النثر الأخرق

Photograph by Thomas Hartwell / Redux

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

معظم الاقتباسات من روايات نجيب محفوظ (ليس كلها) ضعيفة ومملة، ولا تعكس على الإطلاق إنجاز الكاتب الحكيم الخبيث. وهذا، في الحقيقة، يسجل لصالح محفوظ، وليس ضده.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/07/2024

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

(1)

حتى قوس القزح له جسدٌ

مصنوعٌ من رذاذ المطر

وعمارته مشيّدةٌ 

من ذرّات متلألئة

تتعالى، تتعالى

مع ذلك، لا يمكنك لمسه بيدك،

كلا، ولا حتى ببصيرتك.

د. ه. لورنس

 

(2)

معظم الاقتباسات من روايات نجيب محفوظ (ليس كلها) ضعيفة ومملة، ولا تعكس على الإطلاق إنجاز الكاتب الحكيم الخبيث. وهذا، في الحقيقة، يسجل لصالح محفوظ، وليس ضده.

درس محفوظ الفلسفة في الجامعة، وكتب عدة مقالات فلسفية في بدايات شبابه، تعريفية وتبسيطية، عميقة وثاقبة، وفيها بعض الآراء التي تستحق الوقوف عندها. سريعاً، تخلى عن الفلسفة، وتفرغ للأدب.

بقيت الفلسفة موجودة في كتبه: يكاد محفوظ يكون الروائي العربي الوحيد الذي تحتوي أعماله أبعاداً ميتافيزيقية، بالمعنى الفلسفي الكامل، بل ودينية، في رواياته الواقعية وغير الواقعية. ويسجل للرجل قدرةٌ ساحرة على تجسيد الحيرة البشرية، قدرةٌ لم تتوفر للأجيال اللاحقة: أقصد الواقعيين وغير الواقعيين، الذين يلتزمون برؤى علمية وماركسية وليبرالية أو ما بعد حداثية، ترفض الميتافيزيقيا جملة وتفصيلاً- وبالتالي، لا تعرف الحيرة، بل تكتفي بواقعية فجة، أو بالتسليم بالعبث واللامعنى؛ وكلا الأمرين رفضه حكيمنا المصري.
على أن محفوظ، على الرغم من رؤاه الفلسفية الناضجة، يعرف أن النثر (بشقيه الرواية والقصة) ليس مسرحاً لاستعراض قدرات فلسفية ولغوية والتفوه بآراء مريعة على شكل حكمة عقيمة يعجب بها من يعتقد أن الأدب منبع الحكمة: على العكس تماماً، محفوظ يترك القصة، والرواية، والحبكة، والشكل، والشخصيات، وغيرها، لتقول الحكمة. كأنه يعرّف نثره الأدبي بأنه محاولة فهم النفس البشرية، عن طريق التساؤل والحوار والبلبلة. وهذا، في حقيقة الأمر الجليّة، رأس الحكمة. 

بالإضافة إلى مقدرته الروائية الخارقة، وحكمته عن هشاشة البشرية، تمتّع محفوظ بمقدرة لغوية ناصعة. قد يكون حظّنا الطيب أن مؤسس الرواية العربية هو نفسه أحد مؤسسي النثر العربي الحديث، ومصلح اللغة الفصحى. في عالم ما قبل محفوظ، كانت اللغة العربية ثقيلة، تترنح بين محاولات إحياء عصر الجاحظ وبين صحافة مملة. أتى محفوظ برؤية سحرية، وبحلّ عبقري: اللغة البسيطة، القريبة من القلب، الأليفة، الطيبة، الرصينة. هذا سيمتّن رؤيته عن الحكمة، ويترابط معها، بطريقة ساحرة: ليست اللغة العالية منبع الحكمة، ولا التباهي بها: بل، مرة أخرى، القصة وما تقوله! 

تذكرتُ محفوظ وحكمته، عندما طُلب مني اقتباسٌ من إحدى مجموعاتي القصصية. وشرط الاقتباس أن يكون صالحاً للتداول، يوحي بالعمق والفذلكة، ويوهم القارئ بأن النص بأكمله سيطير به إلى عالم صوفي مختلف، باللغة التي تسحر وتسمر. وافقتُ على الفور، طمعاً بالشهرة في موقع ثقافي ناجحٍ؛ لتبدأ رحلة البحث، التي اعتقدتُ أنها ستكون قصيرة بسيطة. ولكن، بعد ساعات، اكتشفتُ أنني قراتُ المجموعة أربع مرات، ولم أجد أي اقتباس يصلح للتداول بين الناس!

شعرت بحزن عميق، لأن كل زملائي الكتاب وزميلاتي الكاتبات عندهم اقتباسات جميلة جداً ومثيرة؛ بل تمتلئ صفحات كتبهم، وصفحات المعجبين والمعجبات، بها. واضطررتُ في النهاية إلى أن أقدّم اقتباساً لا يصلح حتى للنشر على حبل غسيل. وقد وبّخني الصحفي، والمحرر، ومدير الموقع؛ فاعتذرتُ مراراً لكل منهم، وحاولتُ الشرح بأن الاقتباسات الحكيمة لا تُغني النثر، بل تهينه وتسفهه وتُدميه. 

يتعلّق الأمر، إذن، بروح النثر: يعتقد البعض أن النصوص الروائية والقصصية مسرح لاستعراض المعلومات والمقدرات اللغوية، كأنها موسوعة في السياسة والتاريخ والجغرافيا والدين، مع أحكام قاطعة صارمة نهائية عن المعنى، في حبكةٍ بوليسية مثيرة للأعصاب كسيرك صيني. تمتلئ هذه النصوص بجملٍ تصلح للاقتباس في كل الأوقات والظروف والأماكن، كمشروب غازي أو وجبة شاورما. في حين يعتقد آخرون، وأنا منهم، بأن النثر أخرق في طبعه وأصله. ألم تكتب كل الأمم أساطيرها المبكرة شعراً، ثم أتى النثر بعدها، كي يخفف حمل الحياة علينا، كي ينطلق الصوت باتجاهات أخرى، لا تحركه الرؤى السماوية المتماوجة الموسيقية الموزونة بإيقاعات الآلهة والجن؟

الأقوال الحكيمة، إذن، يختص بها الشعراء، والأنبياء، والفلاسفة، والجدّات والأجداد، والأطفال في لحظات الإلهام القصيرة جداً، وكسيرو القلوب، والأغاني التراثية، والمحاصَرون، والمتزوّجون في لحظات الصلح عقب الشجار المرير. ولكن ليس الروايات والقصص، حيث تتجلى الحكمة بطريقة أخرى تماماً، تميّز النثر عن الشعر بشكل نهائي. 

وفي النهاية، الحكمة في النثر، كما في الحياة، تتجلّى بالفعل، لا بالقول. وقد استشهد لودفيج فتجنشتين بحكيم روسيا الأشهر ليون تولستوي، كي يدافع عن فكرته هذه. بحسب فتجنشتين، ما يميز أدب تولستوي هو أن الحكاية تقول ما يُقال؛ وهذا سرّه الرهيب. وبشكل مماثل، في الحياة، الأفعال وحدها تجسّد الأخلاق. تتوازى الحكاية -بأشكالها المتعددة جداً- وما تحمله مع الفعل في الحياة الواقعية، بل يتطابقان. الخاسر الوحيد هو القول الحكيم، ذلك القول الذي ينجح فيه الشعر ويفشل فيه النثر. 

الحكمة في الحياة تكون بالفعل؛ وفي النثر في الحكاية نفسها، في البناء، فيما لا يقال علناً، لا على لسان الأبطال، ولا بقلم الناثر. 

فيما لا يُعلن، يكمن ذلك الذي نبحث عنه. 

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
عن السيرورة والصيرورة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع