ لأن القيمة الأساسيّة لحيوية الفكرة هو قدرتها على أن تقدمَ بديلاً للحالة السائدة، والحالة السائدة فلسطينياً الآن هي الشرذمة والانقسام، لذلك فإن الدور اليساري يجب أن يتمحور في القدرة على تقديم رؤية جامعة، وليس الإمتثالِ لحالةِ الاستقطاب الموجودة، بحيث يكون بعضهم منحاز هنا وبعضهم منحاز هناك، لذلك فإن الفشل الّذي تعانيه هذه القوى هو فشلاً مركباً، حيث أنها لم تفشل فقط في تكوين رؤى جامعة قادرة على أن تجمع أطراف الاستقطاب في بوتقةٍ واحدة، بل أن بعضها وقفَ مضاداً لأي محاولة من شأنها أن تحاولَ إحداث إجماعاً وتوحداً، لذلك فإنني أشعر بالأسف الشديد لما وصلت إليه الأمور لدى القوى اليسارية، وأدعوهم للحفاظ على الإرث النضالي الممتد والكبير للقوى اليسارية والّذي ليس حكراً على مجموعة من الأفراد أنما هو عنوان وطني جامع يجب الحفاظ عليه بتفعيل الدور الطليعي والتوعوي لهذه القوى.

الطفولةُ في غزة، بينَ أزقةِ مخيمِ الشاطئ على البحرِ المتوسط، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم الخروج من غزة والتنقل بين عددٍ من الدول، ومراقبتها عن بعد من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل بواسطة الأهل والأصدقاء إلى الخارج حيث تُقيم، كيف ترى غزة المدينة بعيداً على المنشتات العامة التي تحيطُ بها، كيف تراها من زاوية ابن مخيم الشاطئ المقيم خارجه؟ 

أحاولُ أن أكونَ متواجداً في غزة من فترةٍ إلى أخرى، وكلّما سنحتْ الفرصُ وتسهلّتْ أمور الدخول إليها، بيتي ما زال في غزة وكذلك بيت العائلة، وكذلك بيوت أصدقائي وأقاربي، لذلك أنا أعيش غزة من الداخل حتى وأن كنت فيزائياً موجود خارجها، في العدوان الأخير على سبيل المثال كنت أتواصل مع عشرات الأصدقاء بصورةٍ يوميةٍ لمعرفة ما يجري بدقة، والحقيقة يمكنني القول: أن غزة تعيش حالة من البؤس المركب، أولاً من ظلم الاحتلال وثانياً من ظلمِ ذوي القربى، فهي تحت حكم أُحادي يستخدم بؤس ومعاناة الناس ويوظفها ليخدمَ رغبتهُ في السيطرة على الحالة الفلسطنية، وأعتقد أن هذه المحاولات غير ممكنة؛ لأنه التعدديّة والتنوّع الفلسطيني لا يمكن أن يُقاد بفكرةٍ واحدة، وكذلك السلطة الفلسطينيّة لا تبذل تجاه غزة الجهد المطلوب ليس فقط لإيجاد حلول للمشكلاتِ اليوميّة والمعضلاتِ المعيشيّة والاجتماعية؛ بل أنها تفرض مزيد من العقوبات على الناس في غزة، كقطع الرواتب والإحالة إلى التقاعد المُبكر، لذلك أعتقد أن غزة هي قصة فشل لكل من تورط في إيذائها، هي قصة فشل لحماس وهي قصة فشل لمنظمة التجرير بكل فصائلها وهي قصة فشل للقوى الإقليمة في المنطقة، وهي قصة فشل للقوى الدولية في العالم، ولا يمكن أن تكون قصة فشل لإهلها، الذين لا يمكن أن يفقدوا بوصلتهم وهذه هي ثقتي، فـأهل غزة الذين تمكنوا من أن يتحولوا من حفاة عراة معدومين بعد النكبة إلى قيادات ثورة وانتفاضة قادرين على أن يتخلصوا من هذا الثالوث الذي يحاصرهم. وأهل غزة تاريخياً كانوا دوماً قادرين على كسر الظلم المحيط بهم.

The post “غزاوي: سرديّة الشقاء والأمل”… الإبحار من غزة وفيها appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
جمال زقوت: أهل غزة كانوا دوماً قادرين على كسر الظلم https://rommanmag.com/archives/21259 Wed, 05 Jul 2023 08:09:13 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%b2%d9%82%d9%88%d8%aa-%d8%a3%d9%87%d9%84-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%83%d8%a7%d9%86%d9%88%d8%a7-%d8%af%d9%88%d9%85%d8%a7%d9%8b-%d9%82%d8%a7%d8%af%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d9%84/ صدرَ في نيسان الماضي من العام الجاري 2023 كتاب: غزاوي سرديّة الشقاء والأمل لكاتبهِ جمال زقوت، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يُقدِم الكتاب مذكرات من حياة اللجوء في مخيم الشاطئ داخل قطاع غزة، لمناضل من جيل اللجوء الأول بعد النكبة الفلسطينية العام 1948، في سياقٍ سرديّ يجمع في ثناياه بين التجربة الشخصية بتفاصيلها الخاصة والحميمية، وبين المشهد […]

The post جمال زقوت: أهل غزة كانوا دوماً قادرين على كسر الظلم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

صدرَ في نيسان الماضي من العام الجاري 2023 كتاب: غزاوي سرديّة الشقاء والأمل لكاتبهِ جمال زقوت، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يُقدِم الكتاب مذكرات من حياة اللجوء في مخيم الشاطئ داخل قطاع غزة، لمناضل من جيل اللجوء الأول بعد النكبة الفلسطينية العام 1948، في سياقٍ سرديّ يجمع في ثناياه بين التجربة الشخصية بتفاصيلها الخاصة والحميمية، وبين المشهد العام والمشترك. كما يُقدِم الكاتب في إطار هذه السرديّة إضاءات على مجموعة من التحولات التي عاشها المجتمع الغزي في مراحل مفصليّة من تاريخه، وما يرتبط بهذه المراحل من محطات: اللجوء والنزوح والحكم العسكري المصري في غزة في الحقبة الناصرية، وبدايات الاحتلال والمقاومة له. 

الكتاب لجمال زقوت: سياسي فلسطيني من مواليد مخيم الشاطئ في غزة العام 1948، أُعتِقلَ الكاتب عدة مرات جراء نشاطَهُ السياسي المُقاوم وأبعدته السلطات الإسرائيلية خارج فلسطين العام 1998 بتهمةِ المشاركة في تأسيس القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضةِ الأولى، ولقد عاد إلى قطاع غزة العام 1994 وشغل عدد من المواقع السياسية. 

 

منذ لحظة التلقي الأولى لعنوان الكتاب، يُمكِن لنا فهم الشقاء في مسيرة يحيطُ بها الشقاء في تجلياتٍ متعددة: اللجوء، حياة المخيم، النكسة، الشتات والنزوح، وسياق الفقد والأسر والإبعاد، لكن كيف يمكن لنا فهم الأمل وسط هذه المساحة الواسعة من مفردات اليأس، كيف يُمكنكَ تعريف الأمل بعد كلّ هذه السنوات؟

قبل الإجابة عن سؤال الأمل، أود أولاً القول: إنني إنسان متفائل وهذا له مبرراته وسياقه التاريخي الذي حاولت أن أقدمه بواسطة الكتاب، بدايةً فكرة إنتاج سردية لها علاقة بصورةٍ أساسيةٍ بالموضوع أكثر من الذات، ولا أفشي سراً حين أقول: أنني دائماً كنتُ أجد الكثير من تشجيع الأصدقاء على مسألة تدوين التجربة، من حيث كيفية معايشتي وإدراكي لها، بالإضافةِ إلى الطريقةِ التي صقلت بواسطتها هذه التجربة شخصيتي ووعي العام بما يجري، والحقيقة أن هذا التشجيع ظلًّ مستمراً من قبل مجموعة واسعة من الأصدقاء الذين تجمعني بهم جلسات استرجاع الذكريات والتفاصيل المتعلقة بحياة المخيم وممارسات الاحتلال وسلوكياته، بالإضافة إلى بعض القصص الشخصية الأخرى، وظلّتْ هذه المحاولات قائمة إلى أن جاء وقت الاستجابة لها مع بداية دخول وباء كورونا واجتياحه للعالم، حيث أنني وجدت في الأشهر الأولى من دخول الوباء فرصةً لتحدي محاولات الهَيمنة على عقول الناس والتي كانت تمارسُها الحكومات المُختلفة من خلال ترويج بعض الإشاعات التي أظهرت العالم وكأنه سيندثر، وفي وقتها طرحتُ على نفسي هذا الافتراض، وهو لنفترض أن الوباء بصورة جدية سيعصف بكل مكونات الحياة في فلسطين، ثم وجدت نفسي أمام سؤال: ألم تكن النكبة أخطر بمئة مرّة من هذا الهاجس المُسمى كورونا؟ وهي التي بسببها فقد الفلسطيني أرضه وبيته وذكرياته وصوره ونفسه، بمقاربةٍ تاريخيّةٍ كانت النكبة صورة من صور الإبادة الجماعيّة التي تُشبِهُ ما تسببهُ الأوبئة أو ربما تتفوق عليه، لأنه جميع الشعوب التي تعرضت على مدار التاريخ الإنساني للأوبئة ظلّتْ على الأقل موجودة على أرضها، بينما الفلسطيني فقد أرضه، لقد فجّرَ هذا السؤال وتلك المقاربة الرغبة العارمة لدي تجاه الكتابة، وبدأت بالفعلِ مشروع كتابة هذه السرية، بحيث كنتُ أكتب وعلى مدار ثمانين يوماً بمعدل 6 إلى 7 ساعات يومياً، لقد كانت الكتابة جزءً من حالة التحدي للحظةِ الراهنة وفي ذات الوقت جزءً من الاستجابة إلى الرغبة المُخزنة اتجاه تدوين تجربتي، وكل ما كتبتهُ في هذا الكاتب وهو نتاج حقيقي لكل ما عايشتهُ وشهدتُ عليه، وتفاعلتُ معهُ وتأثرتُ وأثرتُ به من أحداثٍ وتفاصيل، وما اختبرتهُ من مشاعر وتجارب تحولتني من لاجئٍ معدوم في أسرة فقيرة تعيش في أزقة المخيم داخل بيت من غرفتين يتسع لثمانية أفراد، إلى ما صرت عليه والأدوار التي قمتُ بها، ولذلك ورجوعاً إلى سؤال الأمل، أعتقد أن الأمل قرار وواجب ومسؤولية، وأكثر تجليات هذا الفهم للأمل حضوراً، وهو ما قام به ملايين الاجئين الفلسطينين الذين عاشوا فترات طويلة على أمل العودة إلى بلادهم، إلا أن هذا الأمل لم يكن داعياً إلى المكوث والانتظار ولم يركنوا إلى أن تُمنَح العودة لهم، لقد عوضوا أنفسهم عن فقدانِ الأرض والبيتِ بالتعليم، وما يتصل به من شرفِ العيش والعصاميّة من أجلِ المساهمةِ في بناءِ أجيالٍ قادرةٍ على امتلاكِ الوعي، وقت الكاتبة كنتُ أقارنُ بينَ قدرة الناس وأملهم في التخلص من وباء كورونا مقابل القدرة والأمل والطاقة الفلسطينية الهائلة التي تَشكّلتْ في مواجهة النكبة، أعتقد أن الأمل دائماً قابل لأن يكون حقيقة إذا ارتبط بالإرادة والقرار.
 

الكِتاب هو سيرة ذاتية، وكالكثير من كُتبِ السيرة الذاتية في الإطار الفلسطيني، فإن مساحة العام المشترك تبدو طاغية ومتشابه في الوقت ذاته، ما الذي دفعكَ إلى كتابة هذه السيرة الذاتية؟ ما الذي وجدت أنه من المهم كتابته؟ خاصة أنها تجربتك الأولى في الكتابة؟ 

فيما يخصُ التفاصيل الجديدة والمختلفة، لنبدأ من المخيم، كُتِبَ الكثيرُ من الكتبِ والسِير حول المخيم، ولكنها بحسبِ معرفتي اقتصرت على تناولِ المخيم في سياقِهِ النضالي وكونَهُ مركزاً للنضال والمقاومة وهذا صحيح، لكنني في هذا السرديّة حاولتُ أن أتحدثَ عن تفاصيلٍ دقيقةٍ تتعلقُ بيومياتٍ عاديةٍ معاشة في تفاصيل المخيم، حالاتُ الفقرِ الشديد، وتناول وجبات محدودة وعدم وجود مرحاض في المنزل، ووجود مرحاض عام متشرك في المخيم لا تتوفر فيه المياه، أنا تحدثتُ عن هذه التفاصيل وعن الأسرة الفلسطينية التي اعتقدتْ أنها بالإخصاب الانجابي يُمكن لها أن تمحو محاولات الطمس والإذابة، أن يصحو مثلا طفلٌ على والديهِ وهم في علاقةٍ حميميةٍ وأثر ذلك على تكوينه المعرفي وصحتهِ النفسيّة، حاولت أن أتحدثَ عن ذلك بالإضافة إلى الحكايات التي توقفت على زمن ما قبل المخيم، والذين كانوا يجتمعون في مساحاتٍ ضيقةٍ مُطلّةٍ على البحر مثل: ساحة الشوا أو هنا وهناك؛ ليتبادلوا قصص ما قبل النكبة، والحديث أيضاً عن البحر نفسه الذي غرق فيه الكثير من الأصدقاء، لكنهُ في الوقتِ ذاتهُ كانَ سبباً في انقاذِ المخيم من المجاعة الحقيقية، وحاولت كذلك أن أُوثق الفترة الناصرية بما لها وما عليها، بالإضافة إلى حدثني عن الأشخاص الذين وصفتهم بـ تعبير “على البركة” والذين وصلوا إلى حالاتٍ من فقدانِ العقل أو تَخيّل أشياء غير حقيقية، وهذه الحالات تتصلُ كذلك بالنكبة وممارساتِ الاحتلال، شخصية عشيش العامل في مركز تموين وكالة الغوث والذي كان لا يرتدي سوى ملابس مصنوعة من قطع “الخيش” وعندما مات ظنَّ أهلُ المخيم أن لديه أموال كثيرة، ليكتشفوا في النهاية أن كلَّ ما لديهِ من أموالٍ هي أموالٌ منتهية وغير معمول بها. هذه التفاصيل التي أردتُ أن أتحدثَ عنها والتي أعتقد أنها لم تذكرْ من قبل.

عن الإرتكازِ إلى الذاكرة في عمليةِ الكتابة، كيفَ تُحدد ذاكرتُكَ أولويات المهم فالأقل أهمية؟ وهل منهجية بناء السرد في هذا الكتاب اعتمدت على استرجاع الحدث من حيث كونهُ مفصلاً تاريخياً؟ أم من حيث كونَهُ جملةً من المشاعر المُعاشة؟ 

كلاهما معاً، وحاولتُ أن أضبطَ حالة استرجاع الأحداث من حيث كونها تاريخاً ومن حيث كونها أيضاً جملة مشاعر معاشة بإطارٍ زمني، حيث أن الحالة العامة في المخيم تطورتْ من مخيمٍ يعيشُ تفاصيلَ الفقرِ والبؤس ويعتمدُ على البحرِ والبرتقال وكرت التموين في تلبيةِ احتياجاتِهِ الأساسية، إلى مخيمٍ يعملُ ويُنتج. صحيح أن العمل ومع شديد الأسف بدأ داخل الأراضي المحتلة ومن قبلها الخليج، لكنه كان يعني أن تطوراً بدأ يَحدث، ولذلك حاولت أن أضبطَ إيقاعَ الأحداثِ بوتيرةٍ زمنيةٍ تراتبيةٍ نامية، بدايةً من المدرسةِ، ثم العمل في الداخلِ المحتل، ثم الدراسة والجامعة وكل هذه المراحل وتطوراتها وارتباطها بالزمن كانت محرك أساسي في استرجاعِ الأحداثِ وترتيبِ أولوياتِها وأهميتها، أتذكر في بيروت حين كنت هناك وكانت مظاهرات تحمل شعار “لا صوتَ يعلو على صوتِ تحريرِ الجنوب” لقد حركَ هذا الشعار داخلي مشاعرَ ليس الأسف على استشهاد شقيقي، فهو اختار هذا الطريق لنفسه، لكني كنتُ أعتقد أنَّ الشعارَ الأنسب هو لا صوت يعلو فوق صوت تحرير فلسطين، وهنا دعني أُسجل حقيقة تاريخية، هو أنني وقت ذهابي إلى الضفة الغربية؛ لنقاش تطورات وأعمال الانتفاضة الفلسطنية، ظلَّ هذا الشعار يدورُ في رأسي وظلَّ ما ارتبطَ به من أحداث عالقاً وحيّاً وحينها قلت: أن الشعار يجب أن يكون لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة ، وهكذا يعلب الإيقاع الزمني وتطورات الأحداث دوراً هاماً في بناء السردية ونموها. 

تذكرُ في أكثرِ من موقعٍ داخل الكتاب دور اليساريين الفلسطينين، في تعزيزِ وعيكَ وإدراككَ بما يدورُ حولكَ من أحداث، وذلك من خلالِ رفدهم لك بالعديدِ من الكتب التي شكَّلتْ وبصورةٍ مبكرةٍ وعياً وإداركاً مبكراً لما يدور حولك من أحداث، أخبرنا عن هذا الدور، ولماذا ينحسر ويتراجع دور القوى اليسارية التوعوي في الوقت الحالي؟ 

أولاً: أودُّ أن أقول إنني انتميت لأسرةٍ انحيازُها الأول في تلك المرحلة كان للحركةِ الشيوعيّة، وأنا أقول وبصراحة: أنَّ الفضلَ الأول في جنينيةِ الوعي الذي تشكَّل لديّ في فهمِ وإداركِ الحياة وما يدور حولي من أحداثٍ يرجعُ لأصدقاءِ الأسرة وأبناءِ العمومة من الشيوعيين، ليس فقط في رفدي بالكتب التي ساعدتني على التخلّص من حالةِ الهيمنةِ والترهيب والتخويف التي حاولَ أن يزرعَها مدرسُ التربيةِ الدنية لدي في طفولتي، والتي وصلت إلى درجة أنني أعتقدُ في حينها أنني الشخص الوحيد الذي سيكون في الجنة من عائلتي وأنهم جميعاً سيدخلون النار، بل أيضاً من خلال إتاحةِ التجربة لاختبار الأشياء دون أن يناقشوني مرةً واحدةً في حينها بأن هذا صواب وهذا خطأ، الأشكاليّة الحقيقيّة فيما تفعلهُ التيارات الإسلاميّة،أنها تلصقُ اجتهاداتها الفكرية بالدين وبالتالي يصبح الاتجاه الفكري مغلقاً، والحقيقة وبالرجوع إلى سؤالك حول تراجع دور القوى اليسارية، أنا أظن للأسف أن اليسار الفلسطيني الذي لعب دوراً غير مسبوق، ليس فقط في إبقاء جذوة الوعي متقدّة بل أيضاً في تحديدِ بوصلة هذا الوعي اتجاه القضايا الوطنية، يشهد واقعاً مُحزناً الآن، لأن القيمة الأساسية لحيوية الفكرة هو قدرتها على أن تقدمَ بدلاً للحالة السائدة، والحالة السائدة فلسطينياً الآن هي الشرذمة والانقسام، لذلك فإن الدور اليساري يجب أن يتمحور في القدرة على تقديم رؤية جامعة، وليس الإمتثالِ لحالةِ الاستقطاب الموجودة، بحيث يكون بعضهم منحازٌ هنا وبعضهم منحازٌ هناك، لذلك فإن الفشل الذي تعانيه هذه القوى هو فشلاً مركباً، حيث أنها لم تفشل فقط في تكوين رؤى جامعة قادرة على أن تجمع أطراف الاستقطاب في بوتقةٍ واحدة، بل أن بعضها وقفَ مضاداً لأي محاولة من شأنها أن تحاول إحداث إجماعاً وتوحداً، لذلك فإنني أشعر بالأسف الشديد لما وصلت إليه الأمور لدى القوى اليسارية، وأدعوهم للحفاظ على الإرث النضالي الممتد والكبير للقوى اليسارية والذي ليس حكراً على مجموعة من الأفراد أنما هو عنوان وطني جامع يجب الحفاظ عليه بتفعيل الدور الطليعي والتوعوي لهذه القوى. 

الطفولة في غزة، بين أزقة مخيم الشاطئ على البحر المتوسط، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم الخروج من غزة والتنقل بين عدد من الدول، ومراقبتها عن بعد من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل بواسطة الأهل والأصدقاء إلى الخارج حيث تُقيم، كيف ترى غزة المدينة بعيداً على المنشآت العامة التي تحيطُ بها، كيف تراها من زاوية ابن مخيم الشاطئ المقيم خارجه؟ 

أحاولُ أن أكون متواجداً في غزة من فترة إلى أخرى، وكلّما سنحتْ الفرص وتسهلّتْ أمور الدخول إليها، بيتي ما زال في غزة وكذلك بيت العائلة، وكذلك بيوت أصدقائي وأقاربي، لذلك أنا أعيش غزة من الداخل حتى وأن كنت فيزائياً موجود خارجها، في العدوان الأخير على سبيل المثال كنت أتواصل مع عشرات الأصدقاء بصورةٍ يوميةٍ لمعرفة ما يجري بدقة، والحقيقة يمكنني القول: أن غزة تعيش حالة من البؤس المركب، أولاً من ظلم الاحتلال وثانياً من ظلمِ ذوي القربى، فهي تحت حكم أحادي يستخدم بؤس ومعاناة الناس ويوظفها لبخدم رغبتهُ في السيطرة على الحالة الفلسطنية، وأعتقد أن هذه المحاولات غير ممكنة لأنه التعددية والتنوّع الفلسطيني لا يمكن أن يُقاد بفكرةٍ واحدة، وكذلك السلطة الفلسطينية لا تبذل تجاه غزة الجهد المطلوب ليس فقط لإيجاد حلول للمشكلات اليومية والمعضلات المعيشية والاجتماعية، بل أنها تفرض مزيد من العقوبات على الناس في غزة، كقطع الرواتب والإحالة إلى التقاعد المبكر، لذلك أعتقد أن غزة هي قصة فشل لكل من تورط في إيذائها، هي قصة فشل لحماس وهي قصة فشل لمنظمة التجرير بكل فصائلها وهي قصة فشل للقوى الإقليمة في المنطقة وهي قصة فشل للقوى الدولية في العالم، ولا يمكن أن تكون قصة فشل لإهلها، الذين لا يمكن أن يفقدوا بوصلتهم وهذه هي ثقتي، فـأهل غزة الذين تمكنوا من أن يتحولوا من حفاة عراة معدومين بعد النكبة إلى قيادات ثورة وانتفاضة قادرين على أن يتخلصوا من هذا الثالوث الذي يحاصرهم. وأهل غزة تاريخياً كانوا دوماً قادرين على كسر الظلم المحيط بهم.

The post جمال زقوت: أهل غزة كانوا دوماً قادرين على كسر الظلم appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
محمد أبو غيث عن “سائقو الشيطان”: تنظر إلى أرضك من خلف زجاج السيارة https://rommanmag.com/archives/21201 Mon, 17 Apr 2023 13:53:36 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%ba%d9%8a%d8%ab-%d8%b9%d9%86-%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%82%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d9%86%d8%b8%d8%b1-%d8%a5%d9%84%d9%89/ لم يخطط محمد أبو غيث وقت تفكيره في فيلمٍ يعالجُ الجغرافيا الفلسطينيّة المُركبة ما بين مناطق العيزرية ويطا ورام الله، أن صدفةً ما، ستحولُ اتجاه التفكير إلى موضوع فيلم “سائقو الشيطان” حيث يُحدِثُ لقاءهُ بحمودة رغبةً في تناول موضوع السائقين المُهربين ومعايشاتِهم ويومياتِهم التي يحيطُ بها الخطرُ والترّقب والانتظار، وهو فيلم وثائقيّ من إخراج: دانييل […]

The post محمد أبو غيث عن “سائقو الشيطان”: تنظر إلى أرضك من خلف زجاج السيارة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لم يخطط محمد أبو غيث وقت تفكيره في فيلمٍ يعالجُ الجغرافيا الفلسطينيّة المُركبة ما بين مناطق العيزرية ويطا ورام الله، أن صدفةً ما، ستحولُ اتجاه التفكير إلى موضوع فيلم “سائقو الشيطان” حيث يُحدِثُ لقاءهُ بحمودة رغبةً في تناول موضوع السائقين المُهربين ومعايشاتِهم ويومياتِهم التي يحيطُ بها الخطرُ والترّقب والانتظار، وهو فيلم وثائقيّ من إخراج: دانييل كارسينتي ومحمد أبو غيث، يتناول الفيلم جوانب من حياة حمودة وابن عمه اسماعيل: سائقان يعملان في تهريبِ العمال الفلسطينيين الراغبين في العمل داخل “الخط الأخضر” والذين لا تمنحهم سلطات الاحتلال التصاريح اللازمة للعمل بصورةٍ “قانونيّة”، يعيش حمودة واسماعيل في جنوب الضفة الغربية، يخاطران  في عملهم هذا، حيث تتطلّب عملية التهريب الولوج في طريقٍ صحراويّة يتناوبُ على مراقبتها بصورةٍ شبه دائمة دورياتٍ من جيشِ الاحتلالِ الإسرائيلي، إلا أنهما يُخاطران في سبيل إيجاد ما يُعيلان به عائلاتهم. 

تُجري “رمّان ثقافيّة” هذه المقابلة مع محمد أبو غيث من مواليد القدس العام 1986 درس علوم الحاسوب في جامعة القدس وعمل مساعد انتاج في شركة “إديومز فيلم” برام الله، انتقل إلى ألمانيا لدراسة إدارة وسائل الإعلام الدوليّة في أكاديميّة “دويتسه فيليه” وتخرج في العام 2015 ومنذ ذلك الوقت يعمل أبو غيث في برلين مراسل تلفزيوني مستقل. أخرج محمد أبو غيث فيلم “سائقو الشيطان” بالشراكة مع دانييل كارسينتي ولقد عُرض الفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي للوثائقيات، العام 2021 وحاز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة “مهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية” اليونان 2022.

دعنا نبدأ من العنوان “سائقو الشيطان” والذي يعطي دلالات ربمّا تكون مختلفة عن حقيقة موضوع الفيلم والذي يتناول جوانب من حياة فلسطينيين يبحثان عن وسيلة يعيلان بواسطتها عائلاتهما، لماذا أضفت الشيطان، إلى المهنة المهرّب/ السائق؟ هل المقصود هنا هو إضافة صفة الشيطنة إلى عمل التهريب؟ أم أن هناك دلالات أخرى؟ وإلى أي مدى تعتقد أن الاسم يحمل مضامين الفيلم دون مبالغة؟ 

حين بدأنا العملَ على الفيلم، كنا نفكر في أن الفيلم سيكون موجهاً إلى الجمهور الفلسطيني والجمهور العربي والعالمي، وهذا لأننا أردنا أن يصل إلى أكبر عدد من المشاهدين حول العالم، المختلفين بطبيعة الحال من حيث قومياتهم وهوياتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، والاسم تبعاً لذلك هو اسم قادر على جذبِ المشاهد، كما أنه قادر على إثارة سؤال: لماذا هذا الاسم؟ أو من هم سائقو الشيطان؟ وهذا يعطي الاسم القدرة على الوصول إلى أكبرِ عدد ممكن من المشاهدين، السبب الآخر هو أن الشخصيات في الفيلم: حمودة واسماعيل وعلي جميعهم لم يكونوا راغبين في امتهان هذه المهنة، هم مجبرون عليها لإيجاد مصدر يُعيلون بواسطته عائلاتهم، مثلاً علي يعمل في نفس الشركة التي هدمت بيته، فهم جميعاً داخل دائرة مفرغة من الإكراه والإجبار الدائمين، ولا فرص أمامهم للخروج منها، أنهم الضحايا ومساعدو الجلاد في الوقتِ ذاتِهِ، يعملون في شركاء البناء ذاتها التي تهدم بيوتهم، ويقودون العمال للعمل والبناء في كيانِ العدو، أنها دائرة من الشيطنة الإجبارية. 

تسير الوتيرة الإيقاعيّة للفيلم بين قفزاتٍ لإحداثٍ تاريخيّة جوهريّة في السياق الفلسطيني، الانتفاضة الأولى، اتفاقية أوسلو وعودة السلطة إلى قطاع غزة والضفة الغربية، ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبناء جدار الفصل العنصري، ثم الهبة الفلسطينية الثالثة 2015، برأيك كيف يمكن لهذا الاستخدام أن يخلق فهمًا وإداركاً متقدماً لسلوك الفلسطيني بعد كل هذه الأزمات؟ إلى أي مدى يخدم هذا الترتيب قضية الفيلم؟ 

الُمحرك الأول للتفكيرِ في الفيلم، هو تناول موضوع جدار الفصل العنصري، كان هناك أكثر من فكرة لأفلامٍ مختلفة، واستقرّينا في النهاية على هذه الفكرة، ما جعلنا نقوم بإضافة مقاطع الانميشن التي تعرض مجموعة من المحطات التاريخية الجوهرية، هو أننا في فترة اختبار الفيلم مع عينة عشوائية من المشاهدين في برلين، اكتشفنا أنه ليس لديهم معرفة حول وجود جدار الفصل العنصري، كما أن هناك تضليل إعلامي كبير حول موضوع الجدار، لذلك كانت مقاطع الانميشن توضيح للمشاهد العالمي كيف وصلت الأمور إلى وجود الجدار، وما هو التسلسل التاريخي والسياق الموضوعي الذي جعل العمال الفلسطينيون يعملون بهذه الطريقة، كما أن هذا التسلسل يعطي المشاهد توضحياً لفهم الطريقة التي يتصرف بواسطتها العمال، بمعنى البعد السياسي المسؤول عن تشكّل هذه الطريقة. 

ضمن مشاهد كبيرة ومتنوعة لحياة الفلسطيني تحت الاحتلال، القتل، الأسر، المصادرة، والفقدان، ما الذي جعلك تختار هذا الهامش الذي يجنح إلى الواقعية الفلسطينية تحت الاحتلال بصورة مختلفة هذه المرّة عن المشاهد الكلاسيكية التي نشاهد من خلالها حياة الفلسطيني في ظل الاحتلال؟ كيف يمكن أن يعطي هذا الانحياز الواقعي قيمة مضافة لموضوع الفيلم؟ 

الحقيقة كما قلت في البداية، أن المحرك الأساسي وراء التفكير في الفيلم هو الحديث عن الجدار بصورة أساسية، الجدار فقط لا أكثر ولا أقل، لذلك فإن المُشاهد للفيلم وحتى الدقيقة 30 ربمّا يشعر أنه فيلم روائي وليس فيلم وثائقي، فهو تتبع لحيوات مجموعة من الأشخاص المُشوقين ارتباطاً بطبيعة المهنة التي يعملون بها، فهم سائقو سيارات في طرقٍ وعرة ومحفوفة بالمخاطر، والملاحقات، بعد ذلك يذهب الفيلم بوتيرة توثيقية ليُتيح فرصة التعّرف عن قرب وبطريقةٍ أعمق على تكوين الشخصيات وحيواتها الذاتية وصراعاتها، ولذلك عند إمعان النظر في طبيعة حياة الفلسطيني كما تظهر في الفيلم، نجد شكلاً مغايراً للمعاناة، فهو في حقيقة الأمر يعيش داخل السيارة، لا يستطيع إن أراد وبصورةٍ حرّة أن يتنقل ما بين رام الله ونابلس إلا بواسطة السيارة، لا يُمكنِهُ السير الحرّ بين المناطق، الشعور بالخطر هو الحالة المسيطرة، ما يؤكد ذلك حديث أجريته مع أحد الأشخاص لديه فرع آخر لمحل عمله في نابلس، إلا أنه لا يستطيع أن يذهب هناك لإدارة العمل، يقوم بذلك عبر الاتصالات الهاتفيّة، لقد حوّلت اجراءات الاحتلال المساحات بين المدن إلى مساحاتٍ خطرة، تُشكّل حالة من الخوف لدى الفلسطيني وكأنها مساحات غريبة أو غير فلسطينية، كما يحاول الاحتلال إنهاء حالة الوجود داخل القرى والخرائب، وتكريس وجود الفلسطيني في المدن، ليكون الاحتلال هو المُتحكم في حركة تنقله من مدينةٍ إلى مدينة، هذا هو الواقع الجديد للفلسطيني الذي يعيش داخل السيارة في مدن تفصلها مساحات غير آمنة، محاطة بالخطر والترقب والملاحقة.

يمكننا بعد مشاهدة الفيلم القول: إن صناعة الفيلم لم تكون تصويراً مريحاً لمجموعة من المشاهد بقدر ما كان معايشة حقيقية وربما تكون خطر لتجربة تهريب العمال إلى الأراضي المحتلة، أخبرنا عن هذه المغامرة، على المستوى الشخصي والعام كيف تصفها؟ 

بالتأكيد هذا صحيح، لم تكنْ تجربة مريحة، حين بدأنا تصوير الفيلم كنا نخطط أنه بالإمكان انجازه بعد عامين، لم نكن نريد أن ينتهي بعد تسعة أعوام، أول عامين كانت تكاليف الانتاج على نفقتي الخاصة إلى أن بحثت على تمويل وحصلت عليه، والمُموّل بطبيعةِ الحال يريد أن ننتهي من الانتاج في وقتٍ قصير، لا يكترث كثيراً بالمتغيرات التي تحصل، يريد أن ينتهي ويحقق الربح، وأنا أفكر في الموضوع والرسائل لتي نريد أن يقولها الفيلم، الأمر الذي دفعني إلى الانفصال عنه، والتفكير في عدم الاستمرار في انتاج الفيلم أحياناً، ثم تحدث متغيرات تدفعنا إلى الاستمرار في مشروع الفيلم مجدداً، في الكثير من الأحيان كنا نذهب إلى التصوير دون أن نكون متأكدين تماماً أننا سنصور شيء، أحياناً تغيب الشخصيات/ العمال ومهربو العمال، عشر أيام دون أن يردوا على الاتصالات المتكررة، ونكتشف أنهم كانوا في أوضاع لا تسمح لهم بالرد على الهواتف، يكونون في ملاحقة ما، أو داخل السجن، آخر ثلاث سنوات من التصوير وحين دخل اسماعيل السجن كان من الصعب جداً والخطير سياسياً استمرار التصوير معه، الأمر الذي كاد يدفعني أحياناً إلى القول: أنه يكفي ما تم تصويره، أو أنه من الممكن التوقف عن الاستمرار في انتاج الفيلم، لم يكن من السهل موضوعياً الاستمرار في انتاج فيلم بهذه الظروف، لكن ذاتياً وكتجربة أولى كان لدى إصرار ورغبة كبيرة في انجاز فيلمي الأول، واثبات القدرة على فعل ذلك، بعد أن خرج اسماعيل من السجن في 2018 أتممت أجراء المقابلة معه وبذلك كانت كافة المقابلات والمواد الازمة لانتاج 90 دقيقة من التصوير قد اكتملت. 

بين أبو الخيزران في “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، وحمودة واسماعيل في “سائقو الشيطان”، كيف يمكن لك أن تقارب بين براغماتية أبو الخيرزان وواقعية حمودة واسماعيل؟ إلى من تنحاز وماذا تريد أن تقول؟ 

لقد قرأت “رجال في الشمس” لغسان كنفاني قديمًا، وأعتقد أن العمل ترك أثراً ما لدي، لكني في الحقيقة حين بدأت في صناعة فيلم “سائقو الشيطان” تركت الشخصيات في الفيلم تعيش حياتها وتواجه مصيرها دون أن يكون لديّ أي تدخلات مقصودة، وهذا يشير إلى أن حكاية الفلسطيني ومن أي وقت تريد أن تنطلق منه لسردها، لا بد أنك سترجع إلى حكاية العام 1948. علي في الفيلم هو ترجمة لحكاية الـ 48 يقول: أن الاحتلال هدم قريتي للمرّة الأولى في الـ 48 ثم أكمل عملية تدميرها بالكامل في الـ 67، ثم نرى مشاهد التهديم والدمار مجدداً في الـ 2017 مرّة ثالثة، هذا يشير إلى أن الواقع لم يختلف كثيراً، هو ذاته ويتكرر، حين كنت في رام الله كان البعض يقول: أن المخرجين الفلسطينيين يعودون في أفلامهم إلى الـ48 وأعتقد أن هذا صحيح، لا بد من العودة إلى الحكاية الأصلية. 

أخيراً كيف ترى المكان الفلسطيني بعد التغييرات المعمارية والديمغرافية التي أفرزها وجود الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة العام 1948 إلى اليوم، الخرائب والقرى المتقلصة والتي تعاني مقابل المعمار الأوروبي الحديث والمصطنع، والصحراء بين كونها مركزاً للتأمل والتقاط الأنفاس للفلسطيني المتعب والطريق المحفوفة بالمخاطر التي توصل إلى السجن في طريق التهريب؟ كيف يقدم الفيلم المكان من منظور “المهرب”؟ 

بالنسبة لي وبشكلٍ شخصيّ لا اعتبر بناء العمارات السكنية المرتفعة شكلاً من أشكال التَحضّر، هذا ما تفعله اسرائيل أنها تصادر مساحات واسعة من الأراضي التي تبني عليها العديد من المستوطنات ومن ثم تجلب إليها سكان من مناطق مختلفة من العالم وتدعي أن هذا كله يمكن أن يكون تحضّراً. أعتبر أن زراعة شجرة تحضّراً وليس تدمير أرض زراعية لبناء تجمع سكاني حداثي، ما فعلته اسرائيل هي أنها أحدثت تدميراً هائلاً في حياة المزارع الفلسطيني، وهذا ما حدث مع علي في الفيلم على سبيل المثال، يمنع الاحتلال الإسرائيلي علي من الدخول إلى أرضهِ وتقوم بمصادرة الأرض، وما يزال هذا التهديد مستمراً إلى اليوم، ما زلت أتابع أخبار علي والعائلات الفلسطينية في القرى، إسرائيل تهدد عشرات القرى في يطا وترغب في تهجير سكانها ومصادرتها، أنه حقيقة التخلّف والهمجية التي لا يمكن أن يغطيها المعمار الحداثي المصطنع والسريع الذي تقيمه اسرائيل في القرى والأراضي الزراعية الفلسطينية، أعتبر أن الحياة الفلسطينية الطبيعية لفلاح فلسطيني يقيم في أرضه ويأكل من خيرها هو الشكل الحقيقي للتحضّر، ما يحدث في فلسطين احتلال أكثر بشاعة مما يحدث في جنوب افريقيا، وهذا ما يحاول الفيلم قوله، طول الوقت أنت تنظر إلى أرضك من خلف زجاج السيارة المتحركة، نظرة ترقب وشعور بالخطر والخوف هذه واحدة من أبشع أشكال الاحتلال، أعتقد أنها فلسفة الفيلم، اسرائيل حوّلت الأراضي الفلسطينية إلى أرضي محرّمة على الفلسطيني، أرض يحتاج إلى أن يجتاز حدود خطرة لكي يدخلها. لكن الفلسطيني المتمثل في الفيلم بعلي يحاول طول الوقت الصمود والبقاء في أرضه، الأرض الطبيعية التي يأكل من خيرها والتي لا يحتاج من يأكل منها زيارة الطبيب على حد قوله، أنها أرض ما قبل قوالب الاسمنت الاسرائيلية الزائفة. 

The post محمد أبو غيث عن “سائقو الشيطان”: تنظر إلى أرضك من خلف زجاج السيارة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“ذاكرة فلسطين”: خطوات في الطريق   https://rommanmag.com/archives/21132 Thu, 09 Feb 2023 08:35:51 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b0%d8%a7%d9%83%d8%b1%d8%a9-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%ae%d8%b7%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d9%82/ على هامشِ واحدةٍ من المَعارضِ الأرشيفيّة التي تمَ تنفيذُها في غزة خلال الأعوامِ الماضيّة، أخبرني أحدُ الأصدقاء بعد الانتهاءِ من جولةِ العرض، وكان كأنهُ يُدلي بشهادةٍ أمامي قائلاً: مُحزنٌ ما هو معروض في هذا المعرض الفقير، لا يُمكِنُنِي تصديق أن كمياتٍ هائلةٍ من الموادِ الأرشيفيّة الفلسطينيّة تم حرقُها بعدَ خروج الثورة الفلسطينيّة من بيروت، إبّان […]

The post “ذاكرة فلسطين”: خطوات في الطريق   appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

على هامشِ واحدةٍ من المَعارضِ الأرشيفيّة التي تمَ تنفيذُها في غزة خلال الأعوامِ الماضيّة، أخبرني أحدُ الأصدقاء بعد الانتهاءِ من جولةِ العرض، وكان كأنهُ يُدلي بشهادةٍ أمامي قائلاً: مُحزنٌ ما هو معروض في هذا المعرض الفقير، لا يُمكِنُنِي تصديق أن كمياتٍ هائلةٍ من الموادِ الأرشيفيّة الفلسطينيّة تم حرقُها بعدَ خروج الثورة الفلسطينيّة من بيروت، إبّان اجتياح بيروت في العام 1982.

والحقيقة أن هذه الشهادة كانت مثيرةً جداً للاستغرابِ والدهشة، كيف من الممكن أن يتخلّص أحدهم من تاريخه؟! أن يُحدِثَ قطعًا مع ماضيهِ وذاكرتِه، التي هي في الحالةِ الفلسطينيّة ليستْ فقظ ذاكرة بالمعنى الأرشيفي للكلمة، على الأهميةِ الفائقةِ لذلك بطبيعةِ الحال، لكنها مُحَرِكُهُ الأساسيّ اتجاه إثبات حقائق مهمة تتصلُ بوجودِهِ وهويته ومصيره، الحقيقة التي لا يمكن إنكارها في هذا الإطار أننا كفلسطينيين نُعانِي من هذه الفجوة مع سرديتنا، ثمة الكثير من الانقطاعات في هذه القُماشة الواسعة الفضفاضة التي يُصطلح على تسميتها بـ “السردية الفلسطينية” والتي لم نحصل عليها في أغلبِ الأحيان بالاستنادِ إلى أرشيفٍ ماديّ موضوعيّ يُمكِنُ قراءته وفهمه وبناء معرفةٍ ما، بالاستناد عليه، بقدرِ ما وصلتنا من بواباتٍ متنوّعةٍ يختلطُ فيها إلى حدٍ بعيد الذاتيّ بالموضوعي، الحقيقيّ بالمجازي، الخِطابيّ والتقريري بالمحايدِ والمهموس. 

لقد خلقت هذه المرويات الكثيرة للسردية الفلسطينية، حالةً من الهشاشة في الانتماءِ إليها على النحو الذي يُمكِّن الفلسطيني قبل غيره من الفهم أولاً، ثم الانتماء وصولاً إلى حالةِ الدفاع ِالمُتسمة بالموضوعية والمنهجية العلميّة والرؤية الواضحة والحقيقية.

 في مقالتِهِ المعنونة بـ “سردية المقهور وسردية المنتصر” والمنشورة عبر منصة مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، يؤكد علي بدر على حقيقةِ انزلاقِ الرواية الفلسطينية في منزلقِ الانشغالِ بحالةِ الصراع، من حيث كونها حالة سياسية محتدمة، مقابل إغفال الأهمية الحيوية والفائقة بالعمل على الانشغالِ بالروايةِ الفلسطينية من حيث كونها مّادة أرشيفية توثقُ الحياة والحكاية الفلسطينية الإنسانيّة المتأصلة في عمقِ التفاصيل، الصغيرة منها والكبيرة. والتي هي تَشكيل لحالةٍ موجودة قبل وأثناء وبعد الصراع ذاته. يقول:  كان لقائي مع الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، في معرض باريس للكتاب في سنة 2005، صادماً، فما من كلمة أو ملاحظة عن فلسطين إلاّ وتقطن حقلاً مضطرماً. فقد قال لي، بجملة صريحة ومسكونة بنبرة واثقة عن الصراع العربي الإسرائيلي، إن “العرب يهتمون بالصراع أكثر من اهتمامهم بالأرض.” ودلل على هذا الأمر بأن “هنالك أكثر من مئة رواية إسرائيلية مكتوبة باللغة العبرية عن القدس، من دون أي رواية عربية تقابلها”، وهي معلومة حصل عليها من أكاديمي إسرائيلي من أصل عراقي مختص بالأدب العربي في جامعة حيفا (عرفت فيما بعد، أنه البروفسور ساسون سوميخ). في البداية أنكرتُ ما قاله إنكاراً قاطعاً، وشككت في المعلومة المنقولة، غير أن الكلام في واقع الحال لم يرتكز على أزمة في النقل أو التمثيل، وإنما كان الاختلاف واضحاً بيننا في تحليل هذه الظاهرة وزاوية النظر لها.”
 

إذن يُمكننا القولُ بكثيرِ من الارتياح: أننا أمام اشكالية في فعل الأرشفة نفسه، ماذا نؤرشف؟ وكيف نُؤرشف؟ وأين يذهب ما أرشفناه؟ وكيف يتم النظر إليه؟ وهل هو متاح أمام الباحثين؟ وكيف يُمكن الوصول إليه؟ ومن هي الجهات التي تمتلك هذه الأرشيفات؟ وكيف تنظرُ إليها؟ وما هي المنهجيات التي يتم إتباعها في عملية الأرشفة ذاتها؟ وهل تؤسس الأرشيفات الفلسطينية لسردية فلسطينية يمكن بناؤها بصورةٍ موضوعيةٍ وعلميةٍ تساعدُ على الفهمِ وتُوصل إلى حالةٍ من الانتماءِ والدفاع الحقيقيتين؟ جملةٌ واسعةٌ من الأسئلةِ التي يُبرّهنُ الوقتُ على ضرورتِها، ويزيدُ السياقُ الفلسطيني المرتبك والمُظلم من أهميةِ وجودها. 

وفي إطارِ الاستجابة إلى هذه الحاجة، يُمكِنُ لنا رصد مجموعة من المحاولات الرقميّة التي تعملُ على حفظ ِوإتاحةِ أرشيفاتٍ فلسطينيّةٍ في حقولٍ سياسيّة، فكرية، موسيقية، سينمائية، وأدبية وبحثية، ومن المهم القول: أن الاستجاباتِ في هذا الإطار تأتي في الصيغِ الرقمية، لمتطلبات الثورة المعلوماتيّة الهائلة التي يعاصرُها عالمنا، الذي بات مفتوحًا اتجاه الرقمنة بدرجةٍ عالية، فالمواد الأرشيفية من صورٍ ووثائقٍ ومستنداتٍ وشهاداتٍ وتسجيلاتٍ ومهما بلغت قيمتُها وقدرتُها على بناءِ حقائق وتوضيح مفاهيم وتشكيل معرفة، تبقى غير فعالة إذا استمرت حبيسة الأدراج والرفوف في مؤسسات غارقة بالبيروقراطية وبين يدي موظفين ينظرون إليها على أنها أكوامٌ مكدسة من الأوراق القديمة، لقد استطاعت الأدوات الرقمية المختلفة، أن تخلق مجالاً أرحب لرؤية المواد الأرشيفية وسهولة الوصول إليها من قبلِ الباحثين والدارسين والمُهتمين بها في فلسطين والعالم، ويمكن في هذا الإطار الحديث عن جملة من المساهمات الأرشيفية الرقمية والتي منها موقع” ذاكرة فلسطين والذي يحفظ ويتيح ذاكرة فلسطين من مجلاتٍ وصحفٍ ويومياتٍ وبحوث وكتبٍ ومنشورات ٍوغيرها. وموقع القدس: القصة الكاملة، وموقع الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية. بالإضافة إلى مشروع يُرى، وهو منصة رقمية تقدم مورد معرفي متاح للإطلاع والبحث ومنصّة تفاعلية مفتوحة للإنتاج المعرفي، والمساهمات النقدية والبحثية والنقاش في حقل الفنون البصرية الفلسطينية. 

ويمكِننا ضمن هذه العُجالة الحديث بصورة أكثر تفصيلاً عن موقع “ذاكرة فلسطين” وهو مشروع أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وغايته الإسهام في توثيق تاريخ فلسطين وحركتها الوطنية، من خلال تأسيس قاعدة بيانات رقمية، تحفظ أرشيفات كيانات وهيئات سياسية، وجمعيات محلية، ومجموعات شخصية، وأوراقًا عائلية. ويُمكن للمُتصفح لموقع ذاكرة فلسطين أن يلحظَ بصورةٍ جليّة أن جهدًا جيداً في الجمع والأرشفة والتصنيف قد بُذل خلال عملية بناء هذا المشروع، بالإضافة إلى قدرة الموقع التصميمية الجيدة في تقديم المعلومات بصورةٍ سلسة ومنظمة، بحيث يُتيح الموقع فرصةً لبحثٍ متقدمٍ وسلسلٍ في الحصول على المعلومات الموثقة و المؤرشفة بطريقةٍ جيدة، وفيما يخص الحقول التي يؤرشف الموقع مواد متصلة بها فيُمكننا الحديث عن: 

حقل المجموعات الخاصة: والذي يضم وثائق ويوميات ومذكرات وملاحظات وصورًا وصحفًا ورسائل وتسجيلات صوتية ومرئية وغيرها من مقتنيات عُثر عليها في أرشيفات شخصيات ونُخب أدت دورًا في مسار القضية الفلسطينية. وضمن هذا الحقل تقدم “ذاكرة فلسطين” أرشيفات خاصة لكل من أحمد اليماني/ أبو ماهر، أكرم زعيتر، الحاج أمين الحسيني، الشيخ سعد الله العلمي، الشيخ محمد أبو سردانة، باسل غطاس، حمدي كنعان، صلاح خلف، شفيق الغبرا، عدنان أبو عودة، يحيى يخلف… وأخرين 
 

وحقل الديوان: الذي يضم مجموعات فرعية تشمل وثائق تاريخية مصنفة وفق مصدرها، منها وثائق أردنية وأمريكية وعثمانية وبريطانية، وتقارير هيئات دولية، إضافة إلى وثائق شخصية. 

وحقل المنظمات السياسية: والذي يضم الأدبيات والوثائق الخاصة بالمنظمات السياسية، والبيانات والملصقات والتعاميم الصادرة عنها، وحقل سجلات المحاكم الشرعية: والذي يضم السجلات الصادرة عن عدد من المحاكم الشرعية في فلسطين خلال الفترة العثمانية، وبداية الاستعمار البريطاني. وتتضمن السجلات حججًا مختلفة وفرمانات رسمية خُطت مجملها باللغة العربية. ويشمل سجلات المحاكم الشرعية في القدس ونابلس. 

وحقل المجلات والدوريات: وتضم عددًا من الصحف والمجلات والنشرات والدوريات الصادرة عن شخصيات وهيئات وتنظيمات فلسطينية وعربية، واكبت مختلف المراحل التاريخية للقضية الفلسطينية منذ عشرينيات القرن العشرين والتي منها، صحيفة التعميم والحوادث والشباب والشورى والعودة وفصل المقال، وإلى الأمام، والثائر العربي وغيرها من الصحف والمجالات. كما يتضمن الموقع حقلاً للشهادات والروايات الشفوية: يضم مرويات تحكيها شخصيات فلسطينية عاشت محطات من التاريخ الفلسطيني، تنقل ما شاهدته وعايشته من أحداث، لتسهم في حفظ التاريخ الشفوي الفلسطيني، وتكوّن سرديات تاريخية لما عاشه الفلسطينيون.

تُتيح “ذاكرة فلسطين” كل هذه المواد في موقعٍ رقمي بحيث يمكن الحصول عليها بصورة سلسة وسريعة، فيما يحقق فرصة حقيقية للحفظ والنقل والبحث والدراسة. 
 

The post “ذاكرة فلسطين”: خطوات في الطريق   appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الوعي الفلسطيني والعربي بعلم الاجتماع… إيليا زريق وداعاً  https://rommanmag.com/archives/21117 Mon, 23 Jan 2023 15:23:37 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a-%d8%a8%d8%b9%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%a7/ رحلَ عن عالمِنا يوم الإثنين 16 كانون الثاني/يناير من العام 2023 عالمُ الاجتماعِ الفلسطيني إيليا زريق، عن عمرٍ ناهزَ 84 عام، وهو كاتبٌ وباحثٌ أكاديميّ، واستاذٌ فخريّ في علمِ الاجتماعِ في جامعةِ كوينز في كندا ويَشغَلُ منذُ العام 2017 منصبَ أستاذ زائر في معهدِ الدوحة للدراسات العليا – مركزُ دراسات النزاع والعمل الإنساني، ولقد ولد […]

The post الوعي الفلسطيني والعربي بعلم الاجتماع… إيليا زريق وداعاً  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

رحلَ عن عالمِنا يوم الإثنين 16 كانون الثاني/يناير من العام 2023 عالمُ الاجتماعِ الفلسطيني إيليا زريق، عن عمرٍ ناهزَ 84 عام، وهو كاتبٌ وباحثٌ أكاديميّ، واستاذٌ فخريّ في علمِ الاجتماعِ في جامعةِ كوينز في كندا ويَشغَلُ منذُ العام 2017 منصبَ أستاذ زائر في معهدِ الدوحة للدراسات العليا – مركزُ دراسات النزاع والعمل الإنساني، ولقد ولد إيليا زريق في عكا في فلسطين المحتلة سنة 1939 وحصلَ على شهادةِ الماجستير من جامعة سيمون فريزر في كندا، وحازَ شهادة الدكتوراه من جامعة اسكس في بريطانيا .

لقد شَكَّلَ رحيلُ زريق خسارةً معرفيّةً فلسطينيّةً وعربيّةً وعالميّةً هائلة، حيثُ كانَ زريق ولعقودٍ طويلةٍ من الزمن، باحثًا وأكاديميًا له اسهاماته البحثيّة النوعيّة والهامة، والتي أحدثت نقلاتٍ نوعيّة وفارقة في تاريخِ دراساتِ علمِ الاجتماع، وتاريخ الاستعمارِ الصهيوني في فلسطين وسوسيولوجيا المجتمعاتِ الاستيطانيّة الكولونيالية، وأنماط المراقبة، والتي تمحوّرت دراساته ومؤلفاته حولها لعقودٍ طويلةٍ من الزمن، ويُمكِنُ الحديث عن عددٍ جيدٍ من المؤلفاتِ البحثيّة الجادة والنوعيّة التي خلّفَها إيليا زريق للباحثين والمهتمين في علم الاجتماع في المنطقةِ العربية والعالم، والتي من أهمها: “الفلسطينيون في إسرائيل: دراسة في الاستعمار الداخلي، وسوسيولوجيا الفلسطينيين، والرقابة والرصد والعولمة، والرقابة والاستعمار والخصوصية، الديموغرافيا والترانسفير: طريق إسرائيل إلى المجهول، وقضايا نظرية ومنهجية حول دراسة المجتمع الفلسطيني ومشروع إسرائيل الكولونيالي في فلسطين: المطارة الوحشية، والمراقبة وحفظ الأمن على الصعيد العالمي: الحدود والأمن والهوية. 

ولقد كوّنت كلُّ هذه المساهمات البحثيّة مجتمعةً وغيرها من المؤلفات والمقالات البحثيّة التي عملَ عليها إيليا زريق خلال رحلة علميّة وبحثيّة طويلة، رافداً مهماً ونوعيًا من الروافد التي رفدت محاولات النهوض بالوعي المعرفي العربي والفلسطيني وجعله أكثر نضجًا وإدراكًا لحقائق النمو الاستعماري والاستيطاني الكولونيالي في المنطقة العربية، والّذي بات أكثر وحشيّةً وهينمة ونفوذ، تقول غانية ملحيس الباحثة والكاتبة الاقتصادية والسياسية الفلسطينية في مقالٍ لها نُشرت عبر الموقع الإلكتروني للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات: “اهتم الأكاديمي البارز إيليا زريق بالبحث في أسباب وعوامل إخفاقاتنا المتتابعة في مواجهة الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية واستمرار العجز في وقف تقدمها. ودافعه الرئيس النهوض بالوعي المعرفي الفلسطيني والعربي لتبين سبل ومستلزمات النهوض” 

لقد دفعَ عن هذا الإمعان في محاولةِ الفهم لطبيعة الموجةِ الاستعمارية الاستيطانية بالعموم، والصهيونية منها على وجه الخصوص، إلى استنتاجِ مجموعةٍ من الحقائقِ التي تميزُ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني عن غيره من المشاريع الاستيطانية الاستعمارية التي شهدَها التاريخُ الإنسانيّ الحديث والمعاصر والتي أهمها، أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، يُعرّفُ مواطنتهُ على أنها المزج بين الدين اليهودي والقوميّة المستحدثة، ما يجعل من المستحيل تحويله إلى دولةٍ وطنيّة، كما حدثَ في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا وجنوب أفريقيا، كما تشيرُ إلى ذلك غانية ملحيس في ذات المقالة. 

ولقد شَكَّلَ حضور الدكتور إيليا زريق في فضاءِ دراساتِ علمِ الاجتماعِ في المنطقةِ العربيّة، داعيًا مستمرًا إلى النهوض بعلمِ الاجتماع وتكثيفِ حالة الدراسة الأكاديمية والعلمية والجهود البحثية المُتقدمة والنوعية له في المنطفة العربية التي هي أحوج ما تكون إلى إحداث تقدماً علميًا ومنهجياً في علم الاجتماعِ وسوسيولوجيا المجتمعات العربيّةِ في الشرقِ الأوسط، وواعيًا في ذات الوقت إلى تطورِ العلومِ الاجتماعيّةِ العربية، والعلاقات القائمة بينها، وإلى أنها تعاني من الضعف المنهحي لإعتمادها الهائلة على المفاهيم الجاهزة والمستوردة من تجربة المجتمعات الأوروبية، مرجعاً ذلك إلى أسباب متعلقة بهمينةِ النُظمِ السلطوية العربية، وغياب الديمقراطية، وشيوع الاستبداد، وفي مقابلة معه أجراها موقع العرب أكدَّ دكتور الراحل إيلياء زريق على غياب الاهتمام المؤسسي للمؤسسة الأكاديمية العربية بالقيمة المعرفيّة لعلمِ الاجتماع، وعدم التركيز عليه، كما هو حادث لدى علوم طبيعية وانسانية أخرى، يقول:” أن اهتمام العالم العربي بعلمِ الاجتماع ضئيل جداً، مشيراً إلى أنه على الرغم من أهمية العلم للمنطقة إلا أنه ليس له هذه المرتبة العالية مثل ما للهندسة، والمحاماة، مضيفاً أنه يأمل من خلال معهد الدوحة للدراسات العليا، ومن خلال قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا رفع الاهتمام بهذا العلم” 

وتبزرُ أكثر القيمة المعرفيّة المرتفعة لأبحاث ودراسات الراحل إيليا زريق وخاصة تلك المتعمقة في سوسيولوجيا المجتمعات الكولونيالية الاستعمارية في المنطقة العربية، لأنها عانت ولا تزال تعاني من أشكالٍ متعددةٍ ومتنوّعةٍ من أنماطِ هذا الاستعمار، حيث عانت المجتمعات العربية من الاستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني، ولا تزال ارتدادات هذه المعاناة حاضرةً في مناحي مختلفة من الحياة في الفضائين العام والخاص في المنطقة العربية، وفي فلسطين لا يزال المجتمع العربي الفلسطيني إلى اليوم يعاني من موجاتٍ متتاليةٍ ومستمرةٍ من الاستيطانِ الصهيوني، ويشيرُ الراحل دكتور إيليا زريق في هذا الإطار إلى أن القيمة المتجددة لعلم الاجتماع وتعاطيه المتقدم مع متطلبات الحداثة وطبيعة الحياة المعاصرة التي تعتمد فيها المجتمعات الإنسانية، ولاسيما العربية منها على منتجات الحداثة والعالم المفتوح من خلال الانترنت تعطيه أهمية مضاعفة خاصة في ظل ِالتطورات التكنولوجية الهائلة التي يعيشها العالم يقول: “نريد أن نلقي الضوء بصورةٍ أكبر من خلاٍل قسم الاجتماع في المعهد -يقصد معهد الدوحة- هو تأثير التكنولوجيا على المجتمع، وبصورة خاصة وسائل الاتصالات ومدى تأثيرها على البيئة الاجتماعية، ولو لاحظت أن هذه الوسائل مؤثرة جدا في الخليج، وانظر إلى استهلاك قطر في الإنترنت، تجده مرتفعا جداً”.

ويضيف الراحل دكتور إيليا زريق في مقابلةٍ أجرتها معه ميدان: أهمية أن يعي الجيل الجديد من صغارِ السن -مقارنة بعُمري- أهمية المراقبة، فلا أظن حقيقة أن هناك وعيا بالعالم العربي عموما بأخطار المراقبة، ومن يستخدمها، وكيف تؤثر أدوات المراقبة على السياسة، الحكومات، وتأثيرها بصورةٍ مباشرةٍ على المستهلك العادي. في الحقيقة هناك فجوة عميقة حين مقارنة الأبحاث التي تتصل بالمراقبة في الدول الغربية مع نظيراتها العربية

نعم، الجيل الجديد يفتقد الوعي بأهمية المراقبة، حيث ما زالوا يفكرون بطريقة تقليدية، ويعتقدون أن مواجهة الحكومات مع شعبها يقتصر على العنف المباشر، أي باستخدام أدوات القمع المادية، وهذا صحيح إلى حدٍّ بعيد، لكن في الوقت ذاته، هنالك أدوات جديدة ومؤثرة بدأت بأخذ موقعها، وتزامناً مع عدم رغبة الحكومات باستخدام البطش ضد شعبها بصورة دائمة، فإنها تلجأ لمراقبتهم عن كثب، عبر التنصت على مواطنيها ومراقبتهم على كل ما تطوله أدواتهم، وبذلك فإن الحكومات قادرة على تشكيل تصوّر بتفاصيل دقيقة عن الشخصيات قبل اعتقالها. خذ إسرائيل كمثال، دراسة أنظمة الرقابة عند هذه الدولة كفيل بتبيان أخطار الرقابة، وأهمية الانتباه لهذا العامل وتأثيراته، فأنظمة الرقابة تعد إحدى أدوات الحرب الرئيسية التي تستخدمها إسرائيل، وكما قلت، ما زال التفكير التقليدي يعتقد أن الحرب مُقتصرة على الدبّابات والجيوش، والمواجهة المُباشرة.

وظلّت فلسطين حاضرةً في عقلِ ووجدان الراحل دكتور إيليا زريق، التي اغترب عنها لسنواتٍ طويلة طوّف فيها العديد من العواصم والبلدان، إلا أنها ظلّت حاضرةً حضورًا يمكن ملامسته من خلاله قراءة النتاج البحثي للراحل والذي تحضرُ فيه فلسطين حضورًا معرفياً ووجدانياً، فهي أما عن فلسطين من حيث كونها الوطن المقود، أو عن مجتمعها، أو عن الاستيطان الّذي يحيطُ بها، لقد شكّلت فلسطين ولسنواتٍ طويلةٍ بوصلة الفهم والدراسة والبحث والحنين للدكتور إيليا زريق، ويمكن لنا من خلال استعراض مؤلفاته بالعموم، وكتاب “مشروع إسرائيل الكولونيالي” وباستعراض فصوله وخاصة الافتتاحية التي يبيّن فيها العلاقة بين إسرائيل والكولونيالية والأدوات المخابراتية والمعلوماتية المستعملة للحفاظ على بقاءِ المشروع الإسرائيلي أن نلحظَ ذلك في أطرٍ معرفية وبحثية موضوعية موثوق بها. 

رحل دكتور إيليا زريق تاركًا إرثًا معرفياً من المؤلفات والمقالات والأبحاث التي ستعيش طويلاً وتظل رافدًا معرفياً وعلمياً لعدد كبير من الباحثين والمهتمين في المنطقة العربية والعالم. 

The post الوعي الفلسطيني والعربي بعلم الاجتماع… إيليا زريق وداعاً  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>