دوستويفسكي بحسب بيتر كروبوتكين

Vasily Perovm Last Journey, 1865

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

بالإضافة إلى ذلك، حتى لو اتخذت العناصر المرضية النفسية غير المقنعة لأبطاله أشكالاً أكثر تنفيراً في رواياته الأخيرة؛ فإن الصراع الداخلي بين أسمى المثل الاجتماعية وأحطّ الغرائز أصبح أكثر وأكثر تراجيدية. وهذا الصراع بين القوى العليا والسفلى للطبيعة البشرية يأسر القارئ، حتى لو لم يتعاطف مع الكاتب. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/01/2022

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

مقدمة

نترجم هنا الفصل الصغير المثير المخصص لدوستويفسكي، من كتاب الفوضوي بيتر كروبوتكين، “الأدب الروسي” (١٩٠٥).

يحاول كروبوتكين أن يقرأ دوستويفسكي قراءة نقدية من منظور يساري. لا يجوز أن ننسى المواقف الفلسفية والسياسية للكتّاب؛ وقد كان دوستويفسكي يمينيّاً تقريباً (وليس تماماً)، مسيحيّاً تماماً، يسارياً بحماسة في عواطفه، ومضطرباً نفسياً واجتماعياً. 

يتذكر المرء محاولة لينين المشابهة لفهم تولستوي. يكتفي لينين بقراءة ميكانيكية ماركسية كلاسيكية للطبقة التي ينتمي إليها تولستوي والظرف التاريخي الذي كتب فيه، لا أكثر ولا أقل. كروبوتكين أيضاً ينظر إلى دوستويفسكي من وجهة نظر إيديولوجية؛ ومثل لينين، هو مولع بالأدب الواقعي، ولنفس الأسباب. ولكنه أكثر اهتماماً بالأدب بحد ذاته، ولا يتكلم عن الطبقة التي ينتمي إليها دوستويفسكي إطلاقاً؛ بل يناقش شكل رواياته، ومضمونها، وعلاقاتها مع الطبقات الفقيرة. 

على الرغم من تعاطفي الشديد، واقتناعي الكامل، بضرورة أن نفكر في انحيازات الفنان الفكرية؛ لا يبدو لي أن لينين أو كروبوتكين ينجحان في قراءة الأدب بشكل معقول ومقنع، بسبب انحيازهما الإيديولوجي الطاغي. يبدو لي هذا التفكير في إيديولوجيا الفنان خطوة أولى ضرورية في محاولاتنا لفهم الأدب والدخول إلى عوالمه، ولكنه ليس الخطوة الكافية لهذا الفهم. 

نترككم الآن مع كروبوتكين، ودوستويفسكي المبدع، التائه، الخلّاق!

 

قلّة من الكتّاب حظيت باستقبال جيد كالذي حظي به دوستويفسكي، منذ بداية ظهوره في عالم الأدب. وصل إلى سانت بطرسبورغ سنة 1845، شابّ هادئ غير معروف، وقبل سنتين فقط من إنهاء دراسته في مدرسة الهندسة العسكرية، وبعد أن أمضى سنتين في الخدمة، قرر أن يترك الدراسة ليتفرّغ للأدب. كان في الرابعة والعشرين فقط عندما أنهى أولى رواياته، “الفقراء”، التي قدّمها زميله في الدراسة، غريغورفيتش، إلى الشاعر نيكراسوف، لتقييمها أدبياً. في دخيلة نفسه، لم يكن دوستويفسكي متأكداً من أن المحرر سيقرأ الرواية. كان يعيش حينها في غرفة فقيرة بائسة، عندما دقّ بابه نيكراسوف وغريغورفيتش في الرابعة صباحاً. رميا نفسيهما على عنقه وعانقاه، والدموع تملأ مآقيهما، مهنّئين الشاب على عمله. نيكراسوف وصديقه بدآ بقراءة الرواية مساءً؛ ولم يستطيعا التوقف حتى النهاية، وكانا متأثرين بعمق إلى درجة أنهما لم يستطيعا تأجيل حملتهم الليلية، ليخبرا الكاتب بمشاعرهما. بعد أيام قليلة قُدّم دوستويفسكي إلى أشهر ناقد في ذاك العصر، بيلنسكي، ولقي منه نفس الترحيب الحار. أثارت الرواية عواطف لجمهور القرّاء. حدث الأمر ذاته مع كل روايات دوستويفسكي اللاحقة، التي حققت مبيعات هائلة في روسيا. 

كانت حياة دوستويفسكي حزينة للغاية. سنة 1849، بعد أربع سنوات من نجاح رواية “الفقراء”، ارتبط بمجموعة من أتباع فوريير (أعضاء في حلقة بيتراشفسكي)، الذين اعتادوا الاجتماع لمناقشة أعمال فوريير والتعليق عليها، والتفكير في ضرورة قيام حركة اشتراكية في روسيا. في واحدة من هذه اللقاءات، قرأ دوستويفسكي رسالةً من بيلنسكي إلى غوغول، والتي ينتقد فيها بحدة الكنيسة الروسية والدولة؛ كما شارك في اجتماع كان الأول للبدء بأعمال طباعة سرية للدعاية. اعتُقل بعدها، وحوكم (خلف الأبواب المغلقة)، وصدر عليه حكم الإعدام مع مجموعة من المعتقلين. في كانون الأول 1849، اقتيد إلى ساحة عامة، أمام مشنقة، ليستمع إلى أحكام الإعدام، قبل أن يصل، في الدقائق الأخيرة، رسول من نيكولا الأول، حاملاً العفو. بعد ثلاثة أيام رُحّل إلى معسكر للأشغال الشاقة في أومسك في سيبيريا. قضى هناك أربع سنين، قبل أن يُعفى عنه نتيجة وساطة في بطرسبورغ، على أن يصبح جندياً. يُشاع أنه في فترة اعتقاله، وبسبب إساءة صغيرة، تعرّض للعقوبة الرهيبة بالجلد، وأن الصرع أصابه بعدها، ولم يتخلص منه حتى مماته؛ ولكن اليوم يعتبر الكثيرون هذه الحكاية مجرد أسطورة. لم يستفد دوستويفسكي كثيراً من العفو الذي أصدره ألكسندر الثاني عند توليه الحكم. سنة 1859، بعد أربع سنوات من تسنم ألكسندر الثاني الحكم، صدر العفو عن الكاتب العظيم وسُمح له بالعودة إلى روسيا. توفي سنة 1883. 

كان دوستويفسكي يكتب بسرعة، وحتى قبل اعتقاله كان قد نشر عشر روايات. رواية “المِثل” تستبق رواياته المتأخرة بجوها النفسي/المرضي، ورواية “نيتوتشكا نزفانوفا” تظهر أسلوباً ينضج بسرعة إلى أعلى المستويات. بعد عودته من سيبيريا بدأ بنشر مجموعة من الروايات تركت أثراً عميقاً على الجمهور. افتتح السلسلة برواية عظيمة، “مذلون مهانون”، ثم يتبعها برواية “ذكريات من منزل الأموات”، التي وصف فيها تجربته في الأشغال الشاقة. ثم أتت رواية “الجريمة والعقاب”، والتي أصبحت مقروءة في كل أوروبا وأمريكا، وتحولت إلى عمل مسرحي في إنكلترا، مع تغييرات كثيرة. “الأبله”، “المراهق”، “الشياطين”، عالجت جزئياً موضوعات نفسية/مرضية وجزئياً مشاكل اجتماعية؛ أما “الإخوة كارمازوف” فينظر إليها كأعظم إنجازاته ويُعلى من شأنها إلى درجة كبيرة في بعض الأوساط الأدبية. 

لو حوكمت أعمال دوستويفسكي من وجهة نظر جمالية محض، لكان الحكم على قيمتها الأدبية قاسياً جداً. كما بيّن دوبرلوبوف، لقد كان يكتب بسرعة كبيرة، إلى درجة أن الشكل الأدبي أقل من المستوى العادي. أبطاله يتكلّمون بطريقة متسرعة، ويكررون أنفسهم باستمرار، وكلما قال البطل شيئاً (خصوصاً في “مذلون مهانون”) تشعر أن الكاتب هو من يقول ذاك الشيء. بالإضافة إلى هذه العيوب الجدية، الحبكة رومانسية بشدة وعتيقة، وغير منظمة في تركيبها، والأحداث لا تتوالى بشكل طبيعي؛ بدون أن نشير إلى أجواء مشفى المجانين التي تطغى على أعماله الأخيرة. مع ذلك، تطفح أعماله بالحس الواقعي، وإلى جانب الشخصيات غير الواقعية يجد المرء شخصيات حقيقية، وواقعية جداً، يعرفها كل منا، مما يعالج كل العيوب المذكورة. حتى عندما تفكر بأن الحوارات التي يسجلها غير صحيحة، تشعر بأن الأشخاص الذين يصفهم -على الأقل بعضهم- هم بالضبط كما يريد وصفهم. 

“ذكريات من منزل الأموات” هي العمل الوحيد الذي يمكن الاعتراف به كعمل فني تماماً: فكرتها الفنية رائعة، والشكل الأدبي يتلاءم مع الفكرة بشكل كامل؛ ولكن في أعماله المتأخرة، يعاني المؤلف تحت وطأة أفكاره، وكلها غامضة جداً، فتثيره إلى درجة لا يستطيع معها السيطرة عليها، ولا أن يجد الشكل الملائم لها. الموضوعات المفضلة لدوستويفسكي هي الشخصيات التي انحدرت كثيراً بسبب الظروف حتى أنهم لا يعتقدون بوجود إمكانية للتعالي فوقها. أكثر من ذلك، يشعر المرء أن دوستويفسكي يستمتع بوصف عذاب المهانين، سواء الأخلاقي أو الجسدي؛ وأنه يكشف بتقديمه لبؤس العقل العجزَ المطلق للإصلاح وظروفَ الانكسار الشامل للطبيعة البشرية الذي يميز حالات المرضى العصبيين. إلى جانب هؤلاء المعذبين تجد من يمتلؤون بالإنسانية ويتجه كل تعاطفنا إليهم؛ ولكن أبطال دوستويفسكي المفضلون هم الرجال والنساء الذين يعتبرون أنفسهم غير حقيقين بالاحترام، بل ولا حتى أن يعاملوا كبشر. لقد حاولوا مرة في الماضي بتواضع الدفاع عن شخصيتهم، ولكنهم استسلموا لاحقاً، ولم يحاولوا مرة أخرى. سيغرقون أعمق وأعمق في بؤسهم، وسيموتون، نتيجة الضنى أو الفضائح، أو يصبحون ضحايا نزوعات عقلية- نوع من الجنون نصف-المُشرق، الذي يبلغ من خلاله الإنسان أعلى مفاهيم الفلسفة البشرية، أما البعض فيعيش المرارة إلى أن يرتكب جريمة ما، ثم يندم عليها بعد لحظات قليلة. 

في “مذلون مهانون” نرى شاباً يعشق بجنون فتاة من عائلة متواضعة فقيرة. الفتاة تحب أميراً أرستقراطياً، رجلاً بلا مبادئ، ولكنه ساحر بأنانيّته الطفولية، وجذاب جداً بسبب إخلاصه، وله قدرة كاملة على ارتكاب جرائم بشكل غير واع بحقّ كل من يضعه القدر في طريقه. رسم نفسيّة الفتاة والأمير جيد جداً، ولكن أفضل ما يقدمه دوستويفسكي هنا هو الشاب الآخر، الذي رفضته الفتاة، ولكنه يكرّس وجوده كله من أجل أن يكون خادمها الأمين، وعلى العكس من كل نواياه يصبح أداة لدفعها إلى أحضان الأرستقراطي. كل ذلك ممكن، كل ذلك يوجد في الحياة، ودوستويفسكي يخبرنا القصة لنشعر بأعمق التعاطف مع المذلين والمهانين؛ ولكن حتى في هذه الرواية، المتعة التي يجدها المؤلف في عرض خضوع وعبودية أبطاله الذين لا يمكن فهمهما، والمتعة التي يجدونها في العذاب والمعاملة السيئة التي تُفرض عليهم، منفّرة للعقل السليم. 

الرواية العظيمة التي تلتها، “الجريمة والعقاب”، أثارت الجمهور كثيراً. بطلها، راسكولينكوف، طالب شاب، يحب بعمق أمه وأخته؛ كلتاهما فقيرتان جداً، مثله. في محاولته المحمومة لتأمين المال من أجل دراسته ولدعم عائلته، يفكر في قتل عجوز غنية، مرابية تُقرض المال للناس ويُشاع أنها تملك بضعة آلاف من الروبلات. سلسلة مصادفات تؤكد له خياره وتدفعه إلى ذاك الدرب. الأخت، والتي لا تجد مخرجاً من فقرهم، ستضحّي بنفسها من أجل العائلة، عن طريق الزواج برجل عجوز خسيس غني؛ وراسكولينكوف يقرر بحزم أن يمنع هذا الزواج. كما يلتقي في نفس الوقت برجل من طبقة الموظفين الدنيا، وسكير، عنده بنتٌ عطوف من زواجه الأول، وهي سونيا. العائلة تعيش في فقر مدقع، ذلك الفقر الذي لا يوجد إلا في المدن الكبرى، كمدينة سانت بطرسبورغ؛ يقرر راسكولينكوف أن يهتم بشؤون هذه العائلة. وبسبب كل هذه الظروف، وفيما يغرق هو نفسه أعمق فأعمق في دركات البؤس المظلم، ومدركاً لعجزه في مواجهة الفقر المحيط به، تستحوذ فكرة قتل العجوز المرابية عليه. يرتكب الجريمة، وكما هو متوقع، لا يستفيد من المال، الذي بالكاد يعثر عليه في حمأة توتره؛ وبعد بضعة أيام من تأنيب الضمير والعار- مرة أخرى تحت مجموعة من الظروف المتنوعة التي تؤلب شعوره بتأنيب الضمير- يسلّم نفسه، معترفاً بجريمة قتل العجوز وأختها. 

هذا بالطبع مجرد هيكل الرواية؛ في الواقع الرواية مليئة بأكثر المشاهد إثارة للفقر من جهة وللانحطاط الأخلاقي من جهة أخرى. وهناك العديد من الشخصيات الثانوية أيضاً، كعائلة محترمة تعمل عندهم أخت راسكولنيكوف مربّيةً، والمحقق، وغيرهم. أكثر من ذلك، وبعد أن يجمع عدداً من الدوافع التي تجعل راسكولنيكوف يرتكب جريمته، يجد دوستويفسكي أنه من الضروري أن يضيف دافعاً نظرياً. يخبرنا الكاتب في منتصف الرواية بأن راسكولنيكوف، متأثراً بأفكار الفلسفة المادية المعاصرة والسائدة، قد نشر مقالاً يجادل فيه بأن الناس ينقسمون بين الأدنون والأعلون، وبالنسبة للصنف الثاني -نابليون هو النموذج- الأخلاق الحالية ليست ملزمة.

معظم قرّاء الرواية والنقاد الأدبيين أعجبوا بالتحليل النفسي لراسكولنيكوف وبعرض الدوافع التي أدت إلى ارتكاب الجريمة. ولكنني أود أن أشير إلى ملاحظة هامة هنا: كثرة الأسباب العارضة لارتكاب الجريمة التي دبجها دوستويفسكي تظهر مدى تردده هو نفسه في أن ينسب للدعاية الفلسفية المادية وحدها القدرة على تحويل شاب بريء إلى مجرم. لا يصبح أمثال راسكولنيكوف مجرمين تحت ضغط مثل هذه الدوافع النظرية؛ في حين أن من يرتكب الجرائم وينسبها إلى مثل هذه الدوافع، كما فعل ليبيه في باريس، ليسوا من صنف راسكولنيكوف. خلف راسكولنيكوف، برأيي، يقف دوستويفسكي متسائلاً إن كان هو نفسه، أو شخص مثله، قد يرتكب جريمة، وما الدوافع النفسية التي قد تؤدي به إلى ذلك. بالطبع، يجب أن نضيف أن شخصيات مثل المحقق والسيد سفيدريجايلوف هي مجرد اختراعات رومانسية. 

على أية حال، وعلى الرغم من كل عيوبها، تؤثر الرواية في النفس نتيجة تصويرها لحياة الفقراء، وتثير في كل قارئ صادق أعمق التعاطف حتى مع أكثر سكان تلك الأحياء وضاعةً. في الحقيقة، عندما يكتب عنهم، يصبح دوستويفسكي كاتباً واقعياً كأفضل ما يكون، مثل تورغينيف أو تولستوي. الموظف السكير العجوز، مارميلدوف، وثرثرته عندما يثمل، وعائلته، وموته، وما حصل بعد جنازته، وزوجته، وابنته سونيا، كل ذلك أشخاص فعليون وحوادث حقيقية، والصفحات التي كبتها دوستويفسكي من أكثر الصفحات تأثيراً في أي أدب. فيها لمسة عبقرية. ولكن بعدها يأتي الكاتب الرومانسي (تلميذ أوجين سوا كما يتبدى في أفضل أعماله)، والرواية التي تجمع هذين الجانبين تفقد وحدتها. 

“الإخوة كارامازوف” أكثر روايات دوستويفسكي إحكاماً من وجهة نظر فنية، ولكنها أيضاً الرواية التي تظهر فيها عيوب ذهنه ومخيلته بأوضح أشكالها. فلسفة الرواية تتبدى بشكل خجول في الخلفية: أوروبا الغربية الشكاكة، روسيا العاطفية بجموح والثملة والتي لم يتمّ إصلاحها، وروسيا التي أصلحها الإيمان والرهبان؛ يمثل الإخوة الثلاث كل ذلك بالترتيب. ولا يوجد بالتأكيد في أي أدب كل هذه المجموعة من أصناف الناس المقززين: مخابيل، وأنصاف مخابيل، ومجرمين بالقوة وبالفعل، بكل تدرجاتهم. سيجد المختص الروسي بالأمراض العصبية والعقلية ممثلين لكل أنواع الأمراض في روايات دوستويفسكي، خصيصاً في “الإخوة كارامازوف”. تجري الرواية في هيكل يقدّم أغرب مزيج جامح من الرومانسية والواقعية.  مهما كانت نسبة الكتاب المعاصرين المولعين بكل أنواع الأدب المرضي، الذين يعلنون إعجابهم الشديد بهذه الرواية، فكاتب هذه السطور يجدها غير طبيعية بشكل كبير، ومصممة بوضوح لتقديم أفكار وعظات، أو شخصيات مرضية من مشفى المجانين، أو لتحليل مشاعر مجرم متخيّل، وبعض الصفحات الساحرة المنثورة هنا وهناك لا تكفي لتحمل عبء قراءة الرواية بأجزائها الثلاث. 

يقدّم بعض النقاد “الإخوة كارامازوف” على أنها “رواية روسية بامتياز”، ولكن هذه المجموعة من المرضى النفسيين قد نعثر عليها في أية مدينة كبرى. حتى المناقشات الحامية عن الله، والتي قيل إنها تميّز “المثقفين” الروس، كانت عادية في ذلك الوقت، في “الستينيات” من القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية. 

ما زال دوستويفسكي مقروءاً بكثرة في روسيا؛ وعندما تُرجمت رواياته للمرة الأولى إلى الإنكليزية والألمانية والفرنسية، تلقّاها بعض النقاد ككشف ثمين. اعتُبر واحداً من أعظم كتّاب زماننا، وبدون شك عبّر عن “الروح السلافية الصوفية” -يا لها من عبارة عجيبة! كسف دوستويفسكي نجم تورغينيف، وتولستوي نُسي لزمن قصير. كان هناك، بالطبع، مبالغة هيستيرية في كل ذلك. وفي وقتنا الحالي، يتورّع النقاد عن إطلاق مثل هذه المدائح الجارفة. في الحقيقة، هناك مقدار كبير من القوة في كل ما كتبه دوستويفسكي: تذكرنا هذه القوة الخلافة بأوجين سو وهوفمان؛ وتعاطفه مع أكثر منتجات مدننا انسحاقاً وفقراً عميق جداً إلى درجة أنه يشغل أكثر القراء لا-مبالاةً ويترك أثراً في الاتجاه الصحيح في القرّاء الشباب. ويُقال بأن وصفه لمختلف أنواع الأمراض النفسية دقيقٌ جداً.

بشكل عام، السوية الفنية لرواياته أقل بكثير من سوية ثلاثة أساتذة للرواية الروسية: تورغينيف وتولستوي وغونتشاروف. صفحات الواقعية البارعة تتداخل مع أحداث خيالية لا تصلح إلا للرومانسيين الخلصاء. مشاهد مثيرة جداً تقاطعها صفحات طويلة من النقاشات النظرية غير الطبيعية بين الناس. بالإضافة إلى ذلك، الكاتب على عجلة من أمره إلى درجة أنه لا يجد الوقت لمراجعة أعماله قبل إرسالها إلى المطبعة. والأسوأ من كل ذلك، أن كل أبطاله، خصوصاً في الروايات الأخيرة، يعانون من مرض نفسي أو الانحراف الأخلاقي. بالنتيجة، بينما قد يقرأ المرء رواياته بمتعة كبيرة، إلا أنه لن يفكر في إعادة قراءة أي منها كما قد يفعل مع روايات تولستوي وتورغينيف، بل وحتى مع بعض الروائيين من الدرجة الثانية. وكاتب هذه السطور يجب أن يعترف بأنه شعر بآلام عظيمة عندما أجبر نفسه على إعادة فحص “الإخوة كارامازوف” مؤخراً، وفشل تماماً في محاولة العودة إلى رواية “الأبله”. 

ولكن، ومع كل هذا، يسامح المرء دوستويفسكي على كل شيء، لأنه عندما يتكلم عن أطفال حضارة مدننا المنسيين والمنكّل بهم، يصبح عظيماً بحق من خلال محبته الواسعة واللا-محدودة للجنس البشري، للإنسان حتى في أسوأ تمظهراته. من خلال محبته لأولئك اللصوص والشحّاذين والسكّيرين وأمثالهم، الذين نعبر أمامهم عادةً بدون حتى أن نلقي نظرة عليهم؛ من خلال قدرته على كشف ما هو إنساني وغالباً سامٍ حتى في أكثر الناس انسحاقاً؛ من خلال الحب الذي يلهمنا إياه، حتى لأقل أنواع الناس إثارة للاهتمام، حتى لأولئك الذين لن يبذلوا أدنى جهد للخروج من القاع البائس الذي رمتهم فيه الحياة- من خلال كل ذلك اكتسب دوستويفسكي بحق موقعاً فريداً في الأدب الروسي الحديث؛ وسيقرأه الناس، ليس بسبب المنتج الفني النهائي لأعماله، بل للأفكار الجيدة المبعثرة فيها، لتصويره الحياة في الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى، وللتعاطف غير النهائي الذي قد تثيره في القارئ شخصية مثل سونيا. 

حتى في أحطّ الشخصيات التي رسمها، وجد طريقة لتقديم ملامح إنسانية فعلاً. 

بالإضافة إلى ذلك، حتى لو اتخذت العناصر المرضية النفسية غير المقنعة لأبطاله أشكالاً أكثر تنفيراً في رواياته الأخيرة؛ فإن الصراع الداخلي بين أسمى المثل الاجتماعية وأحطّ الغرائز أصبح أكثر وأكثر تراجيدية. وهذا الصراع بين القوى العليا والسفلى للطبيعة البشرية يأسر القارئ، حتى لو لم يتعاطف مع الكاتب. 
 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.
الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع