تأتي قصائد المجموعة الشعريّة “استيقظنا مرّة في الجنّة” للشاعر نجوان درويش، التي صدرتْ عن دار الفيل والمؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر (٢٠٢٠)، في سبعةِ أقسام لكلّ قسم عنوان فرعيّ خاص به. وهذا التقسيم ينمّ بالضرورة عن هاجس بنيويّ للعمل الشعريّ ككلّ. ففي القسم الأوّل المعنون بـ ” ليس من مكان” هناك قصيدة واحدة بعنوان “بطاقة هويّة” تبدو كمدخل للديوان كلّه، وهي تبدو كمُعارَضة وإحالة إلى قصيدة محمود درويش الشهيرة التي تحمل العنوان ذاته. يسعى نجوان درويش في قصيدته هذه إلى إعادة تعريف هويّته القوميّة كإنسان عربي، ويعمل على توسيعها لتشمل كلّ المضطّهدين والساعين إلى التحرّر من كافة أشكال القيود في العالم، فكلّ صاحب حقّ مقاتل من أجل حريّته في أيّ مكان على هذا الكوكب هو بالضرورة عربي، “وبأقلّ من هذا لا يكون المرء عربيّا” على حدّ وصفه، ثم يضيف:
ليس من مكان قاوم غزاته إلا وكنتُ من أهله،
وما من إنسان حرّ لا تجمعني به قرابة
وما من شجرة أو غيمة ليس لها أفضال عليّ
كما إنّ ازدرائي للصهاينة لن يمنعني من القول إنني
كنتُ يهوديّا طُرد من الأندلس، وما زلتُ أنسج
المعنى من ضوء ذلك الغروب.
هنا النضال هو القيمة العليا التي يتحدّد من خلالها الانتماء، كأن الهويّة القوميّة المشتركة بين الأفراد تتحدّد وتتحقّق من خلال وحدة المصير وليس كنتيجة تلقائيّة عن وحدة المنشأ. وهذه الرؤية الواسعة لمفهوم القوميّة تعكسها قصائد محمود درويش اللاحقة والأخيرة، في حديثه عن فلاحيّ كوبا والهنديّ الأحمر والكرديّ، لكن هنا يعمل عليها نجوان درويش بتكثيف أكبر، ومباشَرَة لا تحتمل الغموض والمواربة، وبالتركيز على الفعل المقاوم كقيمة أكثر من إضاءته حتى للمشترك الإنساني العام، ويضع جميع المُطالبين بالحريّة في قصيدة واحدة، فجميعهم أبناء واقع واحد، يؤسّسون عليه هويّة وطنيّة مشتركة.
أما القسم الثاني يأتي بعنوان “ثلاثة مسامير” وفيه قصائد عن القدس وغزة وناجي العلي إلخ، وتبدو مشغولة بالسؤال الوطني، دون الاكتراث بالوقوع في شرك الوطنيّة التقليديّة التي تأنفها قصائد الشعر الفلسطيني الجديد، فلا مهابة ولا تردّد هنا من خوض حوار مباشر مع واقع هذه المدن المسلوبة، والحديث إليها مدفوعا بتلك الرغبة في المصارحة التي تشبه علاقة شائكة بين صديقين حميمين ! حيث يقول في قصيدته “قدس” مسقطا عنها “أل” التعريف:
وقفنا على الجبل
لنرفع لكِ الأُضحية
وحين رأينا أيدينا ترتفع فارغة
عرفنا إننا أضحياتك.
القسم الثالث فقد جاء بعنوان “إنه وغد آخر”، وتبدو القصائد هنا مشغولة بأسئلة حياتيّة تتعلق بنشاطاته وعلاقاته التي يؤسّس عبرها مجاله الاجتماعي ويتشكّل من خلالها عالمه النفسي، كما نرى في قصيدة “إعلان” و”هجاء ذاتي” وغيرها. وتتابع هذه الأقسام السبعة إلى أن ينتهي الديوان كما بدأ، بقصيدة واحدة فقط، جاءت في القسم الأخير بعنوان”فَبرَكة”، ليبدو نوع من التوازن في بناء العمل ككلّ. وإذا كانت قصيدة البداية توسيع لمفهوم القوميّة ومنحها هويّة نضاليّة وتعريفاً تحرّرياً جديداً يتقاطع مع أسئلة اللحظة والربيع العربي وعالميّة المقاومة والسعي نحو الحرية، فإنّ قصيدة النهاية تفتح لنا الباب على عبثيّة وجوديّة تجعل من كل القضايا الملحّة والمفارقات المضحكة والمؤلمة والسوداء، على حدّ سواء، التي أثارتها سطور القصائد تصل إلى نهاية عبثيّة. فتدعونا لجديّة أقل في الاندفاع، ولحماس أقلّ أمام الأحداث، ولعدم الوقوع في شرك التاريخ ومصائده التي لا تنتهي. وتأتي هنا كخلاصة لكلّ ما مرّ، وفيها دعوة لحكمة يائسة تفاجئنا بأنّ كلّ شيء مُفبرك، حتى ربما صوت فيروز.
وليدةُ زمنها وشاهدةٌ عليه
تبدو قصيدة نجوان درويش ابنة زمنها وسياقها الاجتماعيّ والسياسيّ بامتياز، وتعيد قراءة التاريخ بناء على هذه الرؤية، مُستنهِضة بجرأة رموز وأساطير تاريخيّة ودينيّة من الثقافة العربيّة والثقافات الأخرى قديماً وحديثاً. فيمرّ الشاعر على شخصيّات تاريخيّة كيهوذا، وبروتوس، والمسيح، وصلاح الدين. وفي الحقيقة فإنّ كتابة قصيدة نثر عن شخصيّة كصلاح الدين الأيوبي تبدو لي مغامرة أدبيّة من طراز آخر، وهي أن يتناول شاعر شخصيّة أسطوريّة بلغة نثريّة يوميّة، وأن يكتب عن شخصيّة مستهلكة من شدّة استخدامها واستحضارها في الوجدان الجمعي والثقافة العامة. من هنا تأتي جرأة الشاعر، الذي لا يهاب وصف بطل مُستنفَذ أدبيّا. والشاعر أيضاً لا يشذّب مفرداته أو يهذّبها لضرورات جماليّة أو ايقاعيّة، بل ينثرها أمامه على طبيعتها، بشيء من التلقائيّة والمباشرة والبساطة، لكنها ذكيّة بما يكفي للوقوف على مفارقة لاذعة هنا، أو إضاءة ساخرة هناك، أو تساؤل تهكميّ في مكان آخر، أو مواجهة شخصيّة ما، سواء كان شاعراً كلاسيكيّا كأحمد شوقي، الذي يقول له “سأحطّم كل ما تقع عليه عينيّ حتى أصل إلى قلبك”، أو تقديم تفسير شخصيّ لحدث تاريخيّ من طراز ديني، مثلما يفسّر لنا حكمه الخاص على خيانة يهوذا الأسخريوطي للمسيح:
فثلاثون من الفضّة ليست شيئا قليلا
لإنسان صنع من التراب.
وفي الحقيقة لا نستطيع ألا نتّفق مع الشاعر على ذلك، إنها حقيقة ساخرة ومقنعة في الوقت ذاته، وتصلح كتفسير انسانيّ لحدث تاريخيّ عن شخصيّة ذات سمعة سيئة في التاريخ الإنسانيّ. والشاعر أيضاً يثير أسئلة هي وليدة حاجات نفسيّة مضطربة، وتبدو غير منطقيّة، لكنها حقيقيّة، وهي إشكاليّة معاصرة في وعيّ إنسانيّ حداثيّ لا يفتأ عن عملٍ دؤوبٍ في تجاوز حاجته للدين، ويصفّي حساباته مع الله في أكثر من بقعة من العالم، فيثير سؤالا فيه الكثير من الدقّة والسخريّة:
كيف يصلّي الذي لا يؤمن بشيء؟
فالإنسان حتى لو كان علمانيّا قد يحتاج في لحظة خوف للصلاة، فما هي طقوس الصلاة الخاصة به؟ وكيف يستطيع أن يشبع هذه الرغبة التي قد تفاجئه وكيف يتعامل معها؟ وحقيقةً فإنّ هذه الإضاءات والتهويمات والأسئلة التي تُوحي بها، أو تُفصح عنها القصائد، هي ما يساهم في خلق عمل شعريّ أصيل، حيث تمتلك القصيدة رؤية وحمولة فكريّة خاصة بها. من هنا يستطيع العمل الشعريّ تقديم إضافة معرفيّة، وتحقيق خصوصيّة جماليّة، والتعبير عن عالم وجداني له خصوصيتّه وتفرّده!
اتساع القصيدة
قصيدة نجوان درويش تتّسع لمواضيع وقضايا عديدة، “للحواجز العسكريّة” و”الشرطة الإسرائيليّة التي جاءت وخلعت الباب”، ولحوار بالعاميّة بين “أمه وأمّ شارل بودلير”، ولعبارات عاميّة مأثورة “مثل مقطوع من حجر”، ولرموز كالمسيح، وصلاح الدين الأيوبيّ، ولشاعر قوافٍ معاصر كأحمد شوقيّ، ولبطولات منسيّة لشخصيّات مثل “سيلمان الحلبي”، وأيضاً لقنوات تلفزيونيّة إشكاليّة “كالجزيرة والعربيّة والحرّة”، ولتواريخ حاسمة مكتوبة بالأرقام، وباليوم المحدّد، ولها أثرها النازف في الوعي الفلسطينيّ كتاريخ سقوط القدس، وضياع حيفا. لكن دائما هناك صورة شعريّة أو استعارة بين جملة وأخرى تترصّد القاريء وترفع من نثريّة القصيدة إلى خيال الشعر. وهذا ينمّ عن ثقة، فهي مغامرة، وينمّ عن دراية وخبرة في إدارة الكلام، وتشكيل الجملة، واللعب بالمفردات دون الرغبة في الإبهار أو تقديم عروض بهلوانيّة، لصناعة جملة شعريّة تتوالد ببطء من نثريّة عاديّة، كما يقول في قصيدته “كلمات آخر جندي إلى صلاح الدين”:
الذين أخلفوا الوعود والذين قبلوا الهوان
والذين…
والذين…
لا أعرفهم
ولا أنظر إلا إلى الشمس
التي تشبه عمامتك في ظهيرة فتح.
وهذه اللغة التقريريّة الوصفيّة في العبارة الأولى، رغم نثريتها المفرطة، وعاديتها، وخلوّها من أيّ انعطافة شعريّة، بالإضافة إلى أنها مفردات مُستهلكة أدبيّا “أخلفوا الوعود” و”قبلوا الهوان” تجد توازنها الفنّي من خلال العبارة التي تليها “الشمس التي تشبه عمامتك في ظهيرة فتح”. فقصيدة النثر تتسع لهذا المزيج من العادي والمفاجئ، من الباهت والآسر، من الرمادي والمتوهّج. هذا الاتساع يمنح القصيدة لغة قادرة على استيعاب الواقع وهضمه قبل أن تتجلى نهاية العبارة عن رؤية شعريّة خاطفة أو مُفاجِئة. وهذا ما يتقنه نجوان درويش جيدا، فيسوق مفرداته دون اكتراث ظاهر، يمنحها ما تشاء من مسارب تبدو عاديّة إلى أن يباغتنا بإلتماعة شعريّة. فنغفر له عاديّة جملته السابقة حين نرى أن الفقرة تنتهي بهذا الألق الشعريّ، وندرك أنّه يحادثنا بلا ادعاء وقادر على استخدام الاستعارات والمجازات بمهارة عالية لو شاء، ولكنه يريد أن يخاطبنا هنا باللغة المباشرة، والمفردات التي نعرفها، والتي نفهم جميعا معناها، فتأتي دون تجميل، كنتيجة ربما لإحساس ما باليأس أو عمق الخيبة. تأتي الرغبة في القول المباشر الإحادي المعنى والخالي من الدلالات من رغبة حميمة في قول شيء صريح، دون مواربة جماليّة وبوضوح شديد. كأنّ الشاعر يرغب أحيانا في إلقاء معنى مباشر لا ظلال له، فمن هنا تأتي الحاجة لتوظيف جمل تقريريّة في الشعر. لكن هذا يحدث بنجاح حين يتحقّق “التوازن الفنّي” الذي تقوم عليه الجملة الشعريّة ككلّ. وهذا يذكرني بما قاله بول ريكور، رغم أنّ حديثه هنا كان للمقارنة بين اللغة الشعريّة والعلميّة، لكن ذلك يضيء لنا أحد صفات اللغة التقريريّة:
“إنّ اللغة العلميّة تسعى إلى اختزال هذه التعدديّة في الدلالة بقدر الإمكان، أي تحويل هذه التعدديّة الصوتيّة إلى أحاديّة صوتيّة، بمعنى أن يقابل الكلمة الواحدة دلالة واحدة. وعلى النقيض من ذلك فإنّ مهمة الشعر هي شحذ الكلمات لإنتاج أكبر قدر من الدلالات”. من حوار مع بول ريكور ترجمة سامح فكري.
مهما كان الاتجاه الفنّي، أو أسلوب الكتابة، أو الرؤيّة التي تحملها القصائد، أو البنية التي تعتمدها، فإن كانت قراءتها مدعاة للملل هي بالنسبة لي كقارئ، قصيدة فاشلة. أو هي على أقل تقدير قصيدة لم تحقّق أحد شروط الشعر الأساسيّة وهي المتعة: سواء لما تثيره من إحساس بالفرح أو السخريّة، أو بالحزن والتفريغ كما رأى أرسطو منذ فجر التاريخ. أمّا هذا الديوان، فالمتعة التي تحققها قصائده تأتي من طرافة اللغة الشعريّة المستخدمة، ومن القيم التي تبشّر بها، قيم غير تقليديّة في السلوك والإحساس، تعكس تحرّراً فرديّا في تناول قضايا اجتماعيّة محسومة سلفاً، مثال على ذلك قول نجوان درويش في قصيدة بعنوان “الشائعات”:
أنا جاهز للشائعات التي ستُقال عنّي وجاهز كي
أوكّدها.
أو في قصيدة بعنوان “وصيّة”:
أطلب من ورثتي العديدين أن يستجمّوا
في يوم مصرعي
وأن يتناوبوا النسيان وأن يغضّوا الطرف
عن سفاهة الذكرى.
وفي رؤيته للأهل يقول في قصيدة بعنوان “مديح الأهل”:
أنتم المنجم العميق لكوابيسي.
تبدو قيم إنسان ما بعد حداثيّ، فلا حنين هنا، ولا نوستالجيا، ولا إحساس بالفقدان، ولا عناية بالذكرى. وهذا قد يكون فقط تعبيراً ساخراً عن لحظة وجدانيّة محدّدة، لكن تكرّر عبارات من هذا الطراز في ثلاث قصائد مختلفة، يشير إلى قناعة ما تعكس رسوخا ما. والمفارقة اللاذعة هنا هي أنّ هذا “النزوع المابعد حداثيّ” في علاقته مع المحيط، لم يسعفه ليكون أقلّ حنيناً لحيفا التي تتكرّر في أكثر من قصيدة، والتي ظلّ مأخوذاً بصورتها، حاضرة أو غائبة، كما يقول في قصيدة “ولد من حيفا يرندِح كلمة”:
سأعيدها بالسّرو والزّان وأضواء الميناء في الفجر
سأعيدها
موسما بعد جميع الفصول ويوما خارج الزمن.
ويتحدّث بشجن عن أمكنة فلسطينيّة أخرى، واثقاً من حنينه، وداعياً للإصغاء العميق لوجودها، ومستدعياً صورها الواحدة بعد الأخرى، كما يقول في قصيدته “لم يعد لدينا ما نضيعه”:
دعي رأسك على صدري واسمعي
طبقات الخرائب وراء المدرسة الصّلاحيّة
اسمعي البيوت المبقورة في “لفتا”
اسمعي المعصرة المهدومة ودرس القراءة
في الطابق الأرضي من المسجد
اسمعي أضواء الشرفات
تطفأ لآخر مرّة
في أعالي وادي الصليب.
وآخر القول أنّ “استيقظنا مرّة في الجنّة”، مجموعة شعريّة ذات عالم رحب، ممتدّة في الحاضر ومتشعّبة في التاريخ، وجديرة بالقراءة المُتأمّلة. وهذه المجموعة التي جاءت في 127 صفحة، ليست الأخيرة للشاعر، بقصائدها المكتوبة بين 2006 و2013، فقد صدرت بعدها مجموعة “كرسي على سو عكا”، عام 2021. وقد تُرجمتْ له قصائد ومجموعات كاملة الى الإسبانيّة والإنجليزيّة وصدرت له مختارات بلغات كثيرة كاليونانيّة. وصدرتْ له أيضا عن New York review books مختارات بعنوان شيّق “تعب المعلقون” 2021.