دوستويفسكي فيلسوفاً: بين رؤى نيتشه وتحليلات فرويد

Vasily Perov, Drowned, 1867

أنس العيلة

شاعر فلسطيني

هل هناك معادل عربي لدوستويفسكي، روائي يكون لعمله الروائيّ حمولة فكريّة وفلسفيّة بهذا العمق والاتساع ؟ تاريخيّا، ارتبطت الفلسفة في الأدب العربي بالشعراء، المتنبي وأبو العلاء وطرفة ابن العبد وآخرون. دون إغفال كتاب "حي بن يقظان" لابن طفيل الذي يُعتبر نصّا مؤسّساً مُبكّرا ليس في الثقافة العربيّة وحدها بل أيضا له مكانته وتأثيره في الأدب العالمي.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/01/2022

تصوير: اسماء الغول

أنس العيلة

شاعر فلسطيني

أنس العيلة

مقيم في باريس، ومحاضر في جامعة باريس الثامنة.

صادف العام المنصرم 2021 الذكرى المئويّة الثانية لميلاد فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي، الذي ولد عام 1821  في موسكو. كاتب بلا شكّ أحد أعظم الكتّاب في الأدب العالمي قاطبة. أكثر سنوات الكاتب إنتاجيّة، كانت من 1865 إلى 1871، تلك “السنوات المعجزة” التي كتب فيها “الجريمة والعقاب”، و”المقامر”، و”الأبله”، و”الشياطين”. وقد كتب هذه الروائع في ظل ظروف صعبة، حيث كانت قد ماتت زوجته الأولى، وشقيقه واحدًا تلو الآخر. ثم تزوّج من جديد طالبة روسيّة ليقرّرا الهرب إلى الخارج هربًا من دائنيهم الكثيرين. استمرّت إقامتهما، لأكثر من أربع سنوات، في سويسرا وألمانيا وإيطاليا. وهي سنوات تتميز بالفقر ونوبات الصرع والإدمان على القمار وموت طفلهما الأول، والعمل الشاق لضمان بعض الدخل للأسرة.

تناولت العديد من الدراسات حول العالم أعمال دوستويفسكي الروائيّة، التي شكّلت مادة ثريّة لنقّاد الأدب، وعلماء النفس والفلاسفة. وهذا عائد للحمولة الفكريّة والفلسفيّة والتجليّات النفسيّة لأعماله الأدبيّة. فتتساءل “مجلة الفلسفة” Philosophie magazine  في عددها الثاني والعشرين، إن كان دوستويفسكي فيلسوفاً أم لا؟ وتجيب على هذا التساؤل بالقول: “فيلسوف بالتأكيد. فهو يتعامل مع الأفكار بطريقة جديدة للغاية. لا يفرض أفكاره، ولا يختم حكاياته بحكمة رفيعة. حيث يرسم الفكرة كحدث حيّ، يقع بين العديد من الأصوات والإدراكات. يمكن قراءة رواياته كسلسلة من الحوارات الفلسفيّة، حيث تتعارض وجهات النظر، وحيث يتمّ دائمًا ذكر الحقيقة الخاصة بكل موقف، لأنّها تتوافق مع مرحلة في تطوّر وعي الشخصيّة. مساهمة دوستويفسكي في تاريخ الفكر متعدّدة الجوانب: سبق نيتشه وفرويد بتحديد الدوافع النفسيّة اللاواعية وراء الأيديولوجيّات والمذاهب. ويُقدم بعضًا من أكثر التفسيرات شمولاً حول وجود الشرّ على وجه الخليقة، وهذا هو الجانب اللاهوتي من تفكيره. وباعتباره قارئًا هضم التوجّه النفعي الإنجليزي (مذهب أخلاقي وسياسي لجون ستيوارت ميل وبينثام يقوم على مفهوم المنفعة أو مبدأ السعادة الأعظم الذي يُقسّم الأفعال والأشياء إلى جيّدة وسيّئة وفقًا لما إذا كانت تميل إلى زيادة السعادة وتقليل المعاناة أم لا). فوجّه دوستويفسكي ضربة قاتلة لتفاؤلهم، للمبدأ الذي بناءً عليه يتصرّف الرجال وفقًا لمصالحهم المفهومة جيّدًا. في سياق قرن الفلسفة الوضعيّة والعقلانيّة، يسعى الروائي الروسي إلى تفكير أكثر قتامة، ولكنّه أيضًا أكثر وضوحًا، في الطبيعة البشريّة”.

تتعايش الأضداد في أعمال دوستويفسكي: الشياطين مع الملائكة، والنفوس المجرمة مع الأبرياء. كل عمل لديه هو صراع بين المشاعر والأفكار المتناقضة. ويعالج موضوعات هي في صلب حياة العصر الذي عاشه واختبر تقلّباته، الحريّة والعدميّة والعبثيّة والثورة. لذا فقد كانت حياته المُعذّبة مصدر الإلهام الرئيسي له: مثله، غالبًا ما يعاني أبطاله، ويمزّقهم التفكير، ويعانون من الذنب. وكما يقول ألبرت كامو “كلّ الشخصيّات لدى دوستويفسكي تتساءل عن معنى الحياة، لهذا فهي مُعاصرة، لم تكن تخشى أن تكون سخيفة أو مُضحكة”. 

وقد كتب فرويد مقالا عنه بعنوان “دوستويفسكي وقتل الأب” Dostojewski und die Vatertötung، وكان هذا النصّ مقدّمة لدراسة مُترجمة إلى الألمانيّة عن رواية دوستويفسكي “الأخوة كرامازوف”. يتعامل فرويد في نصّه مع صرع دوستويفسكي وصلته بتخيّلات وإدراكات الشخصيّات في الرواية. وهو يميّز في دوستويفسكي: “الكاتب، والعُصابي، والأخلاقي، والمُخطيء”. يرفض فرويد اعتبار دوستويفسكي آثمًا أو مجرمًا “فهناك سمتان أساسيّتان في المجرمين: تمركُز غير محدود على الذات ونزعة هدامّة قويّة، إلا أننا نجد لدى دوستويفسكي قدرة هائلة على الحب وحاجة كبيرة له” كما يشير فرويد. ووفقا لدارسي دوستويفسكي فإنّ روايته “الأخوة كرامازوف” هي أكثر فرويديّة من قصة “الملك أوديب” لسوفوكليس، ومسرحيّة “هاملت” لشكسبير، لأنها تقدم للقاريء بدون قناع رغبة قتل الأب، أي الطابع العالمي لرغبة الأبناء الدفينة.

نقتبس هنا فقرة جاءت من نص فرويد “دوستويفسكي وقتل الأبّ” يتحدّث فيها عن طبيعة الدوافع النفسيّة لدى الكاتب التي كان لها علاقة بمسألة اختياره لشخصيّات رواياته :

“الكاتب فضّل بين شخصيّاته العنيفة منها والقاتلة والأنانيّة، ولكن أيضًا فإنّ مثل هذه الميول كانت موجودة فيه خلال حياته، كما يتجلّى لديه ذلك في شغفه بلعب القمار، أو ربما في الاعتداء الجنسي على فتاة صغيرة. كان من الممكن أن تجعله دوافعه المدمّرة مُجرمًا، لكنّها كانت في حياته موجّهة بشكل أساسيّ ضدّ شخصه وليس خارجيّا، ويتمّ التعبير عنها في شكل من الماسوشيّة والشعور بالذنب. لكن عندما تُمارس تجاه الآخرين، تكون لها سمات ساديّة، تتجلى في القابليّة المفرطة بالشكّ، وعدم التسامح، والشغف بتعذيب كلّ من الأحبّاء والقرّاء”.

وفرويد يصنّفه في مكان ليس بعيدًا عن شكسبير، خاصة بفضل روايته “الأخوة كارامازوف”، وبفضل قصّة “المُحقّق الأكبر” التي تأتي كفصل مستقل في هذه الرواية، التي يعتبرها واحدة من أعلى القمم في الأدب العالمي. وهذه القصة تتحدّث عن عودة المسيح إلى الأرض، حيث يروي إيفان كارامازوف لشقيقه آليوشا قصة يعود فيها المسيح في زمن محاكم التفتيش الإسبانيّة في القرن الخامس عشر، حين قرّر الرب العودة للاطمئنان على البشر. وما إن عرف المحقّق الأكبر، وهو راهب وكبير موظفي ديوان التحقيق في محاكم التفتيش، بظهور المسيح بين الناس، حتى أمر بتوقيفه ومحاكمته لخروجه عن سلطة الكنيسة والفئة الحاكمة. ويدور بين المحقق الأكبر والمسيح حوار له أبعاد فلسفيّة عميقة يُعد من أهم الحوارات في الأدب العالمي. 

أما بالنسبة لنيتشه فكان اكتشاف دوستويفسكي “شكل من الإشراق”. ويقول نيتشه عن سياق اكتشافه رواية “الإنسان الصرصار” أو “رسائل من باطن الأرض”: “كتاب بعنوان مجهول، موقّع باسم كاتب مجهول، تقع عليه بمحض الصدفة، على هامش أحد اللقاءات، ليخاطبك شيء فجأة : هنا شخص شبيه بك”. و يقول أيضاً في إحدى رسائله “حدث التقارب الغريزي على الفور، كانت فرحتي كبيرة، يجب أن أعود إلى لقائي مع «الأحمر والأسود» لستندال  لأتذكر فرحة بهذا الحجم”. سرّ إعجاب نيتشه بدوستويفسكي يأتي من حقيقة أنّ “نيتشه الفيلسوف وجد نفسه في مواجهة مؤلّف قادر على تمثيل الشخصيّات التي توضح تمامًا ما كان يدور في ذهنه”. وفي رسالة أخرى يقول: “أنا أحترمه لكون أعماله تمتلك أغنى مادة نفسيّة أعرفها، وأنا ممتن له رغم كلّ الكراهية التي يلهمها في أدنى غرائزي”. ويعترف أنّه تعلّم منه ما تعلّم من باسكال، الذي سمّاه ب “المسيحيّ الوحيد المنطقي”، لكن يبدو أنه يرى دوستويفسكي لاحقا “مُنْحَلّ موهوب”. 

ولم يكن فقط فرويد ونيتشه ممّن كتب وتأثّر بدوستويفسكي، فقد كتب عنه هايدغر وبول ريكور “وقد كتبوا متأثرين بقرائته، فلم يحظى أي كاتب، لا بلزاك، ولا تولوستوي ولا حتى بروست، باهتمام بهذه القوة وبهذا الاستمرار الذي حصل عليه”. كما يشير الكاتب إيلتشينوف ميشيل في كتاب بعنوان “الرواية والفلسفة”. والمثير للاستغراب أنّ دوستويفسكي نفسه يعترف بأنّه “ضعيف في الفلسفة لكنّه قويّ في حبّها لها”. فمعرفته الفلسفيّة كانت متواضعة. وهو “يفضّل التعليق والتساؤل عن المعنى الأخلاقي والإجتماعي لحدث اجتماعي في الحياة اليوميةّ، على طرح الأسئلة التقليديّة للفلسفة”. حتى أنّ المفكّر الروسي نيكولا بيردياف يقول : “إنّ الفلسفة الروسيّة والغربيّة تعيش منذ سنوات طويلة تحت نجم دوستويفسكي”.

هل هناك معادل عربي لدوستويفسكي، روائي يكون لعمله الروائيّ حمولة فكريّة وفلسفيّة بهذا العمق والاتساع ؟ تاريخيّا، ارتبطت الفلسفة في الأدب العربي بالشعراء، المتنبي وأبو العلاء وطرفة ابن العبد وآخرون. دون إغفال كتاب “حي بن يقظان” لابن طفيل الذي يُعتبر نصّا مؤسّساً مُبكّرا ليس في الثقافة العربيّة وحدها بل أيضا له مكانته وتأثيره في الأدب العالمي. ما حدّد من أفق النصّ، وأضرّ بجابنه الأدبي، أنّ ابن طفيل كان يقود الأحداث والأفكار في هذا الكتاب الى خلاصة مفادها أنّ الطفل الذي ربّته الحيوانات والطبيعة سيصل إلى معرفة وجود بالله بالفطرة، رغم ذلك فقد اعتمد على قصّة حيّة، لشخصيّة حيّة، وإن كانت مُتخيّلة، لتسريب رؤاه الفلسفيّة من خلالها، مُدركا أهميّة الخلق الأدبي وقدرته على تمرير فكرة فلسفيّة من عظم ولحم. 

في العصر الحديث، يبقى السؤال مطروحاً وقابلاً للدراسة والنقاش. هناك محاولات ومشاريع روائيّة عربيّة ساهمت بالتأسيس لأفكار جديدة، هذا لا شكّ فيه. على المستوى الفلسطيني قدّم الشاعر والروائي حسين البرغوثي مشروعا أدبيّا ذي حمولة فكريّة وفلسفيّة. كان على الأقل هذا هاجسا مُلحّا لديه، فكان مشغولا بالصدى الفكريّ لأعماله الأدبيّة، وتوليد وحياكة الرؤى والأفكار في نصوصه، رغم أنّ ذلك كان يظهر من خلال حوارات ذهنيّة أحيانا بين الشخصيّات المركزيّة، وليس من خلال مواقف وأحداث حيّة في تطوّر الشخصيّات، وتصادم وتقاطع السلوك، وردّات الفعل والحالات النفسيّة. وربما هذا ما تشير إليه “مجلة الفلسفة” في وصفها لتقنيّات دوستويفسكي: “يرسم الفكرة كحدث حيّ، يقع بين العديد من الأصوات والإدراكات”. فلعبة التعارض والتوازن بين الأدب والفلسفة حسّاسة وخطيرة، ومن هنا تأتي حاجة التقنيّات الأدبيّة في تسريب الأفكار بين السطور. فإذا كان الأدب يطرح الأسئلة فإنّ الفلسفة تجيب عليها. كما يقول الفيلسوف الفرنسي دولوز في تعريفه للفلسفة “هي فنّ تشكيل، واختراع، وتكوين المفاهيم”، بينما الأدب هو فنّ طرح الأسئلة. 

 

مصادر:

Freud, Sigmund. « Dostoïevski et le parricide [1928] », Revue française de psychosomatique, vol. 39, no. 1, 2011.

Eltchaninoff, Michel. Dostoïevski : roman et philosophie. Presses Universitaires de France, 1998.

Philosophie magazine, vol. 22, septembre, 2008. 

 

نرفق مواد الملف كلّها بلوحات للروسي Vasily Perov، صاحب البورتريه الشهيرة لدوستويفسكي “Portrait of the Author Feodor Dostoyevsky, 1872”.

 

الكاتب: أنس العيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع