في نسخته الطويلة المكونة من ثلاثة عشر جزءًا والتي تصل مدة كل حلقة منها إلى الساعة، قدم المخرج الفرنسي جاك ريفيت في فيلم "Out 1" تجربة سينمائية فريدة من نوعها، والتي تعد من أهم التجارب في سينما الموجة الفرنسية الجديدة (أُنتج عام 1971 وصدر في DVD مؤخراً وبنسخة خاصة). ترصد مشاهد الفيلم تحركات شخصيات وجماعات سرية وفرق مسرحية تشغل حيزًا من الثقافة البديلة في شوارع باريس، صانعة بذلك خريطة متشعبة لا يحكمها سرد متماسك ويتداخل فيها الواقع بالخيال.
ويتجلى العنصر التجريبي من حيث تقنيات التصوير والإخراج والسرد، باعتماد الفيلم على اللقطات الطويلة التي سمحت للممثلين بالخروج عن "النص" والارتجال، ليكون للممثل دورٌ مهمٌ في صناعة سرديات الفيلم المتعددة، كما أتاح طول هذه اللقطات ظهور أخطاء في الحوار أو ظهور معدات من المفترض أن تبقى في الكواليس كظهور ظلٍ لمايكروفون، لتصبح تقنيات إنتاج العمل الفني جزءًا من العمل يتبعه كظله.
يفتقد الفيلم إلى شخصية رئيسية محورية، لكنه أعطى أهمية أكبر إلى العلاقات بين الشخصيات المختلفة التي تلتقي وتفترق بطرق عجيبة وغامضة، الأمر الذي يجعل من المُشاهد أيضًا طرفًا، يربط بين الحوارات المختلفة ويأخذ مساحة أو أفقًا خاصًا يخلق فيه قراءته. كما أن إطلاق الفيلم تزامنًا مع انتهاء أحداث ثورة 1968 الطلابية، جعل منه تصويرًا لما أنتجته تلك الأحداث من حالة يغلب عليها فيض السرديات بتناقضاتها وتماهي مرجعياتها، ومن إحباطات ومحاولات بائسة لإحياء طاقات إبداعية قد استنفدت، فالثورات لا تفشل ولا تخمد بل تزعزع إيقاع النص.
خصص الفيلم مشاهد مطولة قد تصل لنصف ساعة بلا انقطاع، تم التركيز فيها على تمارين فرقة مسرحية تقوم بالتجهيز لعرض التراجيديا الإغريقية "بروميثيوس مغلولًا". في هذه المشاهد نشهد محاولات متكررة لخلق وإنتاج نص معاصر لتراجيديا قد تكون رمزيتها وشخوصها تبددت، أو إنها تحولت وتشكلت مع الزمن بتداخلها مع نصوص أخرى وأحداث تاريخية تهز كل المرجعيات، فسردية بروميثيوس -مخلص البشرية- حلت محلها سرديات أخرى مع الزمن.
تركيز الفيلم على التمارين المسرحية يعطيها الأولوية باعتبارها حقلًا للتجريب والخلق والاكتشاف، ليصبح العرض النهائي شيئًا ثانويًا؛ مجرد نتيجة لعملية أهم تستغرق عدة أسابيع وتترك آثارها على أجساد المؤدين وجسد النص. يخرج المؤدي من هذه التجربة بجسدٍ ونصٍ جديدين كليًا، يحملان تشابكات وتداخلات الأجساد والأصوات والنصوص المختلفة بما وقع عليها من عنف مادي ونصّي.
بروميثيوس كجسد ورمز، هو حقل التجريب الذي يعتمد عليه الممثلون لإنتاج عمل مسرحي جديد. فهل تلفظ هذه الفرقة بجسد بروميثيوس، فتلقيه خارجًا بأغلاله وعذاباته التي لم تعد تعني شيئًا؟ أم تمسك بجسده من أغلاله لتجرّه على أرض المسرح الخشبية، تهزه وتحمله وترميه ثانية على الأرض، تُنطقه مجددًا حتى يمنح للبشرية مصيرًا آخر؟
التمارين التي تقوم بها الفرقة هي تمارين مركّبة ومكثّفة، تعتمد كما هي مشاهد الفيلم، على الارتجال وعلى الزّج بأجساد المؤدين في مواقف مختلفة غير متوقعة تجعلهم في اشتباك وتلامس دائم. يعتمدون على بعضهم وعلى لحظات آنية قد يولد منها نص جديد، فيصبح الوقت والفضاء حولهم مشحونًا باحتمالات عديدة يعتمد عليها بقاء النص. إنه صراع مع الموت، وأي صراع مع الموت واللغة يغلب عليه العنف.
في التمرين الأول، يبدأ الممثلون بتمارين التنفس، يتعلمون من جديد الشهيق والزفير، مغمضين أعينهم، ينتظرون أن تصل أنفاسهم إلى الذروة التي تنقلهم إلى حالة أخرى. عندما أنطق كلمة "نَفس"، آخذ شهيقًا وأنفث الحروف المتتابعة (ن-فَس)، تمرينهم هذا يحاكي ما قبل اللغة وما يسري فيها، يحاكي الفراغات التي نتركها بين كلمة وأخرى. ثم يتبع تمرين النَفس مرحلة "المرآة"، تحاكي التمارين مراحل التعرف على الذات التي خطها التحليل النفسي، فيقف كل مؤد أمام مؤدٍ "آخر": أمام الآخر. أرى انعكاسي في الآخر المقابل لي، يدي تنطبق على يديه، أتعرف على نفسي، أضبط أنفاسي مع أنفاسه. تمرين المرآة يعدّ المؤدين وأجسادهم للعنف والتخبط القادم، التخبط الذي يلي تعرف الإنسان على نفسه، أزماته الوجودية: ما هي الأنا؟ ما أنا؟
قامت الفرقة بإعداد هذه المراحل مسبقًا لتعطي إطارًا محددًا يضمن عملهم معًا باتساق. ضمنيًا، تخيل كل مؤد بعد تمرين المرآة، أنه ولد بعيب خلقي ما أو مصاب بعجز ما في أحد حواسه أو أطرافه بشرط عدم مقدرة أي منهم على الكلام، هذا العجز المتخيل لا يعلمه إلا هو، وبناء عليه يرتجل المؤدون باستخدام أجسادهم وأصوات لا تنضج إلى مستوى "اللغة"، نصًا جديدًا. هذا النقص المتخيل يصبح رغبة تعطيهم القدرة على إكمال نواقصهم الشخصية بالتحام واشتباك أجسادهم في عدد لا متناه من الاحتمالات.
النقص هنا يغدو محركًا للكمال والخلق، فيتماهى الممثلون بالعض واللعق، يحطمون الأشياء من حولهم، يلونون وجوه بعضهم، بجعلون من أفواههم أيدي وأقدامهم أفواهًا، تطوى أجسادهم على بعضها أو تتكدس كالأوراق، تتشابك أذرعهم فيصبحون موجة تبكي وتصرخ وتضحك. تستمر هذه الفوضى الخلاقة لمدة طويلة بلا انقطاع، حتى تهدأ هذه الثورة ولكنها لا تخمد، يتزعزع إيقاع النص ويبدأ المؤدون بنطق كلمة "نار".
بعد التمرين يجلس المؤدون معًا، وعدد من النصوص والكتب ملقاة في وسطهم، نسخ بلغات مختلفة من "بروميثيوس مغلولًا"، مسرحيات لصامويل بيكيت، مقابلات ومقالات متعددة، ونصوص أخرى كثيرة تتوارى بين كلماتهم، ثقافتهم، ومعرفتهم. إحدى المؤديات تقرأ النص بالألمانية وتلاحظ اختلاف المعاني والنبرات، الألمانية أشد صرامة من الفرنسية. يقرأ أحدهم عن قرويين من المكسيك يصيبهم داء العمى عند بلوغهم، فيعلّمون أطفالهم القراءة والعمل في الحقل. في التمارين السابقة عمل المؤدون على قراءة النص وكأنهم عميان لا يعرفون اللغة، تتخبط أجسادهم بحثًا عن الكلمات. العمى نسيان، ولإيجاد النص عليهم أن ينسوا.
"لو أنك بروميثيوس المقيد بالأغلال في عذاب أبدي، ماذا كنت ستقول؟"
أجاب أحدهم بأنه سيحقد على البشرية، وأجابت أخرى أنها لا تعرف، وأنها ليست بحاجة لشخص بروميثيوس لتعبر عن مشاكل الحاضر، لم يبق شيء نقوله لبروميثيوس الذي سرق النار وعلّم البشر تقنيات البناء واللغة، لم نعد نحتاج إلى رمزية هذا الشخص الذي كان جسده قربانًا أبديًا في سبيل بشرية جاحدة.
لنكتب بروميثيوس معاصرًا ما بعد حداثي، ما بعد ثورة 1968، ما بعد القربان المنقذ، علينا أن نلغي بروميثيوس مع الإبقاء عليه ضمنيا؛ جعل بروميثيوس هو "النقص" المحرك الذي يخلق عبر تمارين لا نهائية، نصًا متداخل القراءات والسرديات.