دوستويفسكي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/tag/دوستويفسكي مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:33 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png دوستويفسكي - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/tag/دوستويفسكي 32 32 ٧ مقالات في مئوية دوستويفسكي وملفّنا عنه https://rommanmag.com/archives/20760 Mon, 17 Jan 2022 08:46:14 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%a7-%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%a6%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d9%88%d9%85%d9%84%d9%81%d9%91%d9%86%d8%a7-%d8%b9/ مواد ملّفنا “دوستويفسكي” كاملاً: عدي الزعبي: دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين نزار عيون السود: المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي والمئوية الأولى لميلاد مترجمه سامي الدروبي  سومر شحادة: ماذا عن دوستويفسكي؟ سليم البيك: العقابُ دوستويفسكيّاً أنس العيلة: دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد أحمد مجدي همام: دوستويفسكي و”رابطة بيتراشيفسكي”… الجريمة والعقاب في حياة مؤلف «الجريمة والعقاب» عبدالله البياري: دوستويفسكي والموت: مدخل لاشتغال الأدب بالصمت […]

The post ٧ مقالات في مئوية دوستويفسكي وملفّنا عنه appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مواد ملّفنا “دوستويفسكي” كاملاً:

عدي الزعبي: دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين

نزار عيون السود: المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي والمئوية الأولى لميلاد مترجمه سامي الدروبي 

سومر شحادة: ماذا عن دوستويفسكي؟

سليم البيك: العقابُ دوستويفسكيّاً

أنس العيلة: دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد

أحمد مجدي همام: دوستويفسكي و”رابطة بيتراشيفسكي”… الجريمة والعقاب في حياة مؤلف «الجريمة والعقاب»

عبدالله البياري: دوستويفسكي والموت: مدخل لاشتغال الأدب بالصمت

 

أرفقنا مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.
 

The post ٧ مقالات في مئوية دوستويفسكي وملفّنا عنه appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
دوستويفسكي والموت: مدخل لاشتغال الأدب بالصمت https://rommanmag.com/archives/20759 Sun, 16 Jan 2022 13:42:31 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa-%d9%85%d8%af%d8%ae%d9%84-%d9%84%d8%a7%d8%b4%d8%aa%d8%ba%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8/ يروي أندريه دوستويفسكي شقيق فيودور دوستويفسكي أن أخاه اعتاد في طفولته، قبل أن يخلد إلى النوم، أن يترك إلى جانبه بعض الأوراق، يحذر فيها من أنه من الممكن أن يسقط في أثناء الليل في حالة من النوم العميق الأشبه بالموت، فكان يطلب أن يؤجل دفنه إلى خمسة أيام، لعله يستفيق قبله.(1) ما يحدث مع دوستويفسكي […]

The post دوستويفسكي والموت: مدخل لاشتغال الأدب بالصمت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يروي أندريه دوستويفسكي شقيق فيودور دوستويفسكي أن أخاه اعتاد في طفولته، قبل أن يخلد إلى النوم، أن يترك إلى جانبه بعض الأوراق، يحذر فيها من أنه من الممكن أن يسقط في أثناء الليل في حالة من النوم العميق الأشبه بالموت، فكان يطلب أن يؤجل دفنه إلى خمسة أيام، لعله يستفيق قبله.(1)

ما يحدث مع دوستويفسكي في الموت، هو خروج عن الزمان والمكان، هي حالة من الإخلال(disrupting ،(2، باستقرار الزمان والمكان، مستخدمًا جسده الذي يراوح العتبات بين الحياة والموت، مستخدمًا النوم بما هو حالة خطابية وأدائية تتساوى فيها الحياة والموت. وهذه الرحلة بين العالمين في تجربة دوستويفسكي يمكننا التربص بتمثلاتها لدى الأب زوسيما في رواية الإخوة كرامازوف إذ يقول: “أخذ الله بذورًا من عوالم أخرىوبذرها على هذه الأرض… وتوالدت البذرة، ولكن ما ينمو ويعيش ويتمتع بالحيوية خلال إحساسه بالاتصال مع العوالم الغامضة الأخرى فحسب… كثير مما هو على الأرض خفيٌ عنّا، ولكن عوضًا عن ذلك فقد وهبنا سرًا وإحساسًا خفيًا باتصالنا الحي مع عالم آخر”.(3)

 يتقاطع ديستويفسكي هنا مع مارسيل بروست الذي يقول: “منذ زمان طويل، كنت معتادًا على الذهاب إلى سريري في وقت مبكر، وفي بعض الأحيان عندما أطفئ الشمعة فإن عيناي تغلقان بسرعة بحيث لا يكون لدي وقت يكفي لأقول (سأنام) وبعد نصف ساعة منذ ذلك الحدث توقظني فكرة أن الوقت قد حان للنوم، وأحاول أن أضع جانبًا الكتاب الذي كنت أتخيل أنه ما يزال بيدي، وأن أطفيء الضوء. وقد كنت أفكر طوال الوقت بأنني كنت نائمًا بينما كنت أقرؤه، ولكن أفكاري تكون قد اتخذت مسارًا خاصًا بها حتى أكون أنا نفسي موضع كتابي”.(4)

بروست يتأمل الموت من خلال استعادة اللحظات السابقة عليه، فالعالم لديه متغير وثابت في آن، والموت في هذه الحالة هو موقف على أطراف تلك الثنائية لا يتجاوزها إلى ما بعدها، بل هو موقع للتساؤل عنها. بينما الموت لدى دوستويفسكي، أمر مختلف، فلعله الأول من الأدباء العالميين الذين استشكلوا الموت وحوله للحظة تساؤل عن الزمن المفقود بالموت. يصف الأمير متشكين بطل رواية الأبله لحظة فقدان الحياة تلك، التي يحس بها المحكوم عليه بالموت عن طريق المقصلة بقوله: “لو كنت أنا الشخص الذي ينفذ فيه حكم الإعدام لتعمدت أن أنصت، ولسمعت صوت انزلاق الحديد (حديد المقصلة)… قد لا يدوم إلا عشر الثانية… إن الرأس بعد انقطاعه وسقوطه ربما يعلم خلال ثانية أنه انقطع وسقط، وياله من إحساس، ماذا لو دام خمس ثوان”.(5)

لعل هذه العلاقة الفريدة لدوستويفسكي مع الموت، هي التي دفعت فرويد إلى تحليل ظاهرة الموت لدى دوستويفسكي، ونوبات التشبه به المذكورة سالفًا، بأنها رغبة موجهة بموت أحدٍ ما، كقيمة عقابية، والذي رجح أن يكون الأب.(6)

لعل تأملات الروائيين أعلاه(7)، وغيرهم في لحظة الموت تدفع بنا لتأمل الموت، بما هو الهدف الأساسي من كتابة هذه السطور كلها، سواءً في موضوعة المادة عن الموت لدى دوستويفسكي، أو عن موته هو شخصيًا، ومرور 100 عام وأكثر على ذلك.

الموت هنا هو بؤرة المعنى ومبتغاه في آن.

قد يكون التأثير الأقوى للموت، وأعلى مراحل ابداعيته، عندما لا يظهر بما هو موت صريح مستحق، أي حينما نحيا وكأن الموت لا معنى له. الموت حينها هو السبب الذي من الممكن من خلال غيابه الحاضر أن يقيم حياة ذات معنى في عالم لا معنى له. ومن هنا تبدأ علاقة الثقافة بالموت. للثقافة في علاقتها بالموت هدفان: فهي من ناحية ذات مسعى هائل ومستمر (وناجح بشكل مذهل) لإعطاء معنى للحياة البشرية، ومن ناحية أخرى لها مسعى عنيد (وأقل نجاحًا إلى حدٍ ما) لقمع الوعي بهشاشة هذا المعنى وثانويته.

لعل التتبع لعلاقة الأدب بالموت من خلال نموذج دوستويفسكي، يدفعنا للتساؤل ماذا لو كان لا يزال حيًا بين ظهرانينا الآن؟ تراه ماذا كان ليرى بعد كل سياساتنا الحداثية تلك التي سعت إلى تدجين الموت وترويضه، وإعادة صوغه وبثه في الخوف اليومي على الصحة والقلق المهووس بشأن العوامل الناقلة للموت، ليصبح الخوف من الموت شكلًا من أشكال الخطاب اليومي عن الحياة؟ وفي المقابل وداخل نفس الثنائيات الحداثية يجري ترويض الموت من خلال إطلاق العنان الوحشي له، فيغرق المئات في قوارب الهجرة غير الشرعية، أو تحت برميل متفجر ألقته خطابات الرئيس الطبيب وهو يعد بحياة ملؤها الممانعة والمقاومة.

لم يعد الموت هاجسًا يحتويه الأدب بكل حفرياته وعمقه الرأسي في الوعي الإنساني، فقد قدمت الثقافات الحديثة صيغًا لنزع فتيل رعب الموت، دون الحاجة لمنطقته كما فعل فرويد، أو لعله كان جزءًا من سياسات الاحتواء. كان ذلك بالأساس من خلال طرح فكرة الخلود الفردي أو الجماعي. وهو ما نبهنا إليه فرويد حين أشار إلى أنه “لا أحد يؤمن بموته”(8)، وأن الوعي لدينا “يتصرف كما لو كان خالدًا”.(9)

إن أفكارنا عن الموت سواءً كانت موضوعية أو متلونة بالعاطفة، فهي تمر من خلال نشاط رمزي، يختلف باختلاف الثقافات والتجارب الذاتية والفردية، ولكن هذا الأمر يحدث في إدراك الموت، ليس من خلال تجربة الموت، “عندما نخشى الموت بشكلٍ مكثف وغير منقطع، فإننا نخشى بدلًا من ذلك بعض أشكال المساواة الرمزية غير المنطقية للموت أحيانًا”.(10)

 

الإحالات:

1. اسكندر، مكرم شاكر، أدباء منتحرون، دار الراتب الجامعية، بيروت، 1992، ص 35.

2. كُتبت هذه المادة أول ما كتبت ضمن متطلبات الدراسات الثقافية، وكانت باللغة الانجليزية، وتُرجمت لغايات النشر والاعتماد الأكاديمي للتدريس الجامعي. لكنني توقفت أمام ترجمة كلمة Disruption عاجزًا عن إيجاد ما يحقق المعنى المتخيل من الإخلال العنيف بعلاقة تبدو وكأنها قوية ومنضبطة. 

3. فرويد، سيغموند، دوستويفسكي وجريمة قتل الأب، تحرير رينيه ويليك، ص 170.

4. بريه، جيزمين، مارسيل بروست والتخلص من الزمن، ترجمة نجيب المانع، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986، ص 243.

5. دوستويفسكي، الأبله، ترجمة سامي الدروبي، دار ابن رشد، بيروت، ص 125.

6. فرويد، سيغموند، دوستويفسكي وجريمة قتل الأب، تحرير رينيه ويليك، ص 170.

7. من النصوص الجميلة أيضًا في تأمل الموت، ما قاله غابرييل جارثيا ماركيز، الروائي الكولومبي الشهير عن موته هو شخصيًا، وتحسره على عدم قدرته على تدوين تجربه موته هو شخصيًا، وأن ذلك هو الدافع له للكتابة، حللها زيغمونت باومان في كتابه “الموت والخلود”.

8. Cf. Wahl’s ‘The fear of Death’, in Death and Identity, ed. Robert Fulton (New York: John Wiley & Sons, 1965), P. 57.

9. المصدر نفسه، ص 57.

10. المصدر نفسه، ص 60.
 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post دوستويفسكي والموت: مدخل لاشتغال الأدب بالصمت appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
دوستويفسكي و”رابطة بيتراشيفسكي”… الجريمة والعقاب في حياة مؤلف «الجريمة والعقاب» https://rommanmag.com/archives/20758 Sun, 16 Jan 2022 13:21:28 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a8%d8%b7%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%b4%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b1%d9%8a/ في 1851 كان قد مضى عامان منذ دخول فيودور دوستويفسكي (11 نوفمبر 1821 – 9 فبراير 1881) إلى سجن “أومسك” السيبيري بسبب انتمائه إلى “رابطة بيتراشيفسكي” التي صُنف أعضاؤها على أنهم “متآمرون”. في ذلك العام كتب دوستويفسكي إلى أخيه ميخائيل يصف الأوضاع المأساوية في السجن: “الأجواء في الصيف لا تُطاق. أما في الشتاء فالبرودة أيضًا […]

The post دوستويفسكي و”رابطة بيتراشيفسكي”… الجريمة والعقاب في حياة مؤلف «الجريمة والعقاب» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في 1851 كان قد مضى عامان منذ دخول فيودور دوستويفسكي (11 نوفمبر 1821 – 9 فبراير 1881) إلى سجن “أومسك” السيبيري بسبب انتمائه إلى “رابطة بيتراشيفسكي” التي صُنف أعضاؤها على أنهم “متآمرون”. في ذلك العام كتب دوستويفسكي إلى أخيه ميخائيل يصف الأوضاع المأساوية في السجن: “الأجواء في الصيف لا تُطاق. أما في الشتاء فالبرودة أيضًا لا تُطاق. العفن يكسو كل الأرضيات، القذارة على الأرض يصل ارتفاعها إلى بوصة كاملة، ونحن محشورون داخل هذا المكان القذر كالسردين المعبأ في برميل، لا يوجد مكان لنقصده. منذ مغيب الشمس وحتى الصباح. من المستحيل ألا نتصرف كالخنازير. البراغيث والقمل والخنافس السوداء متواجدة في كل مكان، حتى مكيال الحبوب”.

تلك النبذة السوداوية التي حكى فيها الروائي الروسي الأشهر لأخيه عن معاناته في السجن، ليست سوى عينة صغيرة من سنوات أربع قضاها مؤلف “الجريمة والعقاب” معاقبًا في أحد أسوأ السجون الروسية، بسبب حضوره لاجتماعات دائرة بيتراشيفسكي، تلك الرابطة التي كانت تضم مجموعة كبيرة من المثقفين الروس، والتي عُنيت في المقام الأول بمناقشة الكتب الممنوعة في روسية خلال القرن التاسع عشر.

ما هي “رابطة بيتراشيفسكي”؟

تأسست الرابط بداية في 1840، عندما حضر مؤسسها ميخائيل بيتراشيفسكي في جامعة بطرسبورغ مجموعة من المحاضرات التي تتناول الفكر الاشتراكي، وكان الرجل معجبًا بأطروحات الألماني فريدريش هيغل والفرنسي شارل فورييه، ولذلك دعا بيتراشيفسكي معارفه لحضور حلقة نقاشية في منزله حول تلك الأطروحات، هكذا كانت البداية، وضمت الرابطة في بداياتها مثقفين روس من أمثال أوبولون مايكوف، وتاراس شيفتشينكو، وميخائيل شقيق دوستويفسكي وسيرغي دوروف وغيرهم من الأدباء والمفكرين، وبمرور الوقت اتسعت الرابطة حتى أنها ضمت بعض أعضاء مجلس الشعب الروسي، وبعض الضباط من الجيش الروسي. وبحلول العام 1945 باتت حلقة بيتراشيفكي ذائعة الصيت، وكانت حلقاتها تعقد بشكل علني، خصوصًا وأن الانتقادات الصادرة من الدائرة، حول مسألة العبودية، كانت مطلبًا شعبيًا، حتى أن القيصر الروسي نيقولاي الأول نفسه قد صرح بأنه يميل مع هذا الطلب ولا يعترض عليه. لكن هذا لم يمنع الأمن الروسي من وضع أفراد الرابطة وأبرز أعضائها تحت المراقبة الأمنية.

في فبراير من العام 1848، اندلعت أحداث ثورة فبراير في فرنسا، والتي كانت ترمي إلى إزالة الهياكل الإقطاعية من المجتمع الفرنسي، وقادت تلك الثورة إلى تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، ثم انتقل تأثيرها بطريقة “معظم النار من مستصغر الشرر” إلى دول الجوار في أوروبا. وعلى الرغم من أن التأثيرات الكبرى لتلك الثورة وعدواها قد آتت مفعولًا كبيرًا في أوروبا الوسطى، وتحديدًا في هولندا والدنمارك، إلا أن تأثير الثورة الفرنسية امتد شرقًا أيضًا ليصل إلى الدويلات الألمانية، والنمسا والمجر. ويبدو أن القيصر الروسي نيقولاي الأول قد استشعر الخطر من امتداد عدوى الثورة وزحفها شرقًا إلى حدوده، لا سيما وأن الثورات كانت تندلع بشكل عشوائي ودون تنظيم على أيدي مجاميع من الإصلاحيين والعمال وأبناء الطبقات الوسطى، حاملة سمات اشتراكية وديمقراطية. الأمر الذي دفع نيقولاي الأول إلى حظر الكثير من الكتب والمؤلفات الأوروبية ومنع تداولها في روسيا سواء بلغاتها الأصلية أو مترجمة إلى الروسية. كما حظر جميع المنظمات الفكرية الثقافية ومن ضمنها رابطة بيتراشيفسكي.

وبهذا الحظر، بل وقبله بفترة، بدأت اجتماعات الرابطة تأخذ صفة السرية، وراح الأمن يحاول تشديد الرقابة على أعضاء الرابطة، إلى أن جاء التقرير الأمني الذي رفعه الدبلوماسي والقائد العسكري السابقي أليسكي أورلوف، والذي كان يحظى بثقة كبيرة من القيصر، والذي وصف أنشطة الرابطة وأعضائها بأنهم “ينتقدون السياسة الروسية، وينتقدون الدين” وكان ذلك بعدما ناقشت الرابطة كتاب “رسالة إلى غوغول” لفيساريون بلينسكي، لتبدأ عمليات اعتقال أعضاء الرابطة في 22 أبريل 1849، وقد طالت 60 فردًا من أعضاء الرابطة وفي اليوم التالي، 23 من الشهر جرى اعتقال دوستويفسكي نفسه.

وهكذا بدأت التحقيقات مع المعتقلين، وكان على رأس ذلك التحقيق رئيس الشرطة السرية وكذلك مجموعة من الجنرالات الروس، واستمر التحقيق والمحاكمة مدة أربعة أشهر وفقًا للقوانين العسكرية لا المدنية، انتهت بإصدار حكم بالإعدام على ربع عدد المعتقلين، بينما حُكِم البقية إما بالسجن أو بالنفي. وقد كان حكم الإعدام من نصيب دوستويفسكي.

وعلى الرغم من أن القيصر نيقولاي الأول وافق على طلب بالتماس الرحمة للمحكومين بالإعدام، فإنه أصدر أوامر باستكمال صوري لمراسم تنفيذ الحكم، حتى أن السجناء المحكومين بالإعدام قد اقتيدوا إلى ساحة تنفيذ الأحكام في 23 ديسمبر من العام 1849 مصفدين بالأغلال، ورُفعت عليهم البنادق، وأطلق نفير تنفيذ الحكم، وبقي هؤلاء معصوبي العيون في انتظار الطلقات التي ستنهي حياتهم، لكن بعد انقضاء دقيقة من مراسم تنفيذ الحكم، أُعلن أن القيصر قد رأف بحالهم وخفف الإعدام إلى أحكام بالسجن لفترات تتراوح بين 4 و 8 سنوات، على أن يجري إرسال المحكومين بعد انقضاء تلك المدة إما إلى الخدمة العسكرية، أو النفي.

سجن أومسك

قضى دوستويفسكي 4 سنوات في سجن أومسك، عانى فيها ويلات ذلك المكان القاسي، وكان الرجل أصلًا يعاني من الصرع، فزادت عليه النوبات وباتت أكثر سوءًا، وأصيب إلى جانب ذلك بعدة أمراض، مثل البواسير وبعض الأمراض الجلدية بسبب قذارة المكان، فقد كان هناك حمام واحد يخدم 200 سجين. وهناك حُرِم دوستويفسكي من قراءة أية كتب عدا الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وبقي مقيد اليدين والقدمين منذ تاريخ دخوله إلى السجن وحتى تاريخ خروجه منه، وفقد الكثير من الوزن وشحب وأصيب بالهزال، وقد كان يجري نقله من حين لآخر إلى المستشفى ليتلقى العلاج ومن ثم يعود إلى السجن ليواصل محكوميته.

ولعل أكثر مآسي دويستوفسكي في السجن، تمثلت في حالة العداء والكراهية التي كنّها له الكثير من السجناء، بسبب انتمائه لطبقة اجتماعية أعلى منهم، وكذلك عانى الرجل من ضيق أفق وضحالة غالبية المحكومين، وبذلك تحول السجن إلى نوع من العذاب المعنوي، بخلاف العذاب الجسدي الذي عايشه بسبب قذارة المكان وبسبب تفاقم نوبات الصرع التي كان يتعرض لها.

وبعد 4 سنوات من الحبس والمعاناة، وتحديدًا في 14 فبراير 1854، أُطلق سراح دوستويفسكي، ليتم إرساله على الفور للخدمة ضمن الجيش الروسي في سيبيريا، مواصلًا رحلة العذاب التي بدأت بسبب انتمائه لرابطة بيتراشيفسكي، واستمرت خدمته في الجيش الروسي ضمن فيلق الجيش السيبيري كتيبة الخط السابع مدة 5 سنوات، انتهت في 1859، وذلك بسبب تدهور صحته بشكل يمنع تأديته واجب الخدمة العسكرية.

ويبدو أن الانعتاق من ذلك العذاب المتواصل، وبداية تحرر صاحب “الإخوة كرامازوف” كان فرصة جيدة له وأخيرًا، ليخرج إلى النور ما عاينه وقاساه في السجن، فنشر دوستويفسكي روايته “بيت الموتى” التي تناولت عالم السجن، والتي نُشرت مسلسلة في مجلة “فيرميا” بداية من 1861 (صدرت من المركز الثقافي العربي بعنوان مذكرات من البيت الميت)، وكان يكتبها أثناء فترات زياراته لمستشفى سيبيريا إثر قدومه من السجن، واحتفظ بمخطوطها لدى أحد موظفي المستشفى من المعجبين بكتاباته. لينسدل الستار، عن تلك المأساة الرهيبة التي بدأت في 1848 واستمرت مدة 11 عامًا بين المحاكمة والسجن وحكم الإعدام ثم السجن مجددًا وانتهاءً بالخدمة العسكرية.
 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post دوستويفسكي و”رابطة بيتراشيفسكي”… الجريمة والعقاب في حياة مؤلف «الجريمة والعقاب» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد https://rommanmag.com/archives/20757 Sun, 16 Jan 2022 10:03:03 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d9%81%d9%8a%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%8b-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b1%d8%a4%d9%89-%d9%86%d9%8a%d8%aa%d8%b4%d9%87-%d9%88%d8%aa%d8%ad/ صادف العام المنصرم 2021 الذكرى المئويّة الثانية لميلاد فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي، الذي ولد عام 1821  في موسكو. كاتب بلا شكّ أحد أعظم الكتّاب في الأدب العالمي قاطبة. أكثر سنوات الكاتب إنتاجيّة، كانت من 1865 إلى 1871، تلك “السنوات المعجزة” التي كتب فيها “الجريمة والعقاب”، و”المقامر”، و”الأبله”، و”الشياطين”. وقد كتب هذه الروائع في ظل ظروف صعبة، […]

The post دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
صادف العام المنصرم 2021 الذكرى المئويّة الثانية لميلاد فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي، الذي ولد عام 1821  في موسكو. كاتب بلا شكّ أحد أعظم الكتّاب في الأدب العالمي قاطبة. أكثر سنوات الكاتب إنتاجيّة، كانت من 1865 إلى 1871، تلك “السنوات المعجزة” التي كتب فيها “الجريمة والعقاب”، و”المقامر”، و”الأبله”، و”الشياطين”. وقد كتب هذه الروائع في ظل ظروف صعبة، حيث كانت قد ماتت زوجته الأولى، وشقيقه واحدًا تلو الآخر. ثم تزوّج من جديد طالبة روسيّة ليقرّرا الهرب إلى الخارج هربًا من دائنيهم الكثيرين. استمرّت إقامتهما، لأكثر من أربع سنوات، في سويسرا وألمانيا وإيطاليا. وهي سنوات تتميز بالفقر ونوبات الصرع والإدمان على القمار وموت طفلهما الأول، والعمل الشاق لضمان بعض الدخل للأسرة.

تناولت العديد من الدراسات حول العالم أعمال دوستويفسكي الروائيّة، التي شكّلت مادة ثريّة لنقّاد الأدب، وعلماء النفس والفلاسفة. وهذا عائد للحمولة الفكريّة والفلسفيّة والتجليّات النفسيّة لأعماله الأدبيّة. فتتساءل “مجلة الفلسفة” Philosophie magazine  في عددها الثاني والعشرين، إن كان دوستويفسكي فيلسوفاً أم لا؟ وتجيب على هذا التساؤل بالقول: “فيلسوف بالتأكيد. فهو يتعامل مع الأفكار بطريقة جديدة للغاية. لا يفرض أفكاره، ولا يختم حكاياته بحكمة رفيعة. حيث يرسم الفكرة كحدث حيّ، يقع بين العديد من الأصوات والإدراكات. يمكن قراءة رواياته كسلسلة من الحوارات الفلسفيّة، حيث تتعارض وجهات النظر، وحيث يتمّ دائمًا ذكر الحقيقة الخاصة بكل موقف، لأنّها تتوافق مع مرحلة في تطوّر وعي الشخصيّة. مساهمة دوستويفسكي في تاريخ الفكر متعدّدة الجوانب: سبق نيتشه وفرويد بتحديد الدوافع النفسيّة اللاواعية وراء الأيديولوجيّات والمذاهب. ويُقدم بعضًا من أكثر التفسيرات شمولاً حول وجود الشرّ على وجه الخليقة، وهذا هو الجانب اللاهوتي من تفكيره. وباعتباره قارئًا هضم التوجّه النفعي الإنجليزي (مذهب أخلاقي وسياسي لجون ستيوارت ميل وبينثام يقوم على مفهوم المنفعة أو مبدأ السعادة الأعظم الذي يُقسّم الأفعال والأشياء إلى جيّدة وسيّئة وفقًا لما إذا كانت تميل إلى زيادة السعادة وتقليل المعاناة أم لا). فوجّه دوستويفسكي ضربة قاتلة لتفاؤلهم، للمبدأ الذي بناءً عليه يتصرّف الرجال وفقًا لمصالحهم المفهومة جيّدًا. في سياق قرن الفلسفة الوضعيّة والعقلانيّة، يسعى الروائي الروسي إلى تفكير أكثر قتامة، ولكنّه أيضًا أكثر وضوحًا، في الطبيعة البشريّة”.

تتعايش الأضداد في أعمال دوستويفسكي: الشياطين مع الملائكة، والنفوس المجرمة مع الأبرياء. كل عمل لديه هو صراع بين المشاعر والأفكار المتناقضة. ويعالج موضوعات هي في صلب حياة العصر الذي عاشه واختبر تقلّباته، الحريّة والعدميّة والعبثيّة والثورة. لذا فقد كانت حياته المُعذّبة مصدر الإلهام الرئيسي له: مثله، غالبًا ما يعاني أبطاله، ويمزّقهم التفكير، ويعانون من الذنب. وكما يقول ألبرت كامو “كلّ الشخصيّات لدى دوستويفسكي تتساءل عن معنى الحياة، لهذا فهي مُعاصرة، لم تكن تخشى أن تكون سخيفة أو مُضحكة”. 

وقد كتب فرويد مقالا عنه بعنوان “دوستويفسكي وقتل الأب” Dostojewski und die Vatertötung، وكان هذا النصّ مقدّمة لدراسة مُترجمة إلى الألمانيّة عن رواية دوستويفسكي “الأخوة كرامازوف”. يتعامل فرويد في نصّه مع صرع دوستويفسكي وصلته بتخيّلات وإدراكات الشخصيّات في الرواية. وهو يميّز في دوستويفسكي: “الكاتب، والعُصابي، والأخلاقي، والمُخطيء”. يرفض فرويد اعتبار دوستويفسكي آثمًا أو مجرمًا “فهناك سمتان أساسيّتان في المجرمين: تمركُز غير محدود على الذات ونزعة هدامّة قويّة، إلا أننا نجد لدى دوستويفسكي قدرة هائلة على الحب وحاجة كبيرة له” كما يشير فرويد. ووفقا لدارسي دوستويفسكي فإنّ روايته “الأخوة كرامازوف” هي أكثر فرويديّة من قصة “الملك أوديب” لسوفوكليس، ومسرحيّة “هاملت” لشكسبير، لأنها تقدم للقاريء بدون قناع رغبة قتل الأب، أي الطابع العالمي لرغبة الأبناء الدفينة.

نقتبس هنا فقرة جاءت من نص فرويد “دوستويفسكي وقتل الأبّ” يتحدّث فيها عن طبيعة الدوافع النفسيّة لدى الكاتب التي كان لها علاقة بمسألة اختياره لشخصيّات رواياته :

“الكاتب فضّل بين شخصيّاته العنيفة منها والقاتلة والأنانيّة، ولكن أيضًا فإنّ مثل هذه الميول كانت موجودة فيه خلال حياته، كما يتجلّى لديه ذلك في شغفه بلعب القمار، أو ربما في الاعتداء الجنسي على فتاة صغيرة. كان من الممكن أن تجعله دوافعه المدمّرة مُجرمًا، لكنّها كانت في حياته موجّهة بشكل أساسيّ ضدّ شخصه وليس خارجيّا، ويتمّ التعبير عنها في شكل من الماسوشيّة والشعور بالذنب. لكن عندما تُمارس تجاه الآخرين، تكون لها سمات ساديّة، تتجلى في القابليّة المفرطة بالشكّ، وعدم التسامح، والشغف بتعذيب كلّ من الأحبّاء والقرّاء”.

وفرويد يصنّفه في مكان ليس بعيدًا عن شكسبير، خاصة بفضل روايته “الأخوة كارامازوف”، وبفضل قصّة “المُحقّق الأكبر” التي تأتي كفصل مستقل في هذه الرواية، التي يعتبرها واحدة من أعلى القمم في الأدب العالمي. وهذه القصة تتحدّث عن عودة المسيح إلى الأرض، حيث يروي إيفان كارامازوف لشقيقه آليوشا قصة يعود فيها المسيح في زمن محاكم التفتيش الإسبانيّة في القرن الخامس عشر، حين قرّر الرب العودة للاطمئنان على البشر. وما إن عرف المحقّق الأكبر، وهو راهب وكبير موظفي ديوان التحقيق في محاكم التفتيش، بظهور المسيح بين الناس، حتى أمر بتوقيفه ومحاكمته لخروجه عن سلطة الكنيسة والفئة الحاكمة. ويدور بين المحقق الأكبر والمسيح حوار له أبعاد فلسفيّة عميقة يُعد من أهم الحوارات في الأدب العالمي. 

أما بالنسبة لنيتشه فكان اكتشاف دوستويفسكي “شكل من الإشراق”. ويقول نيتشه عن سياق اكتشافه رواية “الإنسان الصرصار” أو “رسائل من باطن الأرض”: “كتاب بعنوان مجهول، موقّع باسم كاتب مجهول، تقع عليه بمحض الصدفة، على هامش أحد اللقاءات، ليخاطبك شيء فجأة : هنا شخص شبيه بك”. و يقول أيضاً في إحدى رسائله “حدث التقارب الغريزي على الفور، كانت فرحتي كبيرة، يجب أن أعود إلى لقائي مع «الأحمر والأسود» لستندال  لأتذكر فرحة بهذا الحجم”. سرّ إعجاب نيتشه بدوستويفسكي يأتي من حقيقة أنّ “نيتشه الفيلسوف وجد نفسه في مواجهة مؤلّف قادر على تمثيل الشخصيّات التي توضح تمامًا ما كان يدور في ذهنه”. وفي رسالة أخرى يقول: “أنا أحترمه لكون أعماله تمتلك أغنى مادة نفسيّة أعرفها، وأنا ممتن له رغم كلّ الكراهية التي يلهمها في أدنى غرائزي”. ويعترف أنّه تعلّم منه ما تعلّم من باسكال، الذي سمّاه ب “المسيحيّ الوحيد المنطقي”، لكن يبدو أنه يرى دوستويفسكي لاحقا “مُنْحَلّ موهوب”. 

ولم يكن فقط فرويد ونيتشه ممّن كتب وتأثّر بدوستويفسكي، فقد كتب عنه هايدغر وبول ريكور “وقد كتبوا متأثرين بقرائته، فلم يحظى أي كاتب، لا بلزاك، ولا تولوستوي ولا حتى بروست، باهتمام بهذه القوة وبهذا الاستمرار الذي حصل عليه”. كما يشير الكاتب إيلتشينوف ميشيل في كتاب بعنوان “الرواية والفلسفة”. والمثير للاستغراب أنّ دوستويفسكي نفسه يعترف بأنّه “ضعيف في الفلسفة لكنّه قويّ في حبّها لها”. فمعرفته الفلسفيّة كانت متواضعة. وهو “يفضّل التعليق والتساؤل عن المعنى الأخلاقي والإجتماعي لحدث اجتماعي في الحياة اليوميةّ، على طرح الأسئلة التقليديّة للفلسفة”. حتى أنّ المفكّر الروسي نيكولا بيردياف يقول : “إنّ الفلسفة الروسيّة والغربيّة تعيش منذ سنوات طويلة تحت نجم دوستويفسكي”.

هل هناك معادل عربي لدوستويفسكي، روائي يكون لعمله الروائيّ حمولة فكريّة وفلسفيّة بهذا العمق والاتساع ؟ تاريخيّا، ارتبطت الفلسفة في الأدب العربي بالشعراء، المتنبي وأبو العلاء وطرفة ابن العبد وآخرون. دون إغفال كتاب “حي بن يقظان” لابن طفيل الذي يُعتبر نصّا مؤسّساً مُبكّرا ليس في الثقافة العربيّة وحدها بل أيضا له مكانته وتأثيره في الأدب العالمي. ما حدّد من أفق النصّ، وأضرّ بجابنه الأدبي، أنّ ابن طفيل كان يقود الأحداث والأفكار في هذا الكتاب الى خلاصة مفادها أنّ الطفل الذي ربّته الحيوانات والطبيعة سيصل إلى معرفة وجود بالله بالفطرة، رغم ذلك فقد اعتمد على قصّة حيّة، لشخصيّة حيّة، وإن كانت مُتخيّلة، لتسريب رؤاه الفلسفيّة من خلالها، مُدركا أهميّة الخلق الأدبي وقدرته على تمرير فكرة فلسفيّة من عظم ولحم. 

في العصر الحديث، يبقى السؤال مطروحاً وقابلاً للدراسة والنقاش. هناك محاولات ومشاريع روائيّة عربيّة ساهمت بالتأسيس لأفكار جديدة، هذا لا شكّ فيه. على المستوى الفلسطيني قدّم الشاعر والروائي حسين البرغوثي مشروعا أدبيّا ذي حمولة فكريّة وفلسفيّة. كان على الأقل هذا هاجسا مُلحّا لديه، فكان مشغولا بالصدى الفكريّ لأعماله الأدبيّة، وتوليد وحياكة الرؤى والأفكار في نصوصه، رغم أنّ ذلك كان يظهر من خلال حوارات ذهنيّة أحيانا بين الشخصيّات المركزيّة، وليس من خلال مواقف وأحداث حيّة في تطوّر الشخصيّات، وتصادم وتقاطع السلوك، وردّات الفعل والحالات النفسيّة. وربما هذا ما تشير إليه “مجلة الفلسفة” في وصفها لتقنيّات دوستويفسكي: “يرسم الفكرة كحدث حيّ، يقع بين العديد من الأصوات والإدراكات”. فلعبة التعارض والتوازن بين الأدب والفلسفة حسّاسة وخطيرة، ومن هنا تأتي حاجة التقنيّات الأدبيّة في تسريب الأفكار بين السطور. فإذا كان الأدب يطرح الأسئلة فإنّ الفلسفة تجيب عليها. كما يقول الفيلسوف الفرنسي دولوز في تعريفه للفلسفة “هي فنّ تشكيل، واختراع، وتكوين المفاهيم”، بينما الأدب هو فنّ طرح الأسئلة. 

 

مصادر:

Freud, Sigmund. « Dostoïevski et le parricide [1928] », Revue française de psychosomatique, vol. 39, no. 1, 2011.

Eltchaninoff, Michel. Dostoïevski : roman et philosophie. Presses Universitaires de France, 1998.

Philosophie magazine, vol. 22, septembre, 2008. 

 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

 

The post دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
العقابُ دوستويفسكيّاً https://rommanmag.com/archives/20756 Fri, 14 Jan 2022 12:20:18 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82%d8%a7%d8%a8%d9%8f-%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a%d9%91%d8%a7%d9%8b/ لعلّها العبارة الأشدّ حضوراً إن فكّر أحدنا بسببٍ ونتيجته، بضرورة النتيجة متى حلّ السبب، لاختصارها في كلمتين مباشرتَين كالطّلقتَين لا تأويل فيهما، عنواناً لرواية بضخامة «الجريمة والعقاب»، ضخامة في معناها قبل أن تكون في حجمها، وفي تفرّعاتها أدباً وسينما وتحليلاً نفسياً، الممتدة إلى ما يزيد عن قرن ونصف، منذ ظهرت الرواية عام ١٨٦٦. صعّب دوستويفسكي […]

The post العقابُ دوستويفسكيّاً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لعلّها العبارة الأشدّ حضوراً إن فكّر أحدنا بسببٍ ونتيجته، بضرورة النتيجة متى حلّ السبب، لاختصارها في كلمتين مباشرتَين كالطّلقتَين لا تأويل فيهما، عنواناً لرواية بضخامة «الجريمة والعقاب»، ضخامة في معناها قبل أن تكون في حجمها، وفي تفرّعاتها أدباً وسينما وتحليلاً نفسياً، الممتدة إلى ما يزيد عن قرن ونصف، منذ ظهرت الرواية عام ١٨٦٦.

صعّب دوستويفسكي على أحدنا الفصل في حديثٍ بين جانبَي العنوان، بين الجريمة وعقابها، لكن عموم التناول كان للجانب الأوّل وفي بحثه نفسياً، كان للسبب، بافتراض أنّ العقاب مسلَّمٌ به لجريمةٍ (الحكم على الفعل مسبق بتسميته كذلك) لا بد أن تحصل، فيكون النقاش دائماً في معنى الجريمة، أمّا العقاب فمفروغ منه، وأكثر، المؤسسة المقرِّرة فيه والمنفّذة له مفروغ منها.

لا يَعتبر بطلُ الرواية البائس، راسكولنيكوف، قتلَه لامرأة جريمةً، لكونها “قملة قذرة ضارة، مرابية عجوز لا يحتاج إليها أحد. تمتص دماء الفقراء.” مضيفاً لاحقاً أنّه أراد بفعلته “أن يصنع خيراً للناس” وأن يكون “مفيداً” في القتل، الذي لا ينعته بالجريمة.

بتعريفٍ مختلف لفعل القتل، لا يذهب راسكولنيكوف إلى مفهوم العقاب، فالطريق إليه مقطوعة، طالما أن لا اتّفاق أساساً على مفهوم الجريمة، وعلى توصيف فعل القتل بالعمل الإجرامي. هنا أزاح دوستويفسكي في روايته بين السبب والنتيجة، بخلاف إحالات إلى الرواية وعنوانها نقرأها هنا وهناك. وسّع دوستويفسكي بين الجرمية وجزائها معطياً مساحة إنسانية لانهائية في تعريفٍ مفهوميٍّ لكل من الجريمة والعقاب. والعقاب، أخيراً، لديه، لم يكن فعلاً بل إحساساً، فالفعل عملُ السُّلطات والإحساسُ الأفراد. كما أنّ الجريمة لم تكن كما رأتها الشخصيات الأخرى، فعلاً، بل هي تعريف هذا الفعل، التعريف المتفاوت ما بينها وبين راسكولنيكوف.

ليس العقاب هنا إجرائياً، وإن كان كذلك بالنسبة للمجتمع، وإن كان راسكولنيكوف “مكبَّلاً بالسلاسل”، إنّما، العقاب، هو ما يدركه راسكولنيكوف. “إن ما كان يشعره بالخزي والعار، وما كان يؤلمه إيلاماً شديداً حتى جعله مريضاً، إنّما هو الجراح التي أصيبت بها كبرياؤه.” وذلك لعدم تعريفه لفعلته بالجريمة، وإن تمنّى ذلك ليندم “فيغضب من حماقته”، ولم يكن قادراً على الندم لأنّ لا جريمة يرى نفسَه مرتكباً لها (الاقتباسات أعلاه من الرواية).

يفصل الطب النفسي الرسمي بحسب رولان بارت كما أشار في كتابه «أسطوريات»، بين الفعل وسببه، فـ “لم يقبل الأطباء النفسيون أن يُلغى اعتبار جريمة -تعذّرَ تفسيرها لأنّه تعذّر تفسيرها- جريمةً. تاركين للمتهم مسؤوليته الكاملة.” بالنسبة لهم “غياب السببية لا يمنع البتة من أن يُسمى القتل جريمةً.” فـ “الطب الرسمي بذلك يلعب دور الكنيسة” مبرّراً تصرفه “بانحراف” المتَّهم. هو “انحرافٌ لا تكون معاقبته مباليةً بأي جهد يُبذل في شرح الجرم.”

هذا التوصيف لبارت، والإحالة إلى الكنيسة والمحاكمات الأخلاقية، يعيدنا إلى التعامل الدّيني مع راسكولنيكوف، من قِبل مجتمعه (ثمّ نقّاده)، كمجرم ينبغي عقابه دون الأخذ بمعنى الجريمة لدى مرتكبها. ولدوستويفسكي إشارة بنيوية في “تمرّد راسكولنيكوف على الرّب”، ففي اسمه إحالة إلى “الانشقاق في الكنيسة الأورثوذكسية الروسية منتصف القرن السابع عشر” (مقدّمة طبعة “بينغوين” من الرواية).

ليست الرواية مرافعة ضد الفهم الديني للجريمة وعقابها، بل ضد الفهم الرسمي لذلك، المتمثل في تواطؤ الطب النفسي مع السلطة في العصر الحديث، كواحدة من مؤسساتها، كما كانت الكنيسة لدى السلطة في زمن الرواية ومؤلفها.

الرواية، على طولها، “تحاول إثبات فكرة أن الشقاء الإنساني لن ينتهي” كما يشير كولن ويلسون في كتابه «اللامنتمي».” وكان “رد الفعل لراسكولنيكوف تجاه هذا الشقاء جريمةَ القتل”. ينتقد ويلسون اعتبارَ أنّ الرواية “أخلاقية تدور حول الشر الكامن”، منحازاً إلى تفسير اجتماعي تمّ نفيه في الإحالات النفسية لراسكولنيكوف. وهو ما يعطي تفسيراً لانتقاد بارت، وتحليلاً لرواية دوستويفسكي.

ليست الرواية حول الجريمة بدافعها النفسي بقدر أكبر مما هي حول العقاب بدافعه الاجتماعي، ومعنى العقاب ومرجعياته. العقاب مسألة أساسية هنا، وهو كذلك لأنّه مُحتكَر، لأنه أداةٌ للسلطة للسيطرة، لأنّه حكومي ورسمي. هنا كانت أزمة راسكولنيكوف، في عقابه قبل أن تكون في جريمته. هنا يكمن الشقاء الإنساني غير المنتهي.

 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post العقابُ دوستويفسكيّاً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ماذا عن دوستويفسكي؟ https://rommanmag.com/archives/20755 Fri, 14 Jan 2022 12:01:37 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%b9%d9%86-%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a%d8%9f/ يذكر تولستوي عن دستويفسكي (1821-1861) أنّه “كتلة من الصراع”. وتشيرُ كلمات تولستوي المقتضبة هذهِ إلى عالم دستويفسكي الروائي أيضاً، الذي تتنازع شخصياتهُ إرادتا الخير والشر. ولربما يمثّل بطل روايتهِ “الجريمة والعقاب” المثال النقي لذلك الصراع المحتدم في نفوسِ البشر. أدب دستويفسكي أدبٌ واقعيّ، وشخصياتٌ عرفها القارئ في رواياتهِ مثل المرابية، هي شخصيات عرفها الروائي في […]

The post ماذا عن دوستويفسكي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
يذكر تولستوي عن دستويفسكي (1821-1861) أنّه “كتلة من الصراع”. وتشيرُ كلمات تولستوي المقتضبة هذهِ إلى عالم دستويفسكي الروائي أيضاً، الذي تتنازع شخصياتهُ إرادتا الخير والشر. ولربما يمثّل بطل روايتهِ “الجريمة والعقاب” المثال النقي لذلك الصراع المحتدم في نفوسِ البشر. أدب دستويفسكي أدبٌ واقعيّ، وشخصياتٌ عرفها القارئ في رواياتهِ مثل المرابية، هي شخصيات عرفها الروائي في حياتهِ. فرواية دستويفسكي بصورةٍ ما، انزياحٌ فنيّ عن الواقع. حتّى أن زوجته عندما التقت بهِ للمرة الأولى في منزلهِ، خَالت أنّها قادمة إلى زيارة منزل راسكولينكوف بطل “الجريمة والعقاب”. 

تنقلُ آنا غريغوريفنا دوستويفسكايا في “مذكرات زوجة دستويفسكي” جانباً قاسياً من حياتهِ، إذ عندما تعرّفت عليهِ كان محاطاً بشخصيات تكنّ لهُ العداء، الأمر الذي جعله يثق بها ويحدّثها باسترسالٍ عمّا كان يشغله، وقد وجدت آنا منذ البدء في دستويفسكي إنساناً ذكياً ودمثاً. مع ذلك فقد كان يشعر بالتعاسة، ذلك لأنّ الجميع هجره. كما أنّ الجميع سعى إلى استغلالهِ؛ الناشرون بأن يستغلوا عوزه المالي، والأقرباء بالاستدانة منه بصورة دائمة. 

طلب دستويفسكي من آنا أن تعمل لديه، فقد كان ملزماً بكتابة رواية من سبع ملازم، وتسليمها في وقت محدّد. وإلا سيكون عُرضَة للسجن، وخسارة حقوقه في أعماله. كان دستويفسكي يسأل آنا بصورة دائمة عن عدد الصفحات التي كتباها. وفي النهاية سلّم روايته “المقامر” إلى الشرطة، كي يمنع تحايل الناشر بادّعاء عدم الاستلام في الوقت المحدّد.  تساعد هذه الحكاية البسيطة التي دفعت الروائي إلى تسليم مخطوطه إلى الشرطة في الاستدلال على الوحدة التي كان يعيشها، والعداء الذي كان يسوّره. ومن وجوه التعاطف -التي قد تَشغل قارئ دستويفسكي-عندما سألته آنا عن طابع الحزن في قصصه؟ فأخبرها أنّه لم يذق طعم السعادة في يومٍ من الأيام… كان يمتلك تصوّراً قاتماً عن نفسهِ، حتّى عند تقديم عرض الزواج روى لها حكاية عن فنّان مُسِّن مُثقَل بالديون، مريض، مرضاً لا براء منه، وهو الصرع، ويريد أن يحظى بالسعادة. 

تذكر آنا في كتاب المذكرات تفاصيل كثيرة من عالم دستويفسكي. ولا تعلّق كثيراً على طريقة عيشه، إلا أنّ تعليقاً مقتضباً يدلّ على سبب أزماتهِ الواقعية، تذكر آنا: “لقد ملك الإبداع حواسه جميعاً، ومن ثمّ جاءت حياته الخاصة في المرتبة التالية”. بالتالي، يبدو أنّ شغفه بالكتابة قد أحكم على حياتهِ في حلقة مُجْهِدَة من العذاب، وفيما كان غارقاً في عالم الكتابة بصورة محمومة، وجد نفسه وسط مجموعة من العلاقات الطفيليّة التي استحكمت عليهِ، بصورةٍ بدا أنّه كان يكتب من أجل الناشرين والأقرباء. امتلك دستويفسكي روحاً بريئة طفوليّة، وافتقد إلى الحسّ العمليّ. وكانت الحاجة الدائمة إلى المال حافزاً على الكتابة، حتّى أنّه لم يتمكّن طوال حياته من كتابة عمل واحد على مهل، بحسب آنا، وهذا ما تأسف من أجله مقارنة مع معاصريه من الكتّاب. فإلى جانب جشع الأقارب، كان دستويفسكي مولعاً بالمقامرة. يكسب المال من عملهِ كاتباً، ويخسره في الروليت. ثمّ عندما يخسر ما لديه يُراسل الناشرين لأجل دفعة ماليّة، ويلتزم بتاريخ تسليم رواية جديدة له. يُرسل فصولاً، ويَنكبّ على العمل. كانت الخسارة في الروليت بحسب رأي زوجته تجدّد قواه في الكتابة. أمّا السعادة الوحيدة العظيمة التي زارت دستويفسكي فكانت ميلاد ابنتهِ، حيثُ كتب لصديقه “أن يحظى أحدهم بطفل هو ثلاثة أرباع السعادة فيما باقي الأشياء تحتل الربع المتبقي”، كما أنّ التصفيق المدوي المصاحب لقراءتهِ الأدبيّة في آخر سنوات حياته كان أحد أسباب سعادته. قد يكون مفاجئاً لقارئ مجلّدات دستويفسكي الضخمة أنّ الروائي كان يجد السعادة في موضعٍ آخر غير الكتابة. لكن هل كان يكتب من أجل المال؟ 

صحيحٌ أنّه كان يعيش تحت ضغط الحاجة الدائمة، واستمر ملتزماً أخلاقياً بسداد ديون أخيهِ حتّى عامٍ من وفاتهِ. كما اضطر في فترات من حياتهِ إلى رهن ثيابه الشتوية، خلال الشتاء، من أجل المال. وإنّما كان يكتب كي يُعبّر عمّا شغله؛ قريباً من البسطاء ومن حركة الطلاب السياسيّة، مُطّلعاً بصورة يوميّة على الصحف الروسيّة، ولديه اهتمام بالديانات القديمة والتاريخ.

كان دستويفسكي مشغولاً بأعمالهِ، يحبّ النظام في كلّ شيء، صارم إزاء نفسهِ. ونادراً ما أثنى على عملٍ من أعمالهِ. يُقدّر القرّاء، وهم من كانوا يمدّونه بالتعاطف والدعم، فيما النّقاد كانوا يعاملونه بعدوانيّة. حساسٌ تجاه الفنون، إلى درجة تسبّبت له لوحة “المسيح الميت” للفنّان الألماني هَانْس هولبايْن (1497-1543) تأثيراً يقارب تأثير نوبة الصرع عليهِ. يثق بإخلاص الناس وأمانتهم، وعند وفاتهِ خرج الآلاف في جنازته… أمّا عن الحياة القاسية التي عاشها دستويفسكي، فقد كانت إلهاءً عن الكتابة في جانبٍ، ودفعاً إلى أعماقها في جانبٍ آخر، عبر الإلهام والتجربة. الأمر الذي جعله يعرف الإنسان، يلمس شتى مخاوفه، ويكتب عن أفكار سامية كالعدالة. هذا هو دستويفسكي إذن؛ روحٌ معذبة، مُلاحَقة، تكتب وتكتب، من غير أن تجد الرّاحة. الكتابة غلّفت حياتهُ، وأسرتها في طوقٍ أبدي.

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post ماذا عن دوستويفسكي؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي والمئوية الأولى لميلاد مترجمه سامي الدروبي  https://rommanmag.com/archives/20754 Fri, 14 Jan 2022 10:21:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a6%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%85%d9%8a%d9%84%d8%a7%d8%af-%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d9%88%d8%a7/ إن الحديث عن فيودور دوستويفسكي يتطلب منا القيام برحلة إلى أعماق هذا الكاتب الكبير الذي شغل العالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الآن، والذي يعدّ بلا جدال من أبرز الروائيين في العالم. وقد تتلمذت على كتبه وأدبه وأفكاره ورواياته أجيال من الروائيين وعلماء النفس في الشرق والغرب. وليس هذا القول مبالغة، ولا […]

The post المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي والمئوية الأولى لميلاد مترجمه سامي الدروبي  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

إن الحديث عن فيودور دوستويفسكي يتطلب منا القيام برحلة إلى أعماق هذا الكاتب الكبير الذي شغل العالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الآن، والذي يعدّ بلا جدال من أبرز الروائيين في العالم. وقد تتلمذت على كتبه وأدبه وأفكاره ورواياته أجيال من الروائيين وعلماء النفس في الشرق والغرب. وليس هذا القول مبالغة، ولا مستغرباً، فقد صرح مؤسس التحليل النفسي زيغموند فرويد بأن دوستويفسكي هو الوحيد الذي سبقه إلى اكتشاف أعماق النفس الإنسانية في بحثه للاشعور ودوافعه والآليات النفسية المختلفة. وانطلاقاً من أن مؤلفات الكاتب المبدع هي مفتاح شخصيته، كما أن شخصيته تعد مفتاحاً لمؤلفاته، لذلك سنستعرض بإيجاز سيرة حياة دوستويفسكي المليئة بالتطورات والأحداث الجسيمة، من خلال أعماله ومؤلفاته التي أنجزها ( كتب دوستويفسكي 14 رواية كبيرة و17 قصة طويلة وقصة وأقصوصة، وقصة قصيرة، ومجموعة ضخمة من المقالات والدراسات والخواطر التي نشرها في الصحف والمجلات، وترجم مجموعة من الأعمال الأدبية عن الفرنسية، كما أسس ثلاث مجلات هي “الوقت” و”العصر” و”يوميات كاتب”، وقد خصص المجلة الأخيرة لنشر مؤلفاته وآرائه). تعكس مؤلفاته التطورات والحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعبر عن النفس الإنسانية ودوافعها وآلياتها الشعورية واللاشعورية. وقد تُرجم عدد كبير من مؤلفاته إلى 170 لغة. وكتب دوستويفسكي هذه المؤلفات والأعمال الضخمة خلال فترة قصيرة نسبياً. 

دوستويفسكي هو روائي ومترجم وكاتب قصة، وقصة قصيرة، وصحفي، وفيلسوف، وعالم نفس روسي . وهو من أعظم المجددين على صعيد الشكل الفني للرواية، فهو مبدع الرواية متعددة الأصوات، وقد خلق جنساً روائياً جديداً. 

ولدَ دوستويفسكي في 30/10/1821 في موسكو، وتوفي في 31/1/1881. وهو الابن الثاني من ثمانية أبناء. ولم يعش سوى تسع وخمسين عاماً وثلاثة أشهر، تخللت حياته آلام السجن والمرض، والحكم بالإعدام، والمنفى والأشغال الشاقة، وأبدع من المؤلفات الأدبية الرائعة ما يفوق من عاش ثمانين عاماً وأكثر. والده ميخائيل أندريفيتش دوستويفسكي، طبيب، اشتهر باستقامته وتدّينه وقسوته في معاملة أولاده ومرؤوسيه وفلاحيه في أرضه. ووالدتهُ ماريا فيدورفنا دوستويفسكايا.

– في عام 1833، انتسب إلى المدرسة الثانوية مع أخيه الأكبر ميخائيل، وفي عام 1838 انتسب فيودور إلى كلية الهندسة العسكرية.

– في عامي 1839- 1840 بعث فيودور برسائل إلى أخيه ميخائيل يحدثه عن رأيه في أعمال شيللر وهوميروس، وكتاب التراجيديا الفرنسيين، وعن آرائه عموماً، ومنها الرسالة التالية: “الإنسان سر، يجب اكتشافه، وإذا ما حاولت اكتشافه طيلة حياتك، فلا تقل إنك أضعت وقتك، إنني أحاول اكتشاف هذا السر، لأنني أريد ان أكون إنساناً”. 

– في عام 1843 أنهى الدراسة في الكلية وفُرز إلى الفيلق الهندسي وبدأ الخدمة في مديرية الرسم الهندسي بمدينة بطرسبورغ. وفي عطلة أعياد الميلاد ترجم رواية بلزاك “أوجين غرانديه”. 

– في عام 1844 قدم طلباً باستقالته من الخدمة العسكرية، حيث أُعفي من الخدمة وهو ضابط برتبة ملازم أول، كما تخلى عن حقوقه الوراثية في ملكية الأرض والفلاحين الأقنان لقاء مبلغ ليس كبيراً. وعكف على ترجمة قصة جورج ساند “ألديني الأخيرة” وبدأ بكتابة روايته “المساكين”.

– في عام 1846 صدرت روايته “المساكين” التي قدرها النقاد تقديراً رفيعاً، كما صدرت قصة “المثل” وقصة “السيد بروخارتشين”. وبدأ بكتابة قصة “الجارة” ورواية “نيتوتشكا نيزفانوفا”. 

– في عام 1847، صدرت قصته “رواية في تسع رسائل”، وبرز خلاف كبير في الآراء بينه وبين الناقد الكبير بيلينسكي انتهى إلى القطيعة. كما صدرت رواية “المساكين” في طبعة مستقلة ، وقصة “الجارة” في مجلة أخرى.

– في عام 1848، نشر قصة “زوجة آخر والزوج تحت السرير”، وقصة “قلب ضعيف”، كما نشر أقصوصة “بولزونكوف” (المهرج). وفي الخريف، جرى تقارب بين دوستويفسكي وجماعة بتروشيفسكي الثورية السرية، واطلع دوستويفسكي عن كثب على أفكار الاشتراكية الطوباوية. وفي شهر أيلول/سبتمبر، نشر قصة “شجرة عيد الميلاد والعرس”، وقصة ” الليالي البيضاء”.

– في عام 1849، نشر الجزأين الأول والثاني من قصة “نيتشكا نيزفانوفا”، وشارك في جماعة بتروشيفسكي السرية، وفي نيسان/أبريل وبعد عودته من أحد الاجتماعات دهمت شقته ثلة من رجال الشرطة واعتقلوه بتهمة مشاركته في نشاطات جمعية ثورية تسعى لتغيير نظام الحكم، ونُقل إلى السجن في قلعة بطرس وبولس. وبعد التحقيق، بدأت محاكمته وصدر الحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص. لكن القيصر قام بتخفيف الحكم في اللحظة الأخيرة قبل الإعدام، واقتصر الحكم على تجريده من رتبة ضابط ومن كافة حقوقه الوضعية، وإرساله إلى المنفى مع الأشغال الشاقة لمدة ثماني سنوات، لكن قرار القيصر قضى بأن تكون مدة النفي 4 سنوات، ثم يخدم جندياً عادياً لمدة أربع سنوات. 

– في عام 1850، غادر القلعة ليلاً بعد تقييد قدميه بالسلاسل، ونقل إلى مدينة توبولسك في جو صقيعي. وفي 9 كانون ثاني تم إيصاله وزملائه إلى توبولسك، واحتُجزوه في سجن المعتقل الانتقالي. ثم نُقل دوستويفسكي إلى سجن الأشغال الشاقة في قلعة أومسك وبقي فيها حتى شهر شباط من عام 1854. 

– في عام 1854، نقل دوستويفسكي إلى منفاه في مدينة سيميبلاتينسك السيبيرية في كازاخستان، وألحق بصفة جندي في السرية الأولى من الكتيبة المحلية. في تشرين الثاني/ نوفمبر وصل إلى سميميبلاتينسك النائب العام الجديد للمدينة البارون الشاب فرانغل فدعاه لزيارته، وزوده بالمال وبرسائل من ذويه، وارتبط معه بصداقة متينة. في هذا العام كتب دوستويفسكي رسالة إلى السيدة فون فيزونا قال فيها: “سأحدثك عن نفسي، أنا ابن القرن، ابن الشك وانعدام الإيمان، حتى الآن (وحتى الكفن). كم كلفني ، ويكلفني هذا الظمأ إلى الإيمان الآن. وكلما كان هذا الظمأ أقوى في روحي، كانت الحجج المضادة له أقوى”. 

– في الأعوام 1855- 1860 بدأ دوستويفسكي بكتابة روايته “ذكريات من بيت الموتى”، وبعد صدور الأمر بترفيعه إلى رتبة ضابط، سُمح له بالزواج من الأرملة إيسايفا؛ وبعد تكليلهما أصيب بنوبة صرع شديدة، ورفع طبيب الكتيبة تقريراً بأن الضابط دوستويفسكي مصاب بالصرع منذ عام 1850، وأن نوبة الصرع تتكرر عنده شهرياً بحيث لا يمكن بقاءه في الخدمة العسكرية؛ بدأ بكتابة قصتين: “حلم العم” و”قرية ستيباشينكو”؛ صدر الأمر بقبول استقالته من الخدمة العسكرية؛ صدرت مؤلفاته في مجلدين. 

– في الأعوام 1861- 1870 بدأت مجلة “الوقت” بنشر روايته “مذلون ومهانون”؛ سافر إلى باريس ولندن وألمانيا وإيطاليا والتقى بالكتاب والمفكرين الروس المقيمين هناك مثل هيرتسن وباكونين ثم عاد إلى بطرسبورغ ونشرت مجلة الوقت قصته “حادثة شنيعة”؛ أصدر مجلة “العصر” وبدأ بنشر روايته “الجريمة والعقاب”. تزوج من آنا سنيتكينا بعد مرور أكثر من خمس سنوات على وفاة زوجته الأولى، وقاما برحلة إلى الخارج استمرت أربع سنوات؛ بدأت مجلة “البشير الروسي” بنشر روايته “الأبله”، ثم رواية “الشياطين”. 

– في الأعوام 1870- 1882 ترأس تحرير مجلة “المواطن”، وأسس مجلة “يوميات كاتب” وتابع نشر رواياته ومؤلفاته، فنشر رواية “المراهق” وقصة “بوبوك” (حبة الفول)، ثم أوقف مجلة “يوميات كاتب” للتفرغ لروايته الكبرى “الإخوة كارامازوف” التي أنهاها في عام 1880 بعد عمل استمر ثلاث سنوات.

– في مساء 31/1/1882 فارق دوستويفسكي الحياة. وقد دفن في بطرسبورغ في 1/ 2/ 1882، وسارت روسيا كلها في جنازته. لم يمت دوستويفسكي بدفنه في القبر، فبعد موته اتضح أكثر كم هو حيوي، وملحّ، وابن الساعة، فقد عبر بحماسة وحرارة عن جميع المسائل التي كان يدور حولها الصراع الاجتماعي والسياسي والروحي في روسيا وفي العالم أجمع. 

في أوائل شباط/ فبراير عام 1882 كتب عنه الكاتب والمفكر الكبير ليف تولستوي قائلا: “كم كنت أتمنى لو استطعت أن أقول عن دوستويفسكي كل ما أشعر به تجاهه… أنا لم أرَ هذا الشخص قط، ولم تكن لي أية علاقة مباشرة به، ولكن فجأة، عندما مات، أدركت أنه كان أقرب إنسان إليّ، وأعز إنسان لديّ، وأكثر من كنت بحاجة إليه… لقد ذُهلت، ثم اتضح لي كم كان عزيزاً عليّ وبكيت، وأنا الآن أبكي”. 

لقد كان بلزاك وديكنز في الغرب ودوستويفسكي في روسيا الروائيين الكلاسيكيين للمدينة الكبيرة في القرن التاسع عشر. وقد أدركوا بعبقريتهم طابع العلاقات الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية فيها وتأثيرها على الفرد والنفس البشرية. وقد تجاوزهما دوستويفسكي بإبداعه الرواية الجدلية الأيديولوجية، الرواية المتعددة الأصوات. فأبطال دوستويفسكي جميعهم مفكرون، أصحاب أيديولوجيا. حيث تندمج شخصية البطل مع أيديولوجيته ورؤيته للعالم. 

فيودور دوستويفسكي، الكاتب والروائي وعالم النفس الروسي الكبير، حظي بإعجاب شديد وإلهام وتماهي من جانب شاب سوري لم يبلغ بعد العشرين من عمره، عندما عثر بالصدفة عند أحد أصدقائه على كتاب دوستويفسكي “مذلون ومهانون”، وكانت هذه بداية تعارفه ومعايشته لدوستويفسكي التي استمرت حوالي ثلاثة عقود حتى وفاته، ترجم ونشر بعدها الأعمال الروائية الكاملة لدستويفسكي في 18 مجلدا عن الفرنسية في عام 1970، في أروع وأبلغ وأصدق وأكمل ترجمة حتى الآن، وبلغة عربية جميلة ومعبرة ورائعة، واستطاع أن يعبر أصدق تعبير عن هذا الكاتب فكراً وروحاً. فمن هو هذا الشاب؟ إنه الأستاذ الدكتور، السياسي، والدبلوماسي، والسفير، والأديب والمترجم الكبير سامي الدروبي.

ولد سامي الدروبي في مدينة حمص بسورية في 27/4/1921، وتوفي في 12/2/1976، فعاش أقل من 55 عاماً. أوفد للدراسة لتحضير الدكتوراه في علم النفس إلى باريس خلال الأعوام 1949-1952. وعين مدرساً ثم أستاذاً في كلية التربية بجامعة دمشق؛ أوفد إلى مصر كمدير للثقافة خلال عامي 1959-1960، ثم عين مستشاراً ثقافياً في البرازيل. وبعد الانفصال، طلب إعادته إلى دمشق فعين وزيراً للتربية عام 1963. وخلال الأعوام من 1963- 1971 عين سفيراً لسورية في المغرب، ثم في يوغسلافيا، ثم مندوباً دائماً لسورية في الجامعة العربية ثم سفيراً في إسبانيا. في عام 1975 طلب إعادته إلى دمشق لأسباب صحية. وظل يعمل في مشاريعه الثقافية والترجمية حتى اللحظات الأخيرة من عمره، وشرع بترجمة الأعمال الكاملة لتولستوي لكن الموت عاجله فلم يكمل مشروعه وأنجز المجلدات الخمسة الأولى منها. وقد بلغ مجموع ما خطته يده من تأليف وترجمة 360.000 صفحة في ثمانين كتاباً. 

كان الدروبي واحداً من أعلام المفكرين الذين آمنوا بدور الترجمة في بناء الثقافة العربية الجديدة، وكان شديد الاقتناع بأننا بحاجة إلى مجهود كبير لكي نلاحق العصر الحديث في مستواه العقلي. وهو أول من ترجم إلى العربية أعمال الفيلسوف الفرنسي هتري برغسون، ومؤلفات الفيلسوف الفرنسي غويو، والفيلسوف الإيطالي كروتشه. وقد وصفه عميد الأدب العربي طه حسين فقال “إن سامي الدروبي هو مؤسسة كاملة، أنجز ما تعجز عنه الدول والمؤسسات”. وقد قال المستشرق الروسي أستاذ اللغة العربية بجامعة موسكو لطه حسين حين زاره: “حين قرأت ترجمة الدكتور سامي الدروبي لدوستويفسكي قلت لو كان دوستويفسكي عربياً لما كتب أجمل من هذا”.

من خلال اطلاعه لأول مرة منذ الأربعينيات من القرن الماضي على مؤلفات دوستويفسكي، أدرك سامي الدروبي أن هناك ما يجمعه مع دوستويفسكي. فما الذي كان يجمعهما؟ في حديث شخصي مع د. سامي دروبي قال في لقاء له مع وفد من اتحاد الكتاب السوفييت في دمشق في أوائل السبعينيات، إنه كان يعيش دوستويفسكي في نفسه، حتى أن زوجته السيدة إحسان كانت تعتبر دوستويفسكي ضرّتها الثانية. لنلاحظ الأشياء المشتركة بين الكاتب الكبير والمترجم الكبير: كلاهما لم يكمل الستين من عمره: فقد عاش دوستويفسكي تسعة وخمسين عاماً وعاش الدروبي خمسة وخمسين عاماً؛ كلاهما كانا متعمقين في علم النفس وتغلغلا في أعماق النفس البشرية. فالدروبي هو أستاذ في علم النفس، وله كتب كثيرة من تأليفه، أهمها “علم النفس والأدب”، و”علم النفس والتربية”، “علم الطباع”؛ كما جمع بينهما المرض فدوستويفسكي كان يعاني من الصرع الذي رافقه عقدين كاملين، والدروبي كان يعاني من مرض القلب، الذي رافقه أكثر من عقد.

بالإضافة إلى ترجمته للأعمال الكاملة لدستويفسكي وشروعه بترجمة الأعمال الكاملة لتولستوي، كان الدروبي قد ترجم أعمالاً ومؤلفات للشاعر الروسيين بوشكين “ابنة الضابط” وليرمنتوف “بطل من زماننا”، وللكاتب الروسيين كورولنكو “الموسيقي الأعمى”، وتورغينيف “مياه الربيع”. عدا عن ترجماته العديدة الشهيرة من الآداب الأخرى (“جسر على نهر أندرينا” و”أخبار مدينة سترافنك” للكاتب اليوغسلافي أيفو أندرييفيتش الذي فاز بجائزة نوبل، رواية “كونكاس بوربا” للكاتب البرازيلي ميشيلو دوآسي). 

كلمة أخيرة: يعد دوستويفسكي الأب الروحي لجميع أبطال رواياته الرئيسيين، بمعنى أنه كان يشكل نموذجاً بالنسبة لهم. إن عظمة دوستويفسكي ليست في تنبؤاته، بل في رؤاه الثاقبة التي تجلت في رواياته الخالدة؛ وليست في أن التاريخ سار في الطريق الذي تنبأ به، بل في أن أفكاره تجسدت في مدارس واتجاهات نفسية وفلسفية وأدبية، كمدرسة التحليل النفسي والفلسفة الوجودية والرواية المتعددة الأصوات وغيرها. إنه عظيم لأنه كان يرى رسالة الإنسان في خدمة الحقيقة، والخير والجمال، حتى وإن كان هذا الإنسان أكثر الناس بعداً عن الروح العملية. يقول دوستويفسكي في “يوميات كاتب”: أنا أعرف أنني لست إنساناً عملياً… بالطبع، وبسبب الأمور المهمة الجارية… لا وقت، بل ومن السخافة التفكير بما سيحصل بعد عشر سنوات أو في نهاية القرن… إن شعار الإنسان العملي الحقيقي في عصرنا هو ” أنا ومن بعدي الطوفان”، ولكن يحق للناس غير العمليين أن يحلموا أحياناً بالمستقبل…

هذا ما قاله دوستويفسكي قبل مائة وخمسين عاماً، فهل هناك قول أكثر معاصرة وانطباقاً على عصرنا هذا من هذا القول؟
 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي والمئوية الأولى لميلاد مترجمه سامي الدروبي  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين https://rommanmag.com/archives/20753 Fri, 14 Jan 2022 09:19:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%af%d9%88%d8%b3%d8%aa%d9%88%d9%8a%d9%81%d8%b3%d9%83%d9%8a-%d8%a8%d8%ad%d8%b3%d8%a8-%d8%a8%d9%8a%d8%aa%d8%b1-%d9%83%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d8%aa%d9%83%d9%8a%d9%86/ مقدمة نترجم هنا الفصل الصغير المثير المخصص لدوستويفسكي، من كتاب الفوضوي بيتر كروبوتكين، “الأدب الروسي” (١٩٠٥). يحاول كروبوتكين أن يقرأ دوستويفسكي قراءة نقدية من منظور يساري. لا يجوز أن ننسى المواقف الفلسفية والسياسية للكتّاب؛ وقد كان دوستويفسكي يمينيّاً تقريباً (وليس تماماً)، مسيحيّاً تماماً، يسارياً بحماسة في عواطفه، ومضطرباً نفسياً واجتماعياً.  يتذكر المرء محاولة لينين المشابهة لفهم […]

The post دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

مقدمة

نترجم هنا الفصل الصغير المثير المخصص لدوستويفسكي، من كتاب الفوضوي بيتر كروبوتكين، “الأدب الروسي” (١٩٠٥).

يحاول كروبوتكين أن يقرأ دوستويفسكي قراءة نقدية من منظور يساري. لا يجوز أن ننسى المواقف الفلسفية والسياسية للكتّاب؛ وقد كان دوستويفسكي يمينيّاً تقريباً (وليس تماماً)، مسيحيّاً تماماً، يسارياً بحماسة في عواطفه، ومضطرباً نفسياً واجتماعياً. 

يتذكر المرء محاولة لينين المشابهة لفهم تولستوي. يكتفي لينين بقراءة ميكانيكية ماركسية كلاسيكية للطبقة التي ينتمي إليها تولستوي والظرف التاريخي الذي كتب فيه، لا أكثر ولا أقل. كروبوتكين أيضاً ينظر إلى دوستويفسكي من وجهة نظر إيديولوجية؛ ومثل لينين، هو مولع بالأدب الواقعي، ولنفس الأسباب. ولكنه أكثر اهتماماً بالأدب بحد ذاته، ولا يتكلم عن الطبقة التي ينتمي إليها دوستويفسكي إطلاقاً؛ بل يناقش شكل رواياته، ومضمونها، وعلاقاتها مع الطبقات الفقيرة. 

على الرغم من تعاطفي الشديد، واقتناعي الكامل، بضرورة أن نفكر في انحيازات الفنان الفكرية؛ لا يبدو لي أن لينين أو كروبوتكين ينجحان في قراءة الأدب بشكل معقول ومقنع، بسبب انحيازهما الإيديولوجي الطاغي. يبدو لي هذا التفكير في إيديولوجيا الفنان خطوة أولى ضرورية في محاولاتنا لفهم الأدب والدخول إلى عوالمه، ولكنه ليس الخطوة الكافية لهذا الفهم. 

نترككم الآن مع كروبوتكين، ودوستويفسكي المبدع، التائه، الخلّاق!

 

قلّة من الكتّاب حظيت باستقبال جيد كالذي حظي به دوستويفسكي، منذ بداية ظهوره في عالم الأدب. وصل إلى سانت بطرسبورغ سنة 1845، شابّ هادئ غير معروف، وقبل سنتين فقط من إنهاء دراسته في مدرسة الهندسة العسكرية، وبعد أن أمضى سنتين في الخدمة، قرر أن يترك الدراسة ليتفرّغ للأدب. كان في الرابعة والعشرين فقط عندما أنهى أولى رواياته، “الفقراء”، التي قدّمها زميله في الدراسة، غريغورفيتش، إلى الشاعر نيكراسوف، لتقييمها أدبياً. في دخيلة نفسه، لم يكن دوستويفسكي متأكداً من أن المحرر سيقرأ الرواية. كان يعيش حينها في غرفة فقيرة بائسة، عندما دقّ بابه نيكراسوف وغريغورفيتش في الرابعة صباحاً. رميا نفسيهما على عنقه وعانقاه، والدموع تملأ مآقيهما، مهنّئين الشاب على عمله. نيكراسوف وصديقه بدآ بقراءة الرواية مساءً؛ ولم يستطيعا التوقف حتى النهاية، وكانا متأثرين بعمق إلى درجة أنهما لم يستطيعا تأجيل حملتهم الليلية، ليخبرا الكاتب بمشاعرهما. بعد أيام قليلة قُدّم دوستويفسكي إلى أشهر ناقد في ذاك العصر، بيلنسكي، ولقي منه نفس الترحيب الحار. أثارت الرواية عواطف لجمهور القرّاء. حدث الأمر ذاته مع كل روايات دوستويفسكي اللاحقة، التي حققت مبيعات هائلة في روسيا. 

كانت حياة دوستويفسكي حزينة للغاية. سنة 1849، بعد أربع سنوات من نجاح رواية “الفقراء”، ارتبط بمجموعة من أتباع فوريير (أعضاء في حلقة بيتراشفسكي)، الذين اعتادوا الاجتماع لمناقشة أعمال فوريير والتعليق عليها، والتفكير في ضرورة قيام حركة اشتراكية في روسيا. في واحدة من هذه اللقاءات، قرأ دوستويفسكي رسالةً من بيلنسكي إلى غوغول، والتي ينتقد فيها بحدة الكنيسة الروسية والدولة؛ كما شارك في اجتماع كان الأول للبدء بأعمال طباعة سرية للدعاية. اعتُقل بعدها، وحوكم (خلف الأبواب المغلقة)، وصدر عليه حكم الإعدام مع مجموعة من المعتقلين. في كانون الأول 1849، اقتيد إلى ساحة عامة، أمام مشنقة، ليستمع إلى أحكام الإعدام، قبل أن يصل، في الدقائق الأخيرة، رسول من نيكولا الأول، حاملاً العفو. بعد ثلاثة أيام رُحّل إلى معسكر للأشغال الشاقة في أومسك في سيبيريا. قضى هناك أربع سنين، قبل أن يُعفى عنه نتيجة وساطة في بطرسبورغ، على أن يصبح جندياً. يُشاع أنه في فترة اعتقاله، وبسبب إساءة صغيرة، تعرّض للعقوبة الرهيبة بالجلد، وأن الصرع أصابه بعدها، ولم يتخلص منه حتى مماته؛ ولكن اليوم يعتبر الكثيرون هذه الحكاية مجرد أسطورة. لم يستفد دوستويفسكي كثيراً من العفو الذي أصدره ألكسندر الثاني عند توليه الحكم. سنة 1859، بعد أربع سنوات من تسنم ألكسندر الثاني الحكم، صدر العفو عن الكاتب العظيم وسُمح له بالعودة إلى روسيا. توفي سنة 1883. 

كان دوستويفسكي يكتب بسرعة، وحتى قبل اعتقاله كان قد نشر عشر روايات. رواية “المِثل” تستبق رواياته المتأخرة بجوها النفسي/المرضي، ورواية “نيتوتشكا نزفانوفا” تظهر أسلوباً ينضج بسرعة إلى أعلى المستويات. بعد عودته من سيبيريا بدأ بنشر مجموعة من الروايات تركت أثراً عميقاً على الجمهور. افتتح السلسلة برواية عظيمة، “مذلون مهانون”، ثم يتبعها برواية “ذكريات من منزل الأموات”، التي وصف فيها تجربته في الأشغال الشاقة. ثم أتت رواية “الجريمة والعقاب”، والتي أصبحت مقروءة في كل أوروبا وأمريكا، وتحولت إلى عمل مسرحي في إنكلترا، مع تغييرات كثيرة. “الأبله”، “المراهق”، “الشياطين”، عالجت جزئياً موضوعات نفسية/مرضية وجزئياً مشاكل اجتماعية؛ أما “الإخوة كارمازوف” فينظر إليها كأعظم إنجازاته ويُعلى من شأنها إلى درجة كبيرة في بعض الأوساط الأدبية. 

لو حوكمت أعمال دوستويفسكي من وجهة نظر جمالية محض، لكان الحكم على قيمتها الأدبية قاسياً جداً. كما بيّن دوبرلوبوف، لقد كان يكتب بسرعة كبيرة، إلى درجة أن الشكل الأدبي أقل من المستوى العادي. أبطاله يتكلّمون بطريقة متسرعة، ويكررون أنفسهم باستمرار، وكلما قال البطل شيئاً (خصوصاً في “مذلون مهانون”) تشعر أن الكاتب هو من يقول ذاك الشيء. بالإضافة إلى هذه العيوب الجدية، الحبكة رومانسية بشدة وعتيقة، وغير منظمة في تركيبها، والأحداث لا تتوالى بشكل طبيعي؛ بدون أن نشير إلى أجواء مشفى المجانين التي تطغى على أعماله الأخيرة. مع ذلك، تطفح أعماله بالحس الواقعي، وإلى جانب الشخصيات غير الواقعية يجد المرء شخصيات حقيقية، وواقعية جداً، يعرفها كل منا، مما يعالج كل العيوب المذكورة. حتى عندما تفكر بأن الحوارات التي يسجلها غير صحيحة، تشعر بأن الأشخاص الذين يصفهم -على الأقل بعضهم- هم بالضبط كما يريد وصفهم. 

“ذكريات من منزل الأموات” هي العمل الوحيد الذي يمكن الاعتراف به كعمل فني تماماً: فكرتها الفنية رائعة، والشكل الأدبي يتلاءم مع الفكرة بشكل كامل؛ ولكن في أعماله المتأخرة، يعاني المؤلف تحت وطأة أفكاره، وكلها غامضة جداً، فتثيره إلى درجة لا يستطيع معها السيطرة عليها، ولا أن يجد الشكل الملائم لها. الموضوعات المفضلة لدوستويفسكي هي الشخصيات التي انحدرت كثيراً بسبب الظروف حتى أنهم لا يعتقدون بوجود إمكانية للتعالي فوقها. أكثر من ذلك، يشعر المرء أن دوستويفسكي يستمتع بوصف عذاب المهانين، سواء الأخلاقي أو الجسدي؛ وأنه يكشف بتقديمه لبؤس العقل العجزَ المطلق للإصلاح وظروفَ الانكسار الشامل للطبيعة البشرية الذي يميز حالات المرضى العصبيين. إلى جانب هؤلاء المعذبين تجد من يمتلؤون بالإنسانية ويتجه كل تعاطفنا إليهم؛ ولكن أبطال دوستويفسكي المفضلون هم الرجال والنساء الذين يعتبرون أنفسهم غير حقيقين بالاحترام، بل ولا حتى أن يعاملوا كبشر. لقد حاولوا مرة في الماضي بتواضع الدفاع عن شخصيتهم، ولكنهم استسلموا لاحقاً، ولم يحاولوا مرة أخرى. سيغرقون أعمق وأعمق في بؤسهم، وسيموتون، نتيجة الضنى أو الفضائح، أو يصبحون ضحايا نزوعات عقلية- نوع من الجنون نصف-المُشرق، الذي يبلغ من خلاله الإنسان أعلى مفاهيم الفلسفة البشرية، أما البعض فيعيش المرارة إلى أن يرتكب جريمة ما، ثم يندم عليها بعد لحظات قليلة. 

في “مذلون مهانون” نرى شاباً يعشق بجنون فتاة من عائلة متواضعة فقيرة. الفتاة تحب أميراً أرستقراطياً، رجلاً بلا مبادئ، ولكنه ساحر بأنانيّته الطفولية، وجذاب جداً بسبب إخلاصه، وله قدرة كاملة على ارتكاب جرائم بشكل غير واع بحقّ كل من يضعه القدر في طريقه. رسم نفسيّة الفتاة والأمير جيد جداً، ولكن أفضل ما يقدمه دوستويفسكي هنا هو الشاب الآخر، الذي رفضته الفتاة، ولكنه يكرّس وجوده كله من أجل أن يكون خادمها الأمين، وعلى العكس من كل نواياه يصبح أداة لدفعها إلى أحضان الأرستقراطي. كل ذلك ممكن، كل ذلك يوجد في الحياة، ودوستويفسكي يخبرنا القصة لنشعر بأعمق التعاطف مع المذلين والمهانين؛ ولكن حتى في هذه الرواية، المتعة التي يجدها المؤلف في عرض خضوع وعبودية أبطاله الذين لا يمكن فهمهما، والمتعة التي يجدونها في العذاب والمعاملة السيئة التي تُفرض عليهم، منفّرة للعقل السليم. 

الرواية العظيمة التي تلتها، “الجريمة والعقاب”، أثارت الجمهور كثيراً. بطلها، راسكولينكوف، طالب شاب، يحب بعمق أمه وأخته؛ كلتاهما فقيرتان جداً، مثله. في محاولته المحمومة لتأمين المال من أجل دراسته ولدعم عائلته، يفكر في قتل عجوز غنية، مرابية تُقرض المال للناس ويُشاع أنها تملك بضعة آلاف من الروبلات. سلسلة مصادفات تؤكد له خياره وتدفعه إلى ذاك الدرب. الأخت، والتي لا تجد مخرجاً من فقرهم، ستضحّي بنفسها من أجل العائلة، عن طريق الزواج برجل عجوز خسيس غني؛ وراسكولينكوف يقرر بحزم أن يمنع هذا الزواج. كما يلتقي في نفس الوقت برجل من طبقة الموظفين الدنيا، وسكير، عنده بنتٌ عطوف من زواجه الأول، وهي سونيا. العائلة تعيش في فقر مدقع، ذلك الفقر الذي لا يوجد إلا في المدن الكبرى، كمدينة سانت بطرسبورغ؛ يقرر راسكولينكوف أن يهتم بشؤون هذه العائلة. وبسبب كل هذه الظروف، وفيما يغرق هو نفسه أعمق فأعمق في دركات البؤس المظلم، ومدركاً لعجزه في مواجهة الفقر المحيط به، تستحوذ فكرة قتل العجوز المرابية عليه. يرتكب الجريمة، وكما هو متوقع، لا يستفيد من المال، الذي بالكاد يعثر عليه في حمأة توتره؛ وبعد بضعة أيام من تأنيب الضمير والعار- مرة أخرى تحت مجموعة من الظروف المتنوعة التي تؤلب شعوره بتأنيب الضمير- يسلّم نفسه، معترفاً بجريمة قتل العجوز وأختها. 

هذا بالطبع مجرد هيكل الرواية؛ في الواقع الرواية مليئة بأكثر المشاهد إثارة للفقر من جهة وللانحطاط الأخلاقي من جهة أخرى. وهناك العديد من الشخصيات الثانوية أيضاً، كعائلة محترمة تعمل عندهم أخت راسكولنيكوف مربّيةً، والمحقق، وغيرهم. أكثر من ذلك، وبعد أن يجمع عدداً من الدوافع التي تجعل راسكولنيكوف يرتكب جريمته، يجد دوستويفسكي أنه من الضروري أن يضيف دافعاً نظرياً. يخبرنا الكاتب في منتصف الرواية بأن راسكولنيكوف، متأثراً بأفكار الفلسفة المادية المعاصرة والسائدة، قد نشر مقالاً يجادل فيه بأن الناس ينقسمون بين الأدنون والأعلون، وبالنسبة للصنف الثاني -نابليون هو النموذج- الأخلاق الحالية ليست ملزمة.

معظم قرّاء الرواية والنقاد الأدبيين أعجبوا بالتحليل النفسي لراسكولنيكوف وبعرض الدوافع التي أدت إلى ارتكاب الجريمة. ولكنني أود أن أشير إلى ملاحظة هامة هنا: كثرة الأسباب العارضة لارتكاب الجريمة التي دبجها دوستويفسكي تظهر مدى تردده هو نفسه في أن ينسب للدعاية الفلسفية المادية وحدها القدرة على تحويل شاب بريء إلى مجرم. لا يصبح أمثال راسكولنيكوف مجرمين تحت ضغط مثل هذه الدوافع النظرية؛ في حين أن من يرتكب الجرائم وينسبها إلى مثل هذه الدوافع، كما فعل ليبيه في باريس، ليسوا من صنف راسكولنيكوف. خلف راسكولنيكوف، برأيي، يقف دوستويفسكي متسائلاً إن كان هو نفسه، أو شخص مثله، قد يرتكب جريمة، وما الدوافع النفسية التي قد تؤدي به إلى ذلك. بالطبع، يجب أن نضيف أن شخصيات مثل المحقق والسيد سفيدريجايلوف هي مجرد اختراعات رومانسية. 

على أية حال، وعلى الرغم من كل عيوبها، تؤثر الرواية في النفس نتيجة تصويرها لحياة الفقراء، وتثير في كل قارئ صادق أعمق التعاطف حتى مع أكثر سكان تلك الأحياء وضاعةً. في الحقيقة، عندما يكتب عنهم، يصبح دوستويفسكي كاتباً واقعياً كأفضل ما يكون، مثل تورغينيف أو تولستوي. الموظف السكير العجوز، مارميلدوف، وثرثرته عندما يثمل، وعائلته، وموته، وما حصل بعد جنازته، وزوجته، وابنته سونيا، كل ذلك أشخاص فعليون وحوادث حقيقية، والصفحات التي كبتها دوستويفسكي من أكثر الصفحات تأثيراً في أي أدب. فيها لمسة عبقرية. ولكن بعدها يأتي الكاتب الرومانسي (تلميذ أوجين سوا كما يتبدى في أفضل أعماله)، والرواية التي تجمع هذين الجانبين تفقد وحدتها. 

“الإخوة كارامازوف” أكثر روايات دوستويفسكي إحكاماً من وجهة نظر فنية، ولكنها أيضاً الرواية التي تظهر فيها عيوب ذهنه ومخيلته بأوضح أشكالها. فلسفة الرواية تتبدى بشكل خجول في الخلفية: أوروبا الغربية الشكاكة، روسيا العاطفية بجموح والثملة والتي لم يتمّ إصلاحها، وروسيا التي أصلحها الإيمان والرهبان؛ يمثل الإخوة الثلاث كل ذلك بالترتيب. ولا يوجد بالتأكيد في أي أدب كل هذه المجموعة من أصناف الناس المقززين: مخابيل، وأنصاف مخابيل، ومجرمين بالقوة وبالفعل، بكل تدرجاتهم. سيجد المختص الروسي بالأمراض العصبية والعقلية ممثلين لكل أنواع الأمراض في روايات دوستويفسكي، خصيصاً في “الإخوة كارامازوف”. تجري الرواية في هيكل يقدّم أغرب مزيج جامح من الرومانسية والواقعية.  مهما كانت نسبة الكتاب المعاصرين المولعين بكل أنواع الأدب المرضي، الذين يعلنون إعجابهم الشديد بهذه الرواية، فكاتب هذه السطور يجدها غير طبيعية بشكل كبير، ومصممة بوضوح لتقديم أفكار وعظات، أو شخصيات مرضية من مشفى المجانين، أو لتحليل مشاعر مجرم متخيّل، وبعض الصفحات الساحرة المنثورة هنا وهناك لا تكفي لتحمل عبء قراءة الرواية بأجزائها الثلاث. 

يقدّم بعض النقاد “الإخوة كارامازوف” على أنها “رواية روسية بامتياز”، ولكن هذه المجموعة من المرضى النفسيين قد نعثر عليها في أية مدينة كبرى. حتى المناقشات الحامية عن الله، والتي قيل إنها تميّز “المثقفين” الروس، كانت عادية في ذلك الوقت، في “الستينيات” من القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية. 

ما زال دوستويفسكي مقروءاً بكثرة في روسيا؛ وعندما تُرجمت رواياته للمرة الأولى إلى الإنكليزية والألمانية والفرنسية، تلقّاها بعض النقاد ككشف ثمين. اعتُبر واحداً من أعظم كتّاب زماننا، وبدون شك عبّر عن “الروح السلافية الصوفية” -يا لها من عبارة عجيبة! كسف دوستويفسكي نجم تورغينيف، وتولستوي نُسي لزمن قصير. كان هناك، بالطبع، مبالغة هيستيرية في كل ذلك. وفي وقتنا الحالي، يتورّع النقاد عن إطلاق مثل هذه المدائح الجارفة. في الحقيقة، هناك مقدار كبير من القوة في كل ما كتبه دوستويفسكي: تذكرنا هذه القوة الخلافة بأوجين سو وهوفمان؛ وتعاطفه مع أكثر منتجات مدننا انسحاقاً وفقراً عميق جداً إلى درجة أنه يشغل أكثر القراء لا-مبالاةً ويترك أثراً في الاتجاه الصحيح في القرّاء الشباب. ويُقال بأن وصفه لمختلف أنواع الأمراض النفسية دقيقٌ جداً.

بشكل عام، السوية الفنية لرواياته أقل بكثير من سوية ثلاثة أساتذة للرواية الروسية: تورغينيف وتولستوي وغونتشاروف. صفحات الواقعية البارعة تتداخل مع أحداث خيالية لا تصلح إلا للرومانسيين الخلصاء. مشاهد مثيرة جداً تقاطعها صفحات طويلة من النقاشات النظرية غير الطبيعية بين الناس. بالإضافة إلى ذلك، الكاتب على عجلة من أمره إلى درجة أنه لا يجد الوقت لمراجعة أعماله قبل إرسالها إلى المطبعة. والأسوأ من كل ذلك، أن كل أبطاله، خصوصاً في الروايات الأخيرة، يعانون من مرض نفسي أو الانحراف الأخلاقي. بالنتيجة، بينما قد يقرأ المرء رواياته بمتعة كبيرة، إلا أنه لن يفكر في إعادة قراءة أي منها كما قد يفعل مع روايات تولستوي وتورغينيف، بل وحتى مع بعض الروائيين من الدرجة الثانية. وكاتب هذه السطور يجب أن يعترف بأنه شعر بآلام عظيمة عندما أجبر نفسه على إعادة فحص “الإخوة كارامازوف” مؤخراً، وفشل تماماً في محاولة العودة إلى رواية “الأبله”. 

ولكن، ومع كل هذا، يسامح المرء دوستويفسكي على كل شيء، لأنه عندما يتكلم عن أطفال حضارة مدننا المنسيين والمنكّل بهم، يصبح عظيماً بحق من خلال محبته الواسعة واللا-محدودة للجنس البشري، للإنسان حتى في أسوأ تمظهراته. من خلال محبته لأولئك اللصوص والشحّاذين والسكّيرين وأمثالهم، الذين نعبر أمامهم عادةً بدون حتى أن نلقي نظرة عليهم؛ من خلال قدرته على كشف ما هو إنساني وغالباً سامٍ حتى في أكثر الناس انسحاقاً؛ من خلال الحب الذي يلهمنا إياه، حتى لأقل أنواع الناس إثارة للاهتمام، حتى لأولئك الذين لن يبذلوا أدنى جهد للخروج من القاع البائس الذي رمتهم فيه الحياة- من خلال كل ذلك اكتسب دوستويفسكي بحق موقعاً فريداً في الأدب الروسي الحديث؛ وسيقرأه الناس، ليس بسبب المنتج الفني النهائي لأعماله، بل للأفكار الجيدة المبعثرة فيها، لتصويره الحياة في الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى، وللتعاطف غير النهائي الذي قد تثيره في القارئ شخصية مثل سونيا. 

حتى في أحطّ الشخصيات التي رسمها، وجد طريقة لتقديم ملامح إنسانية فعلاً. 

بالإضافة إلى ذلك، حتى لو اتخذت العناصر المرضية النفسية غير المقنعة لأبطاله أشكالاً أكثر تنفيراً في رواياته الأخيرة؛ فإن الصراع الداخلي بين أسمى المثل الاجتماعية وأحطّ الغرائز أصبح أكثر وأكثر تراجيدية. وهذا الصراع بين القوى العليا والسفلى للطبيعة البشرية يأسر القارئ، حتى لو لم يتعاطف مع الكاتب. 
 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

The post دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>