تسمرت سوريا بأكملها، سنة 2006، على الشاشات، تتابع خطابات حسن نصر الله. انتشرت صوره في الشوارع، والمحال، وعلى السيارات، بجانب صور آل الأسد، أو الخميني. فتح السوريون قلوبهم، وأرواحهم، وبيوتهم، ومدارسهم، للقادمين من لبنان. تحولت سوريا إلى قاعة موسيقية، تنتظر السيد كي يطربها، ويغازلها، ويطريها.
تأسس حزب الله كي يواجه إسرائيل. لا معنى آخر لوجوده. وبقي الحزب يهجس بدولة العدو. ومنذ البداية، كان يحوّل كل خلاف معه إلى خلاف مع إسرائيل. أصبحت إسرائيل معنى وجوده، ومعنى وجود لبنان، ومعنى مقتل الحسين، ومعنى التشيّع. لم يسمح الحزب لنفسه بالخروج من إسرائيل. واجه شبان الجنوب بشجاعة استثنائية أشرس قوة عسكرية في المنطقة، ونجحوا في صدها. أصبحت إنجازاتهم علامة عالمية على معنى المقاومة، على القدرة على الرفض، على الكرامة. وصولاً إلى الانسحاب المخزي من الجنوب، حيث سجّل الحزب واحدة من الانتصارات القليلة في تاريخ المستضعفين الحديث.
ومنذ البداية، كان تأسيس الحزب مرتبطاً بدولة الولي الفقيه، ورؤاه، ومشاريعه. مجلس القيادة يضم إيرانيين أكثر مما يضم لبنانيين. ضحى الحزب بعلاقاته مع محيطه: اغتال المفكرين اليساريين، وفجّر مطاعم تحتفل برأس السنة، وصولاً إلى السيطرة على المقرات الرئيسة لحليفه الأول، حركة أمل. في نهاية الثمانينيات، أوقفه الجيش السوري عند حده، في اشتباكات متعددة، انتهت بموافقة الحزب وإيران على تقاسم المهام في لبنان مع النظام السوري.
تابع الحزب في التسعينيات توسيع سيطرته، ودخل في الحكومة. انقسم لبنان بين مشروعين غير منطقيين: مشروع رفيق الحريري السعودي، ومشروع حزب الله اللبناني، في ظل سيطرة الجيش السوري على البلد بأكمله. بعد تحرير الجنوب، لم ينتبه حزب الله، أو الإيرانيون، إلى أن معنى الحزب تخلخل جدياً، في أعين مناصريه، وخصومه: ما الذي يعنيه الحزب، وسلاحه، في ظل الانتصار؟ وبغضون سنوات قليلة، سيغتال حزب الله وسوريا الحريري، وسيجتاح مقاتلون شيعة بيروت والجبل. وفي النهاية، سيتحول مقاتلو الحزب إلى قوة احتلال في سوريا المجاورة، التي لطالما دعم أهلها الحزب، بكل جوارحهم، وطيبتهم، ومحبتهم.
عاش حسن نصر الله حياته كلها مهووساً بإسرائيل، محارباً من أجل الولي الفقيه وحده. تحوّل الربيع العربي في نسخته السورية، الذي كان من المفترض أن يكون، أخلاقياً، السليل الروحي لتحرير الجنوب، لتكريس كرامة الناس، للدفاع عن المستضعفين، إلى العدو الألد لحسن نصر الله. انكسرت كل قيم التعاضد، والتفاهم، والكرامة. مقاتلون للدفاع عن الجنوب أصبحوا مرتزقة ومجرمين للدفاع عن الطغيان. وأصبحت كلمة حصار، تستحضر “مضايا” أكثر مما تستحضرها “بيروت”. كل ما حمله الحزب من تناقضات منذ بداياته الإيرانية انفجر في وجهه، وجهنا، وجه لبنان الشقي.
اغتالت إسرائيل السيد في حارة حريك. والسيد من مواليد بيروت، في برج حمود، من أولئك الشيعة الذين قدموا إلى بيروت هاربين من فقرهم المدقع في الجنوب في الخمسينيات والستينيات. عاد السيد إلى ضيعته في البازورية، من قضاء صور، مع اشتعال الحرب الأهلية، ومال سريعاً إلى الجانب الأكثر تديناً في المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي، وانخرط في حركة أمل. ثم تحوّل إلى جناح حزب الله فيها، قبل الانشقاق، الذي أسس الحزب. سافر إلى إيران، حيث درس، وعاد قبيل اغتيال إسرائيل لعباس الموسوي، الأمين العام الثاني للحزب. ثم انتُخب أميناً عاماً، ولم تسمح إيران بإجراء أية انتخابات أخرى بعد ذلك. استُشهد ابنه هادي في معركة مع إسرائيل، وقُتلت ابنته معه البارحة. عاش حياته متخفياً، بعيداً عن الأعين، ليمثّل كل ما لا تريده إسرائيل، وكل ما يعيقنا نحن عن فهم أنفسنا، عن التصالح مع الحاضر، عن ثورتنا على ماضينا. تربع السيد على عرش الحزب لأكثر من ثلاثين سنة، ليترهّل الحزب، والفكر، والمقاومة.
بعيد اغتيال السيد، قامت القوات الإسرائيلية بقصف البازورية، قرية حسن نصر الله، بوحشية وعنف غير مسبوقين. عشرات القتلى في القرية الآمنة، الفقيرة، الوادعة. كما دكت إسرائيل، بالسلاح الأمريكي، بعلبك، والبقاع، ومعظم قرى الجنوب. ثم قصفت كامل الضاحية الجنوبية، معقل الحزب، والشيعة. أكبر عملية قصف في حرب 2023-2024؛ وربما، أكبر عملية عسكرية في القرن الحادي والعشرين. مئات القتلى، وآلاف الجرحى، ومئات آلاف المدنيين في الشوارع تائهين. وما سيتذكره الناس طويلاً، التعليق الطبي الأخير: “لا يوجد الكثير من الجثث، فقد تبخر الناس”.
مجدٌ من رماد، لبيروت. تقول فيروز.
مجدٌ من بخار.
مجدٌ من تراب: من قانا إلى مضايا. مجدٌ من دماء.
واليوم، وغداً، وفي الأمس: وحدها القلوب شعلةٌ.
والمجد لبيروت.