عزيزي رياض،
لا شك أنك تقول الآن إنني قد جننت، فهذه ثاني رسالة أكتبها لك في يوم واحد، ولكنني في الواقع أكتب لك هذه الرسالة الآن كي أوضح لك أمراً، لقد اكتشفت أنه محض جنون أن أكتب وأقول لك: ابحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بدلة خاكية عتيقة، ويلوح لأول وهلة كأنه مجنون.
ماذا يمكن أن تفهم من هذا كله؟ لا شيء طبعاً، فالمرء يصادف في اليوم الواحد، إذا ما سار في الطريق، مئة رجل يحملون هذه الصفات، فأي واحد منهم تراني أقصد؟
إنني على يقين أنك ستكتشفه بنفسك، فهو شيء آخر، متميز… كيف؟ لا أستطيع أن أقول لك، فأنا نفسي لا أعرف، ولكن يخيل إليّ الآن أنني حين شهدته لأول مرة كان محاطاً بما يشبه الضوء، نعم، كان محاطاً بشيء يشبه الغبار المضيء، وأعترف لك أنني لم أتأكد من ذلك تماماً حين استوقفني لحظة واحدة في الطريق، إلا إنني أكاد أكون متيقناً الآن، أن ذلك الرذاذ المضيء الذي كان يحوط جسده الضخم هو الذي رسّخ صورته في ذهني، وإلا كيف تفسر أنني ما زلت أذكره، وما زال يلح عليّ، من بين مئات الرجال الذين يقابلهم الإنسان في الطريق كل يوم، ثم يذوبون من رأسه وينعدمون؟
في طول ما تبقى من الجليل مضى ليل نهار يبحث عن بندقيته: من قرية إلى أخرى ومن مقاتل إلى آخر، ينقب وجوه الناس والأشياء متعقباً أخبار البندقية التي لم يشهدها إلا ساعات، والتي كانت محشوة بالرصاص ولكنه لم يطلق منها رصاصة واحدة.
ورغم ذلك فأنا أعرف، هذه اللحظة، أنك ما زلت تعتقد أنني شبه مجنون، فحتى الآن لم يتضح أي شيء، وما زلنا حيث كنا في الرسالة الأولى: ابحث معي حيث أنت، عن رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بذلة خاكية عتيقة، ويبدو لأول وهلة كأنه مجنون.
كل الذي أضفته لهذه الصفات تلك الصفة المعقدة الجديدة: إنه محاط بشيء يشبه الغبار المضيء!
معك حق، ولكنني أكتب لك هذه الرسالة الثانية في يوم واحد لتعرف القصة بكاملها، ذلك أنني رأيت أنه صار من حقك، وقد طلبت منك مشاركتي في البحث عنه، أن تعرف ما أعرفه.
لست أذكر بالضبط متى رأيته لأول مرة، ولكنني أذكر تماماً كيف رأيته: مثل إنسان ضيّع شيئاً، كان يسير محنياً بعض الشيء، بكفين مفتوحتين متحفزتين، وعينين تنقبان وجوه الناس كأنهما محراثان عتيقان، لقد بدا لأول وهلة وكأنه مجنون، وحين مرّ بي نسيته ولم أذكره إلا حين رأيته مرة ثانية: اقتلعتني عيناه فجأة وأحسست نفسي أطوف فوق موجة تستعصي على الرؤية، ولست أدري الآن ما إذا كنت أنا الذي ذهبت إليه مسوقاً بذلك النداء العميق المنبعث من عينيه كتيار لا يقاوم، أم أنه هو الذي جاء إليّ، وعلى أي حال فقد وضع كفه الكبيرة على كتفي وسأل:
־ هل رأيتها؟
־ رأيت ماذا؟
־ العروس!
وطبعاً تيقنت لحظتذاك أنه مجنون، وأن ما انتابني أمام عينيه القاسيتين هو ما ينتاب أي إنسان يجد نفسه هدفاً لعيني رجل مخلوع عن العالم والمعقول، ولذلك اخترت الهروب الأسهل فقلت له:
־ كلا، لم أرَ العروس…
وعندها سقطت يده من تلقائها إلى جنبه واستدار، إلا إنني سمعته يقول، كأنما لنفسه:
־ كلكم تقولون هذا، منذ عشر سنوات.
وحين ابتلعه الزحام، يا رياض، شعرت بأن جسده الضخم كان محاطاً بذلك الشيء الذي يشبه الغبار المضيء، كما رسمه فنانو عصر النهضة حول جسد الإله وهو يقدم عونه للفقراء، على بطاقات الأعياد التي كنا نتلقاها معاً.
وعبثاً حاولت اللحاق به: إن مثل هذه الأمور لا تحدث إلا كلمح البصر، لقد نقبت الشارع صعوداً ونزولاً، قابلت مئات من الرجال الذين يشبهونه تماماً، ولكنه هو نفسه كان قد اختفى! عنه، أبحث الآن، وعنه أيضاً أطلب منك مشاركتي البحث، أعرف أنك تبعد عن هنا أكثر من ألف ميل، ولكن ما الذي يمنع ذلك الرجل أن يسير، محاطاً بذلك الضوء المجهول أكثر من ألف ميل وهو يبحث عن العروس؟
…
قبل أن أسألك سألت غيرك، لم ألجأ إليك إلا لأنني، منذ رأيته، ألجأ إلى كل من أعرفه، أستوقف كل من تربطني به أدنى علاقة وأسأل عنه. وأصارحك القول يا رياض، لقد مضى بي الأمر إلى أبعد من ذلك.
ذات ليلة قلت لنفسي: إذا كان ذلك الرجل قد دأب على سؤال الناس عن العروس منذ عشر سنوات، كما قال، فإن الشيء المؤكد تماماً أن كثيراً من أولئك الناس الذين سألهم، ينتباهم الآن ما ينتابني. وكنت أسير ذات يوم في الطريق حين التقت عيناي عابراً لا أعرفه، ودون أن أعرف ما الذي أنوي عمله مضيت إلى الرجل فاستوقفته، وضعت يدي على كتفه وسألته:
־ هل رأيت العروس؟
سمِّني مجنوناً ولكن هذا الذي حصل، وقد استطعت، عن هذا الطريق أن أعرف الكثير عن الرجل، وعن «العروس» الضائعة، إلا إنني ما زلت غير قادر على التخلص من تلك القسوة المجهولة التي تدفعني نحو عيون العابرين لأسألهم عن العروس الضائعة.
الآن دارت الدورة، أو أنا الذي درتها، لست أدري، ولا بد من أن أعود إلى نقطة البدء، إلى ذلك الرجل المحاط بما يشبه النور، والذي من شفتيه وعينيه وتحت كفه الثقيلة، سمعت ذلك السؤال لأول مرة في حياتي، نعم، يا رياض، لا بدّ لي من رؤيته.. فلدي أخبار جديدة عن العروس!
…
كان من قرية «شعب» شاباً لم يكن قد ضيع شيئاً بعد، ولكنه لم يكن عند ذاك قد وجد أي شيء أيضاً.
لا بد أن قصته قد بدأت في يوم ما من أيام حزيران الأولى عام 1948، كان القتال الدموي قد استمر دون انقطاع طوال أكثر من ستة أشهر، وكان هو ־ وأنا ما زلت أجهل اسمه ־ سيّد الذين يندفعون إلى القتال، هجوماً كان أم نجدة أم دفاعاً، إلا إنه كان يشترط أن يعرف موعد العمل قبل بدئه بساعتين على الأقل، كي يكون أمامه متسع من الوقت للتفتيش على من يقبل أن يعيره سلاحاً، بندقية خديوية، أو إنكليزية، أو حتى قنبلة يدوية.
وكانت الأمور، على هذه الشاكلة، مقبولة عند كافة الأطراف، فغالباً كان يأخذ معه إلى الرجل الذي ينوي أن يستعير منه سلاحاً رفيقاً يتعهد أمامه بأن يعيد السلاح إلى صاحبه إذا ما مات صاحبنا أثناء العمل، كان حريصاً على أن يتعامل معاملة مصارف محترمة، رغم أنه لم يشهد في حياته مصرفاً محترماً أو مصرفاً، وهكذا فإنه لم يواجه، طوال تلك الشهور الستة، مشكلة حقيقية في هذا المجال، ولذلك لم يفكر بالحصول على سلاح خاص، وربما امتنع عن التفكير بالحصول على ذلك السلاح الخاص بسبب عجزه عن شراء سلاح.
لم أعرف بعد من الذي زرع في رأسه، في أحد تلك الأيام الأولى من حزيران، أن عليه الحصول على سلاح، وكان هذا الرأي سليماً تماماً، فقد تركز القتال بصورة جادة في الجليل، وألقى العدو ثقله هناك، وابتدأت أنهار المهاجرين تسيل في التلال نحو الشمال، وبدا كل شيء وكأنه يقف على الحافة.
لا شك أنه كان أصلب من أن يتردد كثيراً، فقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من ذلك الحزيران كان قد عقد عزمه بصورة ليس بالوسع زحزحتها، لقد سلم سلاحه في معركة لم أهتدِ إلى اسمها بعد لأحد رفاقه ومضى يزحف تحت غيوم راعدة من النار، كان على يقين بأن بعض جنود العدو في خطوطهم الأمامية قد قتلوا، وأنه لو انتظر إلى نهاية المعركة لفقد فرصته، كان يعرف أنهم يسحبون جنودهم بالحبال بعد انتهاء القتال.
وقد استطاع أن يصل بالفعل إلى الخنادق المحروقة، كانت العتمة ثقيلة، ولكنه أسقط نفسه في إحدى الحفر، وبأسنانه فك يد القتيل عن بندقيته، وتفحصها هناك على ضوء الحرائق والانفجارات، ومضى عائداً إلى رفاقه.
وسرى الخبر في كل القرى سريان النار، ليس لأنها كانت الحادثة الأولى من نوعها، ولكن لأن البندقية التي جاء بها كانت بندقية نادرة.
لن أطيل عليك كثيراً، لقد استدعي في اليوم التالي إلى القيادة التي كانت تعسكر في قرية مجاورة، كان الضابط قد سمع عن البندقية، وحين شهدها أمامه بين كفي الرجل فتح عينيه على وسعهما:
־ هذه مرتينة تشيكية!
وانحنى الواقفون ينظرون إلى البندقية الجديدة والتي كان فولاذها يلتمع تحت قنديل الغرفة: كان ذراعها ذا لون بني كامد، وكان حزامها الخاكي جديداً تماماً، مجدولاً بعناية لا تصدق، وكان مشطها الكبير يعلو زنادها كأنه التاج.
وجاء صوت من طرف الغرفة الأخرى:
־ يبدو أنهم تلقوا شحنة سلاح جديدة من الشرق، القيادة يجب أن تعرف ذلك.
وهز الضابط رأسه موافقاً على ذلك الرأي وقرر:
־ يجب أن آخذ هذه المرتينة إلى القيادة.
تستطيع يا رياض، أن تقدر ما حدث: لقد تمسك صاحبنا ببندقيته ولكن الأوامر، كما تعلم، كانت أقوى: ألا يصدقونكم دون أن تأخذوا البندقية؟ ألا تستطيعون تقدير قيمة الوقت؟ إذا شئتم ذهبت أنا مع البندقية!
ولكن ذلك كله لم يكن يجدي، وكي يطمئن على بندقيته أقسم له الضابط أن يعيدها له، بأمشاط إضافية، خلال يومين.
ومر اليومان، ومر الأسبوع، في ذلك الشهر الذي تتطاول دقائقه ويموت ناس وتسقط بلاد وتحترق مزارع وتولد في كل دقيقة حادثة جديدة: من مركز القيادة إلى الدار، ومن الدار إلى مركز القيادة، ضارباً في الوعر والشوك، انتظر الآن، وتعال غداً، ولكن الأحداث، كما لا شك تذكر، في ذلك الشهر الحاسم، لم تكن لتنتظر.
وقد تساقط فوقه حدثان في يوم واحد: في الصباح قيل له إن الضابط قد نقل مركز قيادته إلى الشمال حيث لا يعرف أحد، وفي المساء تلقت «شعب» الضربة الأولى، وحرثت قنابل المورتر بيوتها الطينية، وأحرقت أغراس الزيتون، في لحظة كانخطاف البصر.
من الذي سيعيره بندقية في ذلك الطوفان الذي لا تنفع فيه إلا البندقية؟ هي وحدها التي كانت تستطيع أن تحمل الإنسان عبر ذلك الموج، إلى شاطئ النجاة أو إلى شاطئ موت شريف، ولذلك لم يكن أمامه في ذلك الطوفان الغارق إلا.. إلا ماذا؟ إلا الجنون، طبعاً، إذا صدقت أنه لم يكن ليختار الفرار.
ولكنه لم يقبل الجنون ولا اختار الفرار. وكان الموت هو الذي تبقى له، ولكن حتى الموت خسره هو الذي صرف كل أيام الحرب مقاتلاً في أول صف، بسلاح معار، بين أسنان موت حقيقي، جلس هناك في «شعب» على حجر، وسط الساحة، ينظر إلى البيوت تحترق، والى الرجال يموتون، والى أهله ينسربون مع من انسرب تحت ظلمة ذلك الليل، إلى حيث لم يعرف، ولا يعرف حتى الآن.
وقد شاهدوه حين احتلوا «شعب»، وحسبوا كما حسبت أنا أنه مجنون، فضربوه بأعقاب البنادق كي يغذ الخطى في الوعر إلى الشمال.
في طول ما تبقى من الجليل مضى ليل نهار يبحث عن بندقيته: من قرية إلى أخرى ومن مقاتل إلى آخر، ينقب وجوه الناس والأشياء متعقباً أخبار البندقية التي لم يشهدها إلا ساعات، والتي كانت محشوة بالرصاص ولكنه لم يطلق منها رصاصة واحدة.
أنت لا تعرف ما الذي حدث في «شعب»، قليلون هم الذين يعرفون ذلك، ولكنه شيء ضروري أن تعرف ما الذي حدث هناك كي تدرك حقيقة القصة. لقد مضى هو صعوداً، في قيظ لا مثيل له، إلى البروة، ومن هناك إلى مجد الكروم، إلى البعنة، إلى دير الأسد، إلى كسرا، إلى كفر سميع، متعقباً أخبار بندقيته خطوة، خطوة، من قصة إلى أخرى ومن رجل إلى آخر، وحين وصل إلى ترشيحا جاءته أخبار جديدة من «شعب»: إن الأربعين مقاتلاً الذين تبقوا من رجال «شعب» ذهبوا إلى قيادة جيش الإنقاذ في الشمال ليعرضوا أنفسهم كمقاتلين في صفوفه، وحين علموا أن خطة زحف الجيش لن تمر في «شعب» عادوا إلى هناك، وفي ليلة واحدة انقضوا على قريتهم من جديد، واسترجعوها.
ستبدو لك الحادثة غريبة ولكن هذا هو ما حصل، لقد عاد الأربعون مقاتلاً فاسترجعوا قريتهم المحروقة وتعقبوا عساكر العدو إلى قرب مفرق «الدامون»، ودفعوا ثمن ذلك عشرة رجال.
لقد حدث ذلك، يا رياض، في بقعة محاطة بالعدو من كل جانب، واستطاع الرجال الثلاثون أن يبقوا وراء جدران قريتهم المهدمة يردون الهجمات المتكررة ليلاً نهاراً، ولكنه هو، في ترشيحا، كان يشم بندقيته قريبة كأنها في متناول يده، واعتقد أنه لو انتظر يوماً واحداً فقط لاستطاع استرجاعها، ولعاد معها، إلى «شعب».
قلت لك إن الأحداث لا تنتظر، ففي اليوم التالي اكتسح العدو «شعب» مرة أخرى، وفر الرجال الذين فقدوا خمسة من مقاتليهم، إلى التلال المجاورة حيث يستطيع ابن البلاد أن يضيع قطيع ماعز.
وقيل له يومها، إن بندقية تشيكية جديدة شوهدت مع رجل عجوز في قرية صغيرة تقع على بعد ساعتين إلى الشمال من ترشيحا، وقد ذهب إلى هناك في الليل، وهناك قيل له، وهو يكاد يفقد وعيه، إن مقاتلي «شعب» الخمسة والعشرين قد انحدروا إليها تلك الليلة بالذات وقاتلوا ببنادقهم وسكاكينهم حتى الصباح وإنهم، مرة أخرى، استرجعوا قريتهم الممزعة، وتمركزوا وراء الركام على مداخيلها وفقدوا ثلاثة رجال..
وراء أخبار البندقية، من باب إلى باب قيل له إن العجوز الذي شوهد يحملها قد مضى، في الليل، وتسلق الهضبة ذاهباً إلى الجنوب، ربما ليلتحق بالمقاتلين الذين بدأوا يتجمعون إلى الجنوب من ترشيحا بانتظار هجوم حاسم. ودون أن يضيع لحظة تردد واحدة كر عائداً إلى ترشيحا، فرجال «شعب» الثابتون وراء استحكامات الدمار في قريتهم الصغيرة المعزولة ينتظرونه. ثم إنها، لو تعلم، قريته التي لم يستطع، حين اجتيحت، أن يطلق في سبيلها رصاصة واحدة.
ولكن أخبار «شعب» سبقته إلى ترشيحا، حيث لم يستطع أن يعرف أخبار البندقية: لقد فوجئ المقاتلون المنهكون بهجوم ثقيل ماحق، وفقدوا وهم يتراجعون سبعة رجال، وحملوا معهم أربعة جرحى، واختفوا في التلال.
وفيما كان هو على حافة الجنون يتسقط، كما لو أنه بين نصلي مقص، أخبار بندقيته من جهة، وأخبار «شعب» من جهة أخرى، انحدر مَن تبقى من مقاتلي تلك القرية الصغيرة، بعد ساعتين من تراجعهم، واكتسحوا القرية مرة ثالثة مثل لمح البصر، ومرة ثالثة أيضاً تمركزوا فيها بعد أن ألحقوا خسائر حقيقية بالعدو وغنموا مما خلفه سلاحاً وزاداً.
لست أدري من الذي قال له في ترشيحا إنه لو استطاع العودة إلى «شعب» بكفيه العاريتين، لاستطاعوا هناك تزويده بالسلاح الذي يريد، ولست أدري إنْ كان هذا القول قد راقه أو لا، ولكن الذي أدريه هو أنه، تلك الظهيرة القائظة، شاهد بندقيته على كتف رجل في الساحة.
وكما تمسك بها يوم انتزعها بأسنانه من قبضة القتيل شدها إليه وهي لما تزل معلقة على كتف الرجل، وحين استدار هذا الأخير، مذهولاً، وشهد أمامه ذلك الرجل الطويل الصلب ذا النظرات القاسية والوجه المنهك، اكتشف، أغلب الظن، أنه على أبواب عراك، فثنى كوعه حول حزام البندقية، ومد ذراعه الأخرى لتحول دونه ودون العملاق.
أما هو فقد كان غير قادر على الكلام، قيل لي إنه كان يبكي وكان يرتجف كالمحموم، لقد مضت شفتاه الجافتان تتمتمان كلاماً ليس بالوسع فهمه، وأمامه كان الرجل الآخر بلحيته الدقيقة وعينيه الغائرتين قد عقد العزم على المضي بالعراك إلى إحدى نهايتيه.
־ هذه مرتينتي!
قالها بعد جهد لا يصدق بصوت مبحوح محشرج وطفقت عيناه تحدقان إلى الرجل العجوز كأنهما تنتظران الاعتراف، إلا إن العجوز الصعب صرخ بوجهه:
־ مرتينتك أيها النصاب؟ لقد دفعت ثمنها من حلالي قبل يومين فقط!
وتساءلت العينان في وجهه، فقد كان مستحيلاً، بعد، أن يتكلم، وجاءه الجواب:
־ من حلالي، اشتريتها أمام خمسة شهود من ضابط باعها لي، وهو يتجه إلى الشمال، بمئة جنيه.
وارتخت قبضتاه عن جسد البندقية إلا إنه لم يتركها تماماً، وبدا أنه، في لحظة واحدة، سيتهاوى ولكنه بذل مزيداً من الجهد وهمس:
־ أريدها لأعود إلى «شعب».
־ «شعب»؟ لقد احتلها اليهود مرة أخرى قبل قليل.
ترك البندقية، فضمها العجوز إلى صدره بقوة وتراجع خطوتين، وحين اطمأن تماماً إلى أنه لن يفقد سلاحه سأله:
־ هل كانت هذه المرتينة لك؟
وهزّ رأسه يائساً إلى النهاية.
־ دفعت بها مئة جنيه مهر ابنتي الوحيدة، لقد رفضت كل عمري أن أزوجها لذلك العجوز النتن، ولكن ماذا تريدني أن أفعل الآن؟ لقد دفع مئة جنيه، دفعتها بعد ربع ساعة فقط ثمناً لهذه التشيكية.
وبهدوء استدار كشيء، محطم، ومضى. كانت تلك هي آخر مرة شوهد بها في ترشيحا وليس يدري أحد إلى أين ذهب، وعلى أي حال فإنه لو ذهب شمالاً لكان من المؤكد أنه سمع، قبل أن تتيسر له مغادرة الحدود، أن رفاقه العشرة الذين تبقوا من مقاتلي «شعب» قد هبطوا التلال بعد يومين، وبسلاحهم اليسير استرجعوا تلك القرية الصغيرة المهدمة، مرة رابعة.
…
لم اهتد بعد إلى اسم العروس التي بيعت ثمناً للبندقية، ولم أعرف بعد ماذا فعل العجوز بتلك البندقية الجديدة، وكذلك فأنا لا أعرف كيف انتهت قصة «شعب»، وكيف انتهت أخبار أولئك الرجال الأربعين الذين ذابوا بالتدريج، كما تذوّب النار قطعة دهن.
أهو الرجل الوحيد الذي تبقى من مقاتلي «شعب»؟ ربما، لست أدري في الواقع، ولكن يخيّل إلي أن هذا هو السبب الذي جعل منه رجلاً غريباً ينتابه إحساس ثقيل بأنه ما زال يبحث عن بندقية ضائعة ليلتحق بالرفاق الذين كانوا ينتظرونه في القرية المهدمة.
ولكن يا عزيزي، رياض، لماذا لا تفتش معي عن ذلك الرجل؟ إنه رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، ولكنه يلبس بذلة خاكية قديمة، ويبدو وكأنه محاط برذاذ مضيء، ويلوح لأول وهلة، حين يستوقفك ليسألك:
־ هل رأيت العروس؟
يلوح كأنه مجنون.
ابحث معي عنه، حيث أنت، فلدي أخبار جديدة عن العروس..
بيروت، 1965
تُنشر بالاتفاق مع السيدة آني كنفاني ومنشورات الرمال للنشر.
كتب كنفاني متوفّرة على موقع الدار: www.rimalbooks.com