قال الطبيب لجدّي: تحتاج إلى رياضة كي تعيش، قال جدي: عجوز ورياضة؟
هذه هي الطريقة الوحيدة لتعيش، أركب الخيل مثلاً.
لقد ركبت الخيل كل عمري، وكففت عن ذلك منذ شهرين فقط.
عد إلى ركوب الخيل، إذا أردت أن تعيش.
في صباح اليوم التالي ركب جدي حصاناً جمح به فقصفه غصن واطئ عنقه.
*
الجياد جرّت عربة الموت إلى المقبرة وسرنا خلفها. سائق العربة رجل قصير له زوجة وست بنات ورداء ليليكي لحصانه الأسود. في الأيام العادية يؤجر حصانه لحديقة الأطفال. في أيام الموت يسوق الحصان العربة إلى المقبرة بخطوات جنائزية متزنة تدرب عليها طويلاً. وكلاء حديقة الأطفال يحبون الحصان: لأن خطواته متزنة ورصينة لا تخيف الأطفال ولا تعرضهم للخطر.
*
صاحب الحصان تزوج أرملة جثة ساقها إلى المقبرة. جاءته في الصباح سوداء، وتحدثا عن الجنازة وعرف أنه سيتزوجها ذات يوم. في الموكب راقبها من فوق وكانت الجثة في الصندوق المحكم الإغلاق وراءه. حين أصلح العجلة الخشبية وضع الحداد طوق الحديد المجمر حولها ثمّ صبّ الماء البارد فوقه فأطبق الطوق صلباً حول العجلة الخشبية، واعتصرها ولم يعد من الممكن فكهما. وكانت تنظر إليه من تحت وتعجب به في خجل. في الصباح شاهدت الموظف يلف أوراق رجلها الميت كأسطوانة ويحكم ربطها بالمطاط ويضعها في الخزانة. انتهى كل شيء. اعتصر المطاط الاسطوانة.
مهر، حصان وفرس، مهر آخر.
حصانه القديم مات. أخذوا حدوات حوافره، لم تكن دوائر مغلقة. حدوات مبراة لا تصلح. صهروها وصبوا منها طوقاً جديداً لعجلة خشبية جديدة.
*
مشينا وراء العربة. كان القبّار رجلاً أعمى. وكان المطر يغسل الحفرة المعدّة. وحين أسقطوا النعش الثقيل غاص في الوحل وقال الدفان: “لا عليكم، سيخرج من الطرف الآخر”. كان سور المقبرة مزروعاً بالزجاج. أمسكوا طالباً يسرق عظاماً يبيعها لأساتذته ويشتري خبزاً وحليباً.
عدنا، وكانت ليلى تبكي، وقالت: أحس أنني أنا التي مت. أحس أنني ميتة.
أتركيني أزرع فيك الحياة. أتركيني أضمك عارية إلى عريي. طريقة وحيدة لتشعري رعشة الحياة، أنت الميتة، أتركيني.
وتركتني.
*
وكان عندي عربة وحصان وزوجة، وسيصير عندي زوجة أخرى، أسميها ليلى.
مهر، حصان وفرس، مهر آخر.
ولم أكن أعرف أن ليلى جاسوسة، قتلت زوجها لأدفنه، وتحبني، وأحبها، وأتزوجها، وتتجسس علي.
وأخذتها إلى بيتي.
*
إنني قبار: أزوج الأرض جثث الرجال وأتزوّج أراملهم. واكتشفت ليلى الحقيقة كلها، فأنا أرى الموت، فقط، وسيلة للحياة. أراه مهراً، وذلك كان كل ما أرادته، وحين عرفته أحبتني حقاً.
ويوماّ أخذتها إلى حديقة الأطفال. وكان الحصان ينقل حوافره برصانة العجوز فاقد الذاكرة. من وراء ظهور الأطفال وضعتها خلسة على الأرجوحة وأخذت أدفعها وهي تضحك. إلى فوق، قالت. أكثر إلى فوق. وضحكت. أكثر. فوق. ضحكت. أكثر. أكثر. أكثر. ثم صعدت، وانتظرتها. لم تعد.
*
وجنّ جنون الحصان فأخذ يدوس على الأرض ويضربها بقسوة. وخشيت أن يقتل الأطفال إلا أنني تذكرت أن الأطفال لا يموتون، فصرفت النظر عنه، وأخذت أنتظر أن تعود ليلى على الأرجوحة. ولكنها لم تعد.
*
لم تعد ليلى
وهرب الحصان وأخذ يجمح مثل العلم على التلال المحيطة بملعب الأولاد، وقال لي بصهيل مثل احتكاك سيفين: الطريق بين المقبرة وملعب الأولاد، بين ملعب الأولاد والمقبرة صارت مملة، ولقد اعتزمت أن أسلك، بين الملعب والمقبرة، طريق التلال. هناك ألقى الفرس، وهناك تنجب المهور.
واختفى الأطفال.
عدت ماشياً إلى البيت.
*
الحصان الذي جمح بجدي وقتله هرب هو الآخر إلى التلال.
وكذلك حصان القبار.
اهترأت العربة التي تنقل الموتى، وأكل السوس عجلاتها.
لم يبق منها إلا أطواق الحديد التي كانت مئات من حدوات الحوافر المبرية.
وذات يوم جاء رجل من التلال، على حصان بلا سرج، وأخذ أطواق الحديد الباقية، وصهروها حدوات حوافر خيول من جديد.
لم يعد ثمة من يدفن الموتى، وصاروا – قبل أن يموتوا – يحفرون حفراً تتسع لأجسامهم ويسقطون أنفسهم بها، غالباً على التلال.
مهر. حصان وفرس. مهر آخر.
حدوة، عجلة، حدوة أخرى.
طفل، رجل، رجل آخر.
تلال.
تلال.
تلال.
نُشرت في مجلة «المجلة»، العدد ١٦٤، في ١/٨/١٩٧٠