مُنذ بداية الحرب انعقد لساني تماماً، ودخلت في ما يُشبه حالة خرس، لا يُمكنني الحديث عن شيء ولا التعاطي كما يجب مع حدث مهول بحجم الحرب الدامية المشتعلة منذ ما يزيد عن شهر، كل ما أفعله منذ بداية الحرب أني أشاهد فقط بحواس مرهقة وروح خاملة وعقل مشوش ومرتبك ولا يُمكنهُ استيعاب ما يحدث.
في هذا المدنية التي تشبه الجحيم، غزة، اللعنة والكابوس الذي يلاحقنا والذي رفضت الخروج منه بعد أن قُدمت لي فرصة على طبق من ذهب، لكني عُدت لأشهد من جديد حرب غزة التي ربما تكون الأخير بعد ١٧ حرباً وموجة تصعيد عشتها جميعها ونجوت منها جسداً إلى الآن، لكن نُدباً وجراحاً غائرةً في الروح والوجدان لا يمكن شفاؤها، ستظل تؤلمني ما حييت.
أخبار عاجلة لا تنتهي
لا يمكن في مدينة كغزة أن تخطط لأسابيع أو أيام، التجارب السابقة وكل محاولة للتفكير المنطقى تدفع للعيش يوماً بيوم، دون أن يكون هناك خطة حتى وإن كانت لأسبوع واحد فقط، لكننا سذج وطيبين وتطوينا موجات النسيان وننسى أنه لا يحق لنا فعل ذلك، لا ينبغي لنا أن نعلّق إطاراً جديداً على حائط بيت تحت نيران القصف، أو شراء أثاث جديداً يُمكن أن تحرقه نيران القذائف، أو الحفاظ على أجساد يمكن أن تمزقها حمم الصواريخ، أو بناء أحلام ستتبخر مع أدخنة هذا الجحيم، نحن كائنات محكوم عليها أن تظل مشبوحة في حياوات جامدة كلّما حاولنا تحريكها يصرخ في وجهنا العالم بأنه لا يحق لكم ذلك.
وفي هذا الجحيم تتراجع كل الأشياء وتبدو عديمة القيمة، أمام جوهرية البقاء على قيد الحياة دون أن تنتهي هذه الحرب لتجد أن نقصاً أو نسفاً ما حدث لصورة العائلة في غفلة من زمن الحرب التي تتسارع فيها الأحداث وتحوّل قصصاً وحيوات وتجارب إلى تقارير صحفية وأرقام في سجلات وزارة الصحة وهيئات الأمم المتحدة، يبدو النظر إليها باهتاً يثير الشعور بالأسف اللحظي، ثم سرعان ما تتداعى وتتوارى أمام هول الأحداث الجديدة.
يا لها من قسوة لا يمكن تحملها تلك التي تحول عائلات بأكملها إلى خبر عاجل يعيش للحظات ثم تطويه أخبار عاجلة أخرى.
يا الله مزيداً من الخوف
ينبغي في الحرب أن نظل قادرين على الخوف، الخوف الذين لا يؤكد الشعور فيه فكرة النجاة، لكنه مهم لنظل قادرين على إنعاش إنسانيتنا التي تنهشها آلة الحرب فيما يحولنا إلى جلود من الصخر، الخوف الذي يجعلنا قادرين على توصيف موقعنا في هذا التأرجح المستمر بين الحياة والموت، والذي يعني أننا لا نزال قادرين على الشعور بأن ثمة أشياء يجدر الإحساس بالخوف من فقدانها، كالحياة مثلاً.
الناس في غزة ليست كائنات خارجة عن سياق الفهم، وليست كائنات بطباع خاصة تمكّنها من تحمل كل هذا الألم المهول، أنهم أُناس عاديون لديهم مخاوفهم وآمالهم وأفكارهم البسيطة والمتفائلة تجاه الحياة، لكنها الحرب التي تنهش الروح وتشعل نيرانها الهائلة في كل مساحات الحياة المخضرة، فيبدون للناظر من خلف شاشات التلفزة كائنات قوية وقادرة على مواجهة كل هذا الجحيم، إلا أنهم في الحقيقة ينهارون في كل لحظة.
إلا أن ثمة مشهداً لانهيار عظيم سيعيشه الجميع في غزة بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، ونستفيق لنجد كل هذه الخرائط الكبيرة من الألم التي امتدت وتمتد في أرواحنا وأجسادنا، ومن فقدناهم ومن لا نريد فقدانهم.