سومر شحادة - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/88rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:36 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png سومر شحادة - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/88rommanmag-com 32 32 الرّاهب وحدّاد: حكايتان سوريتان عن القلق https://rommanmag.com/archives/20797 Wed, 23 Feb 2022 13:09:45 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%91%d8%a7%d9%87%d8%a8-%d9%88%d8%ad%d8%af%d9%91%d8%a7%d8%af-%d8%ad%d9%83%d8%a7%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%82/ إحدى وظائف الرواية، تمثيلُ البشر ضمن طيفهم الواسع الذي يتعدّى المشاعر والأحاسيس إلى النماذج والأفكار. وذلك في الحياة العادية التي تعرف صراعاتٍ تقليديّة، وفي حضور الأحداث الكبرى التي تقسم وعي البشر مثل الثورات. في الأدب بصورةٍ عامة يمكن للكاتب أن يتروّى في مقولته. لذلك يمكن الحديث عن رواياتٍ تعالج الثورات بصورةٍ أكثر عقلانية من النظر […]

The post الرّاهب وحدّاد: حكايتان سوريتان عن القلق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

إحدى وظائف الرواية، تمثيلُ البشر ضمن طيفهم الواسع الذي يتعدّى المشاعر والأحاسيس إلى النماذج والأفكار. وذلك في الحياة العادية التي تعرف صراعاتٍ تقليديّة، وفي حضور الأحداث الكبرى التي تقسم وعي البشر مثل الثورات.

في الأدب بصورةٍ عامة يمكن للكاتب أن يتروّى في مقولته. لذلك يمكن الحديث عن رواياتٍ تعالج الثورات بصورةٍ أكثر عقلانية من النظر إلى الواقع الذي أحكمت عليه قوى الأمر الواقع بصورة مبرمة. تحضرُ النظرية في الكتب حضوراً مثالياً، وفي حضورها تمثيلٌ لصورة من صور الواقع. وعلى ضوءِ هذا يمكن مقاربة رواية “بلد واحد هو العالم” (1985) للروائي السوري هاني الرّاهب (1939-2000) ورواية فواز حدّاد (1947) “تفسير اللاشيء” (2020). وكلتاهما تنتميان إلى بلدٍ مثالي لدراسة هذا النوع من الأدب. إذ في الروايتين تحضرُ شخصية المثقف حضوراً مأساوياً، وفي كلتا الروايتين يجد المثقف نفسه ضائعًا، وعلى قلقٍ بين الجموع والسلطة. 

كتب الرّاهب روايته أثناء إقامته في اليمن. لكنّ العنوان يشير إلى سورية في استعارة من الشاعر اليوناني ميلياغروس (القرن الثاني قبل الميلاد): “أنا ميلياغروس/ سرت مع ربة الشعر/ على خطا مينيبوس/ إن كنتُ سورياً فما العجب في ذلك؟ / أيّها الغريب إنّنا نسكن بلداً واحداً/ هو العالم”. على الرغم من أنّ الرواية تحدث في مكان غير محدّد، إلا أنّ العنوان يقول لنا بوضوح إنّها سورية في رواية مليئة بالرموز؛ أم اللولو التي تمثّل الرأسمالية وأم عبود التي تمثّل البروليتاريا الرثّة وفق الأدبيات الماركسية. أي الرعاع أو الغوغاء. فيما علوان الأستاذ والمثقف يمثل البرجوازية الصغيرة التي تطمح إلى تغيير واقعها عبر التحالف مع الرأسمالية تارةً ومع الغوغاء تارة أخرى. تتلخّص مقولة الرواية في الثورة ضد سلطة رأس المال. بعدما أخلى علوان القبو الذي كان يستأجره وحصل على تعويض مالي دفعه في منزل جمعية اشتراكية؛ أقام مع زوجته في حارة قيد الهدم بسبب إقامة مشروع تجاري على مقربة منها. وفي الحارة يقترب علون من أم عبود ويفكّر بتغيير واقعه عبر التحالف مع الفقراء. ثمّ ما يلبث أن ينقلب على أم عبود بوقوفه في صف أم اللولو. هنا يهدم زوج أم اللولو الذي يشير إلى السلطة، منزلَ علوان. وفي ذلك الفضاء المرتبك يحاول علوان إعادة تحالفه مع الفقراء.

لكن في تقلّبات المثقف تلك يخسر هو، وتخسر الدهماء التي لم تجد الإخلاص لقضيتها لديه. والثورة التي تولد في الحي تولد ميتة. فالقيمة التي منحها رأس المال للمثقف كانت من أجل أن يضرب الدهماء، لا من أجل أن يتحالف مع الدهماء ضدها. في مقابل رواية الرّاهب التي ترصد التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية في السبعينات والثمانينات. تعالج رواية “تفسير اللاشيء” للروائي السوري فواز حدّاد الذي انشغل في أعماله الأخيرة في تحليل بنى النظام الشمولي بأدواته وتحالفاته داخل المجتمع؛ صورةَ المثقف في “الداخل” الخاضع بصورة مباشرة لقمع النظام الشمولي. وهو بذلك مهدّد بحياته، وبتفكّك علاقاتهِ كافة مع كُلّ من وما يحيط بهِ. يرصد حدّاد أشد أزمات مثقف الداخل عنفاً، ويصف شخصيته بأنّ الانقلابات الفكرية جزء منها. كما أنّ مخاوفه أكبر من إنسانيته. لا يؤمن بالعنف، ويعيش في بلدٍ يخرج العنف من كلّ زاوية فيه. ألغى الأستاذ الجامعي صاروف العالم وفق نظريته عن “اللاشيئية”، ومن ثمّ اعتبر نفسه غير موجود. وعلى ضوء ذلك، تمثّل العلاقة مع المرأة لدّى صاروف -ما مثلته لدى علوان- أحد مآلات التغيير والثورة. إنّ كلّاً من نازك في “بلد واحد هو العالم” وسهير في “تفسير اللاشيء” تريدان الإنجاب، وكلتاهما تفشلان في ذلك مع زوجين عاجزين. وتهجران زوجيهما. فالمثقفان المبدئيان مشغولان بالتغيير. وكلاهما مثقف يخسر زوجةً وقفت إلى جانبه بدافع الحبّ، لا الزواج. فالتفكّك الذي طالهما كان أعمق من تَفكّك الشرائع، إنّه انقسام نفسيّ لا يلتئم، فكلاهما خسر ثورته. وخسر جدارته بأن يكون رجلاً وحبيباً.

يمثل علوان وصاروف في زمانيهما ما تمثلهُ النخبة التي خذلها الواقع. ما يبدو قلباً للمنظور النقدي الذي يقول بأنّ النخبة هي من تخذل النّاس. وكانت نازك سألت علوان أيّهما حقيقي؛ الواقع أم الوعي؟ وبدا أنّ كلّاً من الروائيين استدلّ على الواقع باستخدام الوعي بضرورة التغيير. السلطة أداة المال “بلد واحد هو العالم” والعنف أداة السلطة في “تفسير اللاشيء”. ويبدو أنّ الروائيين لجآ إلى ما هو نظريّ، ومن ثمّ انشغلا في دحضه. فالمثقف الذي قرأ حتمية الثورة ونظّر لها كان من أكثر الخاسرين بالمعنى المباشر المادي، بسبب اتّباعها، لا لتحالفه مع الدهماء عند هاني الرّاهب، أو مع ضحايا تمثّلوا جلّادين عند فواز حدّاد. بل أيضاً لأنّ الروائيين السوريين قصرا بطليهما على الخوض في واقعٍ محسوم لصالح القوي الآني. وفي الغد، من يعرف؟ لربما تثمر بذرة الانكسار تلك عن شجرة الحرية الباسقة. فهناك، وسط العاصفة، من فكّر بها وطواها في سرديّته من أجل المستقبل. 

The post الرّاهب وحدّاد: حكايتان سوريتان عن القلق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ماذا عن دوستويفسكي؟ https://rommanmag.com/archives/20755 Fri, 14 Jan 2022 12:01:37 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%b9%d9%86-%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a%d8%9f/ يذكر تولستوي عن دستويفسكي (1821-1861) أنّه “كتلة من الصراع”. وتشيرُ كلمات تولستوي المقتضبة هذهِ إلى عالم دستويفسكي الروائي أيضاً، الذي تتنازع شخصياتهُ إرادتا الخير والشر. ولربما يمثّل بطل روايتهِ “الجريمة والعقاب” المثال النقي لذلك الصراع المحتدم في نفوسِ البشر. أدب دستويفسكي أدبٌ واقعيّ، وشخصياتٌ عرفها القارئ في رواياتهِ مثل المرابية، هي شخصيات عرفها الروائي في […]

The post ماذا عن دوستويفسكي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يذكر تولستوي عن دستويفسكي (1821-1861) أنّه “كتلة من الصراع”. وتشيرُ كلمات تولستوي المقتضبة هذهِ إلى عالم دستويفسكي الروائي أيضاً، الذي تتنازع شخصياتهُ إرادتا الخير والشر. ولربما يمثّل بطل روايتهِ “الجريمة والعقاب” المثال النقي لذلك الصراع المحتدم في نفوسِ البشر. أدب دستويفسكي أدبٌ واقعيّ، وشخصياتٌ عرفها القارئ في رواياتهِ مثل المرابية، هي شخصيات عرفها الروائي في حياتهِ. فرواية دستويفسكي بصورةٍ ما، انزياحٌ فنيّ عن الواقع. حتّى أن زوجته عندما التقت بهِ للمرة الأولى في منزلهِ، خَالت أنّها قادمة إلى زيارة منزل راسكولينكوف بطل “الجريمة والعقاب”. 

تنقلُ آنا غريغوريفنا دوستويفسكايا في “مذكرات زوجة دستويفسكي” جانباً قاسياً من حياتهِ، إذ عندما تعرّفت عليهِ كان محاطاً بشخصيات تكنّ لهُ العداء، الأمر الذي جعله يثق بها ويحدّثها باسترسالٍ عمّا كان يشغله، وقد وجدت آنا منذ البدء في دستويفسكي إنساناً ذكياً ودمثاً. مع ذلك فقد كان يشعر بالتعاسة، ذلك لأنّ الجميع هجره. كما أنّ الجميع سعى إلى استغلالهِ؛ الناشرون بأن يستغلوا عوزه المالي، والأقرباء بالاستدانة منه بصورة دائمة. 

طلب دستويفسكي من آنا أن تعمل لديه، فقد كان ملزماً بكتابة رواية من سبع ملازم، وتسليمها في وقت محدّد. وإلا سيكون عُرضَة للسجن، وخسارة حقوقه في أعماله. كان دستويفسكي يسأل آنا بصورة دائمة عن عدد الصفحات التي كتباها. وفي النهاية سلّم روايته “المقامر” إلى الشرطة، كي يمنع تحايل الناشر بادّعاء عدم الاستلام في الوقت المحدّد.  تساعد هذه الحكاية البسيطة التي دفعت الروائي إلى تسليم مخطوطه إلى الشرطة في الاستدلال على الوحدة التي كان يعيشها، والعداء الذي كان يسوّره. ومن وجوه التعاطف -التي قد تَشغل قارئ دستويفسكي-عندما سألته آنا عن طابع الحزن في قصصه؟ فأخبرها أنّه لم يذق طعم السعادة في يومٍ من الأيام… كان يمتلك تصوّراً قاتماً عن نفسهِ، حتّى عند تقديم عرض الزواج روى لها حكاية عن فنّان مُسِّن مُثقَل بالديون، مريض، مرضاً لا براء منه، وهو الصرع، ويريد أن يحظى بالسعادة. 

تذكر آنا في كتاب المذكرات تفاصيل كثيرة من عالم دستويفسكي. ولا تعلّق كثيراً على طريقة عيشه، إلا أنّ تعليقاً مقتضباً يدلّ على سبب أزماتهِ الواقعية، تذكر آنا: “لقد ملك الإبداع حواسه جميعاً، ومن ثمّ جاءت حياته الخاصة في المرتبة التالية”. بالتالي، يبدو أنّ شغفه بالكتابة قد أحكم على حياتهِ في حلقة مُجْهِدَة من العذاب، وفيما كان غارقاً في عالم الكتابة بصورة محمومة، وجد نفسه وسط مجموعة من العلاقات الطفيليّة التي استحكمت عليهِ، بصورةٍ بدا أنّه كان يكتب من أجل الناشرين والأقرباء. امتلك دستويفسكي روحاً بريئة طفوليّة، وافتقد إلى الحسّ العمليّ. وكانت الحاجة الدائمة إلى المال حافزاً على الكتابة، حتّى أنّه لم يتمكّن طوال حياته من كتابة عمل واحد على مهل، بحسب آنا، وهذا ما تأسف من أجله مقارنة مع معاصريه من الكتّاب. فإلى جانب جشع الأقارب، كان دستويفسكي مولعاً بالمقامرة. يكسب المال من عملهِ كاتباً، ويخسره في الروليت. ثمّ عندما يخسر ما لديه يُراسل الناشرين لأجل دفعة ماليّة، ويلتزم بتاريخ تسليم رواية جديدة له. يُرسل فصولاً، ويَنكبّ على العمل. كانت الخسارة في الروليت بحسب رأي زوجته تجدّد قواه في الكتابة. أمّا السعادة الوحيدة العظيمة التي زارت دستويفسكي فكانت ميلاد ابنتهِ، حيثُ كتب لصديقه “أن يحظى أحدهم بطفل هو ثلاثة أرباع السعادة فيما باقي الأشياء تحتل الربع المتبقي”، كما أنّ التصفيق المدوي المصاحب لقراءتهِ الأدبيّة في آخر سنوات حياته كان أحد أسباب سعادته. قد يكون مفاجئاً لقارئ مجلّدات دستويفسكي الضخمة أنّ الروائي كان يجد السعادة في موضعٍ آخر غير الكتابة. لكن هل كان يكتب من أجل المال؟ 

صحيحٌ أنّه كان يعيش تحت ضغط الحاجة الدائمة، واستمر ملتزماً أخلاقياً بسداد ديون أخيهِ حتّى عامٍ من وفاتهِ. كما اضطر في فترات من حياتهِ إلى رهن ثيابه الشتوية، خلال الشتاء، من أجل المال. وإنّما كان يكتب كي يُعبّر عمّا شغله؛ قريباً من البسطاء ومن حركة الطلاب السياسيّة، مُطّلعاً بصورة يوميّة على الصحف الروسيّة، ولديه اهتمام بالديانات القديمة والتاريخ.

كان دستويفسكي مشغولاً بأعمالهِ، يحبّ النظام في كلّ شيء، صارم إزاء نفسهِ. ونادراً ما أثنى على عملٍ من أعمالهِ. يُقدّر القرّاء، وهم من كانوا يمدّونه بالتعاطف والدعم، فيما النّقاد كانوا يعاملونه بعدوانيّة. حساسٌ تجاه الفنون، إلى درجة تسبّبت له لوحة “المسيح الميت” للفنّان الألماني هَانْس هولبايْن (1497-1543) تأثيراً يقارب تأثير نوبة الصرع عليهِ. يثق بإخلاص الناس وأمانتهم، وعند وفاتهِ خرج الآلاف في جنازته… أمّا عن الحياة القاسية التي عاشها دستويفسكي، فقد كانت إلهاءً عن الكتابة في جانبٍ، ودفعاً إلى أعماقها في جانبٍ آخر، عبر الإلهام والتجربة. الأمر الذي جعله يعرف الإنسان، يلمس شتى مخاوفه، ويكتب عن أفكار سامية كالعدالة. هذا هو دستويفسكي إذن؛ روحٌ معذبة، مُلاحَقة، تكتب وتكتب، من غير أن تجد الرّاحة. الكتابة غلّفت حياتهُ، وأسرتها في طوقٍ أبدي.

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post ماذا عن دوستويفسكي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«منزل عائم فوق النهر»: غياب الحبّ حضور الجريمة https://rommanmag.com/archives/20732 Mon, 20 Dec 2021 10:31:33 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%86%d8%b2%d9%84-%d8%b9%d8%a7%d8%a6%d9%85-%d9%81%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%b1-%d8%ba%d9%8a%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a8%d9%91-%d8%ad%d8%b6%d9%88%d8%b1-%d8%a7/ يُشكّل عالم النّساء كامل رواية الكاتبة اللبنانية زينب مرعي (1986) “منزل عائم فوق النهر” الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان، وتقتصر الشخصيات الذكوريّة وجوداً وسلوكاً في كونهم أصداء لنساء حياتهم. في الوقت نفسهِ، لا يشيرُ خيار الكاتبة هذا إلى مجتمع تحرّر من سلطة الذكور. إنّما يطرح الغياب الكلّي للرجال في الرواية تساؤلات حيال حضورهم في […]

The post «منزل عائم فوق النهر»: غياب الحبّ حضور الجريمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يُشكّل عالم النّساء كامل رواية الكاتبة اللبنانية زينب مرعي (1986) “منزل عائم فوق النهر” الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان، وتقتصر الشخصيات الذكوريّة وجوداً وسلوكاً في كونهم أصداء لنساء حياتهم. في الوقت نفسهِ، لا يشيرُ خيار الكاتبة هذا إلى مجتمع تحرّر من سلطة الذكور. إنّما يطرح الغياب الكلّي للرجال في الرواية تساؤلات حيال حضورهم في الحياة. 

تقصّ الرواية حكاية أربع نساء، وتتناوب الراوية في سرد حكاياتهن. لكنّ العنوان يشيرُ إلى عقدة هذه الرواية، فالمنزل العائم فوق النهر دلالة على جريمة قتل إحداهنّ ورمي الجثة في النهر. المنزل أخذ مكان الجثة في العنوان، فهو منزل عائلة باعدت الجريمة بين سكّانهِ. إنّها عائلة تدمّر ذاتها، وتتوارى وراء عقدة تدمير الذات هذهِ، علامات الإنسان الذي يعيشُ أزمة. أمّا عن الأزمة التي تخصّ حكاية المنزل العائم فوق النهر، فهي غياب الحُبّ. يتولّد من غياب الحُبّ-وهذا غياب شاق على البشر-سلوك الشخصيات جميعها، إذ لا تترك الكاتبة اللبنانية شخصياتها لا مبالية أو خالية بغياب الحبّ. بل تملأ الكراهية والرغبة بالانتقام نفوسهن. إنّهن بحسب الراوية نساءٌ ملعونات، تحركهنّ روح التدمير، إن كانت بانة قد دمّرت نفسها بمحاولة الانتحار التي انتهت بأن قتلها أمها فاطمة وأختها ليلى. فإنّ ليلى الراوية دمّرت الأم التي دمرتها منذ البدء الجدّة بديعة. إذاً، في الرواية أربع شخصيات نسائية تتوزّعن مناصفة إلى فريقين؛ أحدهما يدمّر الآخر. 

عند تساؤل القارئ عن سبب غياب الحبّ المدمّر هذا، يجد أنّ قصة عاطفية موءودة في حياة الجدّة هي من صنعت سلالة النّساء الملعونات. فالجدّة بديعة تزوّجت من رضوان، رجلٌ يسخر منهُ الناس ويدعونه “ممما صار شي” بسبب تأتأتهِ، وقد زوّجوها رضوان عقوبة على حبّها لرجل أرمني. لكنّها استمرت بمغامراتها العاطفية، واستمر الأرمني يحضر إلى منزل زوجها. حداً كانت ابنتها فاطمة تواجه سؤالاً مريراً عن إن كانت ابنة الأرمني أم ابنة رضوان. كان لفاطمة أبوين، والحبّ العنيف أودى بحياة كليهما، قُتِلَ الأرمني على مقربة من منزل الجدّة، وقُتِل رضوان ثأراً. أمّا بالنسبة إلى بديعة التي اعتادت حياة الترف، فقد جعلت من طفليها فاطمة ونزيه يتسوّلان حاجاتهما من النّاس. ينتحر نزيه في الثالثة عشرة، وهذا خيار مفهوم بالنسبة إلى الكاتبة بالتخلّي عنه. فهي تصنع رواية من أبطال نسائية فقط. 

عند زواج فاطمة التي لها عينان تشعّان بالكراهية، فكّرت بالنجاة من العيش في لبنان والسفر خارجه. إلا أنّ زوجها خذلها وأعدل عن مشروع السفر، ولذلك دمّرته بإعادته إلى الإدمان ما تسبّب في خسارته عمله، ومن ثمّ طردته من المنزل. لتربّي كلّاً من ليلى وبانة وفق مبدأ واحد؛ وهو كراهية الرجال. يزرع هذا المبدأ الشقاق بين الأختين، بانة التي تطيع أمّها طاعة عمياء قبل أن تعرف الحُبّ، وليلى التي تحاول أن تبقى طبيعية في علاقتها بالآخر. تتطوّر علاقة بانة في الخفاء مع زميلها في الجامعة، الشاب الذي يستغل طباع بانة الطيّعة أيما استغلال. ثمّ عندما تعرف فاطمة بذلك، من خلال مراقبة تغيرات العاطفة لدى ابنتها، ومراقبة سلوكها داخل المنزل، تتدخّل الأم. وتنتحر البنت قبل أن تتمكّن الأم من مساعدتها. لكنّ المساعدة هنا افتراض لدى القارئ. فالكاتبة لا تترك ما يشير إلى شعور فاطمة تجاه محاولة ابنتها الانتحار. وفي النهاية ترميها بمساعدة ليلى إلى النهر، وتبقى الجثة منسيّة في أعماق النهر، وفي أعماق الذاكرة طوال أحد عشر عاماً، ثمّ تعود للظهور. وكانت فاطمة قد استقرّت في مصح الأمراض العقلية، فيما ليلى تعيش في طهران، وقد تزوجت من دون أن تخبر أمّها، وظفرت أخيراً بالحُبّ لبنيامين. 

تبدأ الرواية بإدراك ليلى أنّ لديها ما تدافع عنهُ، وهو شعورها بالحُبّ، وتعود إلى بيروت كي تصنع معركتها الأخيرة مع فاطمة التي أرادت تدمير ابنتها بأن ألمحت إلى الجريمة التي اقترفاها بحقّ بانة، تعود ليلى، تلتقي بالأم، ومن ثمّ تحضّر مخططاً وهو أن تُشعر فاطمة للحظة أخيرة بالذلّ. وتشرك مغنياً لبنانياً معتكفاً، ليفتضح ذل فاطمة أمام الكاميرات، وتنهار للمرة الأخيرة. إذاً، إنّ الرواية برمّتها تتساءل حيال الحُبّ، ويتّضح للقارئ أنّ الحبّ-حتى في غيابهِ-هو ما صنع مصير العائلة. ومن خلال حكاية النّساء الأربع صنعت الكاتبة اللبنانية نداءها للعاطفة، من غير أن تدين سلوك شخصياتها. 

يمكن للإنسان الخالي من الحُبّ أن يكون خطيراً، فهو يشعر بأنّه منبوذ، ويشعر بأنّه ذليل. لا تجد ليلى عندما تصارح زوجها عمّن تهجس باسمه خلال النوم، مناصاً من إخباره بأنّه وهم تتكئ عليهِ، فشيرو مجرد عصا سيكولوجية ساعدها افتراض وجوده على العيش مع أم تمقتها في منزلٍ خالٍ من الحُبّ. باستخدام هذه الشخصية الخيالية ندرك أنّ الحبّ يمكن أن يكون خياراً. فليلى، لم تكره، بل اخترعت شخصاً يرافقها طوال الوقت، كي تشعر بالحبّ. ثمّ عندما جاء رجل حياتها بينيامين، بدأ شيرو بالانسحاب من مخيلة ليلى. وبدأت تعاني من أعراض انسحابية للحبيب المفترض ما إن وُجِدَ شخص حقيقي يحبّها. عبر العصا السيكولوجية هذه توصل الرواية أبلغ مقولاتها؛ بإمكان الإنسان أن ينتظر الحبّ، على نحوٍ ما، عوض أن تفتك بهِ الكراهية. 

The post «منزل عائم فوق النهر»: غياب الحبّ حضور الجريمة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الطفولة وأسئلتها في «كتاب الصيف» https://rommanmag.com/archives/20590 Thu, 05 Aug 2021 11:17:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%81%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%88%d8%a3%d8%b3%d8%a6%d9%84%d8%aa%d9%87%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%81/ تعرض الروائية والرسامة الفنلنديّة توفه يانسون (1914-2001) في روايتها “كتاب الصيف” الصادرة حديثاً عن دار ممدوح عدوان، بترجمة سمير طاهر عن اللغة السويدية؛ حكايات صوفيا مع جدّتها. إحداهن تعرفُ الدنيا والثانية تكتشفها، إحداهن تهمُّ بالخروج من العالم، وأخرى تهمّ بالتعرّف عليه.  في روايةٍ من غير حبكة، وعبر مشاهد من حياة صوفيا وجدّتها على جزيرة صغيرة […]

The post الطفولة وأسئلتها في «كتاب الصيف» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تعرض الروائية والرسامة الفنلنديّة توفه يانسون (1914-2001) في روايتها “كتاب الصيف” الصادرة حديثاً عن دار ممدوح عدوان، بترجمة سمير طاهر عن اللغة السويدية؛ حكايات صوفيا مع جدّتها. إحداهن تعرفُ الدنيا والثانية تكتشفها، إحداهن تهمُّ بالخروج من العالم، وأخرى تهمّ بالتعرّف عليه. 

في روايةٍ من غير حبكة، وعبر مشاهد من حياة صوفيا وجدّتها على جزيرة صغيرة في خليج فنلندا، تملي توفه يانسون على قارئها أفكاراً شتى حيال الحبّ والموت والصداقة، ومن غير أن تكون واعظة توضّح للأطفال أسئلة تشغلهم عن الله والأخلاق، عن الأشرار وعن الخير والإيمان. إذ يلتئم في الكتاب خطُ النهاية الذي يشهدهُ البشر، بعدما خبروا كلّ شيء، مع نقطة الانطلاق الحماسية الممتلئة بروحِ المغامرة. على الرغم من وجود شخصية الأب، غير أنّ الكاتبة تستخدمه كي تحتالَ المغامرتان، الجدّة والحفيدة، على وجودهِ. فالأب موجود، غير أنّه يمثلُ السلطة التي تفرضها الطبيعة على الضعفاء ممّن يحتاجون إلى الوصاية. الأب موجود لكنه وصيُّ وحارس، فيما المغامرتان إحداهنّ قد أَنِفت تلك الوصاية، وهي الجدة، وأخرى تتوقُ لأن تجرّب وتنقص مساحات الجهل في داخلها. إذاً؛ وجودُ الأب هو وجودُ رمزي يساعد في تحليل العلاقات بين البشر. كما تحيلُ يانسون الكثير من مفردات الطبيعة إلى عالمٍ رمزي تفكّكهُ الجدة للطفلة وتشرح لها دلالاتِ الطبيعة في حياة البشر. مثل تلك الدودة التي تنقسم إلى قسمين، ويعيد كلّ نصفٍ بناءَ ذاتهِ، كلّ جزء يعاود ترميم ذاتهِ من أجل الاستمرار. الرواية بمجملها لوحة فاتنة عن الطبيعة، حيثُ البشر جزءٌ من نظام أعقد، غير أنّ قوانينه أكثرَ رحابة من قوانينهم. نعرف أنّ صوفيا يتيمةُ الأم، ولذلك هي تعيشُ مع الجدة التي تجعل من حياة الحفيدة معها، رحلةً هادئةً ودافئةً إلى الأعماق، حيثُ يتفكك الحزن وتختبر الطفلة شيئاً فشيئاً العالم الساحر الذي تعيشُ فيهِ على الجزيرة، بين الأمواج وتحت ضوء القمر، وفي أحد الألعاب تقوم الجدّة بدور الأمّ، وتناديها صوفيا أمي. بينما تبنيان مدينة البندقية وسط مستنقع في الجزيرة الفنلنديّة.

تقصُّ الجدة على الحفيدة حكاياتٍ عنِ الطائر الذي مات بسبب حبٍّ تَعِس، وتخبرها مع ذلك، أنّ على المرء أن يستمر بالحُبّ، مع إدراكها أنّ البشر يحبّون أقل أولئك الذين يحبّونهم أكثر. تكشفُ الجدّة للحفيدة من غير تزييف أو مبالغة طبائع البشر، تحكي لها عن الجنّة وعن الملائكة، وتخبرها عن قيم التسامح الذي يعني أن تحترم الآراء كلّها، كما تخبرها بوجوب أن يتاح للإنسان ارتكاب الأخطاء بنفسهِ. تمتلك المغامرتان وقتاً طويلاً للتأمّل وللتساؤل حيال العالم الذي تعيشان فيهِ. الأمر الذي يعزّزه بناء القصة التي تقتصر على كليهما، حتى الشخصيات الثانوية من جيرانٍ وأطفالٍ ومنحوتات خشبية، إلى جانب مكونات الطبيعة في الجزيرة من صخورٍ وأعشابٍ وأمواج، من قطط وطيور وحشرات، كلّها تدخلُ في حوارهما، وتكون مجرّد موضوعات لحكمةِ الجدّة التي تعتبر مثالاً للجدّات اللواتي تعطين الأطفال دروساً في الحياة باستخدام اللعب والحكايات. كلّ هذا العالم الحكائي المجرّد، يُبنى في مكانٍ معزولٍ عن العالم، وفصول الرواية احتدامٌ لعقلين؛ واحدٌ فضولي وشغوف والآخر بارد وغير تلقائي. تعاني الجدّة من أمراض الشيخوخة المعتادة، فيما الطفلة ممتلئة بالنّشاط، الأمر الذي جعل من مغامراتهما سواء الجسديّة، باجتياز السياج وفي الغابة، أو العقلية في نقاشاتهما العديدة حيال الوجود، جعل من رحلتهما احتداماً بين كائنين بدا أنّهما من طبيعتين مختلفتين، ما جعل الرواية تنطوي على دعابةٍ وخفّة، فالمغامرتان اللتان تجيئان من عالمين متباعدين تلتقيان بصورة هادئة في جزيرة هادئة، لقاؤهما جزءٌ من الطبيعة ورسائلها. 

ضمن الفصول التي تروي يوميات الجدّة والحفيدة يجيء زوارٌ كثيرون، أكثرهم حضوراً هي العاصفة. لكن ضمن فصول المغامرات بقي الأب مع الجزيرة يخرجان بين مشهدٍ وآخر، الجزيرة هادئة غنية بالكائنات، تصورها الرسامة الفنلنديّة مثلما ترسم لوحة في طبيعةٍ بكر، والأب صيّاد يستيقظ في السادسة، ويعدّ الشاي. إنّها حياة مثالية تحدث بموازاة الحياة الواقعية. في عالم الجزيرة المعزول، نستشّفُ الحياة المضطربة من أحاديث الجدّة ومن حكمتها. فيما الطفلة صوفيا التي تساعد الجدّة في مهمات تشقُّ عليها، وعلى الرغم من كونها، مثل أي طفلٍ آخر، شخصية استحواذيّة يبدو العالم برمّتهِ ملكها وتريد أن تملأ الغابة والمنزل والبحر بالصخب والحياة، إلا أنّها تمتثل بالنهاية هروباً من سلطة الأب، إلى سلطةً أخرى هي سلطة المعرفة التي تمثلها الجدّة. لا تقع رواية “كتاب الصيف” على زمنٍ لأنّها عن حكاية تحدث في كلّ زمن، كما لا توجد فيها أحداث ولا تنمو شخصيات أو تتطوّر، لأنّ الرواية تصويرٌ لمثالٍ عامٍ وراسخٍ يدور بين المفارقات ويسوّي ما بينها. 

نقرأ من الكتاب:

“وسألتها كيف يستطيع الله أن يتابع الذين يدعونه كلّهم في وقتٍ واحد.

-“إنّه حكيمٌ جدّاً، جدّاً”. غمغمت الجدّة ناعسةً من تحت قبّعتها. 

-“أجيبيني بحقّ”. قالت صوفيا: “كيف يستطيع أنْ يفعل ذلك؟”.

-لديه سكرتير…

– لكنْ كيف يستطيع أن يلبّي للدُّعاة ما يريدون حين لا يكون لديه وقتٌ للحديث مع السّكرتير قبل أن تسوء الأمور؟ 

تظاهرت الجدّة بالنّوم، لكنّها كانت تعلم دائماً أنّ تظاهرها لنْ يخدع أحداً، وفي النهاية قالت “إنّه يرتّب هذا الأمر بحيث لا يحدث أيّ شيءٍ خطر بين لحظة الدّعاء ولحظة معرفته بما قاله الشّخص في دعائه”. وعندها سألتها حفيدتها: “وكيف يتمّ هذا في حالة شخصٍ يدعو ربّه في أثناء سقوطه عن الجبل، وهو يطيرُ في الهواء؟”.

– “هاها!”. قالت الجدّة، وقد بدأت تصحو: “في هذه الحالة سيجعله يَعْلَق بغصنٍ ما”. “

The post الطفولة وأسئلتها في «كتاب الصيف» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»… حكايات السطح https://rommanmag.com/archives/20479 Mon, 03 May 2021 13:23:44 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ba%d8%a7%d8%b3%d9%84-%d8%b5%d8%ad%d9%88%d9%86-%d9%8a%d9%82%d8%b1%d8%a3-%d8%b4%d9%88%d8%a8%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%88%d8%b1-%d8%ad%d9%83%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b7/ يرصد الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي في روايته “غاسل صحون يقرأ شوبنهاور” الصادرة عن دار الآداب (2019)، الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي والانقسام الداخلي، ويقاطع ذلك الواقع مع عوالم غرائبية، في حكاية تطفو على السطح، وهو سطح يحتشد بالمقولات جميعها. يودّ الكاتب الفلسطيني أن ينقل للقارئ كلّ شيء، كلّ ما يحدث في الأراضي المحتلة، إلى جانب […]

The post «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»… حكايات السطح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يرصد الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي في روايته “غاسل صحون يقرأ شوبنهاور” الصادرة عن دار الآداب (2019)، الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي والانقسام الداخلي، ويقاطع ذلك الواقع مع عوالم غرائبية، في حكاية تطفو على السطح، وهو سطح يحتشد بالمقولات جميعها.

يودّ الكاتب الفلسطيني أن ينقل للقارئ كلّ شيء، كلّ ما يحدث في الأراضي المحتلة، إلى جانب الاتجاهات الفكريّة والانتماءات السياسيّة الموجودة في المجتمع الفلسطيني كافةً. الأمر الذي أثقل على الحكاية التي أراد أن يرويها عن نوح ومصيرهِ. وربما يكون الشتات الذي أصاب الحكاية وحاول الكاتب أن يلملمهُ بصورة مستمرة، هو الشكل الفنّي الذي أراد من خلاله أن يقدّم مقولتهُ الخاصة عن “الحلم الفلسطيني”. ولو أنّه استند في بنائهِ على عوالم هاروكي موراكامي، وبول أوستر وغيرهما. كما لو أنّ الواقع بذاتهِ، لا يجيب عن الأسئلة التي تزخر فيها الرواية؛ لذلك استعان الكاتب بعوالم أضفت على النص بريقاً ما، إلا أنّها أضعفت بناءهُ السردي. الواقع مهما بدا غرائبياً فإنّه يفسّرُ نفسهُ عبر أدواتهِ، إذ إنّ الحكاية نفسها التي أضاعها الكاتب في حفلٍ غير متسق من الأساليب كانت تقول للقارئ: في فلسطين تحت الاحتلال، لا توجد دولة مستقلة. في فلسطين، في ظل الانقسام، تنمو العصبيات، ويعود الأفراد إلى انتماءاتٍ أضيق. الخوف يتحكم بالأفراد، بعدما تخلّصوا من الأوهام النضاليّة الكبرى، ودخلوا نضالاتٍ ضيقة، تعنيهم بصورة فردية.

في الرواية صوتٌ رافض، يسخط على الواقع، وعبر نبرة السخط تلك فإنّه يسخط على من قاد إليه. والهزيمة الكبرى التي يمثلها ضياع الوطن وانكشاف الأوهام الكبرى في تحقيق الدولة المستقلة تحت الاحتلال، قد أفضت في النتيجة إلى هزائم في حياة الفلسطينيّين؛ وهي هزائم متنوّعة وعديدة بتنوع التجارب التي يخوضها أفراد هذا الشعب، بدءاً من الأشغال اليوميّة إلى مسائل الحبّ وبناء العلاقات بين الأصدقاء ومع العائلة. 

يستخدم الكاتب الحبّ للتعبير عن المجتمع، ويستخدم حال المرأة ليعبّر عن الفساد العام. وهذان استخدامان مثاليان للحديث عن الفصام الذي تشكو منهُ المجتمعات الذكوريّة، يعزز ذلك الصورتين النقيضتين اللتين بنى الكاتب حكايته بينهما؛ عاشق طهرانيّ من جهة، يلتزم بأن يحافظ على فتاته عذراء طوال فترة هروبهما، ومجتمع عصبي يريدُ أن يغسل عاره بالدماء. لكن الكاتب عبر حبكة ترتبط بالقيم والأعراف والشهامة يصل إلى حلّ توافقي، إذ تعفو عائلة الفتاة عنهما في اليوم التاسع والثلاثين من هروبهما، وقد بقي لنجاتهما بصورة كاملة يومٌ واحد. سوف يعوّض العاشق اليوم مقابل عملٍ في الأرياف لمدة عامٍ كامل. هذا الحل التوافقي وإن كان ينجي الشخصيات من سوداوية القتل والظلم إلا أنّه يردُّ الإجابة عن سؤال الحرية الفردية إلى المنظومة ذاتها التي كان نوح يرفضها. يبدو بذلك أنّ مصائر الأفراد هي مصائر معلّقة دائماً في أتون ما تراه الجماعة وما تقرره. ومحاولة الفكاك التي أدّاها نوح، انتهت بهِ إلى صورة ناجٍ جديد يدينُ بنجاتهِ إلى قيمٍ يرفضها. إنّ نوح عبر رفضهِ الجزء وقبولهِ بالجزء الآخر، يُفشِل مشروعه في أن يطرح الأسئلة دائماً. فحياتهُ برمتها، هي محضُ إجابة عن سحق الأفراد والتحكم بمآلات حياتهم. 

يجعل الكاتب من رحلة بطلهِ في البحث الدائم عن عمل، ومن ثمّ في رفضهِ الاستمرار في الأعمال بسبب التعامل غير الإنساني مرةً، وبسبب فساد صاحب العمل مرة أخرى، ومن رحلةِ هروبهِ مع عشيقتهِ من مدينة إلى أخرى؛ يجعل من هذين الحدثين فرصة كي يصوّر فلسطين تصويراً بانوراميّاً، عن المجتمع والمدن. تتساقط الغربان من سماء فلسطين، والكاتب أراد من ذلك المشهد أن يقول لنا إنّ ثمة أشياء غريبة تحدث في بلداننا. لكن خلال الحكاية برمتها لم يحدث إلا ما هو مألوف في مجتمعاتنا. حتى بالنسبة إلى أفراد مهزومين فإنّ المجال الذي أتاحهُ لهم السرد، كما الواقع، هو الأحلام، وقد حمّل الكاتب المنامات دلالات شتى، في مقاومة الاحتلال وفي ممارسة الحبّ. يصحو نوح من مناماتهِ، خائفاً يتساءل حيال الدماء، ليعرف عبر سماعه للأخبار أنّها دماء جنود إسرائيليين. تتداخل العوالم التي يعيشها نوح، واقعهُ مهزوم ومناماتهُ ظافرة، ولم يكن قادراً على الفصل بينها. بذلك كان يهرب إلى مناماتهِ بصورة مستمرة، تهزه وفاة والدتهِ، يهزه جمال حبيبتهِ. لكن خوفاً مديداً يحركهُ دائماً، ينقلهُ من مكان إلى آخر، من مهنة إلى مهنة، ومن علاقة إلى أخرى، إنّه رجلٌ عابر، رجلٌ مرآة، يكشف طريقة الآخرين في التعاطي معهُ، فهو رجلٌ ظل يسيرُ في ركاب الآخرين. 

ضمن واقع الاحتلال والانقسام، تطفو الجريمة على السطح، وتصيرُ عرفاً جديداً من أعراف المجتمع-القبيلة. إذ إنّ الرواية التي تتحدث عن دولة فلسطينية أنتجتها أوسلو، تروي حكاية أفراد ضائعين ضمن تياراتٍ وقوى متضخّمة وواهمة، ليكون الاحتلال بما أحدثهُ من واقع هو صانع الحكاية، التي تدور بين رحاها مصائر أفراد غاضبين، يوجّهون غضبهم في كلّ اتجاه، ليرتد ذلك الغضب العارم إلى ذواتهم انتكاساتٍ وآمال محطمة.

The post «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»… حكايات السطح appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«الضفة الثالثة لنهر الأردن»… اللغة وطناً https://rommanmag.com/archives/20426 Tue, 23 Mar 2021 17:46:51 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a9-%d9%84%d9%86%d9%87%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d9%88%d8%b7%d9%86/ تحملنا رواية «الضفة الثالثة لنهر الأردن» للشاعر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي (1954-2002) على التساؤل حيال طبيعة الضفة التي قصدها؛ إذ تستطيع العبقرية ابتكار مفاهيم خاصّة بها؛ بوسع الشاعر أن يَصطلحَ مكان إقامة حبيبتهِ بــالجهة خامسة. والنهر الذي نعرف له ضفتان، بوسِعهِ أن يصطلحَ له ضفة ثالثة. تُجمِع كثيرٌ من القراءات على اعتبار الضفة الثالثة التي […]

The post «الضفة الثالثة لنهر الأردن»… اللغة وطناً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

تحملنا رواية «الضفة الثالثة لنهر الأردن» للشاعر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي (1954-2002) على التساؤل حيال طبيعة الضفة التي قصدها؛ إذ تستطيع العبقرية ابتكار مفاهيم خاصّة بها؛ بوسع الشاعر أن يَصطلحَ مكان إقامة حبيبتهِ بــالجهة خامسة. والنهر الذي نعرف له ضفتان، بوسِعهِ أن يصطلحَ له ضفة ثالثة.

تُجمِع كثيرٌ من القراءات على اعتبار الضفة الثالثة التي يعنيها البرغوثي، هي الغربة. وهذا رأي لهُ جدارتهُ، لا سيما أنّ الكتاب جزءٌ من سيرته عن فترة دراسته في هنغاريا؛ حيثُ يذكر أماكن عاش فيها، وأشخاص خاض معهم تجارب عديدة. حتى أنّ الرواية برمتها، رسالة إلى حبيبتهِ “دانا”، وهي فتاة مضت إلى مصيرها، فيما انتهت سيرة البرغوثي في السجن، بما لذلك من رمزية.

لدى الشّاعر الفلسطيني كلّ ما يصنع فرادة المنفى، وأكثر ما يصنع تلك الفرادة هي وطنه؛ الفردوس المفقود، الذي تسبّب فقدانهُ بشتاتٍ مترامٍ. فلسطين بلدٌ محتل، يصارع أبناؤه من أجل حق العيش والتنقّل، وتشير رواية السيرة الصادرة في الطبعة الأولى سنة 1984 (صدرت بطبعة جديدة عن الدار الأهلية في عمّان، ٢٠١٧) إلى ما يخصُّ الأفراد، لا في شؤون نجاتهم، فهذهِ متعذرة تعذّر الوطن. وإنّما في التشرّد، في الابتعاد الذي لا يلبثُ أن يصير قيوداً صلبةً غير مرئية، تربطهم بالأرض الأولى، وبالنسبة إلى الفلسطيني، إلى الأرض الضائعة المحتلة. بذلك في الوقت الذي تصيرُ فيهِ كلّ أرضٍ احتمال انتماء، يُعلَّق الفلسطيني إلى انتماءٍ ينازعهُ الفراغ. إنّه معلّق إلى مكان، أكثر ما يكون حرّاً بالتعاطي معهُ، في الذاكرة. وهو بذلك شخص لا يريدُ، ولا يستطيع أن ينسى.

يرى مدنهُ، كأنّها مدنٌ لا يعرفها. إذ إنّه حبيسُ واقعين؛ أحدهما يطلقهُ إلى العالم، والآخر يقيدهُ بسلاسلِ الحنين إلى أرضٍ لم تعد موجودة، وفقَ تصوّرهِ لها، سوى في ذاكرتهِ. ماذا بوسعِ شاعرٍ، وهو يفكّرُ في غربتهِ، حيال مكان يستطيعُ فيهِ أن يكون حرّاً وأن يعيش كما لأيّ إنسان آخر أن يعيش وأن يحبّ ويتأمّل وينجح في دراستهِ وأعمالهِ. ماذا بوسعِه، وهو يبحث عن مكان يستطيع عبرهُ أن يقول إنّه ضائعٌ يبحثُ عن فردوسٍ مفقود. ماذا بوسعهِ أن يفعل سوى أن يتيح لعبقرية الشعر في كتابٍ سردي، بأن تقدّم لهُ وطناً لا يُنتَزع، ولا يجاريهُ أحدٌ فيهِ، إنّ الضفة الثالثة التي وصل إليها الشاعر؛ هي اللغة.

وفرادةُ الكتاب، لا التجربة التي يحكي عنها، ولا المقولات التي تُعنَى بأن تجعل الحياة أكثر بساطة بالنسبة إلى من لا يملك من أمرهِ شيئاً، لكنّ الفرادة التي يقع عليها كتاب البرغوثي هي سيلهُ المتدّفق العذب، الذي يضمّ فنوناً كثيرة إلى ضفافهِ البليغة، فالرواية أشبه بشريط سينمائي لمشهدٍ واحدٍ طويل، يدورُ الشريط ويدور، يمتدُ العرض ويشمل صور الغربة العميقة عن المكان وعن الذات. لكن أيشكلُ فرقاً بالفعل، أن تكون الضفة الثالثة هي اللغة لا الغربة؟

الغربة قد تصير وطناً بديلاً، لكنّ اللغة تحفر عميقاً في الوطن الأم؛ تبحثُ عنه، تناديهِ، تنشد عودته، وتعيدُ ابتكارهُ، مثل من يستعيدُ حقاً. بذلك فالبرغوثي يستجير باللغة، وقد استنزف ممكناتها، حتى لا يفقد صورةَ بلده، إنّه يكتبُ عن بلدٍ، يفترضهُ، كي لا يصير منسيّاً، كما في هذا المقطع: “وصلتُ حيفا، مدينة لم أرها في حياتي. شوارعها الخالية أذكرها جيداً والأوراق المرمية في الساحات أذكرها جيداً ولكن لا أعرف المدينة ولا الشارع ولا البيوت. أزقة مضيئة بمصابيح صفراء من القلق في ساحات تتفرّغ منها الأزقة مثل متاهات صمّمها مهندس خاص لمشردين من نوع خاص”

ليسَ مثل اللغة وطناً للهاربين، للذين يشتكون غياب المستقبل وفرار الماضي، وهم عرضة للطرد والاعتقال والتفتيش. وما يلبثُ العالم الذي يعيشون فيهِ أن يتحوّل إلى مجرد ذكرى لقصص مبتورة، لإقامات غير آمنة، وتشرّد غير منتهٍ بين البلدان، كما لا يلبثُ العالم الداخلي يعبرُ بهم متاهات الوحدة والخوف والحنين والحبّ القصيّ. مسوّغات كثيرة للشخصيات التي رافقت حياة البرغوثي، تجعلُ اللغة هي الضفة الثالثة التي كان يرومها دائماً. لا لتمكّنهِ وحساسيته اللغوية، وإنّما لأنّه يتحدّث عن أناسٍ لم يتح لهم أن يعثروا على أنفسهم في غمرة البحثِ عن أوطان رحيمة. تبتكرُ لغة البرغوثي مفاهيمها، ويحمل السرد فكرهُ الخاص، ومهما بدا الواقع ملحاً إلا أنّ الشاعر أبقى على تحفظاتهِ، وفكر في حلولٍ حملها إلى متتالية، تكادُ تنشقّ عنها اللغة، تولّدها، بقدر ما يولّدها الواقع، هنا يتحدّث عن الثورة في متتالية تنجبها لغة متداعية سببية: “الشرط الأول للتقدم هو أن نتقزّز من أنفسنا حتى نهرب منها! مسألة بسيطة! العالم الثالث يعبد أوروبا وأوروبا تعبد أمريكا وأمريكا لا تعبد شيئاً ما عدا حرباً عالمية ثالثة. فلنحوّل عقد النقص إلى تقزّز والتقزّز إلى ثورة والثورة إلى احترام الذات”.

في سعيه الحثيث الذي ينتهي بهِ غريباً بين ناسٍ غرباء في شوارع يألفها، بدا البرغوثي وكأنّه يختبر مجدداً اغترابهُ. يقول “لكلّ شعب فردوسه المفقود الخاص به، ولكلّ واحد منا فردوسه المفقود الخاص بهِ، ولكلّ فردوسٍ أساطيره الخاصة” وما إن نعرف أنّ الرواية رسالة إلى حبيبةٍ غائبة، ندرك أنّ الفردوس المفقود؛ هو الحبّ. والأسطورة التي لجأ إليها للتعبير؛ هي اللغة. الوطن ليس غائباً البتّة، غير أنّه ينوس بين هاتين القيمتين، يَشغلُ هذين الفضاءين مهدوراً ومستحيلاً.

The post «الضفة الثالثة لنهر الأردن»… اللغة وطناً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سكارميتا… فرادة الراوي في «لم يحدث أيّ شيء» https://rommanmag.com/archives/20163 Sun, 26 Jul 2020 10:20:03 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%83%d8%a7%d8%b1%d9%85%d9%8a%d8%aa%d8%a7-%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a7%d9%88%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%ad%d8%af%d8%ab-%d8%a3%d9%8a%d9%91/ تصدر قريباً عن "دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع"

The post سكارميتا… فرادة الراوي في «لم يحدث أيّ شيء» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

يقص الكاتب التشيليّ أنطونيو سكارميتا (1940) في روايتهِ «لم يحدث أيّ شيء» والتي تصدر قريباً عن دار ممدوح عدوان بترجمة عبد السلام باشا حكايةً عن اللجوء. سوى أنّ القصة تخفّف من آلامِ اللجوء، عبر سردٍ يَجمعُ الخِفّة إلى العُمق، والحنينَ إلى الآمالِ المُشرِقة. 

إثر انقلاب بينوشيه الذي أطاح بالرئيس سلفادور أليندي (1973) تُغادر عائلةٌ تشيليّة إلى ألمانيا. تقص الرواية حكاية تلك العائلة بعد عبارات قليلة تصفُ قصفَ القصر الرئاسي، وفقدان الناس وظائفهم. ينتقل الحدثُ برمتهِ، إلى بلاد اللجوء، ثمّ بحضور “اللجوء” تَحضرُ مفردات الاغتراب عن الأمكنة والناس القُدامى. في البيئة الجديدة التي يُشكِّل التآلف معها صُلْبَ الحكاية؛ تنطوي اللغة والتجارب الجديدة على حسٍّ أصيلٍ بالمنفى.

الحسّ الذي يَعرضهُ الراوي، وهو طالبٌ في الثانوية، على نحو بالغ الحساسيّة. تبدو الرواية هدماً للفارق بين تفكيرين؛ الأول يحمل الماضي، وهو تفكير الآباء، والآخر يُضمِرُ المستقبَل، وهو تفكير الأبناء. يوظّف سكارميتا راويه، الذي ينتمي إلى العالمين، ليؤدي وظيفةً سرديّةً تضبط نزعات الأفراد في سياقٍ جماعي. ويشيعَ في الحكاية جَوّاً من الوئام، فتكون لحظات الاضطراب حِكراً على محاولات الاندماج، لا بين أبناء “الجالية” الواحدة. يظهرُ اللجوء بذلك، اختباراً لأبناء اللغة الأم في وجه لغة طارئة. يبقى اللاجئُ رهينَ شعورِ أنّه مُضطَر إلى تفسيرِ نفسهِ أمام الآخرين، بدءاً من شكل بلادهِ على الخارطة، وبالنسبة لتشيلي فهي تظهر مثل “شريطٍ من السباغيتي”. يراها رفاقُ الفتى التشيليّ الجدد مجردُ خيطٍ رفيع. لكنها بالنسبة إليهِ، بَلادهُ، التي يمتنع عن سرد آلامهِا. فالفتى التشيليّ لا يُحِبّ أن يُسبَّبَ الحزن للناس، ولربما هو لا يودُّ أن تَظهرَ بِلادهُ حَزينةً في عيونهم. يظهرُ الفتى التشيليّ ساخراً فريداً، استخدمهُ الكاتب كي يَرفَعَ عن الحكاية مأساويتها، إنّه حسّاسٌ وعاطفي، يُفاجئ ذاتهُ ويفاجئُ قارئه. إذ يبدو أنّه يكتشف ذاتهُ أثناء نمو القصة، ولقد صنع بذلك فرادة النص، إذ لا فرادةَ في حكايات اللجوء… و”لم يحدث أيّ شيء” هو لقبُ الفتى التشيليّ، إذ اعتاد تكرار الجملة كلّما سقط أمامه مهاجم الفريق الآخر في لعبة كرة القدم. هكذا حتى صارَ لقباً ينطوي على نقيضهِ. فالفتى ببنائهِ، كنايةٌ عن روح تشيلي الساخرة. 

يواجه الفتى التشيليّ ما يواجه أقرانهُ. لكن ينمو في داخلهِ شعورُ أنّه غريب؛ يُعجَبُ بفتيات ألمانيات ويشعرُ أنّه غير جديرٍ بهن، الأمر الذي يقودهُ إلى دخولِ عراكِ مع شبّان من جرّاء إحساسهِ بالنَقْص. يشتبك التشيليّ مع شاب ألماني ويضربهُ ضربةً محكمة بين فخذيه بعد معاكسة الألماني لفتاتهِ. عند هذه الحادثة تبدأ الحكاية بالنضوج، يجد التشيليّ نفسهُ بعيداً عن بلادهِ، والفتاة التي اعتقد أنّه أحبّها لا تريد أن تلتقي بهِ مرة ثانية إثر المشكلة التي أحدثها. كما أنّه ملاحق من مايكل شقيق الشاب الألماني كي يصفّي حساباً بينهما، بعدما أودى بشقيقِ مايكل إلى المستشفى. يتهدّد الفتى التشيليّ خوف من أن يَتَسبّب بترحيل عائلتهِ، وكان أول أفراد العائلة في تَعلّم اللغة الألمانية، وقد اعتمدوا عليهِ في شؤون التواصل والرّد على المكالمات الهاتفية.

في علاقة الفتى التشيليّ ووالدهِ، الذي عمل على تربية أولادهِ “بحبّ وحماس”، يتحلى سرد سكارميتا بطابعٍ عذب شقي، حميمٍ وقاسٍ. بدا أنّ تشيلي لا تُفارِقُ الأب، ومثله مثل أي تشيليّ آخر، ينتظر سقوط بينوشيه حتى يَستَّقل الطائرة الأولى عائداً إلى بلادهِ. ترصدُ الرواية هذه المجتمعات الناشئة في المنفى، والتي تنطوي على آلامها، وفي الوقت ذاتهِ، تكتنف سحر الحنين وآفته. 

ما إن يرى الفتى التشيليّ (لم يحدث أيّ شيء) مايكل فوق الدراجة النارية، ينتظره كي يُقلّه إلى الخرابة التي سوف يتواجهون فيها، بعد تأجيل المواجهة عدة مرات، فالفتى التشيليّ لا يكره مايكل وليس غاضباً منهُ. ما إن يرى الدراجة النارية والشاب الضخم فوقها، حتى يخطرُ لهُ خاطرٌ يشي بهواجسهِ، لاجئاً، -خصوصاً مع تعزيز سكارميتا لفكرة أنّ التشيليّ إنسان جبان خارج وطنه، يخطر للفتى ما سَمِعَهُ عن الهنود أنّهم عندما رأوا الغزاة الإسبان على متون الخيول اعتقدوا الحيوان والإنسان وحشٌ واحد. بهذه الإشارة المؤلمة، يَنكشفُ عارُ اللجوء. لا سيما أنّ الكاتب ينجح أيما نجاح في بناء شخصية الفتى التشيليّ، على نحو شفيفٍ ساحرٍ مُحَطّم، فوعيهُ يمثّل وعيَ جماعتهِ، وضحكاتهُ هي هزؤهم. والمشاهد التي تصف هيئتهُ وهو خلف مايكل على الدراجة النارية يتمّسك بكتفهِ، إلى حين الوصول إلى الخرابة التي سوف يتشاجرون فيها. هيئتهُ، وهو يجلس خائفاً إلى جواره، بعدما اعتقد أنّه قد تمّكن من قتل مايكل، ليترّقب نجاتهُ وسط العاصفة. هيئتهُ، وهو خلف مايكل على الدراجة مجدداً وهما ذاهبان، بعد أنْ تعادلا، كي يحتفيا بنجاتهما ويأكلا البيتزا.

كلّها تفاصيلُ رَسَمَ عبرها سكارميتا شخصيةً فريدة، لا يمكن للقارئ إلا أن يقع في حبّها، إذ تمثل شعبها أبلغَ تمثيل. يجمعُ الفتى التشيليّ من حولهُ الأصدقاء ويصنع الحلفاء، ليعرض لنا نموذجاً فاتناً عن الرفقة والخلاص عبر الرأفةِ والنضال لأجل العدالة. 

 

The post سكارميتا… فرادة الراوي في «لم يحدث أيّ شيء» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
فواز حداد… أبدية اللاشيء https://rommanmag.com/archives/20117 Thu, 18 Jun 2020 08:52:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%88%d8%a7%d8%b2-%d8%ad%d8%af%d8%a7%d8%af-%d8%a3%d8%a8%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a7%d8%b4%d9%8a%d8%a1/ لا يخرج الروائي السوري فواز حداد 1947 في روايتهِ الأخيرة «تفسير اللاشيء» الصادرة عن دار رياض الريّس عن شاغلهِ السردي في السنوات الأخيرة، وهو تحليل بنى النظام الشمولي. إنّه يعيدُ تشريحه عملاً بعد آخر، ومن جوانب عديدة. في روايته الأخيرة يختار حداد جانب الغد، كما تراه النخبة المخذولة، بوصفهِ غداً ميتاً، ويتعاطى مع التاريخ بوصفهِ […]

The post فواز حداد… أبدية اللاشيء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لا يخرج الروائي السوري فواز حداد 1947 في روايتهِ الأخيرة «تفسير اللاشيء» الصادرة عن دار رياض الريّس عن شاغلهِ السردي في السنوات الأخيرة، وهو تحليل بنى النظام الشمولي. إنّه يعيدُ تشريحه عملاً بعد آخر، ومن جوانب عديدة. في روايته الأخيرة يختار حداد جانب الغد، كما تراه النخبة المخذولة، بوصفهِ غداً ميتاً، ويتعاطى مع التاريخ بوصفهِ تاريخاً منتهياً. ليضعنا الروائي السوري أمام حقيقةٍ عدميّة مؤلمة وناصعة، تفسرُ هزيمتنا جميعاً على نحو مأتمي يبدو أبدياً. 

يعمد حداد إلى مدخل سياسي مفتوح ونهاية سياسية مغلقة، إلا أنّ المتن ذاتهُ هو متن اجتماعي. ينوس بين بداية تُسائل الواقع سياسياً ونهاية ترمي إلى أجوبة حاسمة، جاءت بعد ترتيب الحكاية والشخصيات على نحو اهتم بهِ حداد كي يمثل مختلف الاتجاهات الفكرية في المجتمع السوري. إلا أنّه جمع الشخصيات الذكورية العديدة حول امرأة واحدة، تمثل قياساً بالتوجهات الفكرية للشخصيات وبالسعي إلى إقناع المرأة، ما تمثله الأوطان بالنسبة للرجال…

في رواية حداد تنضجُ الحكاية الاجتماعية في صلب الواقع السياسي النافق، يقودنا الكاتب بالتالي، إلى بناء مشوّه للعلاقات. فالناس في ظل البيئة السياسية في النظام الشمولي أشباهٌ يقودون أشباهاً، ظلالٌ تحكمُ ظلالاً، الأمر الذي يعلله غياب الحريات وسطوة المؤسسة الأمنية. يتخذ حداد من الرواية سبيلاً إلى تفكيك الواقع، وطريقةً في قراءتهِ. يمكن إلى حد بعيد، ونحن إزاء نصٍ يتعاطى مع سورية على أنّها مختبر لموضوع الأنظمة الشمولية، أن نرى الأدب وصفةً تكيدُ بالمُنْتَصر، تكيدُ بفرادتهِ المُدّعاة. فيما تشهرُ مصائر الناس وتعزوها إلى سرديات أعمّ.

يثير نص حداد لدى قارئهِ التعاطف مع بطل الحكاية صاروف، إذ مثلت حياتهُ نوعاً من شهادة المهزومين، الذين خُذلت بلادهم، وجراء الخذلان العام الذي عرفهُ السوريون، نما في داخلهم استسلامٌ مرير لملاك الموت الرحيم. يُقادُ صاروف من خلال إحساسٍ مميت، عرفتهُ نخبة (الداخل) المحاصَرة والتي فقدت صلاتها مع العالم الحر، وفقدت صلاتها أيضاً مع محيطها الاجتماعي في ظلّ المقولات الشمولية السائدة. فهي نخبة ترى موت الناس وتنظرُ إلى قيودهم القاتلة في الآن نفسهِ. أصوات الموتى لا تتوقف عن النداء في ذوات الأحياء، ويكون الحل بحسب صاروف، أن تستعجل الضحايا موتها. أن ينادوا على الموت، لأنّ في موتهم نهاية لعذاباتهم. أما بالنسبة للكاتب، فإنّ في موتهم إحياء للراوي. والذي يمثله فواز حداد أشدّ وأبلغ التمثيل، وهو يرمي على عاتق الرواية، ما يثري هذا الفن ويثقله معاً. فالرواية لدى حداد، هي صوت الضحايا، صوتهم الدامي المعزول، نداءاتهم وعذاباتهم وتطلّعهم إلى العدالة والحرية. لا نجده مكترثاً البتّة، بالالتفات إلى عوالم جديدة قد يكون قادراً على أن يأخذنا إليها. وإنّما يبدو أنّ حداد قد أقام في الواقع، ومن الواقع ينهض كي ينادي على الغد، ومن ثمّ، بشيء من الشعور بالهزيمة والخذلان والأنفة، ينكر حداد الغد، ويركن إلى أصوات المقتولين في الأقبية والساحات بصورة تبدو نهائية. 

يلجأ حداد في بناء حكاية «تفسير اللاشيء» إلى شكلٍ عرفناه في روايات سابقة له. إذ يأتي الكاتب بشخصيات من مشارب ثقافية عدة ويضعها مقابل مصائرها، والتي تشكل، بالتالي، رؤيةً لمآلات سياقاتها. في هذه الرواية يضع حداد الأستاذ الجامعي في مهبّ الآخرين؛ الأمن والجامعة والأصدقاء والزوجة. تطيح بصاروف سلوكياتهم معهُ. بداية من حرمانهِ التوظيف، ثمّ تعيينه في جامعة خاصة جديدة، بعد هجرة الخبرات التعليمية، ومن ثمّ زواجه من سهير، اكتشافها عقمه والتفكير بالانفصال عنه. هذه مقدمة ممتدة وطويلة قبل أن يبدأ الحدث الفعلي في الرواية وهو هجران سهير لصاروف، ليبدأ ملاحقتها ووضع سيناريوهات لأسباب طلبها الطلاق، ما يكشف عجزه عن مواجهة أزمة شخصية ويفسر هوسهُ بقضايا الشأن العام. تحتال عليهِ الزوجة، تشترك مع أصدقائهِ في مسرحياتٍ عديدة يعيشها الرجل بكامل الدراميّة، ليصلا إلى الطلاق. وبعد ذلك سوف يركن صاروف إلى وحدتهِ، إلى نظرياتهِ عن أمراض العصر التي تتطور في النهاية إلى نظريته المسماة “اللاشيئية” ومفادها إحالة الوجود إلى العدم. إلا أنّ صاروف في أوانِ وحدتهِ يعيشُ افتراضاته حيال الزوجة. أو ما تحياه بالفعل، إذ يستخدمها الراوي كي تسبر أفكار الفنان التشكيلي الذي يتعاطى مع الفنون تعاطي المرتزق وأفكار المُنّظر السياسي الذي يتعالى على قضايا شعبهِ وعلى همومهم. والعاشق، الشاب الذي تجمعه منذ البداية صداقة مع سهير وزوجها صاروف. إلا أنّه يبقى حبيس شعور عاطفي مكتوم حيال الزوجة. حتى بعد طلاقها من صديقهِ يبقى حريصاً على أن يخفي مشاعره تجاهها، فتضيء الحكاية ببريق الحبّ اللاهب المحروم. 

عبر قصة الحب المكتوم، تشرق الرواية إشراقاتٍ أشبه بالانقطاعات التائهة. إذ لا سبيل للحياة في ظلّ النظام الشمولي، هذا ما بقي حداد حريصاً على إيصالهِ، كلّ شيء مبتور وناقص، كلّ شيءٍ يُحال إلى اللاشيء، حيثُ يقبع صاروف، قبل أن يُسلّم مصيره إلى الموت المجاني، وليترك موتهُ العبثي الأصداء في حياة كلّ من الزوجة السابقة والعاشق الصامت. 

The post فواز حداد… أبدية اللاشيء appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ألبرتو مانغويل… الهوية عبر الكلمات  https://rommanmag.com/archives/20012 Sun, 22 Mar 2020 14:11:03 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%84%d8%a8%d8%b1%d8%aa%d9%88-%d9%85%d8%a7%d9%86%d8%ba%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%b9%d8%a8%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%aa/ يحدثنا ألبرتو مانغويل عن مدينة متخيلة، ويسعى إلى وصول حدودها، قبل أن نكتشف معه، أن لا حدود لها، فالأسئلة لديه تنتج أسئلة. ينقل لنا تصوراته عن تلك المدينة، لنكتشف أن لا قيود ولا أمداء لموضوع كتابهِ «مدينة الكلمات» الصادر بترجمة يزن الحاج عن دار الساقي. إذ يبحثُ الكتاب في مسائل اللغة والهوية، وفي غمرة تحليله […]

The post ألبرتو مانغويل… الهوية عبر الكلمات  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

يحدثنا ألبرتو مانغويل عن مدينة متخيلة، ويسعى إلى وصول حدودها، قبل أن نكتشف معه، أن لا حدود لها، فالأسئلة لديه تنتج أسئلة. ينقل لنا تصوراته عن تلك المدينة، لنكتشف أن لا قيود ولا أمداء لموضوع كتابهِ «مدينة الكلمات» الصادر بترجمة يزن الحاج عن دار الساقي. إذ يبحثُ الكتاب في مسائل اللغة والهوية، وفي غمرة تحليله للنصوص، يبرزُ هوية رحبة، تبدو صالحة لكلّ الأزمان، يضعها في وجه العصبيات، ويضع البشر أمامَ حقيقةٍ بسيطة، بعد جهده التركيبي الممتدّ على عشرات السير والآراء، وهي حقيقةُ أنّنا محكومون بالعيش معاً. 

ينطوي بحث مانغويل على الإيحاء للبشر بأنّ لهم مصيراً واحداً، ويربط هذا المصير بحتمية أخرى، وهي التآلف بين القوميات والثقافات المختلفة. إنّه يرتب ما هو جوهري في التجربة الإنسانية، ويصل عبر ترتيبه الخاص والموسوعي إلى خلاصة مفادها؛ صلاح الكلمات لأن تكون وطناً للجميع، متغيراً وآمناً في آن. وطنٌ في حالة تشكل دائمة، وفي أطوار تشكله تنبتُ الهويات وتنمو وتزدهر وتنفتح على الآخر. يستند بحثه إلى عددٍ من السرديات منها ألواح جلجامش وبرج بابل ودون كيخوته. إلى جانب العديد من القرائن التي راح المعماري يجمعها في بناء حجته ضد ما يفرّق البشر. يفصل مانغويل بين عمليتي القراءة والكتابة، ويسند لكلّ من القارئ والكاتب دوراً يكون معه، كلّ منهما، أشبه بالساعي صَوبَ الآخر. تبرز العمليتان اللتان يفصل بينهما مانغويل، على نحو تبدو القراءة كتابةً تخصُّ القارئ والكتابة قراءة ينجزها الكاتب؛ عمليتان ثانويتان. بحضور اللغة التي لا تعادل الواقع وحسب، وإنّما تخلقه. تتفوق عليهِ، تسبقه، لا تجاريه، وإنّما تتصدّر ثمّ تنادي عليهِ. إلا أنّ التفاعل الأبرز ضمن التفاعلات العديدة في الدراسة تحدث ما بين اللغة والهوية، إذ يفاضل مانغويل ما بين لغة السياسة التي تعمل على “تجميد الهويات” وبين لغة الشعر التي تمنحنا هويات “ذاتية الإلهام”. الأمر الذي يعيدنا إلى ما يبدو سبباً لكتابه، إذ رصد مانغويل مفارقة شهدها القرن العشرين، يذكرها في مقدمة الكتاب، وهي توحيد البلدان بتشكيل تجمعات سياسية، وتقسيمها داخلياً في الوقت ذاته عبر إنتاج هويات ضيقة. وبسبب جهله بعلوم السياسة والاقتصاد، يشرعُ مانغويل، انطلاقاً من معرفته بالنصوص والكلمات مجموعة من التساؤلات حيال الهوية عبر الكلمات، ودور القصص في إداركنا لأنفسنا وإدراكنا للآخر. 

يظهر سعي مانغويل لبرهان أنّ إدراك أنفسنا يتم عبر إدراك الآخر، محصلةً لجملة من أساليب الآخرين في التعاطي مع اللغة. منهم الروائي الألماني ألفرد دوبلن، والذي اعتبر اللغة “صيغة من حبّ الآخرين”. حتى أنّ دوبلن اعتبر اللغة “أداة تصوغ الواقع”، ومضى في اعتقاده بقدرة اللغة على إعادة صياغة الواقع، وبالتالي تغييره، حداً اعتقد معه أنّ غياب العدالة عن الواقع هو إشارة لعالم آخر يعيش فيه العدل، وهو عالم القصص… يقصر مانغويل المبدعين على وظائف يذكرها بوضوح، كما لو أنّه يلزم المبدع بضرورة ألا يركن إلى النظام، إلى جانب تحريض القراء على إعادة تعريف معتقداتهم. تتضح الوظيفة التي ينيط بها مانغويل المبدع، ضمناً، في ما تقدمه القراءة للقراء، إذ على ذلك “العمل الذي يخص الذاكرة” أن يُشعر القارئ بأنّ التجارب التي يطالعها هي تجاربه. ينتظر القارئ من الكلمات لا أن تبني الواقع فقط، وإنّما أن تدافع عن الواقع في مواضع أخرى. من غير أن يلزم الأدب تقديم الإجابات الحاسمة، بهذا تأخذ فكرة مانغويل عن الكتابة مساراً تنويرياً، إذ ينبغي على الكتابة أن تحمل بذور التغيير، لكنه تغيير شفيف وثابت لا انقلابي وطارئ. إنّه تغيير ينظر عبره القارئ إلى الآخر من زاوية تضيء داخله، من غير أن تعتم أناه! في السياق ذاته يذكرُ أنّ القصص “تساعد الأعرج على المشي والأعمى على الإبصار.” وأنّها “تقدم العزاء بشأن المعاناة”. يستخلص الدروس عبر تقاطعات يجريها عقلهِ الشامل، يبدو مهتماً بأن يلقنّا عبراً، ونجاحه في هذا الكتاب، في واحدة من صورهِ، هو نجاح الحكّاء الذي يعظ من غير أن يكون مملاً. يخبرنا في واحدة من خلاصات ألواح جلجامش أنّ الآخر “جزء من الهوية”، وينفي الفردانية عن حياة الإنسان، فجميعنا يتغذى، بدرجات متفاوتة بصورة الآخر. أيضاً يتحدث عن الصلة بين مدينة من الجدران ومدينة من الكلمات، فكلّ منهما، وبحسب قراءة مانغويل، تستلزم وجود الأخرى، الأمر الذي يدركه الملك/ السلطة، إذ تُصان عظمة المدن عبر رواية قصصها. 

ضمن المصائر المتشابكة التي صورها مانغويل للكتّاب والقراء، لربما نسمح لأنفسنا أن نصنع من كلماتهِ هو، ذاتها، العبارات الآتية: تمنح اللغة صوتها لحكائين يخبرونا عن ماهيتنا، وتكتسب اللغة القادرة على أن تصوغ إيماننا، فعاليتها، من دفعنا نحو أمرٍ لم يتحقق بعد. بهذا لا يتوقف المبدع عن البناء في المجهول القادم، لا يتوقف عن تشييد ذلك الوطن المتخيل الشاسع، والذي يتساءل سكانه الخارجين من النزاعات والإثنيات، إن كانوا عابرين فيه، حالهم، في الأوطان التي ما لبثت تلفظ مواطنيها. 

The post ألبرتو مانغويل… الهوية عبر الكلمات  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«عبيل»… الحكاية الهادئة https://rommanmag.com/archives/19988 Tue, 03 Mar 2020 12:10:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%a7%d8%af%d8%a6%d8%a9/ يعرض الكاتب السوري نذير الزعبي في روايته «عبيل» (دار الثقافة) مسألة اجتماعية مرتبطة بالتنمّر، وقلما نجد رواية سورية قد تحررت من صراعات هذا البلد السياسية، فالكاتب يقرأ الواقع بظاهرهِ مع ما يشي بما هو أعمق، من غير أن يكون العمق تكلفاً أو استحواذاً.  يقرأ الزعبي ظاهر الحياة اليومية السورية، إنّه يقرأ مشهداً بصرياً للحارة الفقيرة […]

The post «عبيل»… الحكاية الهادئة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يعرض الكاتب السوري نذير الزعبي في روايته «عبيل» (دار الثقافة) مسألة اجتماعية مرتبطة بالتنمّر، وقلما نجد رواية سورية قد تحررت من صراعات هذا البلد السياسية، فالكاتب يقرأ الواقع بظاهرهِ مع ما يشي بما هو أعمق، من غير أن يكون العمق تكلفاً أو استحواذاً. 

يقرأ الزعبي ظاهر الحياة اليومية السورية، إنّه يقرأ مشهداً بصرياً للحارة الفقيرة المنتشرة في المدن السورية كافة، وهي في «عبيل» مدينة حلب. لا يكترث الكاتب ببناء ماضٍ للشخصيات، ولا يكترث ببناء عالم منفرد لكلّ من شخوص الرواية. إنّه يهتم بعبيل اهتماماً خاصاً، الأمر الذي نبرره ما إن نعرف حكاية العملاق، ونفهم الطريقة التي يساعد فيها عبيل الكاتبَ في روايته. إذ ينهض عبيل/ العملاق، على نحو بات ضحية لتنمّر مرير من الآخرين، وسط مشهد متماثل، ويدل وفق سلوك الشخصيات معهُ على سماتهم النفسية، بهذا يكون أداةً في إدانة أحدهم أو الاحتفاء بآخر، ما يكّون لدى القارئ صورة تامة عن شركاء عبيل.

لقد استخدم الكاتب الرمز أو الظاهرة على نحو بارع؛ فعبيل الذي يرى نفسهُ مرةً، على أنّه مخلوق ضعيف يرتدي “جثة وحش”، ومرةً يرى نفسه وحشاً يرتدي “ملابس إنسان”، ينجح في الحالتين في أن يجعلنا نشيح بأنظارنا عنهُ، لا شفقةً، وإنّما سعياً لفهم ما دفعه إلى التفكير بذاته على نحو بائس، لينهض عبيل وحدهُ بثقل الحكاية، من غير أن يكون بطلها. فالحدث يصنعهُ الآخرون، عبر سلوكيات طفيفة قد لا يعتقد من يقترفها أنّه يترك أثراً، لكن آثار الآخرين راحت تُنمّي المسخ في داخل إنسان ضخم، لإصابته بداء العملقة النخامية.

لا يفوت الزعبي، تعزيزاً لموضوعهِ، الإشارة إلى ضروب تنمّر مختلفة، إما على الهيئة أو المهنة أو على المستوى المادي والثقافي. في حكاية هادئة تمر مروراً سلساً على حيوات أشخاص هادئين، في شرورهم، كما في دماثتهم. وحده عبيل، الذي لم ينجُ، من غير أن يصير بطلاً. يبدأ أثرهُ كبيراً ثمّ يصغر، ويصغر إلى أن يختفي في النهاية. ترافق ذلك الأثر الذي يغيب بسلام، شخصية أخرى، تبدأ على هامش الأعمال والحياة، وهي شخصية الكاتب، التي تنمو بالتدريج. كما لو أنّها تنمو على حساب شخصية عبيل قبل أن تأخذ مكانه. إذ ما إن يصدف الكاتب عبيل، حتى ينشغل بهِ ويلاحقهُ، وفي طور نموهِ، يترك الصحافة، ويفكر بكتابة رواية. لتنضج، أي، يتحقق وجود الكاتب، مع اختفاء عبيل، عبر هذين الاتجاهين السرديين اكتسبت الرواية بريقها. 

باستخدام تقنية الهدم والبناء يتضح سر الحبكة ومكمن جاذبيتها، خصوصاً أنّ لعبيل، المفترض أنّه ترك المدرسة منذ مراحل مبكرة، لغة الكاتب ذاتها. لا، إنّ رسائلهُ إلى شذا عمران، أشد حفاوة لغوية من لغة الكاتب. ينتهي النص، ولا يتضح الالتباس، على الرغم من إشارة الراوي إلى تفرغ جلال، وهو الاسم الحقيقي لعبيل، للقراءة ما إن ترك عمله دهاناً وعمل لدى الرسام، والذي مثّل مع والدة جلال وعامل النظافة جانب الرأفة في حياة جلال. فيما على جانبها المظلم، احتشد كلّ من الكاتب الصحفي، والذي فكر، منذ البداية، باستغلال جلال في تحقيق صحفي، وزملاء جلال في المدرسة قبل أن يتركها، ومعلمه الدهان، ووالده الذي هجر والدته إلى ليبيا، وطاقم الفيلم الذي استغل ضخامته لصناعة فيلم عن العمالقة، حيث اكتسب اسم عبيل، وأحبّ واحدة من أبطال الفيلم رآها على الشاشة، وكتب لها إلى الأردن، ليكشف الزعبي عن واحدة من طاقات الكتابة، ذلك الفعل المتفجر اللاهب، والذي بدا، خارج الحديث عن الحبّ، لغة رتيبة تنشد حياة رتيبة مؤسسة على ظلم القوي  للضعيف، وتحكّم السيد بالعبد. إلا أنّ الكاتب قد أولى بطلهُ، حفاوة تشبه الحنان عبر العلاقات التي راح يشيدها مع الأشياء في محيطهِ، مع الذباب واللوحة ومع الآمال. وقد استعار هذا الأسلوب من روايتهِ السابقة «يورو» (الدار العربية للعلوم، 2016) لكن الاستخدام هنا، هو استخدام وظيفي. يُقتّر حضور الأشياء بما يُحدّد ويُلزم، ضمناً استخدام الاستعارة. فجلال الدين، هو بالنسبة لوالدته وللرسام، جلال، وبالنسبة لصنّاع الفيلم هو عبيل، لكنهُ بالنسبة للدهان “سيبة” يجعل الزعبي تلك السيبة، تتحدث بمنطقها. تتصلّب وتشتد كي تؤدي عملها ما إن يحضر الإنسان المتنمّر. فيما تنسحب وتنطوي، لتظهر بهيئة بشرية، ما إن يحضر الإنسان الرؤوف. بهذا التكيّف، والخفة، استخدم الزعبي رمزهُ، اللابطل، أيما استخدام. فالتقنية السردية، هي ما ينطق، المواقف التي يُرمى إليها عبيل، هي التي تتراكب وتتحرك وتتشكّل في تصور القارئ. 

ينجح الكاتب في تصوير الحياة على أنّها “سيرك ماجن”، وينجح عبيل في الخروج من قوقعته ليواجه العالم. لا بأثاث خاص يوضع لهُ أينما حل، إذ يشبّه كرسيه في المدرسة بالعرش! وإنّما عبر الهروب والانسحاب من العيش مع أناس قبيحين، حيث يؤسس، باختفائه الأخير، عرشه الخاص. إن كان مقام عبيل بين الناس هو عرشٌ للقبح، فإنّ اختفاءه، يضعه لدى القارئ في عرشٍ للتطهّر، أشادهُ الكاتب وألقاه على الخطّائين. 

The post «عبيل»… الحكاية الهادئة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>