غسان كنفاني - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/97rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:40:32 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png غسان كنفاني - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/97rommanmag-com 32 32 ملحمة المعزاية والذئب .. آخر كتابات غسان كنفاني (فارس فارس) الساخرة https://rommanmag.com/archives/18824 Fri, 28 Jul 2017 07:07:31 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%84%d8%ad%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b2%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b0%d8%a6%d8%a8-%d8%a2%d8%ae%d8%b1-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86/ نشرت مجلة “الصّيّاد” اللبنانية في تاريخ 13 تموز 1972 هذه المقالة، التي كان من المفترض أن تنشر تحت اسم “فارس فارس” وهو أحد الأسماء التي وقع بها غسان مقالاته الصحفية ومنها النقدية الساخرة. وقد نُشرت هذه المقالات في الملحق الأسبوعيّ لصحيفة “الأنوار” اللبنانية، خلال سنة 1968، تحت عنوان عامّ هو “كلمة نقد”. وتابعت نشرها في […]

The post ملحمة المعزاية والذئب .. آخر كتابات غسان كنفاني (فارس فارس) الساخرة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نشرت مجلة “الصّيّاد” اللبنانية في تاريخ 13 تموز 1972 هذه المقالة، التي كان من المفترض أن تنشر تحت اسم “فارس فارس” وهو أحد الأسماء التي وقع بها غسان مقالاته الصحفية ومنها النقدية الساخرة. وقد نُشرت هذه المقالات في الملحق الأسبوعيّ لصحيفة “الأنوار” اللبنانية، خلال سنة 1968، تحت عنوان عامّ هو “كلمة نقد”. وتابعت نشرها في مجلّة “الصّيّاد” تحت العنوان العام نفسه، وتاريخها يبدأ من أوائل شباط 1972 وحتّى أوائل تمّوز، من العام نفسه، تاريخ اغتيال غسان. وفي العام 1996 قامت دار “الآداب” البيروتية بالتعاون مع “مؤسسة غسان كنفاني الثقافية”، بنشر هذه المقالات في كتاب حمل اسم «مقالات فارس فارس – كتابات ساخرة»، قام بإعداده وتحريره الناقد اللبناني الراحل محمد دكروب.
 

ملحمة المعزاية والذئب

لا بد أن تكون طينة العرب من طينة أخرى غير طينة الأجانب، وخصوصاً غير طينة الإسرائيليين، وقد كان دايفيد اليعازر مهّذباً جداً حين أعلن أسفه لسقوط ضحايا مدنيين أثناء غارات الطائرات الإسرائيلية على لبنان “لأن ذلك شيء لا يمكن تجنّبه”. والواقع أنّ هذا الكلام هو استكمال للشّعار المرفوع عالياً في إسرائيل: “إنّ العربي الجّيد هو العربي الميت”.

وأنا واحد ممّن لم يتيسر لهم هذا الأسبوع قراءة القصص وكتب الأدب، وكنت مشغولاً طول الوقت بقراءة الصحف وأخبار الاعتداءات الإسرائيلية، وخطابات دهاقنة اللّغات الدبلوماسيّة في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة. وقد تبيّن لي -كما هو الأمر بالنسبة لـ١٢٠ مليون عربي على الأقلّ- أن أروع عمل أدبي في التّاريخ، ينطبق على حالنا، هو تلك القصة القصيرة التي تعلمناها حين كنا أطفالاً عن المعزاية والذئب، وكيف لوّثت المسكينة مياه الجدول وعكّرته على الذّئب المهذّب، مع أنّها كانت تشرب من مكان أدنى من الموقع الستراتيجي الّذي تمركز فيه الذّئب، منذ احتلال علم ١٩٦٧ على الأقلّ!

قلت: قرأت الصّحف، وقرأت تعليقاتها إثر حادث مطار اللّد الأوّل، ثم حادث مطار اللّد الثّاني، ثم حوادث الاعتداءات الإسرائيلية. وطويت الجرائد وأنا أنفخ غيظاً، إذ أن هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة. وبعد ملايين السّنين من انحدارنا من العصور الحجرية ما زالت القاعدة الذّهبية إياها هي الصّحيحة: إن صاحب الحجر الأكبر، وحامل العصا الأتخن، والبلطجي الشرّاني، هو الّذي معه حقّ!

يقول رئيف شيف، أحد أساتذة المنطق العسكري الإسرائيلي، إن على إسرائيل أن تعترف بأن الفدائي علي طه، الذي خطف طائرة السّابينا، قد أظهر شجاعة لا يمكن تصوّرها بعمله هذا… تساءلتُ يومها إن كان رئيف شيف سيعترف بذلك لو انتهت عملية خطف السّابينا إلى نجاح، أم أن المسألة تشبه قصائد التفشيط العربية القديمة، حين ينظم الشّاعر تسعة وتسعين بيتاً من الشعر في وصف شجاعة الأسد وسطوته كي يقول في البيت المئة إنه قتله؟

وصبّرني الله شهراً، فإذا بها المنطق نفسه يصف الفدائيين الثّلاثة الذين اقتحموا مطار اللد بأنهم “جبناء”! يا سبحان الله! وانتظرت فترة من الوقت، فإذا هذا الفبركجي نفسه، يمتدح “شجاعة” الطيّارين الإسرائيليين، المتربّعين في السّكايهوك والفانتوم، والعارفين بأنه لا توجد نقيفة واحدة تزعجهم، يرمون قنابلهم من وزن 2500 رطل فوق بيوت اللّبن والطّين في دير العشاير!.

وأثناء ذلك كان محرّرو “الإكسبرس” الفرنسية يحللون هجمات المقاومة بقولهم “إن الطّائفة الأرثوذكسية في العالم العربي قد تأثّرت بالإسلام إلى حدّ صارت تسمح لنفسها بالقيام بعمليات همجية ضدّ الآمنين المدنيين والمتربّعين بهدوء وسلام فوق الأراضي المحتلة..!”.

وقلت لنفسي: يا سلام كيف ينحدر العقل الغربي حين يصبح مرشوّاً وجباناً، ألا يشبه هذا الكلام كلام هتلر وروزنبرغ وأمثالهما؟ على أن “الاكسبرس” نفسها لم تذكر حرفاً واحداً عندما زخ مطر الموت فوق قرويي الجنوب العزّل، وأطلقت على تلك العملية البربرية اسم “ردّ عسكري”!

لندن لا تزعج أفكار السّادة!

قلنا: لعل “التايم”، على انحيازها، لم تنحط إلى درجة جنون “الاكسبرس” و”النّوفيل أوبزرفاتور”، فإذا بنا نستفتح بالعبارة التّالية: “لماذا يجب أن يقتل يابانيون حجاجاً بورتوريكيين لأنّ العرب يكرهون اليهود؟” قلت: عجيب! ألم يكن بوسع الكاتب أن يقول: “لمجرّد أن العرب واليهود يكرهون بعضهم بعضاً؟” – إذا شاءت الموضوعية المزيفة؟

وصباح اليوم الذي تلاه، قلنا: لعل إذاعة لندن معقولة أكثر.. فإذا بها ألعنُ وألعن. أما نشرتها بالإنكليزية فلم تشأ أن تزعج أفكار السّادة سكّان لندن، فلم تذكر شيئاً، ولا حرفاً واحداً، عن المئات الذين ماتوا تحت قصف الطّائرات الإسرائيلية أثناء العدوان على جنوب لبنان..

لجأنا إلى الـ”النيويورك تايمز”، وإلى “الإيكونوميست”. إلى “الفيغارو” وإلى “اللّوموند”، إلى “ستامبا”، إلى “دي فيلت” -وكان الشعار المستتر واحداً، وهو الشعار الذي يجد رواجاً كبيراً هذه الأيام: “إن العربي الجيّد هو فقط العربي الميّت”! وأمس، قالت إذاعة لندن ببساطة: “ألقتْ طائرات الـ “ب – ٥٢” ألفي طن من القنابل حول مدينة هوي”. هكذا. بس!.

 قلت لنفسي: يا مساكين يا عرب! كلّ الّذي فعله فدائيو اللّد هو أن كل واحد منهم قوّص مئة طلقة، ورمى قنبلة يدوية واحدة أو اثنتين، لمدّة دقيقتين وذلك في قلب أرض محتلة، على موقع استراتيجي، ضدّ عدوّ ما زال يذيقنا الموت كلّ ثانية.. وهذا اسمه عنف وهمجية وبربرية وقتل وفتك ولاإنسانية ووحشية… أما ذلكُما الطُنّان الألفان -أي مليونا كيلو من الموت- في أقل من خمس ساعات، فوق عدد لا يحصى من القرى الفيتناميّة، القنابل ذات الشّظايا البلاستكية الّتي لا تقبل بأن تقتل إلا بعد أن تعذّب الجريح شهرين أو ثلاثة شهور… أما هذه الجريمة الجماعية، الّتي هدفها الاحتلال وليس التّحرير، فاسمها في قاموس الصّحف والإذاعات: غارة استراتيجيّة.

الطّائرات بدل الفدائيين!

يا مساكين يا عرب..!

لو كان لديكم بدل الفدائيين الثّلاثة، ثلاثة أسراب من قاذفات الـ”ب – ٢٥” الستراتيجيّة، وبدل الرّشاش الخفيف طاقة من النّار تبلغ ألفي طن من القنابل في الساعة الواحدة، لصار منطقكم عند “الاكسبرس” و”النيويورك تايمز” وإذاعة لندن وفالدهايم منطقاً معقولاً، يمكن الاستماع له! لكن، يا حسرة، ما العمل عندما يكون المنطق الصّحيح مصاباً بشلل الأطفال، والخطأُ الفادح مسلّحاً بألف كيلو من العضلات؟.

وبعد ذلك كله يأتي يوسف تكواع، مندوب تل أبيب في مجلس الأمن، فيلوم العالم لأنّه لا يكترث “بالدّماء اليهودية، وكأنها أقل قيمة”!! إن التاريخ حافل بالوقاحات، ولكن ليس إلى هذه الدّرجة! إن تكواع هذا هو مندوب دولة قال مسؤولوها مراراً وعلناً وعلى رؤوس الأشهاد إنهم يعتبرون كلّ إسرائيلي مساوياً لمئة عربي. وهم لم يقولوا ذلك فحسب، بل تصرّفوا وفقه، وآلاتهم الحاسبة لا تزال تشرب دماء قرويي الجنوب، كي توازن القتيل الواحد، أو ذلك الّذي أصيب بجروح طفيفة، أثناء قصف بازوكا على مستعمرات كريات شمونة!

 بعد هذه القراءات كلّها، وخصوصاُ بعد الاطلاع على “الرّدود” الفهلوية للحكومة، وبعدما ألقيتُ نظرة عامة على الوضع الثقافي عندنا، وجدت أن علينا إعادة الاعتبار لحكاية المعزاية والذّئب وجدول الماء، فالظّاهر أن أحداً لم يستوعب هذه الحكاية جيداً.. ومن هنا، وحتّى تتفجّر على جسمنا عضلات من مستوى الصّراع، فإن الأثر الأدبي المتمثّل بحكاية المعزاية والذّئب هو ملحمتنا الأدبيّة الفذّة..

والّذي نسمعه الآن من تصريحات المسؤولين العرب هو الثّغاء!

The post ملحمة المعزاية والذئب .. آخر كتابات غسان كنفاني (فارس فارس) الساخرة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الخيل والمقبرة والتلال https://rommanmag.com/archives/18808 Sun, 23 Jul 2017 18:25:16 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8a%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a8%d8%b1%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%84/ قال الطبيب لجدّي: تحتاج إلى رياضة كي تعيش، قال جدي: عجوز ورياضة؟ هذه هي الطريقة الوحيدة لتعيش، أركب الخيل مثلاً. لقد ركبت الخيل كل عمري، وكففت عن ذلك منذ شهرين فقط. عد إلى ركوب الخيل، إذا أردت أن تعيش. في صباح اليوم التالي ركب جدي حصاناً جمح به فقصفه غصن واطئ عنقه. * الجياد جرّت […]

The post الخيل والمقبرة والتلال appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قال الطبيب لجدّي: تحتاج إلى رياضة كي تعيش، قال جدي: عجوز ورياضة؟

هذه هي الطريقة الوحيدة لتعيش، أركب الخيل مثلاً.

لقد ركبت الخيل كل عمري، وكففت عن ذلك منذ شهرين فقط.

عد إلى ركوب الخيل، إذا أردت أن تعيش.

في صباح اليوم التالي ركب جدي حصاناً جمح به فقصفه غصن واطئ عنقه.

*

الجياد جرّت عربة الموت إلى المقبرة وسرنا خلفها. سائق العربة رجل قصير له زوجة وست بنات ورداء ليليكي لحصانه الأسود. في الأيام العادية يؤجر حصانه لحديقة الأطفال. في أيام الموت يسوق الحصان العربة إلى المقبرة بخطوات جنائزية متزنة تدرب عليها طويلاً. وكلاء حديقة الأطفال يحبون الحصان: لأن خطواته متزنة ورصينة لا تخيف الأطفال ولا تعرضهم للخطر.

*

صاحب الحصان تزوج أرملة جثة ساقها إلى المقبرة. جاءته في الصباح سوداء، وتحدثا عن الجنازة وعرف أنه سيتزوجها ذات يوم. في الموكب راقبها من فوق وكانت الجثة في الصندوق المحكم الإغلاق وراءه. حين أصلح العجلة الخشبية وضع الحداد طوق الحديد المجمر حولها ثمّ صبّ الماء البارد فوقه فأطبق الطوق صلباً حول العجلة الخشبية، واعتصرها ولم يعد من الممكن فكهما. وكانت تنظر إليه من تحت وتعجب به في خجل. في الصباح شاهدت الموظف يلف أوراق رجلها الميت كأسطوانة ويحكم ربطها بالمطاط ويضعها في الخزانة. انتهى كل شيء. اعتصر المطاط الاسطوانة.

مهر، حصان وفرس، مهر آخر.

حصانه القديم مات. أخذوا حدوات حوافره، لم تكن دوائر مغلقة. حدوات مبراة لا تصلح. صهروها وصبوا منها طوقاً جديداً لعجلة خشبية جديدة.

*

مشينا وراء العربة. كان القبّار رجلاً أعمى. وكان المطر يغسل الحفرة المعدّة. وحين أسقطوا النعش الثقيل غاص في الوحل وقال الدفان: “لا عليكم، سيخرج من الطرف الآخر”. كان سور المقبرة مزروعاً بالزجاج. أمسكوا طالباً يسرق عظاماً يبيعها لأساتذته ويشتري خبزاً وحليباً.

عدنا، وكانت ليلى تبكي، وقالت: أحس أنني أنا التي مت. أحس أنني ميتة.

أتركيني أزرع فيك الحياة. أتركيني أضمك عارية إلى عريي. طريقة وحيدة لتشعري رعشة الحياة، أنت الميتة، أتركيني.

وتركتني.

*

وكان عندي عربة وحصان وزوجة، وسيصير عندي زوجة أخرى، أسميها ليلى.

مهر، حصان وفرس، مهر آخر.

ولم أكن أعرف أن ليلى جاسوسة، قتلت زوجها لأدفنه، وتحبني، وأحبها، وأتزوجها، وتتجسس علي. 

وأخذتها إلى بيتي.

*

إنني قبار: أزوج الأرض جثث الرجال وأتزوّج أراملهم. واكتشفت ليلى الحقيقة كلها، فأنا أرى الموت، فقط، وسيلة للحياة. أراه مهراً، وذلك كان كل ما أرادته، وحين عرفته أحبتني حقاً.

ويوماّ أخذتها إلى حديقة الأطفال. وكان الحصان ينقل حوافره برصانة العجوز فاقد الذاكرة. من وراء ظهور الأطفال وضعتها خلسة على الأرجوحة وأخذت أدفعها وهي تضحك. إلى فوق، قالت. أكثر إلى فوق. وضحكت. أكثر. فوق. ضحكت. أكثر. أكثر. أكثر. ثم صعدت، وانتظرتها. لم تعد.

*

وجنّ جنون الحصان فأخذ يدوس على الأرض ويضربها بقسوة. وخشيت أن يقتل الأطفال إلا أنني تذكرت أن الأطفال لا يموتون، فصرفت النظر عنه، وأخذت أنتظر أن تعود ليلى على الأرجوحة. ولكنها لم تعد.

*

لم تعد ليلى

وهرب الحصان وأخذ يجمح مثل العلم على التلال المحيطة بملعب الأولاد، وقال لي بصهيل مثل احتكاك سيفين: الطريق بين المقبرة وملعب الأولاد، بين ملعب الأولاد والمقبرة صارت مملة، ولقد اعتزمت أن أسلك، بين الملعب والمقبرة، طريق التلال. هناك ألقى الفرس، وهناك تنجب المهور.

واختفى الأطفال.

عدت ماشياً إلى البيت.

*

الحصان الذي جمح بجدي وقتله هرب هو الآخر إلى التلال.

وكذلك حصان القبار.

اهترأت العربة التي تنقل الموتى، وأكل السوس عجلاتها.

لم يبق منها إلا أطواق الحديد التي كانت مئات من حدوات الحوافر المبرية.

وذات يوم جاء رجل من التلال، على حصان بلا سرج، وأخذ أطواق الحديد الباقية، وصهروها حدوات حوافر خيول من جديد.

لم يعد ثمة من يدفن الموتى، وصاروا – قبل أن يموتوا – يحفرون حفراً تتسع لأجسامهم ويسقطون أنفسهم بها، غالباً على التلال. 

مهر. حصان وفرس. مهر آخر.

حدوة، عجلة، حدوة أخرى.

طفل، رجل، رجل آخر.

تلال.

تلال.

تلال. 

نُشرت في مجلة «المجلة»، العدد ١٦٤، في ١/٨/١٩٧٠

The post الخيل والمقبرة والتلال appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
دم الضحية أو «لو كنت حصاناً» https://rommanmag.com/archives/18807 Sun, 23 Jul 2017 18:21:48 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%af%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d9%88-%d9%84%d9%88-%d9%83%d9%86%d8%aa-%d8%ad%d8%b5%d8%a7%d9%86%d8%a7%d9%8b/ “لو كنت حصاناً لأطلقت رصاصة في دماغك!” لماذا حصان؟ لم لا يكون كلباً، أو قطة، أو جرذاً، أو أي شيء آخر إذا كان من الضروري يكون حيواناً ليجوز إطلاق الرصاص في دماغه؟ منذ بدأ يعي معنى الكلمات – لا يذكر متى بالضبط – وهو يسمع هذه الجملة من بين أسنان أبيه. لقد كان غريباً حقاً […]

The post دم الضحية أو «لو كنت حصاناً» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“لو كنت حصاناً لأطلقت رصاصة في دماغك!”

لماذا حصان؟ لم لا يكون كلباً، أو قطة، أو جرذاً، أو أي شيء آخر إذا كان من الضروري يكون حيواناً ليجوز إطلاق الرصاص في دماغه؟

منذ بدأ يعي معنى الكلمات – لا يذكر متى بالضبط – وهو يسمع هذه الجملة من بين أسنان أبيه. لقد كان غريباً حقاً لأن أباه كان الإنسان الوحيد في العالم الذي سمعه يتمنى لابنه أن يكون حصاناً، حصاناً فقط. أما الشيء الأكثر غرابة فهو أن أباه لم يكن يتمنى لأي إنسان آخر، مهما بلغ خلافه معه وغضبه عليه، أن يكون حصاناً!

حسب، بادئ الأمر، أن أباه يكره الخيل، يكرهها أكثر من أي شيء آخر في العالم كله، وأنه لا يقول لأحد من الناس: “لو كنت حصاناً لقوّستك” إلا حين يبلغ به الغضب كل مداه. وكان يحسب، بادئ الأمر أيضاً، أن أباه لا يكره إنساناً في العالم كله كما يكرهه هو، ولذلك بالذات لا يقول أبوه لأي إنسان عداه: “لو كنت حصاناً لقوّستك.”

ولكن الأيام ما لبثت أن جعلته يستبعد هذا الاعتقاد السخيف كلياً. ذلك أنّه اكتشف أن أباه يحب الخيل، وأنه كان في يوم مضى ذا خبرة واسعة في هذا المجال، وأنه لم يهجر الخيل إلا لما هجر الريف.

في مرة واحدة فقط كان أبوه، على غير العادة، مرحاً بشوشاً. فانتهز هو الفرصة واندفع قائلاً: “لماذا تتمنى أن أكون حصاناً حينما تشتد بك رغبة التخلص مني؟”

فقطب أبوه حاجبيه فجأة، وأجاب بصوت رصين: “أنت لا تفهم هذه الأمور. هنالك حالات يصبح قتل الحصان فيها عملاً ضرورياً ومفيداً”.

“ولكنني لست حصاناً!”

“أعرف… أعرف… لهذا أتمنى أحياناً لو خلقك الله حصاناً”.

قال أبوه ذلك ثمّ دوّر كتفيه العريضين ومضى. ولكنه خطى واعترض طريقه، فوقف. ونظر أبوه إليه بإمعان وقاسه بعينيه الحادتين. وحاول هو عبثاً أن يعرف ما يجول في خاطر أبيه.

– “أتكرهني إلى هذا الحد؟”

– “أنا لا أكرهك”.

– “إذن ماذا؟”

– “أخاف منك”.

وساد صمت قصير خلّى بعده بين أبيه وبين الطريق. وحينما كان الأب يدور حول حنية السلم العريض أحس هو كم يحب والده، ذلك الشيخ المسكين الذي عاش معظم حياته وحيداً متوحداً. لقد شغل صباه بالخيل، ولكنه ما لبث أن هجر كل شيء فجأة.

كانت زوجته قد ماتت بعد أن وضعت له ابناً حمله معه إلى المدينة. باع كل خيوله وكل المروج التي كان يطلق فيها العنان لها – خيوله “سمرة” و”بيضا” و”برق” و”سبع”. لماذا فعل أبوه ذلك؟ ما خطر له يوماً أن يسأله، ولو فعل لما فاز بالجواب. إنه يعرف أباه تماماّ، ويعرف أن الماضي بالنسبة إليه صندوق من الخشب السميك، أغلق بألف قفل، ثمّ القيت المفاتيح في عتمة المحيط.

شغلته القصة مرّة، فقرر أن يكشف عن خباياها في أول فرصة.

وذهب والده إلى الريف ليزور من تبقى هناك من الصحب والأهل، فصعد إلى غرفته التي لم يطرقها إلا قليلاً. ولأول مرة انتبه إلى وجود ذلك العدد الكبير من الصور التي تزين الجدران – صور خيول جميلة حقاً. وأدخل سكيناً في مفصلة الدرج وفتحه، ثمّ سحب دفتراً ذا غلاف جلدي أسود، وغاص في المقعد.

كانت خيبة الأمل كبيرة. ليس ثمة في الكتاب ما يفيد. كله أرقام وأثمان وأسماء أنساب. أثمان خيل اشتريت وبيعت، وأنساب خيل تمتد إلى مئة ومئات من الأعوام. فقط جمل مقطعة مكتوبة في حواشي الدفتر بلا اهتمام، كأنها شرود إنسان حالم.

“20/4/1929 – قالوا لي أن أبيعه أو أن أقتله”.

وقلب الصفحات باهتمام فقد خيل إليه أنه قد أمسك بطرف الخيط، وكان يخاف أن يفقده.

“1/12/1929 – إنه أحسن ما عندي، ولن أفرط به. ما زالوا ينصحوني بأن أقتله أو أن أبيعه”.

“20/3/1930 – هذه خرافات مزعجة. “برق” هو أروع حصان شهدته في حياتي وأهدأ حصان سمعت عنه. لن أقتله”.

وفي الصفحة الأخيرة كانت يد مرتعشة قد خطت الجملة الأخيرة في تلك اليوميات العجيبة:

“28/7/1930 – ألقاها عن ظهره بوحشية على شاطئ النهر ثم حطم جمجمتها بحوافره ومضى يدفعها بقائمتيه الأماميتين حتى أسقطها في النهر. أطلق أبو محمد الرصاص في دماغه”.

قال أبو محمد: “الحصان كان يجب أن يقتل عندما ولد… في نفس اللحظة التي سقط فيها على القش. إن قتل الحصان بعد ذلك يصبح أمراً صعباً للغاية. الحصان حينما يعيش معك سنة وسنتين وثلاث سنين يصبح أخاً وأكثر من أخ. هل يقتل إنسان أخاه؟ أبوك، سامحه الله، لم  يقبل، وقال إنه أجمل حصان رآه. قلنا: “دائماً يكون هذا النوع جميل للغاية، ولكن هذا يجب أن لا يغش”. قال: “ولكنه حصان أصيل!” قلنا: “سوف يجعلك تخسر أكثر من ثمنه”. أبوك، سامحه الله، رجل عنيد. لم يقتل الحصان ولم يبعه ولم يتخلص منه. قلنا له: “يا أبا إبراهيم، على الأقل لا تعتل صهوته”.- ولكنه، سامحه الله، لم يسمع!

“أنت لا تذكر أمك. كانت امرأة جميلة ومحبوبة، وكان أبوك، سهل الله له، يحبها حباً مجنوناً. لم نر في كل هذا المرج من أحب زوجته مثلما أحب أبوك؟ لقد كانت هي، رحمها الله، على شيء كثير من الجمال والفطنة، عاش معها على ما أذكر سنة واحدة وضعتك في أواخرها قبل أن يطوّح بها الحصان على حافة ذلك النهر.

“تسأل لماذا كنّا نريد أن نقتل الحصان؟ هذا سؤال صعب يا بني. هذا سؤال لا يستطيع أن يجيب عليه سوى ذوي الخبرة والمعرفة، ولا يستطيع أن يفهم الجواب سوى ذوي الخبرة والمعرفة. أنا رجل عجوز. لماذا لا تسأل غيري؟

“أبوك لا يكرهك. أبوك يخاف منك. منذ كنت طفلاً لا تقوى بعد على حمل حجر صغير كان أبوك يخاف منك. ولو كنت مكانك لما سألته لماذا”.

لماذا يخاف منه أبوه؟ لماذا أبوه فقط؟ كل رفاقه في المستشفى يعرفونه إنساناً مسالماً وديعاً. لم يقتل في كل عمره بقة واحدة. لماذا لا يخاف منه أي إنسان سوى والده؟ لماذا لم يخف منه أي من المرضى الذين استسلموا لمبضعه وهم في غاية الطمأنينة؟ وجهه لا يحمل أي تعبير يبعث على الخوف، فلماذا يخاف منه والده؟ ولماذا والده من دون كل الناس؟

وذات ليلة طفح الكيل!

كان ينام في غرفته حينما سمع صيحة ألم حادة تنبعث من عرفة والده. فانطلق يصعد الدرج ثم اقتحم الباب ليرى والده يتلوى فوق السرير. ولم يحتج إلى وقت طويل كي يكتشف أن التهاباً حاداً في الزائدة يعذبه، وأنه قد يفجرها بين لحظة وأخرى.

وفيما كان الممرضون يقتادونه فوق الحمالة إلى غرفة العمليات، قال الأب مستفسراً: “من الذي سيجري العملية؟”

وأتاه الجواب من أحدهم: “أحسن جراح في المدينة كلها… ابنك”.

وانتفض الشيخ فوق الحمالة بعنف، وحاول أن يتخلص من الأيدي الممسكة به. ولما فشلت المحاولة بدأ يصيح بكل ما في وسعه:

– “أي طبيب آخر، ولكن ليس ابني… أي جزار آخر، ولكن ليس ابني”.

– “لماذا؟ إن آلافاً من العمليات مرت تحت أصابعه بنجاح!”.

وتشنّج فوق الحمالة. كان الألم والرعب يأخذان معاً بخناقه، وصاح وهو يقاوم الغيبوبة بعنف:

– “سوف يقتلني… سوف يقتلني…”

– “أي هراء سخيف!”

– “هراء أو غير هراء… لا أريد أن يدخل ولدي غرفة العمليات حتى ولو أراد أن يتفرج… لا أريده هنا”.

كان من العبث أن يستمر النقاش، فهو يعرف والده أكثر مما يعرفه أي إنسان آخر. ولذلك فرش ذراعيه مستسلماً وعاد أدراجه إلى غرفة الانتظار.

قال الطبيب الذي أجرى العملية: “صدقني كانت عملية والدك أصعب عملية أجريتها في حياتي. يبدو أن التخدير الموضعي قد أثر عليه فانطلق، طوال العملية، يثرثر!

“حكى والدك أشياء مضحكة لا يفهمها الشيطان نفسه! قال إن أبا محمد – ولست أدري من هو هذا المخلوق – إنسان محايد، لا عاطفة عنده، لذلك يستطيع أن يقتل حصاناً، على حين أن مالك الحصان لا يستطيع أن يفعل ذلك!

“كنت أود أن تسمع كم يجيد والدك الحديث عن صباه. حكى عن أمك وعن جمال أمك. وهنا بكى قليلاً – ربما بتأثير روائح الكحول التي انبعثت في الغرفة – ثم قال  إنه يتحمل مسؤولية موتها مع “برق” بالمناصفة. من هو برق هذا؟

“وحكى والدك أيضاً عن حصان كان عنده منذ ثلاثين سنة. لقد ولد في ليلة عاصفة من أم أصيلة وأب صحراوي جلبه بدوي معه من قلب البادية. كان أجمل حصان في العالم – في نظر أبيك. كان ذا لون أبيض فضي صاف لا تشوبه أية شائبة. قال أبوك إنه لما رأى الحصان، قفز فوق الحاجز – وصف ذلك بدقة متناهية – وحاول أن يوقف الحصان على قوائمه. ولكن ما أن وقف الحصان حتى لاحظ الجميع أن بقعة كبيرة متعرجة من اللون البني الميال إلى الاحمرار تشغل كل جنبه الأيمن. قال أبوك إنه أعجب بهذه البقعة لأول وهلة، ولكن أبا محمد ما لبث أن صاح من وراء الحاجز: “يجب أن يقتل هذا الحصان فوراً” وسأله أبوك حانقاً: “لماذا؟” فأجاب أبو محمد: “ألست ترى بقعة الدم هذه؟ هذه البقعة معناها أن الحصان سوف يكون سبباً في مصرع إنسان عزيز. إنه يحمل دم الضحية معه منذ ولادته، ولذلك يجب أن يقتل قبل أن يشتد عوده!”

“أراد أبوك، كما قال، أن يحطم الأسطورة فلم يقتل الحصان. قال إن الحصان كان سهل الركوب، وكان مطواعاً ذكياّ، وإنه عاش في حظائره فترة طويلة دون أن يؤذي ذبابة”.

“لقد صمت أبوك هنا واستسلم إلى الرقاد. أتريد الحقيقة؟ فرحت بصمته أكثر مما فحت بقصته. هذه الخرافات اجتذبتني حتى كدت أضيع تركيزي، ولذلك عاد العمل إلى نصابه لما صمت!

“هل سمعت عمرك عن مثل هذه الأسطورة؟ هل سمعت عن الحصان الذي يحمل دم ضحيته على عنقه منذ الولادة؟ أبوك حكى عن ذلك بإيمان صوفي، وأنا أعجب… ألم تناقش أبداً في أمر هذه الخزعبلات؟”

كانت الشمس على وشك أن تشرق حينما انطلق عائداً إلى داره. كان حديث زميله الطبيب ما زال يدور في رأسه.

إذن هذه هي القصة. هذه هي قصة الكراهية التي يحملها له أبوه منذ ثلاثين سنة. لذلك بالذات يخاف منه أبوه، ولذلك يتمنى لو كان حصاناً… يطلق رصاصة في دماغه!

هذه هي القصة إذن!

البقعة البنية، الميالة إلى الحمرة، والتي تشغل متعرجة جزءاً كبيراً من جنبه الأيمن وظهره… بقعة، كتلك التي شغلت جنب برق، دم الضحية، كما تقول الخرافة… البقعة التي قال له فتاته يوماً وهي تداعبها: “أكبر شامة رأيتها في حياتي – ولكن لماذا تميل إلى الاحمرار كأنها بقعة دم؟” هذه هي إذن! أبوه المسكين يخاف لأنه يحمل منذ ولادته دم ضحيته على جنبه، كما حمل برق دم أمه سنوات قبل أن يلقيها ويحطم جمجمتها ثم يدفع بها إلى النهر.

هذا إذن ما عذب أباه ثلاثين سنة، وهذا ما جعله يتمنى لو كان ابنه حصاناً كي يكون له حق إطلاق رصاصة في دماغه!

أسطورة سخيفة تقضي على حياة الناس. سخف عاش فيه أبوه ثلاثين عاماً. سد من الرعب قام بين الأب وابنه. لماذا؟ لأن أبا محمد لا يعرف التفسير الطبي البسيط الذي يكمن وراء هذا اللغز المحيّر… بقعة بنية ميالة إلى الاحمرار… لأن أباه…

وقف فجأة في منتصف الطريق وفكر:

“أبي، أبي حاول أن يقضي على هذه الأسطورة. أراد أن يتحدى الخرافة. فماذا كانت النتيجة؟ يبدو أن أبا محمد هو الذي انتصر. لقد خسر والدي المعركة وكان الثمن باهظاً.

“بقعة بنية تميل إلى الاحمرار. نحن نعرف تفسيرها، ولكننا لا نعرف لماذا هي هنا وليست هناك… أليس من الممكن أن تكون علامة؟ علامة من نوع ما؟ لقد قال أبو محمد إن أمي كانت تجيد ركوب الخيل وتجيد معاملتها. لماذا قتلها برق إذن؟ لماذا أصر على تحطيم جمجمتها ثم دفعها إلى النهر بلا سبب؟ لماذا هذا الإصرار على قتلها؟

“أبو محمد كسب المعركة، وأبي المسكين خسرها وخسر شبابه معها. ولكنه، أبي المسكين، يخوض معركة أخرى الآن – معركة معي. من منا سيكسبها؟”

سار قليلاً، ثمّ عاد فوقف. كان خاطر مرهق قد انفجر في رأسه!

“سلمت الجراحة لذلك الطبيب الثرثار لفضولي بملء إرادتي… لمجرد أن هذيان المريض قد آلمني. أيكون قد قتله باهماله وانصرافه إلى الاستماع؟ إذا كان قد فعل، فالقاتل أنا. كان بوسعي أن أجري العملية على أكمل وجه، ورغم أنف العجوز المسكين. ما الذي ارتكبته أيها الغبي؟”

وقف هنيهة، ثم استدار وأخذ يركض عائداً إلى المستشفى. كانت الشمس قد بدأت تشرق، وكان يقرع بلاط الشارع المبلول بقدميه الكبيرتين فيرجع الصدى كأنه خبب حصان.

نُشرت في مجلة «أصوات»، العدد ٢، ١/إبريل/١٩٦٢

ونُشرت في مجموعة «عالم ليس لنا» بعنوان «لو كنت حصاناً»

The post دم الضحية أو «لو كنت حصاناً» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
النبع الحالم.. وحزن الهزيمة! https://rommanmag.com/archives/18800 Sun, 23 Jul 2017 16:54:07 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a8%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%ad%d8%b2%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%b2%d9%8a%d9%85%d8%a9/ نُشرت في مجلة "الآداب"، العدد رقم 6، 1 يونيو 1960

The post النبع الحالم.. وحزن الهزيمة! appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في تقاليد إسبارطة أن يقدم الناس طفلاً يذبحه قائد إسبارطي خارج المدينة كي يكون هذا الطفل فداءً بطولياً لكل شعبه.. وفي سنة ما حمل الإسبرطي القائد طفلاً إلى خارج المدينة من أجل أن يقدم دمه شراباً لكبرياء الآلهة التي خذلها إنسانها فصارت تحاربه، وحينما التقى الطفل فوق العشب واستل سيفه المسطح إلتقت عيناه بعيني الطفل فإذا به يحدق إليه ويبتسم، وهكذا جمد السيف في يد الإسبارطي الخشن، وامتصته الإبتسامة الصافية، وبدأت تنمو حاسة حزن عميق إلى جانب حاسة التضحية البطولية التي آمن بها طوال سنوات من حياة إسبارطة الأم.. في لحظة واحدة وُجد الإنسان الحقيقي من إلتقاء هاتين الحاستين: الإيمان بالتضحية، والحزن من أجلها.

“العودة من النبع الحالم” هو هذه القصة بالذات.. ليس طفرة حماس سطحية، ولكنه فهم إنساني، عميق وحزين وشجاع، لذلك فإن إعطاء المقاييس العادية للديوان خطأ محض.. وعملية دراسية يجب أن تتم كما تمت عملية تكوينه: انفتاح غير محدود على الإنسان في قوته وضعفه، في إيمانه وجحوده، وفي كل لحظة يتعرض لها إحساس هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يكون فوق المنبر كل لحظات حياته، ولا بد له من أن يعيش مع الناس.. ويفهم كيف يعيشون.. وهكذا فإن اختياري لهذا الخط في دراسة ديوان “العودة من النبع الحالم” -الخط الذي تعبر عنه القصة الإسبارطية تعبيراً كافياً- ليس صدفة… وأعتقد أن تجاهل المستوى السلبي في نفسية الانسان -إذا اعتبرنا الحزن سلبياً- ليس سوى عملية تشويه للمستوى الإيجابي في نفسيته، بل ربما لتكوينه البشري الصحيح. فالمطلوب من الشاعر اليوم ألا يكون متحمساً بقدر ما يكون صادقاً.

الإحاطة بديوان “العودة من النبع الحالم” للشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي إحاطة كاملة تكاد تكون أمراً متعذراً، فهناك كثير من القضايا تطرح نفسها في البحث كقضايا أساسية، فمن حيث الأداء تطرح قضية الشعر الحديث نفسها أولاً، وللشاعرة سلمى رأيها في الموضوع والذي عبرت عنه في كثير من مقالاتها النقدية والذي لا مجال لبحثه هنا، ولكن الإشارة إلى أن اللحن الشعري في قصيدتي “المدينة والفجر” و”الشهيد المهجور” يعتبر أحسن برهان على كفاءة الشعر الحديث الموسيقية وقدرته التعبيرية اللامحدودة، إشارة ضرورية. كما أن إدخال النفس الشعبي خلال سياق القصيدة، والواضح في “منذرون” و”أذرع الكتان” يحتاج لمقال خاص يبرز استيعاب الشاعرة لقضية الشعر ولقضايا الناس معاً، ففي هاتين القصيدتين بصورة خاصة تستعير الشاعرة كلمات الأسى من الشارع نفسه، وهي لا تقدم في المرتبة حزناً ملوناً بالبلاغة، ولكن حزناً نما خلال زمن طويل في عظام الناس، وأصبحت له تقاليده وكلماته الخاصة.

إن البدء في الحديث عن “العودة من النبع الحالم” من هذه الزوايا سوف يجرنا بعيداً عما  قصدنا إليه، ورغم ذلك فنحن لن نستطيع أن نمر بالحركة الرائعة -أو المريعة- في قصيدة “تحت جناح حرب ذرية” دون توقف، فالشاعرة تنقل اللحظة بحيوية عنيفة وقاسية، وهي تضع القارئ أمام دوامة الفناء المفاجئ وجهاً لوجه، وهذا العمل يقدم للشعر الحديث مؤهلاّ جديداً.

ولو كان الخط الرئيسي لشعر سلمى شيئاً غير الذي أشرنا إليه (الرغبة في التضحية والحزن من أجلها) لو لم يكن هذا، لكان القلق الذي تعيشه الشاعرة مع كل طليعة القرن.. ولكان البحث عن خلاص من هذا القلق، وطمأنينة لهذا الخوف.. إلا أن هذا القلق -رغم كل شيء- يشكل جانباً رئيسياً من جوانب الخلفية التي تصدر عنها شاعرية سلمى، وهو موجود بصورة واضحة في كثير من قصائد الديوان.

أما الشيء الجدير بالإشارة إليه حول هذا الموقف القلق هو قدرة الشاعرة على إلباسه للجميع ببراعة.. بل، والبحث به من وجهات نظر مختلفة واحياناً من وجهات نظر متناقضة -لو أجزنا لأنفسنا التعبير- وهذا يبرز في قصيدتي “أنا والراهب” و “الصامدون”، أما في “بلا جذور” فالجميع قلق.. ولكلّ قلقه الخاص وطريقته في التعبير عنه.

لسوف نعترف مرة أخرى بأن الحديث عن “العودة من النبع الحالم” من هذه الزوايا سوف يجرنا بعيداً عما قصدنا إليه، ولقد قصدنا إلى دراسة الديوان من خلال الهزيمة التي تحسها صاحبته بوضوح وعنف.. وقد يكون النظر إلى الديوان من هذه الزاوية فقط عملاً ضيقاً لا مبرر له.. بل وقد يكون ظلماً للديوان.. ولكن إذا كان العمل الفني هو، وقبل كل شيء، تأثراً ذاتياً أو لا، فإن عمل الناقد غير المحترف هو فهم الديوان من ناحية تأثر ذاتي، أيضاً… بل أن خلع نفسه عن هذا التأثر من الصعوبة بمكان كبير، ولقد وصلت القضية بعد هذا كله إلى ما يلي: أن تكون معظم قصائد الديوان على فلسطين وعن الهزيمة.. وأن يكون الناقد -غير المحترف- من فلسطين ومن الهزيمة أيضاً.. فهل من سبيل إلى اختيار وسيلة أخرى لدراسة ديوان “العودة من النبع الحالم”.. 

يتلخص الديوان في الجملتين اللتين وقعتا في آخر القصة الإسبارطية: الإيمان بضرورة التضحية.. والحزن من أجلها.. والإنسان الجدير بهاتين الحاستين مما هو النمط الذي تمثله الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي: هو الإنسان الذي فقد أرضه وقدره معاً، والذي جرته المركبة إلى خارجها وصاحت في وجهه: أنت لاجئ! هو الإنسان الذي يدرك تماماً كم هو في حاجة للتضحية الكبيرة، ولكنه أيضاً الإنسان الذي تعلم كيف يحزن بعمق وبإنسانية، لذلك فهو حينما يقدم هذه التضحية لا يفعل خلال نشوة لحظة حماس سطحية، لحظة حماس تصل إلى الكف لتجعله يصفق لا إلى القلب لتجعله يحس.. بل أنه يقدم فداءه الكبير وهو يعرف تماماً أنه سوف يحزن من أجله، وأن أعماقه الإنسانية سوف تبكي بنفس القدر الذي ستفرح به للنصر..

وهكذا فإن معنى التضحية يصل إلى مستوى يختلف تماماً عما عرفناه، يصل إلى مستوى الاقتناع الوجداني العميق الجدير بإنسان يحمل عبء قضية الجيل: 

أنا أدري أنهم ماتوا “ليحيا الوطن”

وطن القتلى، وحقل الدم هذا الوطن

أنا أدري أنها “الحرية الحمراء” هذا الثمن

الرائع، المغموس بالآهات، هذا الثمن

أنا أدري! إنما الحزن بأعماق فؤادي ليس يدري

أنا أبكي كل عين فقدت ضوء الحياة

كل روح سال من بين الشفاه! (١)

إن المعاني المتداولة التي تطفو فوق المفهوم الحقيقي للتضحية تقف عارية هنا، بكل ما في طاقتها أن تتعرى، لتكشف عن أعماقها الخاصة، حينما ننشد كل صباح “نموت ليحيا الوطن” نمر مرور العابر بالثمن العظيم الذي تستلزمه هذه الحياة، ولكن “حياة الوطن” هنا تكشف عن نفسها بقسوة وعظمة، وتأخذ مكانها الملائم في الجرح الإنساني العميق، إنها تترجم الفهم الحقيقي للتضحية، التي تستلزم الإقتناع الحزين، ولكن الضروري:

هكذا ماتوا.. ويمضي غيرهم نحو المصير

قدر محتومة رؤياه يا جيل العطاء! 

رعشة محمومة تجتاح قلبي وتثير

دمعة الحزن بعيني.. وومض الكبرياء.. (٢)

إلا أن قصة الشعر عند الشاعرة سلمى ليست هنا فحسب، بل قد تكون القصائد التي يحملها (العودة من النبع الحالم) مجرد جزء من القصة كلها.. القصة التي بدأت منذ انزرع أول مسمار في جسد القضية، والتي لم تنتبه إلى هذا اليوم.. والحقيقة أنّ تصنيف شعر سلمى حسب الزمن ليس عملاً سهلاً وفي نفس الوقت ليس عملاً هاماً بل إنه لا يقل صعوبة عن تقسيم القضية ذاتها إلى مراحل.. إلا أن الشيء البارز في الموضوع أن الشاعرة كانت شاهدة في القضية، وكفنانة نستطيع أن نقول إنها كانت تجربتها الأساسية، ولو حاولنا الآن أن نضع الأسس الثلاثة لملامح الشعر عندها فنحن لا نقصد إلى أي تقسيم زمني أو موضوعي، ولكننا نقصد إلى إبراز هذه الملامح والتي ربما كانت موجودة في القصيدة الواحدة وجنباً إلى جنب.. فالشاعرة:

١- عاشت الحياة العادية مع الناس العاديين في فلسطين قبل النكبة..

٢- وعاشت سنوات الضمير المعذب والشعور بالذنب والفترة التي اصطلح المناضلون على تسميتها بفترة العويل.

٣- وعاشت في لحظات الانبعاث الجديدة التي وزعت في نفسيتها الشعور بالمسؤولية والرسالة..

وتكوّن -من كل هذا- الموقف الذي نستطيع أن ندرس شعر سلمى كله تحت خطه العريض، والذي نسميه: تقديم التضحية مع معرفة مقدار الحزن الحقيقي الجدير بها.. ولسوف يبقى هذا الخط واضحاً في كل القصائد بصورة لا تدعو إلى التحيّر.

وهكذا فإن نظرية الناقد “ادموند ولسون” موجودة هنا -ولكن بصورة عجيبة- نظرية القوس والجرح كما أراد أن يسميها، وإذا كان القوس (أي القدرة على العطاء) سبّب النكبة التي مرّت بها الشاعرة، فمن الغريب أن يكون الجرح (أي الضعف) هو نفس القوس هذا، فالشاعرة نتاج للنكبة، أو -فلنقلها كما تريدها هي- نتاج للهزيمة.. وهذه هي نقطة ضعفها الأساسية، عقدتها النفسية الخاصة (الجرح في رأي نظرية ولسون) كونها تعيش بين جدران هذه الهزيمة بالجدارة التي تليق بحساسية فنان مسؤول.. وأدّى هذا الجرح بالذات إلى أن يكون عطاؤها (القوس في نظرية ولسون) مجرّد نتاج لشعورها بالذنب، بالجرح، وبالمسؤولية.

تبدو القضية متشابكة -وهي كذلك فعلاً، وهذا هو السبب في كون (العطاء والضعف) موجودين في معظم قصائد سلمى، وجنباً إلى جنب:

نحن من جيل اليتامى.. نحن من جيل القلوب الضائعة..

أمنا قد كونتنا من جحيم الأمس، من لوعته..

من تباريح قرون هاجعة.

فإذا ما ولدتنا فوق جفن الفجر، في روعته، 

وتفتحنا وقد أعشى مآقينا السنا…

نحن لم نغتر.. لم نهتف هي الدنيا لنا..

حلوة، غراء، نشوى، رائعة..

بل عرفنا حظنا..

ورمينا العمر في ميعته

بين فكي الحياة الجائعة (٣)

-١-

الواقع أن كل شيء كان يبدو عادياً في فلسطين، وكانت الشاعرة تعيش على شفا الهزيمة دون أن تحس ذلك جليّاً -كالجميع- وهذا هو السبب في أن اللطمة أنتجت عويلاً لا تنظيماً، مجرد تصور كيف كانت تجري الحياة بهدوء وكيف هي الآن بالنسبة للاجئ يلقي الظلال على الصورة ويجعلها تبدو كئيبة باكية:

… وفريق يزرع الخيرات فيها، وفريق 

يقطف الخيرات والأزهار منها والأغاني

كان بعض منهم يحتال في جني ألمها..

… بقوى الإنسان.. كانوا بشراً كالآخرين

بشراً في ضعفهم، في عزمهم، في مبتغاهم

في أفانين الأماني.. وتباريح الحنين.. (٤)

إن الأبيات هذه تلتقي القضية التي ألقاها (جورج أورول) بسؤاله في قصته «1984»: “إننا نعرف كيف ولكنا لا نعرف لماذا؟” تلقي هذه القضية بصورة أشد عنفاً وإنسانية: “كانوا بشراً كالآخرين..” وهذا شيء يدفع للأسى، ويدفع للسؤال نفسه: كانوا للآخرين… إذن لماذا يتفردون بالمأساة، كل شيء كان يجري بطمأنينة، والشاعرة كانت ترى ذلك كل يوم، ولا تستطيع أن تنساه:

كم تواددنا صغاراً.. وتسابقنا مع النجم القريب…

وشردنا في الذرى الخضراء في المرج الخصيب

(لم ندرك كم كان خصيب)

وجزعنا لانفلات الشمس خلف المنحى

قبل أن نفرغ من أقوالنا

بضميري عبق من ورق التين الذي ظللنا..

كنت دنيا عنفوان… إلخ (٥)

رنة الأسى لا تغادر الذكرى، والأسى هذا لا يفتش عن كلمة من صفيح يقرع بها الأسماع لتصفّق الأكف… بل يجري فوق الذكريات الصغيرة والأشياء التي لا تنسى بكل بساطة وعادية.. إنه لا يحتاج لعملية التفتيش والافتعال، لأنه موجود أصلاً بكل أصالته ووضوحه وصدقه.

-٢-

وتحدث الهزيمة فجأة.. والفلسطينيون النازحون عبر الحدود يستبدلون بأسمائهم كلمة “لاجئين”، يبدو الحدث سريعاً وصاعقاً، وتعبر عنه الشاعرة بصورة سريعة وصاعقة كلما تعرضت له:

وسألت البر والبحر عليهم..

وشحوب الفجر والليل الحزين..

فهدتني مطفأة العين إليهم..

وبقايا العوسج المحمول من وديانهم

يوم خافوا الموت في أوطانهم

كي يعيشوا.. لاجئين.. (٦)

القضية هي قضية ضمير متأزم، شعور بالذنب، بالجرح، لذلك فالقسوة لا حد لها:

.. نحن هذا كله..

كلمة مبحوحة الجرس، نشاز جمعتنا:

“لاجئين”(٧)

أتكون الصدفة وحدها هي التي تجر سلمى إلى تركيز فكرة اللجوء والتشرد في كلمات قليلة كلما تعرضت للحظات الهزيمة والضياع؟ أم تراها غير قادرة على تفصيل هذه اللحظات التي تحسها هي -فعلاً- بصورة سريعة وصاعقة:

آه ماذا؟ عازف عني شرود النظرات 

فارغ الصبر؟ ترى لست ابن عمي يا حسيب؟

قال لي دون اكتراث، وتوارى: “بل غريب” (٨)

ولكن الموقف ليس فقط موقف مفاجأة وخذلان، بل شعور قاس، بالقلق والتمزق والخسارة.. وفي أحيان كثيرة، شعور بالذنب، وكل هذا تعبر عنه الشاعرة بقسوة كأنما هي تدين الجيل كله:

.. فالشفاه الصفر لا تلثم أطفالاً عراة..

ولدوا دون جذور، أو غد، من شهوة لا حب  فيها.. (٩)

اليأس لا حد له.. هكذا كانت ملامح فترة العويل التي اعقبت التشرد مباشرة.. كون الإنسان بلا جذور تشده إلى الأرض وبلا طموح يشده إلى المستقبل يجعله ضائعاً عن كل شيء.. حتى عن مثله العليا:

وعلا صوت المنادي للصلاة..

قلب جدي غافل.. لن يسمعه

-٣-

ولكن الإنسان الذي يشعر بالذنب يشعر أيضاً بالمسؤولية.. وهكذا تصل الشاعرة إلى الإيمان بدورها دون أن تستطيع التجرد من لحظات الألم الأسود التي مرّت بشعبها.. وهي حينما ترتفع بنفسها إلى مستوى الرائد إنما تفعل ذلك وهي على يقين بأن التضحية التي سوف تقدمها جديرة بالحزن، وضرورية، كما هو ضروري، لذلك فإن التضحية هذه تصل إلى مستوى إنساني رفيع وعميق ويحتوي على كافة عناصر عافيته وأصالته:

فاذروا الورود البيض يا أبناءنا.. فوق الثرى…

فالأرض لا تحيا إذا لم يشرق الموت الأبيّ على الجباه.. (١٠)

وتبدو الرحلة الطويلة في الشوك ذات جدوى.. الجروح لم تلتئم… ولكن الطريق يطلب المزيد:

سوف نعطي العيش أن أرهقنا صدراً رحيب

ونغني لبلاياه.. ونرعاه بإحساس وعين..

ونعري قلبنا السمح الخصيب..

لمدى تغرز في الأضلاع.. في العمر الرتيب

ليس هذا العيش عنا بالغريب..

قد صحونا.. لن يشع الحلم فينا مرتين!! (١١)

إن الروح الأساسية لديوان العودة من النبع الحالم تتميز بهذه المسؤولية الواعية.. لذلك تصف الشاعرة الموت في قصيدة الشهيد المهجور بأنه “السارق المعطر” نفهم مرادها تماماً.. ونعرف كم تحس بالمسؤولية إحساساً واعياً.. يعتمد فهم عنصر الحزن في التضحية وأهميتها كي تصل هذه التضحية إلى مفهومها الإنساني الحقيقي…

ذلك لأن: 

“الوجود لم يغلنا.. وحزننا حزن معافى وقرير..

وألف نجم شع في قرارة الضمير

يقول لي غداً: حزنت، إنما لك العزاء

زرع أبيك أنت بالهوى سقيته وسوف يأكلون…” (١٢)

   

(٢) مرثية الشهداء

(٢) مرثية الشهداء

(٣) العودة من النبع الحالم

(٤) مرثية الشهداء

(٥، ٦، ٧، ٨، ٩) بلا جذور

(١٠) الورد والعقيق

(١١) العودة من النبع الحالم

(١٢) منذورون

The post النبع الحالم.. وحزن الهزيمة! appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
حول قضية أبو حميدو وقضايا “التعامل” الإعلامي والثقافي مع العدو (آخر ما كتب غسان كنفاني) https://rommanmag.com/archives/18777 Sun, 23 Jul 2017 02:12:29 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ad%d9%88%d9%84-%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%ad%d9%85%d9%8a%d8%af%d9%88-%d9%88%d9%82%d8%b6%d8%a7%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d8%a7%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9/ كتب غسان كنفاني هذه المقالة قبيل اغتياله بأيام، وقد نشرت بمجلة “شؤون فلسطينية”، العدد (12)، بتاريخ شهر آب/أغسطس 1972، وهي آخر ما كتبه قبل اغتياله في الثامن من تموز/ يوليو 1972، عن 36 عاماً. نعيد نشرها في الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله .. في الفترة القريبة الماضية تفجرت أحداث جزئية شغلت الكثير من الناس حول قضايا […]

The post حول قضية أبو حميدو وقضايا “التعامل” الإعلامي والثقافي مع العدو (آخر ما كتب غسان كنفاني) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

كتب غسان كنفاني هذه المقالة قبيل اغتياله بأيام، وقد نشرت بمجلة “شؤون فلسطينية”، العدد (12)، بتاريخ شهر آب/أغسطس 1972، وهي آخر ما كتبه قبل اغتياله في الثامن من تموز/ يوليو 1972، عن 36 عاماً.

نعيد نشرها في الذكرى الخامسة والأربعين لرحيله ..

في الفترة القريبة الماضية تفجرت أحداث جزئية شغلت الكثير من الناس حول قضايا تتعلق بالمقاومة بالذات، ولم تكن هذه الأحداث في حد ذاتها مهمة، ولكنها كانت مناسبة لإلقاء نظرة إلى جذورها، ومع ذلك فإن مثل هذه النظرة لم تُتح إلى الآن، ليس فقط لانغماس الكثير من المتناقشين في التفاصيل السطحية لهذه الأحداث، ولكن أيضاً بسبب التسارع المستمر للتطورات المحيطة بحركة المقاومة، بحيث يندر أن تتاح الفرصة للقيام بامتحان عميق لحدث من الأحداث، من جميع جوانبه، قبل أن يطغى حدث جديد يشد الانتباه إليه، ويغطي على ما عداه، وهكذا.

لعل أبرز أحداث الفترة التي نتحدث عنها، والتي تندرج في قائمة المواصفات التي أشرنا إليها، هي مسألة “أبو حميدو” والضجة التي أثارتها الاتهامات التي وجهت إليه حول ما قيل عن قيامه باغتصاب فتاتين، هما شقيقتان، من بلدة حاصبيا مما دفع شقيقهما إلى إطلاق الرصاص عليهما وقتلهما، وردود فعل سكان البلدة الذين هبوا لغسل العار الذي لحق بهم، ثم قرار محكمة الثورة القاضي بإنزال حكم الإعدام بالفدائي “أبو حميدو” وذلك “كي يكون عبرة لغيره”، على أن يجري تنفيذ هذا الحكم في ساحة البلدة، وبقية القضية معروفة: فقد رفض سكان البلدة إعدام أبو حميدو، وطالبوا بانسحاب الفدائيين من البلدة وجوارها ـ وقد انسحب الفدائيون فعلاً، وقصفتهم الطائرات الإسرائيلية ظهر اليوم التالي قبل أن يتمكنوا من مواقعهم الجديدة، وتمويهها، ولكن الطائرات الإسرائيلية قصفت، أيضا، شوارع البلدة ذاتها دون تمييز. وقيل فيما بعد أن “أبو حميدو” أصيب بجراح أثناء تعرض المنطقة للقصف، ولعله كان واحداً من نزلاء السجن الذي تعمدت الطائرات الإسرائيلية ضربه.
​وفي الوقت الذي كان حادث أبو حميدو، وذيوله، تشغل الجزء الأكبر من المناقشات المحتدمة في تلك الفترة، كانت قضية أخرى تتفاعل على مستوى أقل حدة، وهي قضية يمكن تلخيصها بـ: حدود وضوابط العلاقات الإعلامية والثقافية عموماً، مع العدو الإسرائيلي، ففي تلك الفترة أخذ طالبان على عاتقهما أمر الاشتراك في برنامج تلفزيوني بريطاني، من قبرص، قاما أثناءه بمناقشة مباشرة مع طالبين إسرائيليين حول قضية فلسطين. وفي الفترة نفسها أخذت قضية “فنلي”، في كلية بيروت للبنات، (وهو الأستاذ الذي تغاضى عن وجود مقطع في كتاب دراسي مقرر، يبرر الاغتصاب الصهيوني) تتفاعل، وتنتقل إلى صفحات الصحف اليومية وتصل إلى حد المطالبة بطرد الأستاذ المذكور. أما قضية وجود مرجع طبي إسرائيلي في مكتبة الجامعة الأمريكية، فقد أخذت حيزاً أقل من الاهتمام، ومع ذلك فقد أدت إلى طرح المسألة الأساسية في هذا النطاق.

ولا تشكل هذه القضايا الثلاث شيئاً جديداً تماماً، فقد حدثت أمور تماثلها مرات عديدة خلال السنوات الماضية، والواقع أنه لا يمكن اكتشاف منطق معين للأسباب التي تؤدي إلى ظهورها فجأة، واحتدام النقاش حولها، مرة بعد أخرى ـ وقد يحدث ذلك في فترة يكون فيها العدد الأسبوعي من “الاكسبرس” الفرنسي (مثلاً) موجوداً في كل مكان من بيروت، ويخصص عدة صفحات لشتم عنصري وديني للعرب، دون أن يقوم أحد ليس بمنع “الاكسبرس” أو مناقشة موقفها، ولكن حتى بعتاب مراسلها في بيروت!

على أن المهم في هذه القضايا، والإشكال المختلفة التي تظهر فيها بين الفينة والأخرى، هو أنه طوال الفترة الماضية لم يكن بالوسع التوصل إلى مقاييس وقوانين فيما يتعلق بحدود وضوابط الصلة الإعلامية والثقافية عموماً، مع العدو ـ وهكذا ظلت الأمور خاضعة في معظم الأحيان لتقديرات شخصية، وظلت الأحكام بشأنها هي الأخرى أحكاماً فردية في معظم الأحيان لتقديرات شخصية، وظلت الأحكام بشأنها هي الأخرى أحكاماً فردية، ومزاجية في أحيان كثيرة.

لنحاول، فيما يلي، إلقاء نظرة على هاتين القضيتين: قضية أبو حميدو، وقضية النشاطات الإعلامية والثقافية للعدو، وعلاقتنا بها، على جميع المستويات.

قضية أبو حميدو 

لا يمكن فهم هذه القضية دون تفكيكها إلى عناصرها الأصلية، وإلا ظلت بالنسبة لنا كتلة من الغموض، ومن الانفعالات التي لا تفسر، وبالتالي لا يمكن حلها. وإني أرى أنه كي يكون بوسعنا الإحاطة بهذه المسألة (وبالدرجة الأولى: بدلالاتها وجذورها) علينا تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: موقف الثورة، أي ثورة، من الانتهاكات التي يرتكبها عناصرها ـ الاغتصاب وجرائم العرض ـ وعلاقة المقاومة بالأهالي.

أ ـ موقف الثورة من الانتهاكات التي يرتكبها أعضاؤها:

لا يجادل أحد في أن الثورات عادة تطلب من عناصرها درجة عالية من الانضباط المسلكي، خصوصاً إزاء تقاليد الجماهير في فترات الاحتكاك معها في عهود الكفاح المسلح. ويصل هذا الانضباط إلى حد جعل الكثير من المفكرين ومؤرخي الثورات يعتقدون أن أحد الأخطار الكبيرة التي تواجه الجيوش الثورية هي تحولها، نتيجة للضبط الحديدي لمسلكيتها، إلى قوة محافظة في المستقبل. ويقول لنا جون ريد، مثلاً، أن التعليمات التي حملها الجيش الأحمر معه حين اكتسح المقاطعات الإسلامية في الصين إبان الثورة كانت تطالب بمسلكية معينة وقاسية لا تكاد تصدق، إلى حد كانت معه تعليمات الرئيس ماو للجنود الصينيين تصل إلى الطلب بأن لا يتلفظوا قط، أمام المسلمين، بكامة “كلب” أو “خنزير” أو “خمر”.

وليس استثنائياً على الإطلاق أن يقوم الجيش الثوري بإعدام عنصر من عناصره إذا ما اغتصب فتاة، وقد حدث ذلك مرات لا يحصيها عدد، بل أن الجيوش الثورية، في فترات احتدام حرب الشعب الوطنية، تصدر أحكاماً بالإعدام على عناصر من صفوفها لأسباب تبدو أحياناً، إذا ما نظر اليها من الخارج، أقل شأناً من الاغتصاب.

ومن هنا فإن الحكم بإعدام فدائي اغتصب قروية هو من حيث المبدأ إجراء لا يمكن وصفه بأنه غريب أو استثنائي، ولكن إصدار حكم من هذا النوع يجب أن يرتبط، من بين أمور عديدة، بأمرين أساسيين: أولهما التحقيق بالأمر وفق أصول علمية، ذلك لأن جريمة الاغتصاب هي واحدة من أعقد الحالات الجرمية، خصوصاً إذا ما نظر إليها من زاوية ثورية، وليس من زاوية الانسياق في نسخ التقاليد بصورة آلية. (وسنرى تفاصيل ذلك حين نصل إلى بند الاغتصاب وجرائم العرض). وثانيهما: ضرورة قياس حادث من هذا النوع وفق القوانين التي جرى تربية عناصر الجيش الثوري على أساسها: درجة الانضباط، درجة التسيس، والشروط المسلكية التي يعتمدها هذا الجيش، وإلى آخر ما هنالك من قوانين، ودون وجود مثل هذه القوانين الثورية أصلاً في صلب التربية السياسية والعسكرية للقوات المسلحة، فإنه من غير المنطقي تطبيق تلك القوانين فقط عند حالات العقاب.

إذا عدنا الآن ونظرنا إلى حادثة “أبو حميدو” من خلال هذين الشرطين، وجدنا أن ما حدث يكاد يكون مهزلة، وسنرى فيما بعد لماذا كان كذلك.

فمن الواضح أن “أبو حميدو” لم يغتصب الفتاتين، ولا واحدة ـ وأن حالة التحرش التي حدثت، على سذاجتها، لم تكن حالة مبسطة (بمعنى أن أبو حميدو ليس هو الذي سببها جملة وتفصيلاً) ـ وأن الموضوع كله أخذ على أكثر أشكاله سذاجة وبساطة، وجرى التحقق منه من خلال ردة فعل الشقيق الذي اغتال شقيقتيه دون مبرر، واعتبر سلوك الشقيق وكأنه برهان على خطأ شقيقتيه وجريمة أبو حميدو وهو اعتبار غير جائز بالطبيعة، خصوصاً حين تأخذ به ثورة تحكم على أحد عناصرها بالموت.

ولكن الأمر الآخر أقل أهمية، وهو الأمر الذي يلخصه السؤال التالي: هل نشأ “أبو حميدو”، داخل قوات الثورة، على درجة من التربية السياسية والنضالية، والانضباط التنظيمي الحديدي، موازية في منطقها وصرامتها لهذه الدرجة من العقاب التي نزلت به حين أخل بالسلوك المطلوب؟

لقد ذكرنا في السطور السابقة أن الجيوش الثورية، في فترات حرب الشعب الوطنية، وعلى الأخص حين يكون الصراع المسلح محتدماً ضد العدو وسط الجماهير، تضع شروطاً قاسية على مسلكية عناصرها، وغالباً ما تسمح لنفسها بدرجة ليست قليلة من الانحناء أمام التقاليد السائدة حين لا تكون هذه التقاليد في السطر الأول من جدول التناقض الراهن ـ ولكن هذه الجيوش لا تفرض تلك الشروط من خلال منطق التخويف بالعقاب، ولا تفرضها من خلال سطوة الإرهاب، ولكنها تبنيها تدريجياً من خلال الوعي، بحيث يصبح التزام المناضل الثوري بهذه القوانين المسلكية جزءاً من واجباته النضالية، لا إلزام  فيها ولا جزاء، مستندة إلى الوعي الثوري، وقائمة على الانضباط التنظيمي، ومستمدة من القناعات الذاتية العميقة.

عندها يصبح تحطيم هذه القوانين جريمة كبيرة، تستحق تلك الدرجة من العقاب ـ وهذا بالذات ما يفسر منطق الثورة حين تجعل عقاب جريمة الاغتصاب الإعدام، في حين أن القوانين المدنية العادية لا ترى في هذا العمل ما يستوجب عقاباً لا يصل في أقصى الحالات إلى أكثر من خمس سنوات من السجن.. ذلك لأن الثورة تعتبر جريمة الاغتصاب جريمة سياسية أيضاً.

من هنا، فإنه حتى لو ارتكب “أبو حميدو” جريمة اغتصاب فتاة من بنات الشعب، فإن الشروط الثورية تقتضي النظر إلى هذه الجريمة ـ إذا أردنا اعتبارها جريمة سياسية أيضاً ـ من خلال الوعي، وإذا نظرنا إليها من خلال وعي أبو حميدو، صار لزاماً علينا أن نضع نصب أعيننا امتحان أسلوب التربية السياسية في التنظيم الذي ينتمي إليه، فإذا كانت التربية السياسية في ذلك التنظيم متقدمة، وقائمة على التوعية والانضباط والمسلكية الثورية والعلاقة الحتمية مع الجماهير، فإن العقاب الذي ينزل بمرتكب الجرم، عندها، يكون غيره فيما لو كان التنظيم المشار اليه متسيباً، وفاقداً لعناصر التثقيف السياسي والانضباطية المسلكية، وغير مكترث بالجماهير أو مهتم بها.

إن نشاط أية “محكمة ثورية” ـ على وجه العموم ـ لدى ثورة النظام الداخلي لتنظيم ما أو حزب أو جبهة، ومن اللوائح التنظيمية الملحقة به ـ ومن المفهوم أن الأنظمة الداخلية لحزب أو لحركة أو لجبهة هي انعكاس للإيدولوجيا التي تسترشد بها، وهذا يدلنا، بصورة مختصرة، على الحيثيات الكامنة وراء منطق العقاب في الثورة ـ هذا العقاب الذي يستند إلى نظرة للإنسان وللعالم تختلف عن تلك التي تنتهجها الأنظمة والدول الخاضعة لسيادة البرجوازية، أو الاقطاع، أو الواقعة تحت الاحتلال. فالثورة لا تستطيع إلا أن ترتبط مسألة العقاب بالوعي ـ ومن البديهي أن الوعي، بالنسبة لعضو في تنظيم معين، مرتبط ارتباطاً شديداً بالمسألة التنظيمية، ويجب النظر إلى منطق العقاب من خلال ذلك كله.

ب ـ الاغتصاب وجرائم العرض:

كما هو واضح فإن جريمة الاغتصاب، في مجتمع مثل مجتمعنا، هي جريمة معقدة، تكاد تكون لكل واحدة منها شروط تختلف عن الأخرى. أنه من التكرار التذكير بأن مجتمعنا متخلف، يضع حواجز قاسية بين الجنسين، ولا يستطيع أن يقدم حلاً منطقياً لمشكلة الكبت (خصوصاً بعد انتهاء عادة الزواج المبكر)، وفي الوقت نفسه يتسامح إزاء نشر الصور العارية، والأفلام الإباحية، وترويج منطق “التحرر” الجنسي وأخلاقياته على جميع المستويات، والتحريض على اعتباره منطق المثل الأعلى المنشود ـ إن مجتمعاً من هذا النوع لا يمكن أن تكون الجرائم الجنسية فيه، بما في ذلك الاغتصاب، أحداثاً بسيطة أو أحداثاً يمكن الحكم عليها ببساطة. ويتوجب علينا أن ندرك أن هذه “الجرائم”، على مختلف مستوياتها، هي أفعال مركبة ومعقدة وتخضع كل واحدة منها إلى شروط فريدة، لا نستطيع إلا أن ندرسها إذا أردنا أن تكون أحكامنا عليها دقيقة وغير جائرة.

والمشكلة هي أنه مع ازدياد تعقيد واقع الجريمة الجنسية، وحوافزها ونتائجها، فإن جرائم العرض ـ كرد تقليدي على جرائم الجنس ـ مازالت تحتفظ بمنطقها القديم إياه، وتوفر لها القوانين الرجعية، وكذلك منطق الأنظمة البورجوازية المتخلفة، جواً من الحماية الكافية لضمان استمرارها: فهذه الأنظمة، بالرغم من دورها المباشر وغير المباشر، في خلق مسرح الجريمة الجنسية، فإنها تهرع إلى مساندة مجرمي العرض، قتلة أخواتهم وزوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم وبنات عمومتهم، بفرض عقاب شكلي ـ في حين أنها تقف عاجزة عن تقديم أي حل لحماية تلك الأخوات والزوجات والأمهات وتوفير استمرار الحياة.

إن حادثة “أبو حميدو” هي نموذج لهذا المنطق غير المتزن الذي خضع له الجو العام طيلة أيام الأزمة:

* فقيام شقيق الفتاتين بقتلهما هو عمل لا مبرر له، حتى في السياق التقليدي لمنطق جرائم العرض، ومع ذلك توفرت له الحماية على جميع مستويات المجتمع والدولة.

* وانصباب النقمة على “أبو حميدو”، حتى دون إثبات ودون تحقيق، ورغم الصيحات الخافتة للأطباء الشرعيين، جاء بمثابة الإمعان في حماية قاتل شقيقتيه، وهدر دم برئ.

* وانسياق الثورة الفلسطينية في هذا التيار جاء كثالثة (؟؟؟؟) إذا أن الثورة، أمام مشكلة من هذا النوع، وأمام الواقع المعقد للجرائم الجنسية وجرائم العرض كانت مطالبة بوقفة جادة وعميقة، حتى وأن كفلتها هذه الوقفة، مؤقتاً، هزة صعبة.

فليس الاغتصاب، كما قلنا، كلمة تقال، بل هي عمل يخضع لظروف محدودة ولشروط معقدة: فما فهمه الشقيق بأنه جريمة اغتصاب لم يكن كذلك، وما فهمه المجتمع ـ قياساً على جريمة الشقيق ـ بأنه “اغتصاب جماعي”، لم يكن كذلك ـ وقد جاء قرار الاعدام الذي أبرمته الثورة وكأنه يوافق على ذلك الفهم المغلوط للحادث بدلا من انتهاز الفرصة لطرح مثل هذا الموضوع الخطير طرحاً موضوعياً، ومواجهة الخطأ بجرأة، ودعوة القوى الوطنية والتقدمية في لبنان لقول كلمتها.

الصفحة الأولى من المقالة


ج ـ علاقة المقاومة بالأهالي:

في المقاطع السابقة من المقال نقاط تبدو للوهلة الأولى وكأنها على غير علاقة مباشرة بموضوعنا، نقاطا من نوع: دور الوعي السياسي عبر العملية التنظيمية في فرض منطق العقاب ـ والمأزق الجنسي وجرائم العرض في بلادنا ـ ودور القوى الرجعية في تهيئة مسرح الجريمة الجنسية وبعد ذلك المسارعة إلى حماية القاتل ـ ومهمة التنظيم الثوري في صدم المجتمع المنساق في تيار الضلال والخطأ ـ ودور الثورة في النظر إلى مسألة العلاقات بين الرجل والمرأة نظرة علمية في مستوى التطورات التي نعيشها وعدم الخضوع للإرهاب اللفظي الذي تمثله كلمات مثل اغتصاب، وانتهاك، وشرف، وعرض، حين تكون مفرغة من معانيها الإنسانية ـ الانحناء أحياناً أمام بعض التقاليد ولكن ليس الانسياق في تيارها ـ وبعد ذلك دور القوى الوطنية والتقدمية في لبنان إزاء حادثة حاصبيا بالذات. على أن هذه النقاط هي في الحقيقة في صلب موضوعنا، وتشكل أساسه. وإذا أردنا حقاً فهم حادثة حاصبيا وقصة أبو حميدو، فإنها، بالدرجة الأولى، حصيلة هذه النقاط مجتمعة.. ولو في كل نقطة من هذه النقاط هو الذي جعل من هذا “الحادث العادي”، حادثاً سياسياً كبيراً.

ومع ذلك، فإن عشرات من مثل هذه الأحداث تقع كل يوم في كل بقعة من بقاع وطننا العربي، والذين يواكبون حياة المقاومة والمقاومين، يعرفون ـ وهذا ليس سراً ـ إن ما توهم كثيرون أنه وقع في حاصبيا قد وقع فعلاً، وليس وهماً، في أمكنة عديدة من البلاد العربية، وأن التنظيمات كانت تنظر في كل قضية من هذا النوع النظرة التي تتفق مع أنظمتها وعلاقاتها الداخلية، وتتخذ الإجراءات المناسبة، وفي معظم الحالات كانت الأمور تنحل قبل وصولها إلى درجة التأزم.

سنكون في منتهى السذاجة لو اعتقدنا للحظة واحدة، أن الآلاف من الشبان الذين يشكلون الجسد الحي لحركة المقاومة، والذي ينتسب معظمهم إلى حركات وقوى كان لها نظرة سلبية إلى مبادئ التثقيف السياسي والتربية التنظيمية، هم جيش طاهر من القديسين الأتقياء الورعين، وأنه ينبغي علينا عدم توقع أي خلل أو خطأ في مسلكياتهم ـ ولكن الصحيح هو أن هذه المجموعة من الأخطاء والانتهاكات، في السنوات الماضية، ومن خلال القياس النسبي، كانت قليلة للغاية، وأقل ما يمكن توقعه.

ومع ذلك فإنه ـ بالإجمال ـ لم تكن التنظيمات تتلكأ قط في اتخاذ إجراءات صارمة جداً أحياناً ضد مرتكبي تلك الأخطاء أو الانتهاكات، ولا شك أن هذه الإجراءات كانت أحياناً تخضع لتقديرات مبالغ في قسوتها، وأنه في العادة كانت تشكو من عدم استنادها الى لوائح تنظيمية واضحة، إلا أن ذلك لم يكن يمنع من احتفاظ المقاومة بدرجة معينة من الانضباط، ومن المنطق التفاهمي، وفي علاقتها مع الناس على مختلف المستويات. فلماذا انفجر الموقف في حاصبيا على هذه الصورة؟

إن هذا السؤال يجب أن يعيدنا إلى جذور المسألة، وهي جذور تقع بلا شك أبعد من أبو حميدو، وأبعد من قرار محكمة الثورة. وعلينا، تواً، أن نضع المسألة باختصار وبوضوح: لقد أشار حادث حاصبيا إلى خلل خطير في علاقة المقاومة بجماهير الجنوب، وعبّر عن انفجار لمأزق متقادم، وأوضح أن سلسلة المعالجات الخاطئة للعلاقات مع الجماهير في جنوب لبنان قد دفعت بالتناقض الثانوي إلى سطح الأحداث…

وهكذا فإن إيقاف نظرتنا لحادث حاصبيا عند أبو حميدو، هو بمثابة التزلج على قشرة المشكلة!

والذهاب إلى جذر المشكلة هو الذي يفسر لماذا أخذ حاصبيا كل هذا الحجم الذي لا مبرر له، في حين أن أحداثاً مشابهة قد وقعت في أمكنة مختلفة، ولاقت حلولها نتيجة لمبادرات من المقاومة حيناً، أو من ممثلي الأهالي حيناً آخر.

وقد تراكمت الأمور لفترة طويلة كي تصل إلى ما وصلت إليه في حاصبيا، ولعلنا نستطيع أن نلاحظ أن ذلك التراكم لم يكن تجميعاً مبسطاً لأحداث يومية عادية، ولكنه تركيب معقد لنتائج كانت تصب من خلال الممارسات التالية:

أ ـ ضعف العلاقة بين المقاومة الفلسطينية وبين الحركة الوطنية والديمقراطية في لبنان، هذا الضعف الذي كان يلجأ أحياناً لإخفاء نفسه وراء مختلف صيغ “المساندات” الميكانيكية، وأحياناً أخرى وراء إنشاء علاقات مختارة ووجاهات، ولكن من حيث الجوهر ظلت المقاومة تعتبر نفسها وجوداً طارئاً وزائداً في الجنوب، وليس جزءاً لا يتجزأ من تحرك وطني ديمقراطي شامل، مرتبطة به ارتباطاً يومياً، ومنظماً من خلال القوى الوطنية والتقدمية.

ب ـ عسكريتاريا المقاومة، التي أصرت على طرح نفسها فقط من خلال وجود وممارسات عسكرية، مما أدى إلى ترويج فهم خاطئ لمفهوم “القاعدة العسكرية” ومفهوم “تنمية القدرات القتالية” في  الجنوب، وتحويل هذه المفاهيم وغيرها إلى ممارسات تتناول حياة الجماهير من الخارج، ولا تدخل في صلبها وتصبح جزءاً من وعيها أو من تحركها اليومي.

ج ـ نتيجة لهذا الطابع العسكريتاري لوجود المقاومة في الجنوب، فإن كسل العمليات القتالية وضآلة حجمها وعددها وفعاليتها في الفترة الأخيرة، قد أفقد ذلك الوجود ـ في أعين قطاع كبير من الجماهير الجنوبية ـ قسماً كبيراً من مبرراته، وتضاعفت كمية السلبية في النظر إليه، وتضاءلت إلى الصفر كمية “التسامح” أو “التفهم” أو “العقلانية” في معالجة الأخطاء الناجمة عن ذلك الوجود الذي فقد الكثير من مبرراته.

د ـ يضاف إلى ذلك كله أن عدونا (وهو بدوره حالة مركبة من أطراف مختلفة ومتفاوتة الحجم) يعيش على مبادرات متحركة تعرف كيف تتسرب من خلال هذه الظروف، وتعرف كيف توجه رياح حربها النفسية، وغاراتها المعنوية، وضغوطها العسكرية والسياسية ـ وقد نجح هذا العدو إلى حد بعيد في إرهاب جماهير الجنوب وبناء حاجز من الخوف بينها وبين المقاومة، وهو حاجز سببه الخشية من “عقاب” إسرائيلي توجهه أجهزة مخابرات قديرة ومتسللة جيداً في الجنوب (قبل وبعد حادث حاصبيا، مثلاً، قامت منظمتان بإعدام جاسوسين كان الإسرائيليون قد نجحوا في تجنيدهما من داخل هاتين المنظمتين، وقد أعدم أحد هذين الجاسوسين في ساحة قرية صديقين ـ وأثناء أزمة حاصبيا كان كثير من السكان الغاضبين مقتنعاً تماما بصحة إشاعة مفادها أن 25 فدائياً على الأقل قد تناوبوا اغتصاب الشقيقتين ـ ولم تكن هذه الشائعة بعيدة عن نشاط مخابرات العدو).

ومهما يكن فإنه يتوجب علينا عدم المبالغة (كما يحدث عادة) بأهمية هذا البند الأخير، بحيث يعطي الأولوية ـ لأنه من الواضح أن قدرات العدو هذه لم يكن من الميسور لها أن تحقق النجاح الذي حققته لو كانت الثغرات في علاقة المقاومة بالجماهير اللبنانية، وفي تصورات المقاومة لطبيعة وجودها ومهامها في الجنوب، أقل مما هي فعلاً.

إن النتائج التي أخذت تتراكم تدريجيا، كإفرازات يومية لهذه الخطوط، أو لهذه القنوات الأربع، قد تحولت إلى طاقة نوعية وجدت أول الفرص السانحة لتعبر عن نفسها في حادثة أبو حميدو، ولو لم يخطر على بال ذلك الشاب، عصر ذلك اليوم، أن يتحرش بفتاتين شاهدهما تتمشيان قرب المعسكر، لكان انفجار حاصبيا، أو غيرها من القوى الجنوبية، قد حدث أيضاً، وربما بعد يوم أو أكثر، عبر حادثة من هذا النوع أو من نوع آخر.

إن هذا الحادث، منظوراً إليه من هذه الزوايا المجتمعة، يشكل في جانبه الإيجابي إشارة إلى ضرورة الوقوف بجرأة، وإعادة النظر بالتجربة، وتصويبها ـ وذلك من خلال توحيد موقف المقاومة حول خطة وهدف العمل في جنوب لبنان، وبالتالي شكل ومدى العلاقة مع الجماهير الجنوبية، والدور المركزي للقوى الوطنية والديمقراطية في لبنان إزاء هذه المهام.

إنه من السخف تحميل الخطأ لـ “أبو حميدو”، واعتبار المسألة منتهية هنا، وكذلك فإنه من السخف توجيه اللوم لأهالي حاصبيا، واعتبار المأزق مجرد افتعال لحالة غضب لا مبرر حقيقي لها، وعلى نفس المستوى فإنه من الضروري القول بأنه لا دماء الشقيقتين البريئتين، ولا دماء أبو حميدو، ولا الأحكام الأخلاقية في العالم تستطيع أن تحل مشكلة من هذا النوع.

وقد يكون من المستحيل تجنب القيام بإجراء آني، أو تكتيكي، عندما نواجه بمشكلة واقعية من هذا النوع ـ هذا صحيح، لكن الخطأ الفظيع هو أن يكون ذلك الإجراء الآني أو التكتيكي إجراء انفعالياً، مقطوع الصلة بالفهم الصحيح للمشكلة، وبالتالي فهو لا يكون إلا مقدمة للوقوع، بعد فترة وجيزة، في فخ مشكلة مماثلة.

قضية العلاقات الإعلامية:

تختلف طبيعة وأبعاد هذه القضية اختلافاً كلياً عن طبيعة وأبعاد المشكلة الأولى التي صارت تعرف باسم “مشكلة أبو حميدو”.

وكما قلنا فإن الموقف العربي من قضايا العلاقات الإعلامية والتعليمية، والشؤون الثقافية الأخرى، مع العدو، أو مع مؤسسات تابعة له، ما يزال إلى الآن خاضعاً لاجتهادات شخصية وتقييمات ذاتية. ورغم أن هذا النوع من العلاقات أكثر تعقيداً وتشابكاً من العلاقات التي تدخل في اختصاص قوانين ولوائح مكتب مقاطعة إسرائيل، إلا أننا نلاحظ، بصورة إجمالية، أن الموقف العام الذي تعتنقه الغالبية الساحقة من العرب الذين يطلب منهم “التحاور” الإعلامي مع إسرائيل، هو الرفض. ومع ذلك فإن مكاتب المقاطعة نفسها تقع في إشكال معقدة حين يطلب منها أن تصدر حكماً على ممثل سينمائي، أو على موسيقي، أو على كاتب ـ وغالباً ما تتعرض أحكامها في هذا النطاق إلى اختراق من هذه الدولة العربية أو تلك، في فترة ما أو فترة أخرى، رغم أن قوانين وقرارات مكاتب المقاطعة هي ـ على وجه الإجمال ـ مطاعة من قبل الدول الأعضاء في الجامعة.

إن هذه الملاحظات ضرورية للإشارة إلى أنه من الصعب للغاية، أو بالأحرى مستحيل ـ الزعم بأنه بالإمكان صياغة وصفة، أو قرار، ينطبق على كل الحالات، ومن الضروري اتباعه في كل زمان وفي كل مكان وعلى جميع المستويات. على أنه يتعين علينا أن نسارع إلى القول أن تحفظنا هذا لا يعني قط أن تظل الأمور سائبة، وأن تظل المقاييس فردية ومزاجية ـ بل على العكس تماماً: فلأنه من الصعب وضع صيغة لقرار يناسب كل الحالات فلابد إذن من ايجاد جهة مخولة بتقدير الموقف في كل حالة من هذه الحالات، وتصدر القرار الذي تراه مناسباً.

ونحن ندرك أن مثل هذه الجهة ـ ومن البديهي أن تكون قيادة الإعلام الموحد في منظمة التحرير ـ سترتكب أخطاء في تقدير الموقف هذه المرة أو تلك، إلا أن هذه الأخطاء تظل في نطاق معقول، وهي أفضل من حالة التسيب التي يمكن أن تنشأ في حال ترك الحبل على الغارب.

إن هذا الإجراء ينبع ببساطة من كوننا في حالة حرب في إسرائيل، وأن هذه الحرب المحتدمة يسقط فيها شهداء كل يوم تقريباً، وأن أكثر من نصف شعبنا منفي، ونصفه الآخر تحت قمع الاحتلال المباشر، والآلاف يرزحون بالسجون. ولو لم تكن درجة التناقض مع العدو بهذا المستوى من الحالة الصدامية المحتدمة، المتمثلة بالكفاح المسلح، لكانت الدعوة لإنشاء مثل هذه الجهة المركزية لا مبرر لها.

ولكن، وزيادة في محاولة الاقتراب من صورة أشمل، لنأخذ أحداثاً مختلفة، كل على حدة:

أ ـ التحاور بين طلاب إسرائيليين وطلاب فلسطينيين في تلفزيون لندن:

إن الطالبين الجامعيين الفلسطينيين (طالبة وطالب) اللذين ذهبا إلى قبرص لمنازلة طالبين إسرائيليين حول المسألة الفلسطينية قد حققا في رأي كثير من المشاهدين انتصاراً ساحقاً في المجادلة على الطالبين الإسرائيليين اللذين مثلا حالة من السطحية العاجزة. ولكن الذين شاهدوا البرنامج لاحظوا أيضاً أن الإطار الذي قدمت فيه المجادلة كان إطاراً يحمل على تأييد إسرائيل.

إن معظم الحالات التي جرت فيها مواجهات من هذا النوع في برامج إذاعية وتلفزيونية مختلفة في أوروبا وأمريكا كانت تنتهي لمصلحة الطرف العربي. وهذه النتيجة ليست غريبة، وكل من يعرف شيئاً عن وجهات النظر الإسرائيلية، والفنون الإعلامية يعرف عادة كم هي هشة في حالات النقاش.

ومع ذلك فإن السبب الذي يحملنا على الدعوة لرفض هذا النوع من الترف لم يكن قط الخوف من نتيجة المبارزة الكلامية، أو الخشية من “صلابة” الفهلويات الإسرائيلية القابلة للكسر بسهولة، عند مواجهة فيها الحد الأدنى من الموضوعية.

إن السبب الأول هو أننا في حالة حرب مع هذا العدو، ومقاطعتنا له ليست نابعة من موقف وجداني، ولكنها نابعة من طبيعة المواجهة التي نعيشها ضده، وهذه المقاطعة هي في حد ذاتها وجهة نظر، وموقف.

إننا ندرك بأن كسب الرأي العام العالمي ـ في هذه المرحلة على الأقل ـ لا يقدم فيها ولا يؤخر مثل هذه المبارزات الكلامية ـ وعلى العكس تماماً، فإن أجهزة الإعلام البرجوازية تستخدم مثل تلك المبارزات للإمعان في لعبتها التي تحقق لها في نهاية التحليل سطوة أشد على عقول جمهورها.

إن “بي بي سي” لندن، التي ذهب بها “تسامحها” إلى حد فتح الفرصة أمام طالبين عربيين كي ينتصرا في مبارزة كلامية على طالبين إسرائيليين، قبل حادث الهجوم على مطار اللد بـ 24 ساعة فقط، تعمدت طوال الأسبوعين اللاحقين رفض تمرير عبارة واحدة لمصلحة الفلسطينيين في كل نشراتها الإخبارية، إلى حد اضطرت معه إلى تزوير واجتزاء تصريحات وبيانات فلسطينية كي تجندها في خدمة حملتها العنصرية.

ولدينا كل الحق للاعتقاد بأن تلك المبارزة الكلامية قد خدمت بصورة لا مثيل لها هذا المنهج المنحاز، ومن المؤكد أن مثل هذا العمل ليس نتيجة لمؤامرة شيطانية أو تخطيط سري، ولكنه نتاج منطقي للبنية السياسية والإيديولوجية التي تحرك أجهزة إعلام هذا الطراز.

إننا بصورة إجمالية، ورغم كل تجاربنا، لم نستوعب بعد مدى انحياز وسائل الإعلام البورجوازية للحركة الصهيونية التي تراها كجزء حيوي من منطقها وتطلعاتها ـ وحسن ظن الكثير منا بكمية وجدوى المظاهر الديمقراطية الحرة في وسائل الإعلام هذه، وطابع “البرلمانية” و”الحوار” الذي تمنحه لنفسها هو في الواقع نتيجة لمدى تغلغل سطوة هذه الوسائل الإعلامية في عقول بعضنا.

إنني أجرؤ على القول، من خبرة مادية وواقعية، إن هدر مئات الساعات مع آلاف من الصحفيين والإذاعيين الأجانب، خلال السنوات الماضية قد أدى إلى نتائج تكاد لا تذكر ـ والشيء الوحيد الفعال هو حجم العمل المسلح والعمل السياسي في أرض المعركة ذاتها، وليست هذه الملاحظة بعيدة عن موضوعنا، إذ أن مقابلة كل صحافي وكل إذاعي هي في الواقع حلقة من الجدل العنيف، هي ـ لو شئنا ـ شكل من أشكال المبارزات الكلامية. فالأحرى أن يقوم هؤلاء الإعلاميون بفتح مسرحهم أمام تمثيلية بين طلبة عرب وطلبة إسرائيليين. فذلك مشهد ليس فقط عديم النفع، ولكنه ضار بالنسبة لنا.

إن مقاطعة العدو، ورفض حوار الإقناع معه من خلال المبارزات الكلامية، هو في حد ذاته موقف. هو وجهة نظر. هو شكل من أشكال الصدام.

ومع ذلك، فإن الشكل الإعلامي (أي الحوار الكلامي مع العدو) هو شكل واحد فقط من بين عدد كبير من الأشكال الإعلامية التي يمكن لنا أن نستخدمها في الغرب، شرط أن يظل هذا الاستخدام مشدوداً إلى الحقيقة الجوهرية التالية: إن تغيير ميزان القوى الإعلامي في الغرب لا يحدث إلا في ميدان القتال.

إذا استوعبنا هذه الحقيقة استيعاباً عميقاً وجيداً، صار بوسعنا معرفة ما هو أصح إزاء الأشكال الإعلامية المختلفة التي يتعين علينا انتهاجها: إن أي شبكة تلفزيونية ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني، في حال سكون الثورة، دقيقة واحدة ليعبر فيها عن رأيه ـ ولكن هذه الشبكات ترغم إرغاما على فتح شبكاتها أمام صوت المقاومة حين يصبح الحجم القتالي والسياسي لهذه المقاومة من الكبر بحيث يدخل، أو يمس، الإطار اليومي لحياة الناس في الغرب. وعندها لا نعود بحاجة إلى تقديم مشهد مسل من مشاهد المبارزات الكلامية، مع عدونا المنصرف إلى قتل شعبنا واستبعاده، أمام أمريكي أو سويدي أو ألماني يتعشى “الهوت ـ دوغ” أمام شاشة التلفزيون، ولا يختلف الأمر عنده إن ذهب العرب إلى صحراء أو ذهبوا إلى جهنم، مهما كانت قدرة المجادل العربي على الحذلقة!

إن عملنا الإعلامي في الغرب يجب أن يستند على الأصدقاء، على الحركة الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن أن يتكون رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا دون جهد هذه القوى اليسارية، وتبنيها للقضية، وبوسع هؤلاء الأصدقاء أن يقرروا عند ذاك، على ضوء الواقع الذي يعيشونه في مكان معين وزمان معين، الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية.

إن الإعلام معركة ـ هكذا يقول لينين ـ وبالنسبة لنا فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصاراً إذ ما جرى خوضها من خلال المبارزة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهرياً ضد قضايانا.

إن الجلوس مع العدو ـ حتى في استديو تلفزيوني ـ هو خطأ أساسي في المعركة، وكذلك فإنه من الخطأ اعتبار هذه المسألة مسألة شكلية.

إننا في حالة حرب، وهي بالنسبة للفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت، ولا بد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني بالشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز.

ب ـ قضية البروفيسور فنلي وقضية المرجع الطبي:

لعل الأستاذ المذكور قد ظلم في هذه الحملة، إذ قيل منذ فترة طويلة أنه صديق للعرب، وأن المقطع “الصهيوني” الذي ورد في كتاب كان قد اختاره كمقرر لصف من صفوف كلية بيروت للبنات، لم يكن مقصوداً. ومهما يكن الأمر، وإذا كان انطباعي صحيحاً، فإنني شعرت طوال تطورات هذه القضية أن المسألة المفتعلة ـ ليس لأن الأستاذ الأمريكي المذكور صديق للعرب أو ليس صديقاً لهم، ولكن لأن المقطع الذي أثار كل تلك الضجة هو مقطع سخيف، وأن تدريسه يجري في صفوف عليا.

إنني لا أرى سبباً يمنع الصفوف العليا من الاطلاع على تفكير العدو، بل لا أرى سبباً يمنع من أن يكون هذا الاطلاع إجبارياً. لو كان هذا المقطع، أو أي مرجع صهيوني، قد جرى تدريسه خلسة في صف ابتدائي، كشكل من أشكال غزو العقول البريئة العزلاء لأطفال غير قادرين على خوض جدل ضد ذلك الغزو، فإن الأمر يصبح جريمة وطنية إذن.

ولكنني لا أستطيع أن أفهم كيف نتردد حتى الآن في الاطلاع، وفي السماح بالاطلاع، على مصادر وأشكال فكر العدو.

هل كان البروفسور فنلي “يهرّب” مادة ممنوعة إلى عقول عزلاء؟ إنني لا أعتقد ذلك، ولم أقتنع بحجج الذين حاولوا الإيحاء بهذا. كل ما هنالك أن مقطعاً كتبه مؤرخ متعصب، نصف أعمى، يشكو من سذاجة فكرية مفرطة، قد جعل يمر من أمام أعين طلبة من المفترض أن يكونوا متقدمين.

والشيء نفسه ـ تقريباً ـ يقال عن المرجع الطبي الموجود في مكتبة الجامعة الأمريكية (والواقع أن مكتبة الجامعة الأمريكية مليئة بالكتب التي تعكس فكراً صهيونياً وإسرائيلياً على صعيد الأدب والاجتماع والاقتصاد).

على أن ذلك كله على شيء مهم، يمكن التوصل إليه من خلال طرح التساؤل التالي: لماذا نخاف من مثل هذه الأمور؟ وهل من المفترض أن نلغي حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على الإنجازات الفكرية والعلمية لأفراد العدو، والاستفادة منها أيضا؟

إن ما يكمن وراء هذا التساؤل هو قناعتنا بأن مناهج التربية والتعليم في بلادنا ليست في مستوى القدرة على على معالجة هذا الموضوع جذرياً، ولو توفرت عندنا القناعة بأن التنشئة الوطنية في مدارسنا مبنية على أسس علمية وراسخة وصحية وعصرية، لما كان المقطع الساذج في برنامج “فنلي” يخيفنا، ولما كانت رؤيتنا لمرجع طبي من إنتاج عالم إسرائيلي في مكتبة الجامعة تهز ثقتنا بقدرة طلابنا الجامعيين على معرفة الفارق بين هذا المرجع، وبين استمرار معركة التحرر الوطني ضد العدو الإسرائيلي.

إن برنامجاً للتنشئة الوطنية، قائماً على البحوث العلمية والحقائق العلمية والحقائق التاريخية والتحليلات السليمة، يضع طلابنا وهم في صفوفهم الابتدائية والثانوية في صلب معارك أمتهم ومصالحها، هو الذي يجعل معالجتنا لمثل هذه المواضيع تصبح معالجة صحيحة.

وفوق تأسيس وطني من هذا النوع يصبح من واجبنا أن نوفر لطلابنا في دراساتهم العليا كل شيء يحدث في إسرائيل. صحافة وكتباً وإنجازات.

وبالطبع، فإن تربية وطنية من هذا الطراز لن تمنع من وجود أستاذ أجنبي منحاز، مازال مصراً على غسل يديه الملطختين بدماء الخطيئة الإسلامية بجلود العرب، أو متعصب ديني محشو بالخرافات السياسية ـ إلا أنه من المؤكد عندئذ أن الضرر الذي يستطيع مثل هذا الأستاذ، الأجنبي أو العربي، تسبيبه للطلاب يكون محصوراً ومحدوداً وغير ذي أهمية.

إن التناقض الذي لا يحتاج إلى شرح، والذي نعيشه كل يوم فيما يتعلق بهذه المسألة، يدل على الأساليب الشكلية التي تقوم بها معظم الأنظمة العربية لمعالجة مشكلة مهمة من هذا الطراز، وفي الوقت الذي تمتلئ فيه كل صحف الغرب، تقريباً، باندماج إسرائيل وشتم العرب، وتدخل إلى معظم أسواقنا دون رقابة، وتشكل غزواً إعلامياً عنصرياً مستمراً ويومياً، نرى أن الحملة على كتب موضوعية بين أيدي جامعيين هي التي تثير الجدل!

على أنه يجب التأكيد على أننا حين نرفض إلغاء حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على إنجازات العدو وفكره، فإننا مرة أخرى ـ لا ندعو إلى التسيب باسم الحرية المزيفة، أو فتح أبواب الغزو الإعلامي للعدو على مصراعيه، أو شد أزره بحربه النفسية ضد جماهيرنا، وترك الحقن اليومية لفرض ثقافة الاستسلام والاستخذاء تنغرس في أدمغة شعبنا دون حساب.. كلا، إن علينا أن نعي حالة الحرب التي نعيشها، والأساليب التي يستخدمها العدو على جميع المستويات، والتصرف وفق القوانين التي تعطينا حق الدفاع عن أنفسنا وعن جماهيرنا، واستخدام الوسائل الكفيلة ليس فقط ببناء مصفاة فعالة في هذا المجال، بل ردع كل المحاولات الخبيثة التي لا تتعب من استخدام الحديث عن “الحريات” لفتح الباب أمام حملات العدو.

إن جوهر الحل الإيجابي هو “ردكلة” الجماهير ـ تعميم ثقافة وطنية علمية ـ أي المضي بالثورة إلى الأمام بالدرجة الأولى.

The post حول قضية أبو حميدو وقضايا “التعامل” الإعلامي والثقافي مع العدو (آخر ما كتب غسان كنفاني) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين https://rommanmag.com/archives/18663 Wed, 26 Apr 2017 03:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d9%84%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%83%d9%86%d9%81%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a3%d8%b1%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b1%d8%aa%d9%82%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d9%8a%d9%86/ عندما خرجنا من يافا إلى عكا لم يكن في ذلك أية مأساة.. كنا كمن يخرج كل عام ليمضي أيام العيد في مدينة غير مدينته. ومرت أيامنا في عكا مروراً عادياً لا غرابة فيه، بل ربما كنت لصغري وقتذاك أستمتع بتلك الأيام لأنها حالت دوني ودون الذهاب للمدرسة.. مهما يكن، ففي ليلة الهجوم الكبير على عكا […]

The post قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عندما خرجنا من يافا إلى عكا لم يكن في ذلك أية مأساة.. كنا كمن يخرج كل عام ليمضي أيام العيد في مدينة غير مدينته. ومرت أيامنا في عكا مروراً عادياً لا غرابة فيه، بل ربما كنت لصغري وقتذاك أستمتع بتلك الأيام لأنها حالت دوني ودون الذهاب للمدرسة.. مهما يكن، ففي ليلة الهجوم الكبير على عكا بدأت تتوضح الصورة أكثر فأكثر … ومضت تلك الليلة قاسية مرّة بين وجوم الرجال، وبين أدعية النسوة … لقد كنا أنا وأنت ومن في جيلنا، صغاراً على أن نفهم ماذا تعني الحكاية من أولها إلى آخرها … ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط تتوضح وفي الصباح، ساعة انسحب اليهود متوعدين مزبدين … كانت سيارة شحن كبيرة تقف في باب دارنا.. وكانت مجموعة بسيطة من أشياء النوم تقذف إليها من هنا وهناك بحركات سريعة محمومة … كنت أقف متكئاً بظهري على حائط البيت العتيق عندما رأيت أمك تصعد إلى السيارة، ثم خالتك، ثم الصغار، وأخذ أبوك يقذف بك وبأخوتك إلى السيارة، وفوق الأمتعة، ثم انتشلني من زاويتي ورفعني فوق رأسه إلى القفص الحديد في سقف غرفة السائق حيث وجدت أخي رياض جالساً بهدوء … وقبل أن أثبت نفسي في وضع ملائم، كانت السيارة قد تحركت … وكانت عكا الحبيبة تختفي شيئاً فشيئاً في منعرجات الطرق الصاعدة إلى رأس الناقورة …

كان الجو غائماً بعض الشيء، وإحساس بارد يفرض نفسه على جسدي، كان رياض جالساً بهدوء شديد، رافعاً ساقيه إلى ما فوق حافة القفص، ومتكئاً بظهره على الأمتعة محدقاً في السماء.. وكنت أنا جالساً بصمت، واضعاً ذقني بين ركبتي طاوياً  فوقهما ذراعي .. وحقول البرتقال تتوالى على الطريق .. وشعور بالخوف يتآكلنا جميعاً .. والسيارة تصعد لاهثة فوق التراب الندي … وطلقات بعيدة كأنها تحية الوداع …

وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد، غائمة في الأفق الأزرق وقفت السيارة … ونزلت النسوة من بين الأمتعة وتوجهن إلى فلاح كان يجلس القرفصاء واضعاً سلة برتقال أمامه مباشرة .. وحملن البرتقال … ووصلنا صوت بكائهن … وبدا لي ساعتذاك أن البرتقال شيء حبيب … وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي شيء عزيز علينا … كانت النساء قد اشترين برتقالات حملنها معهن إلى السيارة، ونزل أبوك من جانب السائق، ومدّ كفّه فحمل برتقالة منها.. أخذ ينظر إليها بصمت.. ثم انفجر يبكي كطفل بائس…

في رأس الناقورة.. وقفت سيارتنا بجانب سيارات كثيرة… وبدأ الرجال يسلمون أسلحتهم إلى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض… وعندما أتى دورنا، ورأيت البنادق والرشاشات ملقاة على الطاولة… ورأيت صف السيارات الكبيرة يدخل لبنان طاوياً معارج طرقاتها ممعناً في البعد عن أرض البرتقال… أخذت أنا الآخر، أبكي بنشيج حاد… كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت… وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود… كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه… وترتسم لمّاعة في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر…

وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين…

احتوتنا الطريق فيمن احتوت.. كان أبوك قد كَبُرَ عن ذي قبل، وبدا كأنه لم ينم منذ زمن طويل… كان واقفاً في الشارع أمام الأمتعة الملقاة على الطريق، وكنت أتخيّل تماماً أنني إن سعيت إليه لأقول شيئاً ما فإنه سينفجر في وجهي: يلعن أبوك.. يلعن.. كانت هاتان الشتيمتان تلوحان على وجهه بوضوح، بل إنني أنا أيضاً، الطفل الذي نشأ في مدرسة دينية متعصّبة، كنت ساعتذاك أشك في أن هذا الله يريد أن يسعد البشر حقيقة.. وكنت أشك في أن هذا الله يسمع كل شيء … ويرى كل شيء .. إن الصور الملونة التي كانت توزع علينا في كنيسة المدرسة، والتي كانت تمثل الرب يشفق على الأطفال ويبتسم في وجوههم، بدت هذه الصور كأنما هي الأخرى أكذوبة من أكاذيب الذين يفتحون مدارس محافظة كي يقبضوا أقساطاً أكثر… لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وأنه لاجئ في حيث لا أدري، غير قادر على حلّ مشاكل نفسه، وأننا نحن، اللاجئين البشر، القاعدين على الرصيف منتظرين قدراً جديداً يحمل حلاً ما.. مسؤولون عن إيجاد سقف نقضي الليل تحته: كان الألم قد بدأ يفتك بعقل الصغير الساذج..

إن الليل شيء مخيف.. والعتمة التي كانت تهبط شيئاً فشيئاً فوق رؤوسنا، كانت تلقي الرعب في قلبي.. مجرد أن أفكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف… ولكنه خوف قاسٍ جاف… لم يكن أحد على استعداد لأن يشفق علي.. لم أكن أستطيع أن أجد بشراً ألتجئ إليه… وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعباً جديداً في صدري… والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار… والجميع صامتون، يحدقون في الطريق الأسود طامعين أن يبدو القدر من وراء المنعطف يوزع علينا حلولاً لمشالكنا، ونمضي معه إلى سقف ما.. وأتى القدر فجأة.. كان عمك قد وصل البلدة قبلنا.. وكان هو قدرنا.

لم يكن عمك يؤمن كثيراً بالأخلاق، ولكنه عندما وجد نفسه على الرصيف، مثلنا، لم يعد يؤمن إطلاقاً… ويمّم وجهه شطر بيت تسكنه عائلة يهودية، وفتح بابه، وألقى بأمتعته فيه، وأشار لهم بوجهه المكور قائلاً بلسان فصيح: اذهبوا إلى فلسطين… من المؤكد أنهم لم يذهبوا لفلسطين، ولكنهم خافوا من يأسه فذهبوا إلى الغرفة المجاورة وتركوه ينعم بالسقف والبلاط…

لقد قادنا عمك إلى غرفته تلك.. وكدّسنا فيها مع أمتعته وأهله، وفي الليل نمنا على الأرض فامتلأت بأجسادنا الصغيرة، والتحفنا بمعاطف الرجال، وعندما نهضنا في الصباح، كان الرجال قد أمضوا ليلتهم جالسين على الكراسي.. وكانت المأساة قد بدأت تجد طريقاً معبداً يقودها إلى خلايا أجسادنا كلنا!

لم نسكن في صيدا كثيراً… فغرفة عمك لم تكن تتسع لنصفنا، ورغم ذلك فقد احتوتنا ثلاث ليال… ثم طلبت أمك من أبيك أن يبحث عن عملٍ ما، أو فلنرجع إلى البرتقال… ولكن أباك صاح في وجهها بصوت يرتجف بالنقمة.. فسكتت.. كانت مشاكلنا العائلية قد بدأت… والعائلة السعيدة المتماسكة خلفناها مع الأرض والسكن والشهداء…

لم أدرِ من أين أتى أبوك بالنقود.. إنني أعرف أنه قد باع الذهب الذي اشتراه لأمك يوم كان يريدها أن تسعد وأن تفخر بأنها زوجه.. ولكن ذلك الذهب لم يأتِ بالشيء الكثير القادر على حلّ مشاكلنا، فكان لا بدّ من مصدر آخر: هل استدان شيئاً؟ هل باع شيئاً آخر أخرجه معه دون أن نراه؟ إنني لا أدري، ولكنني أذكر أننا قد انتقلنا إلى قرية في ضواحي صيدا.. وهناك، قعد أبوك على الشرفة الصخرية العالية يبتسم لأول مرة.. وينتظر يوم الخامس عشر من أيار كي يعود في أعقاب الجيوش الظافرة..

وأتى يوم «15 أيار» بعد انتظار مرّ.. وفي الساعة الثانية عشرة تماماً، لكزني أبوك بقدمه وأنا مستغرق في نومي قائلاً بصوت يهدر بالأمل الباسل: قم .. فاشهد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.. وقمت كالمسعور.. وانحدرنا عبر التلال حفاةً في منتصف الليل إلى الشارع الذي يبعد عن القرية كيلومتراً كاملاً.. كنا كلنا، صغاراً وكباراً نلهث ونحن نركض كالمجانين.. وكانت أضواء السيارات تبدو من بعيد، صاعدة إلى رأس الناقورة، وحين وصلنا إلى الشارع أحسسنا بالبرد، ولكن صياح أبيك كان يملك علينا وجودنا… لقد أخذ يركض وراء السيارات كطفل صغير.. إنه يهتف بهم.. إنه يصيح بصوت أبح .. إنه يلهث.. لكنه ما زال يركض وراء رتل السيارات كطفل صغير … كنا نركض بجواره صائحين معه، وكان الجنود الطيبون ينظرون إلينا من تحت خوذهم بجمود وصمت … كنا نلهث، فيما كان أبوك يخرج من جيبه، وهو يركض بأعوامه الخمسين، لفافات التبغ يرميها للجنود، كان لا يزال يهتف بهم. وكنا نحن لا زلنا نركض إلى جواره كقطيع صغير من الماعز..

وانتهت السيارات فجأة… وعدنا إلى الدار منهوكين نلهث بصفير خافت.. كان أبوك صامتاً لا يتكلم، وكنا نحن أيضاً لا نقوى على الكلام… وعندما أضاءت وجه أبيك سيارة عابرة.. كانت دموعه تملأ وجنتيه..

بعدها، مضت الأمور ببطء شديد .. لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها.. وأخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد .. وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي بيوته .. كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة، وكنا نحن أيضاً، أولئك الملاعين الذين يكتشفون بسهولة شديدة، أن الصعود إلى الجبل في الصباح الباكر بناء على أوامر والدك، معناه إلهاؤنا عن طلب الفطور..

وبدأت الأمور تتعقد .. كان أبسط شيء قادراً بشكل عجيب على استثارة والدك .. إنني أذكر تماماً يوم طالبه أحدهم بشيء لا أدريه ولا أذكره .. لقد انتفض .. ثم بدأ يرتجف كمن مسّه تيار صاعق .. ودارت عيونه تلتمع في وجوهنا … كانت فكرة ملعونة قد أوجدت طريقها إلى رأسه، فانتفض واقفاً كمن وجد نهاية ترضيه … وفي غمرة من شعور الإنسان بقدرته على إنهاء مشاكله، ومن شعوره بالرعب قبل إقدامه على أمر خطير أخذ يهذي.. وأخذ يدور حول نفسه باحثاً عن شيء لا نراه … ثم انقض على صندوق كان قد خرج معنا من عكا وأخذ ينثر ما فيه بحركات عصبية مخيفة … وفي لحظة واحدة، كانت أمك قد فهمت كل شيء .. وبدافع من ذلك الاضطراب الذي تقع فيه الأم عندما يتعرض أبناؤها للخطر.. أخذت تدفعنا إلى خارج الغرفة دفعاً وتطلب منا أن نهرب إلى الجبل .. ولكننا لم نبرح النافذة … وألصقنا آذاننا الصغيرة في خشبها نستمع برعب شديد إلى صوت أبيك: أريد أن أقتلهم وأريد أن أقتل نفسي … أريد أن أنتهي.. أريد أن…

وسكت أبوك.. وعندما عدنا ننظر إلى الغرفة من شقوق الباب، وجدناه ملقى في الأرض يلهثُ بصوت مسموع ويمضغ أسنانه وهو يبكي .. بينما قعدت أمُك في ناحية تنظر إليه بجذع..

لم نفهم شيئاً كثيراً … ولكنني أذكر أنني عندما رأيت المسدس الأسود ملقى على الأرض بجانبه … فهمت كل شيء … وبدافع من ذلك الرعب القاتل الذي يصيب طفلاً شاهد غولاً على حين غرّة.. أخذت أعدو في الجبل… هارباً من الدار..

وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، كنت أشعر أن حياتنا لم تعد شيئاً لذيذاً سهلاً علينا أن نعيشه بهدوء … إن الأمور قد وصلت إلى حدّ لم تعد تجدي في حله إلا رصاصة في رأس كل واحد منا.. يجب إذن أن نحرص في تصرفاتنا على أن نبدو بشكل لائق … يجب ألا نطلب الأكل ولو جعنا … يجب أن نسكت عندما يتكلم الأب عن مشاكله، ونهز رؤوسنا باسمين عندما يقول لنا: «اصعدوا الجبل ولا تعودوا إلا في الظهر..».

في المساء .. عندما خيم الظلام عدت إلى الدار .. كان أبوك ما زال مريضاً، وأمك جالسة بجواره، وكانت عيونكم جميعاً تلتمع كأنها عيون القطط، وكانت شفاهكم ملتصقة كأنها لم تنفتح أبداً.. كأنها أثر لجرح قديم لم يلتئم كما يجب..

كنتم مكومين هناك، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال … البرتقال الذي قال لنا فلاحٌ كان يزرعه ثم خرج إنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء..

كان أبوك ما زال مريضاً ملقىً في فراشه، وكانت أمك تمضغ دموع مأساة لم تغادر عينيها حتى اليوم …

لقد دخلت الغرفة متسللاً كأنني المنبوذ .. وحينما لامست نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضب ذبيح .. رأيت في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة .. وإلى جواره برتقالة..

وكانت البرتقالة جافة يابسة..

الكويت1958

تُنشر بالاتفاق مع السيدة آني كنفاني ومنشورات الرمال للنشر.

كتب كنفاني متوفّرة على موقع الدار: www.rimalbooks.com

The post قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (2/2) https://rommanmag.com/archives/18634 Sat, 08 Apr 2017 03:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%83%d9%86%d9%81%d8%a7%d9%86%d9%8a-1959-%d9%80-1965-2-2/ هذا الجزء الثاني من اليوميات، لقراءة الجزء الأول… هنا 1/4/ 1965 هنا صوت فلسطين! بعد جهود مريرة، استمرت شهورًا طويلة، استطاعت منظّمة التّحرير الفلسطينيَّة، أخيرًا، أن تفتتح إذاعتها في القاهرة ثلاث ساعات يوميًّا، وقد فوجئ كلّ الثّوريين في العالم بالبرنامج الثّوري الّذي تقدمه هذه الإذاعة: فبوسعك في السّادسة والنّصف أن تستمع إلى مجموعة من الأغنيات. في […]

The post يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (2/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هذا الجزء الثاني من اليوميات، لقراءة الجزء الأول… هنا

1/4/ 1965

هنا صوت فلسطين!

بعد جهود مريرة، استمرت شهورًا طويلة، استطاعت منظّمة التّحرير الفلسطينيَّة، أخيرًا، أن تفتتح إذاعتها في القاهرة ثلاث ساعات يوميًّا، وقد فوجئ كلّ الثّوريين في العالم بالبرنامج الثّوري الّذي تقدمه هذه الإذاعة: فبوسعك في السّادسة والنّصف أن تستمع إلى مجموعة من الأغنيات. في السّابعة: طائفة من الأغنيات. وفي السّابعة والنّصف يحدث تغيير مهم، فيسمعونك «باقة» من الأغنيات. في الثّامنة إلاَّ ربعًا: ثلاث أغنيات. في الثّانية يطرأ تعديل آخر: أغنية واحدة طويلة. في الثّامنة والرّبع: إعادة للمجموعة الأولى من الأغنيات منقّحة ومزوّدة بفهرس وهوامش. في الثّامنة والنّصف مفاجأة: نشرة الأخبار تغنّيها ليلى مطر، والتّعليق لنجيب السّراج. في التّاسعة: برنامج ما يطلبه المستمعون. في التّاسعة والرّبع: أغنيات لم يطلبها المستمعون. في التّاسعة والنّصف: ختام (أغنية عائدون).

يقال إنّ أحد المستمعين أرسل برقية تهنئة إلى الإذاعة، فلُحّنَتْ على الفور، لتنويع البرامج!

3/4/ 1965

هؤلاء الّذين يتنكّرون بالخاكي

لأسباب تحتاج إلى دراسة دقيقة، يصادف دائمًا أنَّ المدنيين الّذين يلبسون البدلات العسكريَّة، ويتصوّرون وهم واقفون في داخلها، يبدون وكأنَّهم مدعوون إلى حفلة تنكريَّة ..

والمشهد الطّازج لهذا الموضوع هو الأستاذ أحمد الشّقيري، حيث لا تبدو البزّة العسكريَّة أداة تنكريَّة فقط، ولكنّها تبدو غريبة بعض الشّيء، كرجل قفز إلى داخلها مباشرة من منصّة الأمم المتحدة!

السيد شو ـ قاي ـ ري ـ (بعد عودته من الصّين الشّعبيَّة) أعلن أنَّه لن يخلع بزته العسكريَّة قبل استرجاع فلسطين. شيء ممتاز ومشجّع، ولكن ألن تبدو البزة الخاكيَّة غريبة بعض الشّيء، في أروقة الفنادق الضّخمة والقصور الفخمة؟

المهم أنَّ شباب المخيّمات قرّروا بالمقابل أن لا يلبسوا البزّات العسكريَّة إلاَّ إذا، ببساطة وتواضع، أمَّن لهم الشّقيري هذه البزّات!

8/ 4/ 1965

إعلانات.. مع الأحداث!

على ذمَّة راويين، جاءا أمس من القاهرة ودمشق معًا، ذكرا، معًا، أنهما شاهدا على أبواب المقاهي في القاهرة ودمشق الإعلان التالي (وقد شاهده راوٍ ثالث في بيروت):

«المطلوب زبائن جدد لطاولات ثابتة ذات مواقع استراتيجيَّة، خصم على الطلبات 20 في المئة، المؤهّلات المطلوبة: قصص نضاليَّة قديمة، ذات تفصيلات دقيقة ومثيرة، يمكن أن تروى مرَّة ومرّتين وعشر مرّات على مسامع شخص واحد، وكذلك المطلوب أن يلمّ الزّبون بخطط نظريّة للمستقبل يمكن شرحها بالتّفصيل، الأوراق الثّبوتية: شهادة بالسّجن مدّة شهر واحد على الأقلّ، قصاصة من جريدة قديمة تحمل مقالًا عنيفًا للزّبون المشار إليه، شهادة شخصين على الأقلّ بأنَّ الزّبون مطارد، جواز سفر غير مجدّد.. المراجعة في الدّاخل، وبالثّياب الرّسميَّة».

9/4/1965

السّبب الحقيقي وراء الأزمة!

يجب أن يفهم الناس أنَّ عدم اكتراث أعضاء الحكومة بأزمة الغلاء في البلد يعود إلى سببٍ بسيط، وهو أنَّهم يقومون بتطبيق ريجيم غذائي بناء على نصائح الأطبّاء، ولذلك فهم يأكلون خضرة مسلوقة، دون دهن، ودون لحم، في محاولة يائسة لتذويب كروشهم.

وهم لن يقولوا للناس «كلوا بسكوت إذن»، لأنَّهم أنفسهم لا يأكلون البسكوت، بناء على تعليمات الرّيجيم.

وكذلك، فإنَّ غلاء أجور المواصلات في البوسطة الجديدة يعود إلى سبب مماثل، وهو أنَّ معاليهم يفضّلون المشي، للغايات الرّيجيِّميَّة نفسها.

ولذلك، فليس هناك أي سوء نيِّة في الموضوع، والصّحف الّتي تتحامل على الحكومة ليس عندها أي ذوق ولا تقدير، يعني أنَّها لا تهتم بالقضية الأساسيَّة القائمة الآّن، وهي تذويب كروش أركان الحكومة.

صحيح أنَّ الصّحف لا تتعاطف مع الحكومة، ولا تقدّر ظروفها واهتماماتها وهمومها، ولا تتعمّق في البحث عن سبب عدم اكتراث الحكومة بأزمة الغلاء!

14/4/1965

شرط يشرط فهي شروط!

طارت 700 قاذفة أميركيَّة «لتأديب» فيتنام الشَّماليَّة، فتصدّت لها 6 طائرات كركوعات من مخلّفات الحرب الكورية، على طريقة العصابات في الأرض، وهات يا طاخ طاخ، فسقط ما فيه النّصيب.

وأرسلت واشنطن احتجاجًا: فيتنام لا تريد أن «تتأدّب» يا أمم يا متحدة فما العمل؟ وأجابت فرنسا، بصفتها المجرّبة: «فتشوا على موقع استراتيجي يكون اسمه ديان بيان فو، وتمترسوا فيه، فتلك الطّريقة الوحيدة المجدية لإنهاء القتال في الهند الصّينيَّة..»!

ومن هنا جاءت دعوة جونسون إلى مفاوضات بلا شروط، هو أن يكفّ رجال الفيتكونغ عن «تشريط» وجه العم سام، ولذلك فإنَّ من حق هذا العجوز أن يطالب بمفاوضات بلا شروط، فكيف يعقل أن يجلس إلى مائدة المفاوضات بوجه «مشرط»؟

22/4/1965

بحث أولي في الطّبّ السَّياسيّ

يقال: «صنّج» الإنسان، أي أصابته ضربة برد «فتصنَّج». «تصنَّج» الَّتي إذا أضيفت لها أل التَّعريف أصبحت اسمًا.

«الأصنج» في اللّغة هو المخلوق الّذي أصابته لفحة برد فعجز عن تحريك الجزء الّذي تلقَّى فيه هذه اللَّفحة من جسده، ولا تستعمل هذه الصِّفة في وصف من لا يستطيع تحريك عقله، أو ضميره، إلاَّ إذا دخلنا إلى البلاغة، فأطلقنا اسم الجزء على الكلّ، وهو دخول معروف في اللّغة.

والبرد هو ريح تأتي من الجزر البريطانيَّة في كافَّة الفصول، وتكون من الحدِّة بحيث تخترق الملابس الَّتي «تغطِّي» الجسم، فإذا كان المصاب لا يتمتّع «بالمناعة» الحقيقيَّة اخترقت جلده أيضًا، ووصلت إلى عقله، وتلك أخطر الحالات.

و«التَّصنيج»، في الطّبّ، على أنواع، منه ما هو مؤقَّت يزول بزوال السَّبب، ومنه ما هو مزمن، وينصح الأطبَّاء «المصنّج» عادة باللّجوء إلى بيته، وطمر جسده تحت الأغطية، والامتناع عن الحياة الاجتماعية، وخصوصًا السِّياسيَّة.

والعلاج هو أن يعرق المصاب حتَّى يسيل عرقه، ويمكن أن يحدث ذلك عن طريق الخجل، أمَّا إذا كان المصاب لا يخجل فحالته ميؤوسة.

15/ 5/1965

المرحليَّة في التَّطبيق

تمشيًا مع إيمانه بفلسفة المرحليَّة، قرَّر بورقيبة أن يقسم شعار «التَّعايش السِّلمي» مع إسرائيل إلى مراحل، فيكتفي الآن بالمرحلة الأولى من كلمة تعايش، وهكذا فإنَّ شعار هذه المرحلة هو «تع» فقط، على أساس أنَّ (… آيش) تأتي في المرحلة القادمة.

والاحتمالات، بالنِّسبة للمرحلة الثَّانية مفتوحة للاجتهادات، بما يتناسب مع الواقعيَّة في تلك المرحلة. فإذا كانت الواقعيَّة، آنذاك، مناسبة، فلن يحول حائل دون أن تكتمل «تع» بـ «تعاليلي يا بطَّة»..

وعلى ضوء الواقعيَّة في تلك المرحلة القادمة، فإنَّ «تع» قد تضحي «تعيس»، أو «تعبان»، أو «تعتير».

ولا بأس، بعد حفلة كوكتيل أميركيَّة، أن تملي الواقعيَّة بأن تأخذ «تع» صيغة جديدة كأن يقال: «تعتعة السِّكر».

أمّا «آيش»، المرحلة الثَّانية من «تع»، فليس لها إلاَّ نهاية واحدة: «آيش يا خال»؟

5/6/1965

في الشعر البيروقراطي!

«إكبس إيده»، اصطلاح بيروقراطي شائع بين طاولة وأخرى في دوائرنا العنكبوتيَّة، إكبس تربح، لا تكبس تخسر، إذا كنت كبِّيسًا معاملتك عالعين والرَّأس، جديد على هالشغلة روح شفلك سل واشتغل بسوق الخضرة، وتذكَّر دائمًا قول شاعرنا البيروقراطي الأوَّل: لا تقل أصلي وفصلي أبدًا، إنما أصل الفتى ما قد كبس…

والكبسة، في وجهها الآخر، موقف أخلاقي، فمن حيث الكمِّيَّة فإنَّ الكبسة الواحدة تتراوح بين اللِّيرة والمئة، فالأمر يتوقَّف على أخلاقك، وحجم معاملتك. أمَّا من النَّاحية الكيفيَّة، فالقصَّة هنا تتعلَّق بخبرتك الأكروباتيَّة، فإمَّا أن تناول النَّصيب من تحت الطَّاولة، أو تشبكها بأوراق المعاملة، أو تعلن عنها إعلانًا مهذَّبًا لا يطاله القانون حين تقول: كأنَّما بنيّة طيّبة: «شوف اللِّي بتأمره»!

ولذلك قال الشَّاعر: إكبس! كبست من الكبسات ما كبست كبوس كبسي، وما قد يكبس الكبس.

22/6/1965

موَّال أبو دراع.. للآنسة أشا!

الأولى. آه! والثَّانية آه يا وكالة أنباء الشَّرق الأوسط، والثَّالثة آه، يا وكالة أنباء الشَّرق الأوسط يا تعبانة.

الأولى آه منك من النَّاحية الفنِّيَّة: فبين صفحاتك يستطيع الصَّحافي أن يتعلَّم كيف يجعل جملته طويلة إلى درجة طلوع الرّوح، أداة الشَّرط في الأوَّل وجواب الشَّرط بعد 3 صفحات ونصف، ويا والتر ليبمان إضرب رأسك بالحيط!.

الثَّانية آه منك من النَّاحية التَّوقيتيّة: ففي عزّ الشّغل، آخر اللَّيل، والدقّ المحشور، يصل خبر من أربع صفحات رصّ، هامّ جدًّا، هو تلخيص أكروباتيكي لكتاب جديد صدر مؤخّرًا اسمه «العلم والخبر في روايات من ذهب ومن حضر وأخبار العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السَّلطان الأكبر بقلم الشَّيخ ابن خلدون».

الثَّالثة آه منك من النَّاحية التِّجاريّة: فإذا حصلت على صور لكارثة الطَّيران، فبدلًا من توزيعها بالعدل والقسطاس على الزبائن والنَّاس، تبيعينها لأوَّل دفِّيع بالجملة، وعلى باقي الزبائن أن يشربوا البحر.. احتكاريَّات عجيبة غريبة للوكالة الَّتي تمثل دولة اشتراكيَّة رائدة.

الرَّابعة آه من الحالة عمومًا! فإذا كان المراقبون يغفرون تقصيراتك الفنِّيّة لشطارتك التِّجاريَّة، فكيف سيغفرون لك الآن «شطارتك» التِّجاريَّة؟

آه.. آه.. آه  يا عيني!

8/6/1965

المسألة مسألة خطأ نحوي!

توجد مذيعة في إذاعتنا العتيدة تضع على باب الأستوديو صندوقًا خشبيًا صغيرًا، فإذا ما استُدعيتْ لإلقاء نشرة أخبار، مثلًا، تناولت من ذلك الصّندوق الخشبي الصَّغير ضفدعة، عالماشي، تضعها في فمها، وهات يا نشرة أخبار: «كلمة منها، وكلمة من الضَّفدعة، قرقعة وطرطعة ونق وعن واه وايه، حتَّى إذا ما انتهت النَّشرة خرجت من الأستوديو، وأعادت الضِّفدعة إلى الصّندوق، وأغلقته من جديد».

قال الرَّاوي: والضِّفدعة المذكورة تأخذ تعويضًا على الخدمة، إذ إنَّها أحيانًا تتولَّى منفردة إلقاءَ الجزء الأوفر من نشرة الأخبار، أمَّا وقد رُفعت الحصانة الآن عن الموظَّفين، فسوف تقدَّم الضّفدعة للمحاكمة أمام مجلس خاصّ.

ويقول المطَّلعون إنَّ التّهمة الَّتي أُعِدَّتْ ملفَّاتها بصورة دقيقة الآن هي أنَّ الضّفدعة المشار إليها تخطئ في الصَّرف والنَّحو.

19/6/1965

هذا هو الأستاذ المشهور

«أستاذ» الجميع، وأستاذهم على وجه الخصوص، سيِّد الدسّ والنَّميمة، كاتب المقالات بلا تواقيع، الموحي بها دون تسميات، العارض خدماته على طرفي الخصام كتاجر السِّلاح المهرّب، والفارق أنَّه لا يطمع بأجر، «الاكتفاء الذَّاتي» هو أجرة المقنع، واكتفاؤه الذَّاتي لا يجيء إلاَّ عن طريق النَّجاح في الدسّ، ورؤية الدّنيا ملخبطة، وشيوع الاستغابة والبهدلة والسبّ والنطاح، إذا وافقته خالفك حتَّى لو على اسمه، وإذا خالفته وافقك لمجرّد التسلية، وهي مهنته الوحيدة في هذا الوجود المشغول.

«أستاذ» رغم أنَّه لم يقرأ في السَّنوات العشر الأخيرة إلاَّ تذكرة هويَّته، وهو يقرأها مرَّتين في اليوم، من فرط الشكّ والتَّشكيك، ولولا صورته فيها لقال للنَّاصريِّين إنَّها مؤامرة بعثيَّة، ولقال للبعثيِّين إنها مؤامرة ناصريَّة، ولقال لكليهما، إذا صدف وجودهما معًا، إنَّها مؤامرة طليانيَّة!

مخترع الصَّرعات الَّلفظيَّة الأوَّل، وهي صواريخه الخاصّة في عالم لا يعرف، حتَّى الآن، أنَّه صنع صواريخ ترحل إلى القمر.

يقطف معلوماته من طاولات المقاهي، ومواقفه السِّياسيَّة من معاكسة المواقف الَّتي يسمعها بالمصادفة.

يعرض خدماته على الجميع، والثمَّن هو أن تطوّل بالك وتسمع له، فإذا حسب أنَّ الاستماع له ثمن رخيص، فذلك لأنَّك لم تستمع له بعد..

اسمه؟ ليس مهمًّا كثيرًا، ذلك أنَّه على استعداد لتغييره إذا استلزم الأمر، فتغيير الأسماء والمواقف بالنِّسبة له أسهل ممَّا تتصوَّر..

ولكنَّه إذا غيَّر اسمه فلا شكّ أنَّه سيظلّ محتفظًا بلقبه، لأنَّه الشَّيء الوحيد غير المكتوب في تذكرة هويَّته!

29/6/1965

أين ذهب الشّاب؟

من يدري، فقد يكون هذا العصر عصر العجائب والغرائب فعلًا. وإذا كانت التَّحليلات والفلسفات والنظريَّات غير قادرة على اكتشاف ما سيحدث، وأن ما يحدث عادة هو مفاجئ دائمًا، فلماذا لا نذهب ـ أنت وأنا ـ إلى نهر ما فنلقي كتبنا، ثمَّ نحمل أنفسنا ونفتّش عن «ضرِّيب مندل» يلعن أبو سنسفيل ماركس؟

هذا بالضَّبط ما فعله صديقٌ محروق القلب، وقد جاء ليلة أمس مصفرًّا مبيضًّا حانقًا حائرًا غاضبًا مرتبكًا، وقال إنَّ ضرِّيب المندل، في الحقيقة أكثر غموضًا من معادلات الدِّيالكتيك.

شو القصَّة؟ القصَّة يا مولانا أنَّه بعد بحث واستقصاء ورمل وصدف وقهوة وعظام وودع وبخور قال له ضرِّيب المندل إنَّ المستقبل القريب سيشهد حدثين هامَّين، أوَّلهما موت أحد الزَّعماء العرب، وثانيهما أنَّ زعيمًا آخر غير بارز جدًّا سيذيع بيانًا مفاجئًا يذهل النَّاس..

ورفض ضرِّيب المندل أن يشرح أكثر، إلاَّ أنَّه حين شاهد صاحبنا مصفرًّا قال له: اطمئن! إنَّ الحدثين معًا لن يكون سيِّئين جدًّا، وإنَّ الزعيمين اللَّذين أشرت إليهما ليسا زعيمين من الدَّرجة الأولى في الواقع، ولكن موت الأوَّل وبيان الثَّاني، قد يجعلهما كذلك!

يا حرام على الشَّباب! ولكن قل لي، إذا كان هذا الزَّمن لا يخجل من اتِّهام رجل مثل بن بللاّ بالخيانة العظمى، فماذا يستطيع الشَّباب أن يفعل إلاَّ استشارة ضرِّيب المندل؟

The post يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (2/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (1/2) https://rommanmag.com/archives/18633 Fri, 07 Apr 2017 22:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%83%d9%86%d9%81%d8%a7%d9%86%d9%8a-1959-%d9%80-1965-1-2/ ننشر اليوميات كاملة اليوم، في الذكرى الواحدة والثمانين لميلاده

The post يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (1/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نشرت مجلة «الكرمل» الفلسطينية، في عددها (الثاني) ـ ربيع 1981، مختارات من دفتر يوميات كتبه الشهيد غسان كنفاني بين عامي (1959ـ 1960) ، خلال عمله في الكويت. وهي لم تنشر في كتاب من قبل.

كما نشر الناقد والأديب اللبناني محمد دكروب في كتابه (مقالات فارس فارس ـ غسان كنفاني)، تحت عنوان «من يوميَّات أبو فايز»، وهي يوميات ساخرة، كما يشير الأستاذ دكروب في تقديمه لليوميات “كان غسان كنفاني ينشرها في جريدة «المحرر» اليومية، خلال العام 1965، تحت عنوان: «بإيجاز»، وبتوقيع «أ. ف»، أي: «أبو فايز» (وفايز هو اسم ابن غسان). الطَّابع العام لهذه اليوميات هو: التناول الساخر لجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية، مع إطلالات نادرة وخفيفة على الحياة الثقافية. ولعل هذه اليوميات كانت بمثابة «بروفة» في الكتابة الساخرة مهدت لظهور فارس فارس ومقالاته النقدية، الأكثر تنوعًا وعمقًا ونضجًا”(ص236).

تعد هذه الأوراق الشخصية المنشورة في مجلة «الكرمل»، وفي كتاب «مقالات فارس فارس»، نوعًا أدبيًا نفتقده في حياتنا الأدبية العربية والمعاصرة، وهي تضيء كثيرًا من جوانب حياة وإبداع كنفاني في شبابه المبكر. ففي ثنايا هذه اليوميات، نعثر على دراما الحياة والموت، ويتبين لنا أحيانًا كثيرة أن غسان لا يتحدث عن الآخرين بقدر ما يتحدث عن نفسه، عما يجول في نفسه، وعمَّا يمور في روحه المتألقة والقلقة في آن.

أعدّه: أوس داوود يعقوب

31/12/1959

«… إن الضباب الأسود غير موجود في الطبيعة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يؤكد أنه ليس أبعث على الراحة من الضباب الطبيعي الذي لا لون له؟؟».

1/1/1960

.. ليلة أمس قررت أن أبدأ من جديد..

هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها..

أتى القرار بسرعة وببساطة، كانت الساعة تمام الثانية عشرة، أي أننا كنا ننتقل من عام قديم إلى عام جديد.. كانت الغرفة صامتة، تعبق برائحة وحدة لا حد لها.. عميقة حتى العظم، موحشة كأنها العدم ذاته.. وبدا كل شيء تافهًا لا قيمة له، فقررت أن أكتب شيئًا.. لكنني فضلت، لحظتذاك، أن أبكي.. ومن الغريب أنني فعلت ذلك ببساطة، ودون حرج، وحين مسحت دمعة، أو دمعتين، كنت كمن يهيل التراب على جزء آخر من جسد ميت سلفًا ندعوه حياتنا..

وهأنذا أكتب من جديد… يوميات كريهة، لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعرًا كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أعيش، كما أنا مجبر على أن أموت..

4/1/1960

إنني مريض، نصف حي يكافح من أجل أن يتمتع بهذا النصف، كما يتمتع كل إنسان بحياته كاملة.. وكل المحاولات التي افتعلتها لكي أنسى هذه البديهية تقودني من جديد لكي أواجهها.. وبصورة أمر.

لقد توصلت الآن إلى أن أؤمن بأن عنصر المشاركة يكاد يكون معدومًا بين الناس.. إنهم يحسون أنك تتألم، ولكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبدًا لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم.. وعلى هذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا.. وأن نواجه الموت كما يواجه واحد من الناس الآخرين نكتة يومية.. وهذا يجعل من الإنسان عالمًا بلا أبعاد، ولكنه في الآن ذاته، عالم مغلق على ذاته.

في الحقيقة، إن المخرج الوحيد في هذه الدوامة الموحلة، هو أن يؤمن المرء بأن العطاء هو المقبول، فقط لدى إنسان الحضارة.. وأن الأخذ عمل غير مرغوب فيه… أن يعيش الإنسان باذلًا نفسه هو المقابل، ولا مقابل سواه… إنني أحاول الآن أن أصل إلى هذا الإيمان بطريقة من الطرق، أو أن الحياة تصبح، بلا هذا الإيمان، شيئًا لا يحتمل على الإطلاق..

دفعني لأكتب هذا الكلام.. جرح سببته الحقنة اليومية هذا الصباح.. وأعتقد أنه مازال ينزف إلى الآن.. لو قلت لإنسان ما إنني أتألم منه لأعتبره شيئًا يشبه النكتة الطريفة.. ويرددها على هذا الأساس، متسائلًا: «كيف يستطيع إنسان أن يجرح نفسه؟ لاشك أنها تجربة طريفة!!» أو أنه على أحسن الاحتمالات سوف يقول: «إنه يتألم!» ويغير الموضوع.. أما بالنسبة لي فهي تعني، وسوف تبقى تعني كل يوم، أنني أريق جزءًا من احتمالي، وإنسانيتي، وسعادتي من أجل أن أعيش… وإنه لثمن باهظ حتمًا.. أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم.. والقرف.. والنكتة.. إنه ثمن باهظ بلا شك.. أن يشتري حياته اليومية بموت يومي..

5/1/1960

أفكر في كتابة قصتين، الأولى قصة إنسان مخذول، خذلته القيمة التي اعتقد أنها مقياس الحياة الوحيد، وإذا هي قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر… إنني لم أتوصل بعد إلى اصطياد الحادثة الملائمة.. ولكنني أحتاج أن أصل منها إلى التعبير عن الانخذال الكامل الذي يحسه إنسان صفع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يساوي شيئًا، وليس يهمني على الإطلاق أن يكون هذا الإيمان خطًا، أو صوابًا. يهمني فقط أنه إيمان يحمل على دعائمه كل طموح ذلك الإنسان، إيمان مبثوث في عروقه مع أمه. جنبًا إلى جنب.

أما القصة الثانية فتدور حول نفس المحور.. ولقد سمعتها اليوم من صديق رواها ببساطة حرقت محجري.. تُرى، هل أن أنقلها ببساطة إلى محاجر الآخرين؟ إنها قصة مثقف أضاع ذراعه في اعتداءٍ غادر… وحينما خرج من المستشفى (…) وجد نفسه مرفوضًا من قبل الحياة التي لا تعترف بالضعف.. إنني لم أصل بعد إلى صياغة جميع تفاصيل هذه القصة، ولكنني أشعر أنني أستطيع أن أفهمها بإخلاص وصدق.. بل وأن أعانيها.

لقد كتبت إلي إذن، تقول ببساطة، إنني أصبحت مركومًا في ماضي، لا علاقة لها به.. لقد نسيت كل الحب الذي وهبتها خلال عامين كاملين… ونسيت المستقبل الذي بنيناه في كل كلمة… مركومًا في ماض لا علاقة لها به.. أقف في وجه عاصفة أطمع في شيء كبير لن أناله على الإطلاق.. كتبت ذلك ببساطة… أيكون الغضب الذي أحسه انخذالًا يتملق معنى من معاني التحدي؟ أيكون النصف الباقي من حياتي مازال ينتفض بشيء من الكبرياء الذبيحة؟ أأكون مازلت أعتقد إنني كالآخرين؟

هذه هي المشكلة.. أن أستسلم.. أن أعترف.. أن أستسلم.. أستسلم.. هذا كل ما في المشكلة.. ولكنني مازلت أرفض هذه البديهية.. إذ يبدو لي صعبًا بعض الشيء أن أخرج من حياتي، وأراقبها من مقعد المتفرجين كأنني في سيرك؟؟ لوجدت أنه معمر متهدم..

في الفترة الأخيرة، أصبحت أتردد في رواية أية حادثة مخافة أن يرد فيبعث القرف في حلقي.. أما إذا كانت الحادثة طويلة فإنني لا أفكر في التكلم عنها على الإطلاق…

كل تصرف يقوم به له جذور، كل فكرة يقولها يحفظها منذ الأزل… ورأسه عبارة عن شبكة رادار تعكس كل ما في العالم، إلا نفسها… وأعتقد أن هذا هو السبب الأولي في أنني لا أستطيع أن أتخذ موقفًا منه.. إنه دائمًا ليس هو.

9/1/1960

مرة أخرى سمعت حفيف ريش الملائكة، كما يقول سكير واشنطن، حين رأيت الجبال تدور حول رأسي بصخب مخيف، ثم أحسست بالرمل ينسحق بين أسناني…

كيف حدث ذلك؟ إنني لا أذكر التفاصيل، أما الزملاء فكل واحد منهم عنده جانب من القصة… لقد ذهبت معهم إلى رحلة تقع خلف الحدود، وفي لحظة واحدة حوالي العاشرة، أحسست بقليل من الدوخان، ولكنني لم أبالِ.. كنت قد أعددت عدتي من الصباح، ولذلك فلقد استبعدت إطلاق أن يحدث لي أي اضطراب…

بعد هنيهة، قمت إلى زميل أداعبه بضربة، أو بضربتين، ولكنني حينما رفعت كفي عنه رأيت الجبال الصخرية التي كانت حولنا تدور برقصة مخيفة، وعبثًا حاولت أن أوقف رأسي عن اللف معها.. لقد كانت ثمة مطارق تهوي على مؤخرة عنقي، وكانت الفكرة الوحيدة التي سيطرت على رأسي هي أنني يجب ألا أقع في الوادي، فلو وقعت، فمن الحتمي ألا يستطيع الرفاق إيصالي إلى فوق حيث سيارتنا، إلا بعد مشقة هائلة ووقت طويل.. وعبثًا حاولت أن أسيطر على رأسي.. لقد انسحق كل شيء، إلا رغبتي في أن أصل إلى فوق، حيث السيارة، بأي ثمن…

ثم صحوت على السفح، كان الرفاق يتبعوني لاهثين، وكنت أطوي الصخور صاعدًا بكل ما في طاقتي من احتمال.. وحينما لامست عيوني سيارتنا هناك عاد إلي غثيان قاس، وصحوت مرة أخرى على طريق المستشفى…

إلا أن الذي حدث لم يكن هذا فحسب، لقد سبق صعودي الجبل إغماء استمر أكثر من ربع ساعة، قيل لي إنني دفنت رأسي في الرمل، وكانت يدي تشير إلى الجبال بحركة لولبية.. بينما أخذ جسدي ينتفض بحيث عجز ثلاثة من رفاقي عن مسكه وتثبيته في مكانه، كانت عيوني، أيضًا، مفتوحة حتى أقصاها، ولكنها عمياء… وكفاي ينبشان الأرض بجنون… لقد مكسوني هناك، بعيدًا عن كل شيء، وحشروا قطعًا من البسكويت في فمي ـ كنت أشكو نقصًا في السكر ـ ورشقوا وجهي بالماء… وقالوا إنني حينما صحوت قليلًا انطلقت أعدو فوق الصخور ميممًا شطر السيارة البعيدة، باذلًا جهدًا مسعورًا كيف أصل إلى هناك، في حين حسبوا هم أنني مازلت مشدودًا إلى إغماءة قاسية…

وفي المستشفى، كانت شفتي تنزف ولساني مجروحًا، لا أدري، أهو البسكوت الذي دفع إلى حلقي بقسوة سبب هذا، أم أنني كنت أعض على إرادتي كي أصل إلى فوق؟ أما في المستشفى فلقد اكتشفوا أن انخفاضًا حدث في القلب، وبذلوا جهدًا طيبًا من أجل إعادته إلى ما كان عليه..

حينما عدت منهوكًا إلى الأصدقاء كانوا ينظرون إلي بشفقة.. وكنت أنا أحس أنني أستحقها… لأنني أنا نفسي كنت أبكي في أعماقي… أبكي بكل ما في طاقتي…

10/1/1960

أمس، توفي الفيلسوف الوجودي ألبير كامو… صاحب فلسفة العبث، مات في موقف عبث، وأي رثاء له نوع من العبث ليس غير… لقد انتهى، وعليه أن يقنع بحياة عاشها عريضة، وإن لم يستطع أن يجعلها طويلة…

15/1/1960

رأيته بأم عيني… وحينما سرت القشعريرة في جسمي كان إلهًا ما صبَّ على رأسي قارًا مغليًا.. رفعت كفي لأغمض عيني حتى لا أرى أكثر… 

أكتب خائفًا من أن يصفع المنظر أعماقي فيودي بما تبقى من كبريائي؟.. أم أنني كنت لا أريد أن أرى كيف بذلك الإنسان نفسه من أجل أن يحتفظ بحياته؟.. كيف يناضل طفل بكل ما لديه من طاقة كي يصير كالآخرين؟؟ كيف يستحق كبرياءه بإرادته من أجل أن يعيش؟

كان، في رأيي كما يلي: ـ طفل صغير صغير، يتحدى إلهًا كبيرًا كبيرًا.. طفل قزم، يشد عنقه المتوتر إلى حضارة الخزي، ويبصق في وجهها.. طفل تجثم على صدره كل أخطاء الرب.. ولكنه يدفعها باذلًا جهده في أن يتغلب عليها…

لماذا يتعذب طفل دون أن يخطئ؟؟ إننا نعرف كيف؟، ولكننا لا نعرف لماذا؟ أليس هذا صحيحًا؟؟

بدأت القصة بأنني وقفت على شرفة غرفتي أراقب مباراة في كرة القدم بين فريقين من أطفال الحي… جمال المباراة كان في الجهد المبذول لا في مستوى اللعب… بدا لي، في لحظات، أن العالم كله، والله، والحضارة، لا معنى لها بالنسبة لهؤلاء الصغار سوى نتيجة هذه المباراة.. وهكذا كانت الدنيا كلها مخلوعة إلى خارج طموح هؤلاء الصبية، وكانت السعادة شيئًا يمكن أن ينال بواسطة بذلك الجهد فحسب…

وفجأة، برز بينهم، كان يلبس سروالًا أسود قصيرًا، وقد أرخى قميصه الطويل فوقه، شعره كان مشوشًا، ووجهه يبتسم بعناد رجولي لا يتناسب وعمره. كان صدره عريضًا، لا يتناسب على الإطلاق مع تلك الساق التي كانت تشبه خيطًا من القنب، والتي كان ينقلها إلى جوار ساق سليمة، ينقلها مشوهة، مرتخية، نحيلة، لينة، مشلولة…

وكان يركض بكل جهده، عناد رجولي في وجه طفل، كان يخجل، نعم، هذا أصح: رافعًا ساقًا سليمة، متريثًا على ساق كريهة، مشلولة، نحيفة كأنها ليست لهذا الجسد المتفجر بالحياة والجهد، وكان وجهه، إلى ذلك كله، جميلًا..

أكان جميلًا فعلًا؟؟؟… لماذا يتعذب الطفل بلا سبب؟؟ كانوا يلعبون هناك، صغارًا، باذلين جهدًا خارقًا، كأن الحياة كلها لا تعني لهم سوى أن يصلوا إلى نتيجة مشرفة، أو كانت كذلك فعلًا. وكان هو بينهم… وكانوا لا يعاملونه بشفقة، أو مجاملة، وبدا لي أنه كان سعيدًا بذلك إلى آخر حد، سعيدًا لأنه أقنع نفسه، للحظة، بأنه سعيد!! لماذا رفعت كفي إلى وجهي، وأخفيت هذا المنظر عن عيني؟.. ألأنني عرفت كم هو كبير، وكم أنا صغير؟.. ألأنني عرفت كم يناضل الإنسان من أجل أن يجعل حياته أكثر معنى، وأكثر جمالًا؟ أم لأنه لم يرق لي أن يبيع الإنسان كل حياته في سيبل لحظة كرامة واحدة؟..

لماذا؟

23/1/1960

قررت اليوم أن أبدأ بكتابة قصة طويلة، (سوف تكون أقل طموحًا من «كفر المنجم»، التي كتبتها في العام الفائت وفشلت)، لأنني سوف أحكي فيها قصة إنسان فرد… وأعتقد أنها لن تستغرق وقتًا طويلًا… وفكرتها في رأسي منذ زمن بعيد: الخذلان، سوف لن أستشير أحدًا فيها، إذ أنني وجدت أن أنسب مكان للآخرين يفرغون فيه أحمال عقدهم النفسية هو الثغرات المفتوحة في نفوس القلقين.

6/2/1960

بلادة وخمول، ولا شيء غير هذا على الإطلاق… هنا، في هذا البلد المصرور في الجمود والصمت نموت رويدًا رويدًا، دون أن نعرف كيف يعيش أي إنسان ناضل قرونًا طويلة في سبيل لحظة طمأنينة واحدة!.. صور الفتيان معلقة على الجدران تستذل رجولتنا، والموسيقى الحزينة تمتص أحاسيسنا، وكلمات المجاملة الكاذبة تهدهد طموحنا.. إلى أين؟ لسنا ندري… كل ما نعرفه هو أن غدًا لن يكون أفضل من اليوم.. وأننا ننتظر على الشاطئ، بلهفة، سفينة لن تأتي… وبأنه حكم علينا بأن نكون غرباء عن كل شيء… سوى عن ضياعنا…

إنني لست راغبًا في أي شيء… كل الأشياء التي اعتقدت أنني أحبها فقدت معناها تمامًا…. لست أحسن التصرف مع الأصدقاء… ولست راغبًا في الاستمرار أكثر داخل هذه الدوامة التي تدور كساقية مجنونة تفور في رمال صحراء عطشى منذ آلاف السنين..

أصحيح أن عمري خمسًا وعشرين سنة؟؟ إنني أتصور أحيانًا أنني عجوز متهدم ينتظر بصمت واستسلام دفة من الخشب ينقلونه فوقها إلى استقراره الأخير.. أو إلى استقراره الحقيقي…

21/2/1960

كتبت اليوم رسالة إلى (…) و(…) كانت قصة حب بلا شك.. أما الآن فهي مأساة.. إن رسائلها الأخيرة لي كانت تحمل طابعًا خاصًا.. كأنها كانت تريدني أن أقول موقفي بوضوح كي تعرف ماذا يتعين عليها أن تفعل.. وهذا حقها بلا أدنى شك. لقد كتبت لها رسالة اليوم، حاولت فيها أن أكون مخلصًا لها ولنفسي، وحينما قرأتها بعد كتابتها اكتشفت بوضوح أنني فعلًا أحبها… سوف أنقل إلى هنا بعض مقاطعها..

«… أنا مشوش جدًا… لذلك تبدو أفكاري مهزوزة.. والذي يشوشني خبر زفه الطبيب إلي ظهر أمس.. لقد بدأ هذا القلب المسكين يتعب… إنه يخفق بلا جدوى.. وحينما أنظر الآن إلى الأشياء أحس بأنني خارجها.. إنها مسحوبة من المعقول… إنني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت.. لقد عشت سنوات قليلة قاسية، وتبدو لي فكرة أن لا أعوض فكرة رهيبة.. إنني لم أعش قط… لذلك فأنا لم أوجد.. ولا أريد أن أغادر دون أن أكون، قبل المغادرة موجودًا… أتعرفين الذي أعنيه؟؟… إن شعوري غريب جدًا.. شعور إنسان كان ذاهبًا إلى مكان ما كي يتسلم عملًا ملائمًا، فمات ـ فجأة في الطريق..

إن شعوري الآن هو هذه «الفجأة» بالذات…

… لقد فكرت طويلًا طويلًا في رسائلك الأخيرة.. ووجدت أنك على مطلق الحق في موقفك.. ولكنني أنا الآخر أملك شيئًا منه.. لماذا لا نضع النقاط على الحروف جيدًا؟ لماذا لا نعترف بأننا «خطان متوازيان يسيران معًا ولكنهما لن يلتقيا..؟» لقد كتبت هذا الكلام لي منذ أول تعارفنا، وكنتُ وكنتِ في أعماقنا نرفضه على الإطلاق!

أيتها الغالية.. لماذا قدر للإنسان أن تكون أعمق جروحه تلك التي يحفرها بيده؟ تريدين أن أكتب لك بوضوح، أن أكفن سرابي بيدي، وأستمر بضياع بلا قاع؟ سألت في رسالتك الأخيرة: «هل مات الداتشمان؟». إنني أعتقد أنه مات منذ رأى باندورا لا يستطيع أن يأخذها معه عبر المحيط إلى السعادة.. وكل الذي كان بعد لقائهما هو محاولة مستميتة لنسيان هذا الموت.. بالاقتراب منه أكثر فأكثر…

أعرف أنك غضبى.. ولكن الغضب شيء يذهب.. أما الخذلان فيبقى.. أنا رجل مخذول. هل تستطيعين أن تحسي أعماق هذه الكلمة؟ كل الوحشة والغربة والضياع التي تعشش فيها؟ الخذلان لا يذهب… أما الخذلان الذي يصنعه الإنسان بيديه فإنه ينمو.. ينمو حتى يصبح غولًا..

لتحاولي أن تنسيني.. أنا لا أستحق ذكراك عني، كوني متأكدة من ذلك.. أنت تملكين الأمل والألوان والحياة والذكاء والجمال.. فلماذا تتمسكين بإنسان لا يملك سوى سواد قدره؟ حاولي أن تنسي.. أو حاولي أن تُصَّعدي ـ وأصر على هذه الكلمة ـ أن تُصَّعدي ذلك الحب إلى صداقة.. أنا لن أحاول شيئًا، سوف أرقبك وحينما أراك سعيدة.. سوف أشعر بأنني لست سببًا في تعاسة إنسان أحبه.. أحبه رغم كل شيء.. كوني متأكدة أنني لا أعتقد أنك سبب تعاستي.. لقد شغلت ثلاث سنوات من حياتي بأمل لم أذق مثله كل عمري.. وهذا يكفي في عالم لا يعطي المقابل..

آه يا عزيزتي لو استطعت فقط أن أمزق هذه الرسالة، وأكتب لك واحدة أخرى أكثر إشراقًا.. آه لو استطعت.. ولكنني أعرف أنني لا أستطيع.. إن الذي يستحق التمزيق هو حياتنا جميعًا..

«آه لو استطعت أيها الحب أن نتفق أنا وأنتَ والقدر

على تمزيق هذا الطابع الحزين للعالم

إلى قطع صغيرة صغيرة..

ثم نعيد بناءه… كما تشتهي قلوبنا!».

أتذكرين القصة؟ قصة «باقة ورد على ضريح الخيام»؟ لقد أوحيت إلي بها.. ولكنني أوحيت لنفسي نهايتها حينما كتبت:

«شعر بأن لم يخلق ليلي أبدًا.. بل إنها هي التي خلقته، وراوده إحساس طاغ بأنه لم يكن يستحقها على الإطلاق…». 

المخلص..»

لقد كانت رسالتها لي أمس فيها بعض الحياة.. ولهذا فأنا أتصور جيدًا كيف سيكون وقع هذه الرسالة على رأسها، وإلى أنني أتفاءل أن تجد طريقًا للخروج.. إنها مؤمنة بأن السعادة موجودة في مكان ما.. ولهذا فهي ستواصل البحث عنها…

وسوف تنساني.. لقد كتبت لي:

«إنني أفتقد رسائلك بشكل مخيف.. فأنت تكتب ببراعة وبعمق ـ حتى ما تؤلمني به.. ولقد آليت على نفسي ألا أجد في المستقبل سوى إنسان يكتب بمثل براعتك… عندما أنظر إلى صدر المسيح، في الصورة، أحس بك تلفح وجهي.. وأحس بنفسي تغرق في الإبحار من الحب مع الداتشمان.. ألا أخبرني بالله عليك هل مات؟ هل مات؟ هل تاه الداتشمان؟».

كتبت منذ يومين قصة «الخراف المصلوبة»، وهي الفكرة التي كانت في رأسي عن «الخذلان»… بدوي يقف في شمس الربع الخالي ينتظر من يعطيه ماء لأجل خرافه.. ولكن القافلة التي تمر من سيارات الحجاج ترفض إعطاءه ماء بسبب حاجة السيارات له، أما البدوي فلا يستطيع أن يفهم كيف تكون السيارة أثمن من الخراف ..

لقد قصدت إلى إبراز شعور الإنسان المخذول الذي تتهاوى قيمه العليا ومثله بسرعة وهدوء.. وحاولت أن أبرز مدى أهمية هذه القيم في نظر هذا الإنسان المتفرد بحوار هامشي على لسان طبيبين في القافلة:

«ـ انظر.. هانحن ذا أمام أسطورة إسبارطية من جديد.. الرجل والإله في مكان واحد.. ترى ماذا يفعل هنا؟؟

ـ يتعبد…».

وحاولت، أيضًا، أن أبرز المشابهة في الصورة: قافلة حجاج تحمل للإنسان الإله خذلانه..

وأعتقد أنها قصة ناجحة ..

22/2/1960

كتبت إلى صديقي فضل النقيب في ياكيما ـ واشنطن اليوم: «تأخرت في الكتابة لك، أنا أعترف، ولكن يشفع لي أن لا جديد عندنا هنا سوى استمرار هذه العجيبة: أن لا يكون أي جديد…».

ثم كتبت له أرد على لمحة استسلام شعرت بها بين سطور رسالته: «تريد أن تنسحب؟ لماذا؟ لأنك بعيد؟ إذا كان فضل يبعد عن القضية ألف ميل، فنصف شعبه يبعد عنها ألف سنة!.. المسافة لا قيمة لها لمن يعيش في لحظة الشروق.. تريد أن تنسحب؟ لا بأس، ولكن صدقني يا فضل أن الانسحاب أصعب بكثير جدًا من التحدي… لقد حكم علينا بأن لا ننسحب».

وكتبت إلى عدنان، صديقي السجين، الذي كتب إلي يقول إنه لا يعرف إذا ما كان قد تغير خلال مدة سجنه، فهو لا يملك مقياسًا، ولا يعرف كيف تغيرت الأشياء، وتغير الآخرون.. كتبت له: «أنت نفسك تعرف أنك تغيرت، لأنك تعيش من أجل ذلك.. إننا لا نحتاج للآخرين كي نعرف أننا تغيرنا.. نحتاجهم فقط كي نعرف كم هو ضروري تغيرنا…».

الواقع لم أكن أفكر بنشرها، ولا في جعلها قصة كاملة.. إن هذا كله دخل فيها، إلاَّ أني أعتقد أن شعوري تجاهها بالضبط قد تحدد خلال كل تلك الأحداث… وهو الشعور الذي عبرت عنه ـ قبيل أسطر ـ بكلمتين: «لست أدري!».

2/3/1960

«أن يسقط الإنسان من السماء بلا مظلة.. ثم يمضي طريقه إلى الأرض مفكرًا.. شيء لا يحتمل..».

17/1/1961

كتبت أمس قصة جديدة: «المجنون»… وأنا أعتقد أن بناء قصة من هذا الطراز عمل صعب للغاية.. لقد كانت فكرتها كاملة في رأسي تقريبًا.. ولكن المشكلة هي مشكلة الجمل العابرة، والمفروض أن تكون عابرة في السياق إلى حد عادي جدًا، والتي يترتب على قوتها كل ما يمكن أن تعطي القصة من تأثير مقصود.. والمشكلة كانت في أن هذه الجمل لا يمكن أن تكون شيئًا معدًا سلفًا، ولابد أن تكون من وحي أسلوب القصة نفسه، وطريقة أداء الحادثة .. وهكذا فإن جو كتابة القصة هو وحده المسؤول عن خلق تلك الجمل.

لقد كتبتها على دفعتين، ومعظم الجمل العابرة الموحية كانت من حظ الدفعة الثانية.. وأعتقد أنها ليست بحاجة لأن تكتب مرة ثالثة… إذ أن أهم ما فيها ـ في رأيي ـ هو سهولة السياق، وعفويته، وبساطة التفكير.

كتبت القصة من داخل المنطق الخاص المجنون هذا، وهو نموذج لم أقرأ عنه، ومن هنا كانت صعوبة قصور منطقه المتسق، بل إني أشك في أنه «مجنون واقعي، ولقد قصدت ذلك قصدًا.. لأن “خلق” مجنون أصعب، في رأيي، من “دراسة” مجنون».

أفكاره تعتمد على تداعي الأفكار العفوي.. وهي أفكار لا علاقة لها ببعضها إلا بمقدار ما توحي كل جملة بمطلع ما بعدها.. وهكذا فلقد كان من الضروري أن تكتب الجمل القصيرة، واضحة، وسخيفة من حيث التركيب الفكري.. واعتمدت، أيضًا، على نقطة هامة: المجنون هذا يفترض أنه كان سيئًا، وبائسًا، وغير موجود قبل أن يجن.. وإلى ذلك، فهو يعترف، دون أن يواجه اعترافه مباشرة، بالسبب الرئيسي الذي دفعه إلى الجنون.. وهو حينما يقترب في ذاكرته من حادثة يكرهها يحاول أن يتصور أنها حدثت مع آخرين، وربما حيوانات، ولكنها لم تحدث معه..

ووراء كل ذلك، كان لابد أن أضع الخلفية الباهتة، ولكن الضرورية، التي تتحكم هذه الأيام بكل ما أكتب، وهي: أين يوجد الصحيح؟ من هو الذي على صواب؟ ما الفائدة من كل شيء؟ والفكرة الهامة التالية، وهي أن القلب الإنساني، مجنونًا، أو وضيعًا، أو نبيلًا، لابد أن يحمل كل صفات الإنسان هذه، الجنون والضعة والنبل، معًا، والفرق في الكمية التي يحملها من تلك الصفات.

5/2/1961

يبدو لي كأنما الرحلة القصيرة على وشك أن تنتهي… وأحس نهايتها إحساسًا مباشرًا كريهًا.. عشت اليوم ساعات مقطعة.. أتصور الآن أن ساعات بعض هذا النهار كنت فيها ميتًا فعلًا.. إني أرتجف، لسبب لست أدريه، وفي الوقت نفسه، أفكاري ترتجف كما لو أنها جسد ينتفض باحتضار غريب.. أفكاري كانت اليوم شيئًا يشبه شريط تسجيل رطب ممسوح، عفوًا، في بعض نواحيه.. وهكذا، فإنه يمر فوق انقطاعات صامتة، قصيرة، ميتة.. ورغم كل ذلك، فهي موجودة بشكل ما..

أي شيء كريه أن يموت الإنسان! والأبشع أن يكون جسده هو السبب.. في الأسابيع الأخيرة كنت أفكر بصورة تثير ضحك بعض من أعرف.. ذلك أني كنت عائدًا إلى البيت في منتصف الليل، كان الشارع خاليًا إلا من إعلانات مضيئة: تنطفئ، وتشتعل برتابة.. حمراء، وخضراء، وبيضاء.. وفجأة فكرت:/ أن المأساة كلها، هو أنه عندما أموت سوف تبقى هذه الإعلانات تضيء وتنطفئ، وسوف يبقى مصعد بيتنا يلبي كلما ضغط أحدهم على الزر، وأشيائي كلها سوف تباع، لينام عليها، وليستعملها إنسان آخر.. والمجلة التي أعمل فيها سوف لن تكف عن الصدور… وسوف يرن جرس الهاتف، ويجيب أحدهم: «إنه مات»، ثم يضع الآلة السوداء، ويفكر في غدائه ..

لقد بدت لي الأفكار هذه مرعبة بصورة جارحة.. وأرهقتني فكرة أن أموت… أن أنتهي، ويستمر كل شيء…

الرحلة لن تطول كثيرًا.. هذا هو الشيء المؤكد لدي الآن… ما الذي يحدث في جسدي؟ أي شيطان يذيب بناء اسطورية كل جوفي؟

24/8/1962

قبل منتصف الليل بساعة ونصف ولد فائز…

وحين هتفت الممرضة تقول مبروك، أحسست به، فائز، يقع فوق كتفي… ولمدى لحظات أحسست بشيء يشبه الدوار. وفي صخب المشاعر التي كانت تجتاحني، أحسست بأنني مرتبط أكثر بهذه الأرض التي أمشي عليها، كأن وقوعه فوق كتفي قد غرسني عميقًا في التراب..

وفي الصبح، حملته الممرضة، وعرضته أمام عيني من وراء الزجاج، وبدا لي قطعة لحم حمراء غبية، مغلقة العينين، مفتوحة الفم، راعشة الكفين.. عينان أمامهما الكثير لترياه.. وفم عليه أن يمضغ طويلًا، وكفان لا يدري أحد أهما للعطاء، أم للأخذ، أم لكليهما؟

قال لي الطبيب الواقف إلى جانبي:

ـ ما هو شعورك؟

ـ لا شعور لدي..

ـ أبدًا؟

ـ أبدًا ..

كأنني كنت أقول لنفسي أن في الوقت متسع لملايين من المشاعر، متسع للغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسعادة والشقاء والضحك والأسى والحب والكره والانتظار والملل.. ملايين من اللحظات المترعة بغزارة كل ما في هذه الأرض من تناقض.

وفي الغرفة الأخرى، كانت أمه ملقاة فوق الفراش. لقد نسيت كل الآلام التي اجترعتها في سبيل أن يولد، نسيت كل الدموع التي أهرقتها في العشرين ساعة الماضية، نسيت كل شيء.. كأن الحب الجديد الذي ملأها فجأة، حين قالوا لها إنها وضعت، الحب الغزير الذي لا يمكن أن يحمله إنسان لإنسان إلا الأم لابنها.. كأن هذا الحب قد غسل كل شيء بيد اسطورية ..

وبينهما، هو بين يدي الممرضة وراء الزجاج، وهي في سريرها غير قادرة على أن تخطو لتراه معي، كنت أقف أنا مغسولًا بالحب والخوف، صافٍ كأنني من زجاج .. ليس ثمة أي شيء أفكر به، أو أهتم له، مجرد رجل يقف مثل ملايين الرجال الذين لا يعرفون حقيقة المستقبل، العاجز الضئيل الصغير أمام المجهول الذي يطوقه بزوجة يريد أن يعطيها ماء عينيه، وولد يريد أن يهبه نبض شرايينه.. واقف هناك كما لو أن المشاعر الجدير بأن يحملها أثقل من أن يحملها، فتركها تحوم حوله، كهواء له صوت، وله رائحة، وله ثقل، تمسه كما تمس الحجر، وتغوص في كيانه حتى ليجهل أهو الذي نفثها، أم هي التي نفثته ..

وحين أنامته الممرضة من جديد خطوت عائدًا إلى غرفة زوجتي.. ولكن ما إن سمعت صوت خطواتي حتى عدت إلى عالمي، عالم بعيد مطوق بشيء اسمه حب حقيقي.. حب لا إلزام فيه ولا جزاء.. حب لذاته، بلا تعويض، بلا ثمن، بلا خوف، حب صافٍ لم أحس به أبدًا من قبل، أبدًا أبدًا، حب لذلك الطفل الذي ولد مني، بسببي، ومن أجلي، وكان ثمنه حبي لها، وحبها لي، ليس غير.. حب لا غاية له، ولا هدف، حب مترع العطاء، يطوف في صدري حتى أحسه يسكب في جسدي، كما لو أنه ينضح ندى فيبعث فيَّ فرحة اللقاء الحقيقي الذي لم يلوث بعد بتعقيدات الحياة، بقانون خذ وهات، وقانون أنت وأنا، وقانون أين ولماذا وكيف.. مجرد عطاء محض غير مشوب بأي سؤال، أو طلب، أو انتظار، أو تلكؤ، أو تردد.. مثل ماذا؟ مثل لا شيء، مثل ذاته ليس غير.. لو قدر لنبعة الماء أن تحس، إذن لأحسَّت ذلك الشعور، العطاء المحض الذي يخلق من جديد كلما شرب عابر من مائها ..

وحين نظرت في عيني «آني» فهمتها، ولست أدري لماذا أوشكت أن أبكي، بل إنني أحسست بالدموع تطوف في حلقي مثل الغصة.. وبذلك كل طاقتي لأقول أي شيء، عبث .. لم يكن في لساني إلا ذلك التساؤل الغبي: إذا أعطيتم الطفل حق البكاء حين يولد، أفلا تعطوني هذا الحق حين أولد أنا بولادته؟ أليس كل الأيام التي خلفتها وراء ظهري ذابت الآن؟ ألا يحق لي أن أفعل كل الذي أشاء وقد عثرت على قطعة السكر في قاع الكأس الذي اجترعت مرارته كل شبابي؟؟

ولكنك كنت وراء الزجاج يا فائز، بيني وبين لمسك مثل ما بين اليوم واليوم.. نائم هناك في غطائك الأبيض، تعني للمستشفى رقمًا مربوطًا إلى زندك ليميزك من بين عشرات المواليد الذين يشاطرونك الغرفة.. أما بالنسبة لي فإنك تعني الحياة المزدوجة، حياتك، وحياتنا: أمك وأنا..

أو تدري متى بدأت أفكر بك؟ أقول أفكر بك، وقد أحسست بك كل الوقت؟

حدث ذلك حين دخلت الممرضة لتأخذ أمك إلى غرفة أخرى:

ـ لماذا؟

لأن هذه الغرف خاصة بالدرجة الثانية، وأريد أن آخذ زوجتك إلى غرفة الدرجة الأولى..

ـ ولكنها مسجلة في الدرجة الثالثة!

ـ الثالثة؟ أوه، عفوًا إذن، لقد حسبت أنها مسجلة في الدرجة الأولى..

عندها فقط جعلوني أحس بأنني فقير.. وبأنني لن أعطيك الحياة التي يستطيع غيري أن يعطوها لأبنائهم.. ولأن هذا كله قد يعني لديك ـ غدًا ـ شيئًا..

لا تحسب أنني أريدها أن لا تعني لديك أي شيء.. الأمر لا يتعلق بك، أنه يتعلق بي أنا فقط.. لست أريد أن يشوب عطائي أي ندم..

أنا، يا فائز، لا أطالبك بحق الأبوة في المستقبل.. هذا الذي لا قيمة له إذا طالب المرء به، إنما أطالب نفسي بحقك علي، وهذا هو كل شيء عندي الآن.. لقد اكتشفت الآن فقط أن كل شيء سيبدو تافهًا لو طالبتك بأن تعوض لي سعادتي بأبوتي لك.. ولكنني لن أغفر لنفسي تقصيري بالمضي في هذه السعادة حتى آخر الشوط، بلا مقابل، بلا تعويض، هذه قضيتي أنا… أتعرف معنى هذا؟

.. وأنا أخرج من غرفة أمك عرفت أيضًا معنى الهم.. ذلك العبء الذي يثقل أكتاف الرجال، لأنه ينبع من الداخل، عميقًا من الداخل، والذي يعطي الحياة ذلك الحافز النبيل الذي يفتقر إليه رجل لا يعرف معنى العبء الذي ينبع من الداخل..

لقراءة الجزء الثاني… هنا

The post يوميات غسان كنفاني… (1959 ـ 1965) (1/2) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قصة لغسان كنفاني: العروس https://rommanmag.com/archives/18417 Sun, 27 Nov 2016 06:44:52 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d9%84%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%83%d9%86%d9%81%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d9%88%d8%b3/ عزيزي رياض، لا شك أنك تقول الآن إنني قد جننت، فهذه ثاني رسالة أكتبها لك في يوم واحد، ولكنني في الواقع أكتب لك هذه الرسالة الآن كي أوضح لك أمراً، لقد اكتشفت أنه محض جنون أن أكتب وأقول لك: ابحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بدلة […]

The post قصة لغسان كنفاني: العروس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عزيزي رياض،

لا شك أنك تقول الآن إنني قد جننت، فهذه ثاني رسالة أكتبها لك في يوم واحد، ولكنني في الواقع أكتب لك هذه الرسالة الآن كي أوضح لك أمراً، لقد اكتشفت أنه محض جنون أن أكتب وأقول لك: ابحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بدلة خاكية عتيقة، ويلوح لأول وهلة كأنه مجنون.

ماذا يمكن أن تفهم من هذا كله؟ لا شيء طبعاً، فالمرء يصادف في اليوم الواحد، إذا ما سار في الطريق، مئة رجل يحملون هذه الصفات، فأي واحد منهم تراني أقصد؟

إنني على يقين أنك ستكتشفه بنفسك، فهو شيء آخر، متميز… كيف؟ لا أستطيع أن أقول لك، فأنا نفسي لا أعرف، ولكن يخيل إليّ الآن أنني حين شهدته لأول مرة كان محاطاً بما يشبه الضوء، نعم، كان محاطاً بشيء يشبه الغبار المضيء، وأعترف لك أنني لم أتأكد من ذلك تماماً حين استوقفني لحظة واحدة في الطريق، إلا إنني أكاد أكون متيقناً الآن، أن ذلك الرذاذ المضيء الذي كان يحوط جسده الضخم هو الذي رسّخ صورته في ذهني، وإلا كيف تفسر أنني ما زلت أذكره، وما زال يلح عليّ، من بين مئات الرجال الذين يقابلهم الإنسان في الطريق كل يوم، ثم يذوبون من رأسه وينعدمون؟

في طول ما تبقى من الجليل مضى ليل نهار يبحث عن بندقيته: من قرية إلى أخرى ومن مقاتل إلى آخر، ينقب وجوه الناس والأشياء متعقباً أخبار البندقية التي لم يشهدها إلا ساعات، والتي كانت محشوة بالرصاص ولكنه لم يطلق منها رصاصة واحدة.

ورغم ذلك فأنا أعرف، هذه اللحظة، أنك ما زلت تعتقد أنني شبه مجنون، فحتى الآن لم يتضح أي شيء، وما زلنا حيث كنا في الرسالة الأولى: ابحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بذلة خاكية عتيقة، ويبدو لأول وهلة كأنه مجنون.

كل الذي أضفته لهذه الصفات تلك الصفة المعقدة الجديدة: إنه محاط بشيء يشبه الغبار المضيء!

معك حق، ولكنني أكتب لك هذه الرسالة الثانية في يوم واحد لتعرف القصة بكاملها، ذلك أنني رأيت أنه صار من حقك، وقد طلبت منك مشاركتي في البحث عنه، أن تعرف ما أعرفه.

لست أذكر بالضبط متى رأيته لأول مرة، ولكنني أذكر تماماً كيف رأيته: مثل إنسان ضيّع شيئاً، كان يسير محنياً بعض الشيء، بكفين مفتوحتين متحفزتين، وعينين تنقبان وجوه الناس كأنهما محراثان عتيقان، لقد بدا لأول وهلة وكأنه مجنون، وحين مرّ بي نسيته ولم أذكره إلا حين رأيته مرة ثانية: اقتلعتني عيناه فجأة وأحسست نفسي أطوف فوق موجة تستعصي على الرؤية، ولست أدري الآن ما إذا كنت أنا الذي ذهبت إليه مسوقاً بذلك النداء العميق المنبعث من عينيه كتيار لا يقاوم، أم أنه هو الذي جاء إليّ، وعلى أي حال فقد وضع كفه الكبيرة على كتفي وسأل:

־ هل رأيتها؟

־ رأيت ماذا؟

־ العروس!

وطبعاً تيقنت لحظتذاك أنه مجنون، وأن ما انتابني أمام عينيه القاسيتين هو ما ينتاب أي إنسان يجد نفسه هدفاً لعيني رجل مخلوع عن العالم والمعقول، ولذلك اخترت الهروب الأسهل فقلت له:

־ كلا، لم أرَ العروس…

وعندها سقطت يده من تلقائها إلى جنبه واستدار، إلا إنني سمعته يقول، كأنما لنفسه:

־ كلكم تقولون هذا، منذ عشر سنوات.

وحين ابتلعه الزحام، يا رياض، شعرت بأن جسده الضخم كان محاطاً بذلك الشيء الذي يشبه الغبار المضيء، كما رسمه فنانو عصر النهضة حول جسد الإله وهو يقدم عونه للفقراء، على بطاقات الأعياد التي كنا نتلقاها معاً.

وعبثاً حاولت اللحاق به: إن مثل هذه الأمور لا تحدث إلا كلمح البصر، لقد نقبت الشارع صعوداً ونزولاً، قابلت مئات من الرجال الذين يشبهونه تماماً، ولكنه هو نفسه كان قد اختفى! عنه، أبحث الآن، وعنه أيضاً أطلب منك مشاركتي البحث، أعرف أنك تبعد عن هنا أكثر من ألف ميل، ولكن ما الذي يمنع ذلك الرجل أن يسير، محاطاً بذلك الضوء المجهول أكثر من ألف ميل وهو يبحث عن العروس؟

قبل أن أسألك سألت غيرك، لم ألجأ إليك إلا لأنني، منذ رأيته، ألجأ إلى كل من أعرفه، أستوقف كل من تربطني به أدنى علاقة وأسأل عنه. وأصارحك القول يا رياض، لقد مضى بي الأمر إلى أبعد من ذلك.

ذات ليلة قلت لنفسي: إذا كان ذلك الرجل قد دأب على سؤال الناس عن العروس منذ عشر سنوات، كما قال، فإن الشيء المؤكد تماماً أن كثيراً من أولئك الناس الذين سألهم، ينتباهم الآن ما ينتابني. وكنت أسير ذات يوم في الطريق حين التقت عيناي عابراً لا أعرفه، ودون أن أعرف ما الذي أنوي عمله مضيت إلى الرجل فاستوقفته، وضعت يدي على كتفه وسألته:

־ هل رأيت العروس؟

سمِّني مجنوناً ولكن هذا الذي حصل، وقد استطعت، عن هذا الطريق أن أعرف الكثير عن الرجل، وعن  «العروس» الضائعة، إلا إنني ما زلت غير قادر على التخلص من تلك القسوة المجهولة التي تدفعني نحو عيون العابرين لأسألهم عن العروس الضائعة.

الآن دارت الدورة، أو أنا الذي درتها، لست أدري، ولا بد من أن أعود إلى نقطة البدء، إلى ذلك الرجل المحاط بما يشبه النور، والذي من شفتيه وعينيه وتحت كفه الثقيلة، سمعت ذلك السؤال لأول مرة في حياتي، نعم، يا رياض، لا بدّ لي من رؤيته.. فلدي أخبار جديدة عن العروس!

كان من قرية «شعب» شاباً لم يكن قد ضيع شيئاً بعد، ولكنه لم يكن عند ذاك قد وجد أي شيء أيضاً.

لا بد أن قصته قد بدأت في يوم ما من أيام حزيران الأولى عام 1948، كان القتال الدموي قد استمر دون انقطاع طوال أكثر من ستة أشهر، وكان هو ־ وأنا ما زلت أجهل اسمه ־ سيّد الذين يندفعون إلى القتال، هجوماً كان أم نجدة أم دفاعاً، إلا إنه كان يشترط أن يعرف موعد العمل قبل بدئه بساعتين على الأقل، كي يكون أمامه متسع من الوقت للتفتيش على من يقبل أن يعيره سلاحاً، بندقية خديوية، أو إنكليزية، أو حتى قنبلة يدوية.

وكانت الأمور، على هذه الشاكلة، مقبولة عند كافة الأطراف، فغالباً كان يأخذ معه إلى الرجل الذي ينوي أن يستعير منه سلاحاً رفيقاً يتعهد أمامه بأن يعيد السلاح إلى صاحبه إذا ما مات صاحبنا أثناء العمل، كان حريصاً على أن يتعامل معاملة مصارف محترمة، رغم أنه لم يشهد في حياته مصرفاً محترماً أو مصرفاً، وهكذا فإنه لم يواجه، طوال تلك الشهور الستة، مشكلة حقيقية في هذا المجال، ولذلك لم يفكر بالحصول على سلاح خاص، وربما امتنع عن التفكير بالحصول على ذلك السلاح الخاص بسبب عجزه عن شراء سلاح.

لم أعرف بعد من الذي زرع في رأسه، في أحد تلك الأيام الأولى من حزيران، أن عليه الحصول على سلاح، وكان هذا الرأي سليماً تماماً، فقد تركز القتال بصورة جادة في الجليل، وألقى العدو ثقله هناك، وابتدأت أنهار المهاجرين تسيل في التلال نحو الشمال، وبدا كل شيء وكأنه يقف على الحافة.

لا شك أنه كان أصلب من أن يتردد كثيراً، فقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من ذلك الحزيران كان قد عقد عزمه بصورة ليس بالوسع زحزحتها، لقد سلم سلاحه في معركة لم أهتدِ إلى اسمها بعد لأحد رفاقه ومضى يزحف تحت غيوم راعدة من النار، كان على يقين بأن بعض جنود العدو في خطوطهم الأمامية قد قتلوا، وأنه لو انتظر إلى نهاية المعركة لفقد فرصته، كان يعرف أنهم يسحبون جنودهم بالحبال بعد انتهاء القتال.

وقد استطاع أن يصل بالفعل إلى الخنادق المحروقة، كانت العتمة ثقيلة، ولكنه أسقط نفسه في إحدى الحفر، وبأسنانه فك يد القتيل عن بندقيته، وتفحصها هناك على ضوء الحرائق والانفجارات، ومضى عائداً إلى رفاقه.

وسرى الخبر في كل القرى سريان النار، ليس لأنها كانت الحادثة الأولى من نوعها، ولكن لأن البندقية التي جاء بها كانت بندقية نادرة.

لن أطيل عليك كثيراً، لقد استدعي في اليوم التالي إلى القيادة التي كانت تعسكر في قرية مجاورة، كان الضابط قد سمع عن البندقية، وحين شهدها أمامه بين كفي الرجل فتح عينيه على وسعهما:

־ هذه مرتينة تشيكية!

وانحنى الواقفون ينظرون إلى البندقية الجديدة والتي كان فولاذها يلتمع تحت قنديل الغرفة: كان ذراعها ذا لون بني كامد، وكان حزامها الخاكي جديداً تماماً، مجدولاً بعناية لا تصدق، وكان مشطها الكبير يعلو زنادها كأنه التاج.

وجاء صوت من طرف الغرفة الأخرى:

־ يبدو أنهم تلقوا شحنة سلاح جديدة من الشرق، القيادة يجب أن تعرف ذلك.

وهز الضابط رأسه موافقاً على ذلك الرأي وقرر:

־ يجب أن آخذ هذه المرتينة إلى القيادة.

تستطيع يا رياض، أن تقدر ما حدث: لقد تمسك صاحبنا ببندقيته ولكن الأوامر، كما تعلم، كانت أقوى: ألا يصدقونكم دون أن تأخذوا البندقية؟ ألا تستطيعون تقدير قيمة الوقت؟ إذا شئتم ذهبت أنا مع البندقية!

ولكن ذلك كله لم يكن يجدي، وكي يطمئن على بندقيته أقسم له الضابط أن يعيدها له، بأمشاط إضافية، خلال يومين.

ومر اليومان، ومر الأسبوع، في ذلك الشهر الذي تتطاول دقائقه ويموت ناس وتسقط بلاد وتحترق مزارع وتولد في كل دقيقة حادثة جديدة: من مركز القيادة إلى الدار، ومن الدار إلى مركز القيادة، ضارباً في الوعر والشوك، انتظر الآن، وتعال غداً، ولكن الأحداث، كما لا شك تذكر، في ذلك الشهر الحاسم، لم تكن لتنتظر.

وقد تساقط فوقه حدثان في يوم واحد: في الصباح قيل له إن الضابط قد نقل مركز قيادته إلى الشمال حيث لا يعرف أحد، وفي المساء تلقت «شعب» الضربة الأولى، وحرثت قنابل المورتر بيوتها الطينية، وأحرقت أغراس الزيتون، في لحظة كانخطاف البصر.

من الذي سيعيره بندقية في ذلك الطوفان الذي لا تنفع فيه إلا البندقية؟ هي وحدها التي كانت تستطيع أن تحمل الإنسان عبر ذلك الموج، إلى شاطئ النجاة أو إلى شاطئ موت شريف، ولذلك لم يكن أمامه في ذلك الطوفان الغارق إلا.. إلا ماذا؟ إلا الجنون، طبعاً، إذا صدقت أنه لم يكن ليختار الفرار.

ولكنه لم يقبل الجنون ولا اختار الفرار. وكان الموت هو الذي تبقى له، ولكن حتى الموت خسره هو الذي صرف كل أيام الحرب مقاتلاً في أول صف، بسلاح معار، بين أسنان موت حقيقي، جلس هناك في «شعب» على حجر، وسط الساحة، ينظر إلى البيوت تحترق، والى الرجال يموتون، والى أهله ينسربون مع من انسرب تحت ظلمة ذلك الليل، إلى حيث لم يعرف، ولا يعرف حتى الآن.

وقد شاهدوه حين احتلوا «شعب»، وحسبوا كما حسبت أنا أنه مجنون، فضربوه بأعقاب البنادق كي يغذ الخطى في الوعر إلى الشمال.

في طول ما تبقى من الجليل مضى ليل نهار يبحث عن بندقيته: من قرية إلى أخرى ومن مقاتل إلى آخر، ينقب وجوه الناس والأشياء متعقباً أخبار البندقية التي لم يشهدها إلا ساعات، والتي كانت محشوة بالرصاص ولكنه لم يطلق منها رصاصة واحدة.

أنت لا تعرف ما الذي حدث في «شعب»، قليلون هم الذين يعرفون ذلك، ولكنه شيء ضروري أن تعرف ما الذي حدث هناك كي تدرك حقيقة القصة. لقد مضى هو صعوداً، في قيظ لا مثيل له، إلى البروة، ومن هناك إلى مجد الكروم، إلى البعنة، إلى دير الأسد، إلى كسرا، إلى كفر سميع، متعقباً أخبار بندقيته خطوة، خطوة، من قصة إلى أخرى ومن رجل إلى آخر، وحين وصل إلى ترشيحا جاءته أخبار جديدة من «شعب»: إن الأربعين مقاتلاً الذين تبقوا من رجال «شعب» ذهبوا إلى قيادة جيش الإنقاذ في الشمال ليعرضوا أنفسهم كمقاتلين في صفوفه، وحين علموا أن خطة زحف الجيش لن تمر في «شعب» عادوا إلى هناك، وفي ليلة واحدة انقضوا على قريتهم من جديد، واسترجعوها.

ستبدو لك الحادثة غريبة ولكن هذا هو ما حصل، لقد عاد الأربعون مقاتلاً فاسترجعوا قريتهم المحروقة وتعقبوا عساكر العدو إلى قرب مفرق «الدامون»، ودفعوا ثمن ذلك عشرة رجال.

لقد حدث ذلك، يا رياض، في بقعة محاطة بالعدو من كل جانب، واستطاع الرجال الثلاثون أن يبقوا وراء جدران قريتهم المهدمة يردون الهجمات المتكررة ليلاً نهاراً، ولكنه هو، في ترشيحا، كان يشم بندقيته قريبة كأنها في متناول يده، واعتقد أنه لو انتظر يوماً واحداً فقط لاستطاع استرجاعها، ولعاد معها، إلى «شعب».

قلت لك إن الأحداث لا تنتظر، ففي اليوم التالي اكتسح العدو «شعب» مرة أخرى، وفر الرجال الذين فقدوا خمسة من مقاتليهم، إلى التلال المجاورة حيث يستطيع ابن البلاد أن يضيع قطيع ماعز.

وقيل له يومها، إن بندقية تشيكية جديدة شوهدت مع رجل عجوز في قرية صغيرة تقع على بعد ساعتين إلى الشمال من ترشيحا، وقد ذهب إلى هناك في الليل، وهناك قيل له، وهو يكاد يفقد وعيه، إن مقاتلي «شعب» الخمسة والعشرين قد انحدروا إليها تلك الليلة بالذات وقاتلوا ببنادقهم وسكاكينهم حتى الصباح وإنهم، مرة أخرى، استرجعوا قريتهم الممزعة، وتمركزوا وراء الركام على مداخيلها وفقدوا ثلاثة رجال..

وراء أخبار البندقية، من باب إلى باب قيل له إن العجوز الذي شوهد يحملها قد مضى، في الليل، وتسلق الهضبة ذاهباً إلى الجنوب، ربما ليلتحق بالمقاتلين الذين بدأوا يتجمعون إلى الجنوب من ترشيحا بانتظار هجوم حاسم. ودون أن يضيع لحظة تردد واحدة كر عائداً إلى ترشيحا، فرجال «شعب» الثابتون وراء استحكامات الدمار في قريتهم الصغيرة المعزولة ينتظرونه. ثم إنها، لو تعلم، قريته التي لم يستطع، حين اجتيحت، أن يطلق في سبيلها رصاصة واحدة.

ولكن أخبار «شعب» سبقته إلى ترشيحا، حيث لم يستطع أن يعرف أخبار البندقية: لقد فوجئ المقاتلون المنهكون بهجوم ثقيل ماحق، وفقدوا وهم يتراجعون سبعة رجال، وحملوا معهم أربعة جرحى، واختفوا في التلال.

وفيما كان هو على حافة الجنون يتسقط، كما لو أنه بين نصلي مقص، أخبار بندقيته من جهة، وأخبار «شعب» من جهة أخرى، انحدر مَن تبقى من مقاتلي تلك القرية الصغيرة، بعد ساعتين من تراجعهم، واكتسحوا القرية مرة ثالثة مثل لمح البصر، ومرة ثالثة أيضاً تمركزوا فيها بعد أن ألحقوا خسائر حقيقية بالعدو وغنموا مما خلفه سلاحاً وزاداً.

لست أدري من الذي قال له في ترشيحا إنه لو استطاع العودة إلى «شعب» بكفيه العاريتين، لاستطاعوا هناك تزويده بالسلاح الذي يريد، ولست أدري إنْ كان هذا القول قد راقه أو لا، ولكن الذي أدريه هو أنه، تلك الظهيرة القائظة، شاهد بندقيته على كتف رجل في الساحة.

وكما تمسك بها يوم انتزعها بأسنانه من قبضة القتيل شدها إليه وهي لما تزل معلقة على كتف الرجل، وحين استدار هذا الأخير، مذهولاً، وشهد أمامه ذلك الرجل الطويل الصلب ذا النظرات القاسية والوجه المنهك، اكتشف، أغلب الظن، أنه على أبواب عراك، فثنى كوعه حول حزام البندقية، ومد ذراعه الأخرى لتحول دونه ودون العملاق.

أما هو فقد كان غير قادر على الكلام، قيل لي إنه كان يبكي وكان يرتجف كالمحموم، لقد مضت شفتاه الجافتان تتمتمان كلاماً ليس بالوسع فهمه، وأمامه كان الرجل الآخر بلحيته الدقيقة وعينيه الغائرتين قد عقد العزم على المضي بالعراك إلى إحدى نهايتيه.

־ هذه مرتينتي!

قالها بعد جهد لا يصدق بصوت مبحوح محشرج وطفقت عيناه تحدقان إلى الرجل العجوز كأنهما تنتظران الاعتراف، إلا إن العجوز الصعب صرخ بوجهه:

־ مرتينتك أيها النصاب؟ لقد دفعت ثمنها من حلالي قبل يومين فقط!

وتساءلت العينان في وجهه، فقد كان مستحيلاً، بعد، أن يتكلم، وجاءه الجواب:

־ من حلالي، اشتريتها أمام خمسة شهود من ضابط باعها لي، وهو يتجه إلى الشمال، بمئة جنيه.

وارتخت قبضتاه عن جسد البندقية إلا إنه لم يتركها تماماً، وبدا أنه، في لحظة واحدة، سيتهاوى ولكنه بذل مزيداً من الجهد وهمس:

־ أريدها لأعود إلى «شعب».

־ «شعب»؟ لقد احتلها اليهود مرة أخرى قبل قليل.

ترك البندقية، فضمها العجوز إلى صدره بقوة وتراجع خطوتين، وحين اطمأن تماماً إلى أنه لن يفقد سلاحه سأله:

־ هل كانت هذه المرتينة لك؟

وهزّ رأسه يائساً إلى النهاية.

־ دفعت بها مئة جنيه مهر ابنتي الوحيدة، لقد رفضت كل عمري أن أزوجها لذلك العجوز النتن، ولكن ماذا تريدني أن أفعل الآن؟ لقد دفع مئة جنيه، دفعتها بعد ربع ساعة فقط ثمناً لهذه التشيكية.

وبهدوء استدار كشيء، محطم، ومضى. كانت تلك هي آخر مرة شوهد بها في ترشيحا وليس يدري أحد إلى أين ذهب، وعلى أي حال فإنه لو ذهب شمالاً لكان من المؤكد أنه سمع، قبل أن تتيسر له مغادرة الحدود، أن رفاقه العشرة الذين تبقوا من مقاتلي «شعب» قد هبطوا التلال بعد يومين، وبسلاحهم اليسير استرجعوا تلك القرية الصغيرة المهدمة، مرة رابعة.

لم اهتد بعد إلى اسم العروس التي بيعت ثمناً للبندقية، ولم أعرف بعد ماذا فعل العجوز بتلك البندقية الجديدة، وكذلك فأنا لا أعرف كيف انتهت قصة  «شعب»، وكيف انتهت أخبار أولئك الرجال الأربعين الذين ذابوا بالتدريج، كما تذوّب النار قطعة دهن.

أهو الرجل الوحيد الذي تبقى من مقاتلي  «شعب»؟ ربما، لست أدري في الواقع، ولكن يخيّل إلي أن هذا هو السبب الذي جعل منه رجلاً غريباً ينتابه إحساس ثقيل بأنه ما زال يبحث عن بندقية ضائعة ليلتحق بالرفاق الذين كانوا ينتظرونه في القرية المهدمة.

ولكن يا عزيزي، رياض، لماذا لا تفتش معي عن ذلك الرجل؟ إنه رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بذلة خاكية قديمة، ويبدو وكأنه محاط برذاذ مضيء، ويلوح لأول وهلة، حين يستوقفك ليسألك:

־ هل رأيت العروس؟

يلوح كأنه مجنون.

ابحث معي عنه، حيث أنت، فلدي أخبار جديدة عن العروس..

بيروت، 1965

 

تُنشر بالاتفاق مع السيدة آني كنفاني ومنشورات الرمال للنشر.

كتب كنفاني متوفّرة على موقع الدار: www.rimalbooks.com

The post قصة لغسان كنفاني: العروس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
النّص العربي وڤيديو المقابلة مع غسان كنفاني https://rommanmag.com/archives/18362 Tue, 11 Oct 2016 12:12:36 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a-%d9%88%da%a4%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%a8%d9%84%d8%a9-%d9%85%d8%b9-%d8%ba%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%83/ مقطع من مقابلة أجراها مع غسان كنفاني الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون في بيروت، في مكتب كنفاني بمجلّة الهدف، سنة ١٩٧٠ على الأرجح. تمّ إيجاد المقطع أمس ونُشر على الفيسبوك، ننشر هنا ترجمتنا العربية له.   غسان:  ما أعرفه حقاً هو أن تاريخ العالم كان دائماً تاريخ الضعفاء يقاتلون الأقوياء، تاريخ الضعفاء الذين يملكون قضية محقّة يقاتلون الأقوياء […]

The post النّص العربي وڤيديو المقابلة مع غسان كنفاني appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقطع من مقابلة أجراها مع غسان كنفاني الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون في بيروت، في مكتب كنفاني بمجلّة الهدف، سنة ١٩٧٠ على الأرجح. تمّ إيجاد المقطع أمس ونُشر على الفيسبوك، ننشر هنا ترجمتنا العربية له.

 

غسان:  ما أعرفه حقاً هو أن تاريخ العالم كان دائماً تاريخ الضعفاء يقاتلون الأقوياء، تاريخ الضعفاء الذين يملكون قضية محقّة يقاتلون الأقوياء الذين يستخدمون قوتهم لاستغلال أولئك الضعفاء. 

كارلتون: بخصوص القتال الجاري في الأردن، خلال الأسابيع الأخيرة، هل كانت منظمتكم مشاركة في القتال؟ (يهزّ غسان رأسه موافقاً) ماذا أنجزتم؟

غ: أمراً واحداً، هو أنه لدينا قضية نقاتل من أجلها، وهذا كثير جداً. الشعب الفلسطيني يفضّل الموت واقفاً على أن يخسر قضيته. ماذا أنجزنا؟ أنجزنا أننا أثبتنا بأن الملك على خطأ، أنجزنا إثباتنا بأن هذا الشعب سيستمر بالقتال حتى النصر، وبأن هذا الشعب لن يُهزم أبداً، أنجزنا أن قلنا لكل شخص في هذا العالم إننا شعب صغير وشجاع وسيقاتل حتى آخر قطرة دم كي نجلب العدالة لنا بعدما فشل العالم بذلك. هذا ما أنجزناه.

ك: يبدو أن الحرب الأهلية كانت بلا جدوى.

غ: ليست “حرباً أهلية”، هذا شعب يدافع عن نفسه ضد حكومة فاشية، والتي تدافع أنت عنها فقط لأن للملك حسين جواز سفر آخر. هي ليست حرباً أهلية.

ك: أو صراع

غ: ليس صراعاً، هي حركة تحرّر تقاتل من أجل العدالة.

ك: حسناً، مهما أمكن تسميتها…

غ: ليس “مهما”، لأنه من هنا تبدأ المشكلة، لأن هذا ما يجعلك تطرح كل أسئلتك. هنا تبدأ المشكلة تماماً. هذا شعب يتم التمييز ضده، يقاتل من أجل حقوقه. هذه هي القصة. إن قلت أنت “حرباً أهلية” فسؤالك سيكون مبرراً، إن قلتَ “صراعاً” فمن الطبيعي أن تتفاجأ بما يحصل.

ك: لم لا تدخل منظمتكم في محادثات سلام مع الإسرائيليين؟

غ: أنت لا تقصد تحديداً محادثات سلام، بل تقصد استسلام.

ك: لم لا تتكلمون فحسب؟

غ: نتكلم مع من؟

ك: تتكلمون مع القادة الإسرائيليين.

غ: هذا نوع المحادثة بين السيف والرقبة، تقصد؟

ك: إن لم يكن هنالك سيوف وأسلحة في الغرفة، ستستطيعون التكلّم.

غ: لا، لم أرَ أبداً كلاماً بين جهة استعمارية وحركة تحرر وطني.

ك: لكن رغم هذا، لم لا تتكلمون؟

غ: نتكلم عن ماذا؟

ك: تتكلمون عن احتمال أن لا تقاتلوا.

غ: لا نقاتل من أجل ماذا؟

ك: لا تقاتلوا أبداً، لا يهم من أجل ماذا.

غ: الناس عادة تقاتل من أجل شيء ما، وتتوقف عن القتال من أجل شيء ما. لكنك لا تستطيع أن تخبرني لماذا علينا…؟

ك: إيقاف القتال..

غ: نتكلّم لنوقف القتال من أجل ماذا..؟

ك: تكلموا لتوقفوا القتال والموت والبؤس والدمار والألم.

غ: موت وبؤس ودمار وألم من؟

ك: الفلسطينيون والإسرائيليون والعرب.

غ: الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه ورُمي في المخيمات ويعيش في مجاعة ويُقتل لعشرين سنة، وممنوع عليه حتى استخدام تسمية “فلسطيني”.

ك: ذلك أفضل من الموت على الأقل.

غ: ربما بالنسبة لك، لكن بالنسبة لنا ليس الأمر كذلك، بالنسبة لنا، كي نحرر بلدنا، ونحصل على الكرامة، والاحترام، والحقوق الإنسانية، تلك الأشياء أساسية كما هي الحياة ذاتها.

ك: تقولون بأن الملك حسين فاشي (يهز غسان رأسه موافقاً)، من تعارضون أيضاً من الرؤساء العرب؟

غ: نعتبر أن الحكومات العربية نوعان: من نسميهم بالرجعيين، وهم متصلون تماماً مع الإمبرياليين، كحكومة الملك حسين، والحكومات السعودية والمغربية والتونسية، وهنالك حكومات عربية أخرى نسميها بالحكومات العسكرية البرجوازية-الصغيرة، كسوريا والعراق ومصر والجزائر الخ.

ك: نهاية، دعني أعود إلى خطف الطائرات، بعد التفكير، هل تظن الآن بأنه خطأ؟

غ: لم نرتكب خطأ بخطف الطائرات، على العكس، قمنا بواحد من الأشياء الأكثر صحّة في تاريخنا.
 

هنا المقابلة من صفحة بوابة اللاجئين الفلسطينيين

The post النّص العربي وڤيديو المقابلة مع غسان كنفاني appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>