يذكر تولستوي عن دستويفسكي (1821-1861) أنّه “كتلة من الصراع”. وتشيرُ كلمات تولستوي المقتضبة هذهِ إلى عالم دستويفسكي الروائي أيضاً، الذي تتنازع شخصياتهُ إرادتا الخير والشر. ولربما يمثّل بطل روايتهِ “الجريمة والعقاب” المثال النقي لذلك الصراع المحتدم في نفوسِ البشر. أدب دستويفسكي أدبٌ واقعيّ، وشخصياتٌ عرفها القارئ في رواياتهِ مثل المرابية، هي شخصيات عرفها الروائي في حياتهِ. فرواية دستويفسكي بصورةٍ ما، انزياحٌ فنيّ عن الواقع. حتّى أن زوجته عندما التقت بهِ للمرة الأولى في منزلهِ، خَالت أنّها قادمة إلى زيارة منزل راسكولينكوف بطل “الجريمة والعقاب”.
تنقلُ آنا غريغوريفنا دوستويفسكايا في “مذكرات زوجة دستويفسكي” جانباً قاسياً من حياتهِ، إذ عندما تعرّفت عليهِ كان محاطاً بشخصيات تكنّ لهُ العداء، الأمر الذي جعله يثق بها ويحدّثها باسترسالٍ عمّا كان يشغله، وقد وجدت آنا منذ البدء في دستويفسكي إنساناً ذكياً ودمثاً. مع ذلك فقد كان يشعر بالتعاسة، ذلك لأنّ الجميع هجره. كما أنّ الجميع سعى إلى استغلالهِ؛ الناشرون بأن يستغلوا عوزه المالي، والأقرباء بالاستدانة منه بصورة دائمة.
طلب دستويفسكي من آنا أن تعمل لديه، فقد كان ملزماً بكتابة رواية من سبع ملازم، وتسليمها في وقت محدّد. وإلا سيكون عُرضَة للسجن، وخسارة حقوقه في أعماله. كان دستويفسكي يسأل آنا بصورة دائمة عن عدد الصفحات التي كتباها. وفي النهاية سلّم روايته “المقامر” إلى الشرطة، كي يمنع تحايل الناشر بادّعاء عدم الاستلام في الوقت المحدّد. تساعد هذه الحكاية البسيطة التي دفعت الروائي إلى تسليم مخطوطه إلى الشرطة في الاستدلال على الوحدة التي كان يعيشها، والعداء الذي كان يسوّره. ومن وجوه التعاطف -التي قد تَشغل قارئ دستويفسكي-عندما سألته آنا عن طابع الحزن في قصصه؟ فأخبرها أنّه لم يذق طعم السعادة في يومٍ من الأيام… كان يمتلك تصوّراً قاتماً عن نفسهِ، حتّى عند تقديم عرض الزواج روى لها حكاية عن فنّان مُسِّن مُثقَل بالديون، مريض، مرضاً لا براء منه، وهو الصرع، ويريد أن يحظى بالسعادة.
تذكر آنا في كتاب المذكرات تفاصيل كثيرة من عالم دستويفسكي. ولا تعلّق كثيراً على طريقة عيشه، إلا أنّ تعليقاً مقتضباً يدلّ على سبب أزماتهِ الواقعية، تذكر آنا: “لقد ملك الإبداع حواسه جميعاً، ومن ثمّ جاءت حياته الخاصة في المرتبة التالية”. بالتالي، يبدو أنّ شغفه بالكتابة قد أحكم على حياتهِ في حلقة مُجْهِدَة من العذاب، وفيما كان غارقاً في عالم الكتابة بصورة محمومة، وجد نفسه وسط مجموعة من العلاقات الطفيليّة التي استحكمت عليهِ، بصورةٍ بدا أنّه كان يكتب من أجل الناشرين والأقرباء. امتلك دستويفسكي روحاً بريئة طفوليّة، وافتقد إلى الحسّ العمليّ. وكانت الحاجة الدائمة إلى المال حافزاً على الكتابة، حتّى أنّه لم يتمكّن طوال حياته من كتابة عمل واحد على مهل، بحسب آنا، وهذا ما تأسف من أجله مقارنة مع معاصريه من الكتّاب. فإلى جانب جشع الأقارب، كان دستويفسكي مولعاً بالمقامرة. يكسب المال من عملهِ كاتباً، ويخسره في الروليت. ثمّ عندما يخسر ما لديه يُراسل الناشرين لأجل دفعة ماليّة، ويلتزم بتاريخ تسليم رواية جديدة له. يُرسل فصولاً، ويَنكبّ على العمل. كانت الخسارة في الروليت بحسب رأي زوجته تجدّد قواه في الكتابة. أمّا السعادة الوحيدة العظيمة التي زارت دستويفسكي فكانت ميلاد ابنتهِ، حيثُ كتب لصديقه “أن يحظى أحدهم بطفل هو ثلاثة أرباع السعادة فيما باقي الأشياء تحتل الربع المتبقي”، كما أنّ التصفيق المدوي المصاحب لقراءتهِ الأدبيّة في آخر سنوات حياته كان أحد أسباب سعادته. قد يكون مفاجئاً لقارئ مجلّدات دستويفسكي الضخمة أنّ الروائي كان يجد السعادة في موضعٍ آخر غير الكتابة. لكن هل كان يكتب من أجل المال؟
صحيحٌ أنّه كان يعيش تحت ضغط الحاجة الدائمة، واستمر ملتزماً أخلاقياً بسداد ديون أخيهِ حتّى عامٍ من وفاتهِ. كما اضطر في فترات من حياتهِ إلى رهن ثيابه الشتوية، خلال الشتاء، من أجل المال. وإنّما كان يكتب كي يُعبّر عمّا شغله؛ قريباً من البسطاء ومن حركة الطلاب السياسيّة، مُطّلعاً بصورة يوميّة على الصحف الروسيّة، ولديه اهتمام بالديانات القديمة والتاريخ.
كان دستويفسكي مشغولاً بأعمالهِ، يحبّ النظام في كلّ شيء، صارم إزاء نفسهِ. ونادراً ما أثنى على عملٍ من أعمالهِ. يُقدّر القرّاء، وهم من كانوا يمدّونه بالتعاطف والدعم، فيما النّقاد كانوا يعاملونه بعدوانيّة. حساسٌ تجاه الفنون، إلى درجة تسبّبت له لوحة “المسيح الميت” للفنّان الألماني هَانْس هولبايْن (1497-1543) تأثيراً يقارب تأثير نوبة الصرع عليهِ. يثق بإخلاص الناس وأمانتهم، وعند وفاتهِ خرج الآلاف في جنازته… أمّا عن الحياة القاسية التي عاشها دستويفسكي، فقد كانت إلهاءً عن الكتابة في جانبٍ، ودفعاً إلى أعماقها في جانبٍ آخر، عبر الإلهام والتجربة. الأمر الذي جعله يعرف الإنسان، يلمس شتى مخاوفه، ويكتب عن أفكار سامية كالعدالة. هذا هو دستويفسكي إذن؛ روحٌ معذبة، مُلاحَقة، تكتب وتكتب، من غير أن تجد الرّاحة. الكتابة غلّفت حياتهُ، وأسرتها في طوقٍ أبدي.