في هذا الحراك الواسع نحو بناء استراتيجية بديلة لحل الدولتين، تمايزت المجموعة السياسية المُلتفة حول طروحات المناضل "سلامة كيلة" بربطها قضية الديمقراطية بالقضية العلمانية فيما بقيت المجموعات الأخرى في هذا الحراك وإن هي لا تعارض الطرح العلماني، رافضة لإدماج العلمانية كقضية جوهرية وتكوينية في الدولة الديمقراطية المنشودة.
تفتحت ورود الربيع العربي من جديد لتضع حداً لعمليات الترهيب والتخويف من الطروحات العلمانية والديموقراطية من قِبَلِ أنظمة الفساد والاستبداد العربية، من قِبَلِ أحزاب وحركات الإسلام السياسي بمختلف منوعاتها السنية والشيعية والجهادية ومن قِبَلِ بعض أوساط اليسار العربي والفلسطيني مِمَن كان أحرى بها أن تكون في خط الدفاع الأول عن قيم العلمانية في الحرية والعدالة والمساواة وفصل الدين عن الدولة.
ورود الربيع المتجدد في هذا الخريف العربي والفلسطيني الكئيب تأتي لكي تواجه وبقوة هيمنة السلطات القمعية العربية ولكي تدحضَ مقولات الاٍرهاب الفكري الذي يمارسه الإسلام السياسي وأحزابه وقواه المختلفة ولكي تفضح تراجعات اليسار وانهزامية منظماته، تلك الانهزامية التي قلصت من حجم تأثيره ومن حضوره.
لقد كان تراجعْ اليسار الفكري والسياسي واضمحلال قواعده الشعبية من شأنه أن يقدم خدمات جلى ليس فقط للنظام الاستبدادي العربي القاتل وإنما أيضاً للحركات الدينية والطائفية والمذهبية المختلفة لكي تسود المشهد العربي العام ولكي تتمأسس في الواقع الاجتماعي والسياسي بل والوجداني أيضاً مستفيدةً إلى أبعد الحدود من سياسات النفاق والسترة والتقية واللغة المزدوجة والمبهمة لما تبقى من هذا اليسار البائس والذي (إمشِ الحيط الحيط وقُل يا ربي السترة. مثل فلسطيني) فقد مصداقيته رغم محاولاته اليائسة لتبرير تراجعاته بادعاءات باطلة حول "الحِس الشعبي المحافظ" والذي يجب عدم خدشه ومواجهته.
لقد برهنت الانتفاضات الراهنة للشعوب العربية في السودان وفي الجزائر والعراق ولبنان أن هذا الحس الشعبي ليس على هذه الدرجة من المحافظة المُدّعاة. الانتفاضة السودانية لم تكن شعبية ومهنية وحسب وإنما كانت نسوية أيضاً وشقيقتها الجزائرية شهدت بدورها عودة النساء إلى واجهة الأحداث بمطالبهن العادلة ونضالاتهن ضد "قانون العائلة" المجحف بحقوقهن. في الانتفاضتين اللبنانية والعراقية، تبرز النساء كقوة فاعِلة ضد النظام الطائفي الفاسد في كلا البلدين وضد الأحزاب الإلهية والطائفية ورعاتها في نظام الملالي الخميني.
لقد برهنت هذه الانتفاضات المجيدة على بطلان التخويف والترهيب من الطرح العلماني بل وعلى تقدمية الحس الشعبي المُتهم باطلاً من قبل بعض أهل اليسار بالمحافظة بل وبالرجعية أحياناً. لقد جاء الشارع العربي في هذه البلدان لكي يقول كلمته دون خوف وبدون الحاجة إلى الخروج من باحات المساجد ليبرهن على أنه أكثر تقدمية من هذا اليسار الانهزامي. وهكذا، لم يعد من المجدي التلطي وراء أطروحات المعاداة الشعبية للفكر التنويري والطرح العلماني والديمقراطي وتحديداً في ظل المطالب الشعبية بالحرية السياسية وبالحريات الفردية والمساواة ما بين الجنسين في ظل نظام سياسي مدني لا مكان للطائفية والأحزاب الدينية فيه، نظاماً يرسي قيم المواطنة الحقة، أي قيام نظام ديمقراطي وعلماني حداثي بامتياز.
وهكذا، إذا كان هناك من علامة فارقة ما بين هذا الربيع العربي المتجدد والربيع الأول فهي التأكيد على الطابع العلماني والنسوي وبقوة وذلك لأن قضايا الحرية لا تتجزأ وقضايا المنطقة لا تتجزأ بدورها فما يصيب هذا البلد أو ذاك ينعكس على المصير المشترك لهذه الشعوب في سعيها لنيل حريتها.
الانتفاضات العربية الراهنة تفتتح الزمن العلماني القادم في المنطقة ككل وفي فلسطين حتماً.
الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين والحتمية العلمانية
فلسطينياً، البرنامج النضالي من أجل دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية يعاني من صعوبات ترسيخ حضوره في المشهد السياسي الفلسطيني وذلك جراء محاربته من قوى ما يُسمى بالسلطة الفلسطينية ومن بعض قوى اليسار الفلسطيني والتي لا تزال تعيش في أوهام "حل الدولتين".
من جهة أخرى نشهد رفضاً آخر لاقتران الطرح العلماني بفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة من قِبَلِ بعض من يرفع راية هذا البرنامج النضالي للدولة المنشودة وذلك في تناقضٍ جدير بالتحليل واستخلاص العِبَر وتحديداً في سياقٍ يبدو فيه الطرح العلماني كضرورة قصوى للخروج من المأزق التاريخي الذي انزلقت إليه م.ت.ف بموافقتها على "حل الدولتين" والدخول في مفاوضات قيل أنها "سلمية"(الحروب لم تتوقف بتاتاً منذ عام ١٩٩٤) وأنها مدعومة من المجموعة الدولية والتي لم تحرك ساكناً أمام التنصل الإسرائيلي مما كان يُتفق عليه بين الحين والآخر.
تَعرّض الاقتراح العلماني لدولة ديمقراطية واحدة على أرض فلسطين التاريخية (دولة فلسطينية ديمقراطية وعلمانية تضمن حق العودة وبناء مؤسساتها على أنقاض دولة الأبارتهايد والعنصرية الصهيونية كما تضمن حق المواطنة المتساوية لمواطنها اليهودي) بدوره للتشكيك بدعوى "نفور" الشعب الفلسطيني المُتَديّن من الفكرة العلمانية المنظور لها كرديف الإلحاد والتنكر لمبادئ الدين الحنيف.
حملة التشكيك هذه وإن كانت تشيرُ إلى تغلغل الخطاب الديني المُسيَس في النسيج الاجتماعي والثقافي للشعوب العربية ومنها الشعب الفلسطيني، فهي تُشيرُ بالأحرى إلى انهزامية اليسار العربي والفلسطيني المتواطئ موضوعياً مع خطاب الإسلام السياسي، ذلك الخطاب الذي لم يكن له حظوظ في التغلغل عميقاً في الوعي الشعبي دون توفر هذا الانكفاء لقوى اليسار عموماً.
ما بين الانكفاء والانهزامية ليسار فقد روحه النقدية ، تعرضت قيم الحرية والديموقراطية والعلمانية إلى التشويه والتزييف ولم تكن جملة التحالفات السياسية ما بين بعض هذا اليسار والدولة الدينية الخمينية في إيران (وملحقاتها من الأحزاب الإلهية وأنظمة الاستبداد والقتل المُنظّم في سوريا والعراق) إلا لتوجه الضربة القاضية لهذا اليسار وقيمه الجوهرية. فقدان البوصلة اليسارية الحقة ساهم هنا في تشويش الوعي الشعبي بدلاً من استنهاضه وتركه فريسة سهلة لخطاب الإسلام السياسي السني الاخونجي والشيعي. العلمانية بات يُنظرُ لها كخطر داهم وعدو يجب مقاومته وفكرة فصل الدين عن الدولة كتكريس للإلحاد وتخريب للأخلاق وانحلال القيم الاجتماعية. بالطبع، كان يجري استحضار العلمانية الفرنسية كنظام معادٍ للدين وكنموذج وحيد للعلمانية بهدف الترهيب والتخويف ولردع من ستسوّل له نفسه إشهار علمانيته على رؤوس الأشهاد.
على ضوء هزيمة اليسار العربي والفلسطيني وهيمنة الخطابات الرجعية على المشهد الثقافي والسياسي العربي والفلسطيني، يمكن فهم تردد دعاة الدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين عن تبني شعار الدولة العلمانية وذلك كانعكاس مباشر لهذا الوضع العربي العام المهزوم والمأزوم برمته، وضعاً سوف يتعمق به تغول الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في الضفة رغم الانكشاف السافر لأكذوبة السلام المؤدي إلى إنشاء دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل. إن ما سُمي بمفاوضات سلمية برعاية دولية لم تكن أقل من تواطؤ مكشوف لحلٍ لا يمكن أن يفضي بكل الحالات إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
الأدهى في الأمر أن هذا المأزق كان ترجمةً لسياسة إسرائيلية وجدت ضالتها في قبول الفلسطينيين لأول مرة الدخول في عملية تفاوضية أساسها نتائج حرب حزيران عام ١٩٦٧. هذا التنازل التاريخي عن القضية الوطنية الجمعية والمشتركة لكافة التجمعات الفلسطينية كان حلماً لم يتصوره الصهاينة اذ قدم "الممثل الشرعي الوحيد "للشعب الفلسطيني" ثاني الانتصارات التاريخية للحركة الصهيونية والتي لا تقل أهمية عن إنشاء دولة إسرائيل عام ١٩٤٨.
في هذا السياق، الطرح العلماني لحركة وطنية فلسطينية سوف يستعيد الأسس الأولى للصراع على فلسطين: مشروع صهيوني لإقامة دولة لليهود على كل فلسطين التاريخية محولاً من الديانة إلى قومية مُدعاة بمواجهة مشروع فلسطيني يرى في فلسطين الغد دولةً لمواطنيها بدون تمييز في الجنسية والديانة والقومية وهذا ما طرحته"عصبة التحرر الوطني" في فلسطين عام ١٩٣٩وما وما نادى به المفتي في إقامة دولة فلسطينية تقبل بالوجود اليهودي كوجود مواطنة مجردة. فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في ١٩٧٤ أعادت التأكيد على "علمانية" المشروع الوطني في دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة.
هذه هي علاقة الطرح العلماني بالقضية الوطنية: العودة إلى جذور الصراع والعودة إلى الحلول التقدمية التي طرحها الفلسطينيون منذ الثلاثينات من القرن المنصرم. للوهلة الأولى، قد يبدو الحديث عن ضرورة اختطاط استراتيجية فلسطينية جامعة من أجل النضال لتحقيق دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية، كنوع من الترف الفكري في ظل حالة التراجع للمشروع الوطني وفي ظل الانقسام الفلسطيني وتغول الاستيطان والصفقات القادمة لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية برمتها. ولكنَ هذا الانسداد لآفاق النضال الحالي المبني على شعار بناء الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل (وما يتبعه من تصفية حق العودة والتخلي عن المجتمعات الفلسطينية في الشتات وفي مناطق ١٩٤٨) هو ما يمنح قضية البحث عن استراتيجيات بديلة معناها الفعلي وضرورتها المُلحة لإنجاز تصورات للمستقبل رغم صعوبات الظرف الحالي.
في هذا الحراك الواسع نحو بناء استراتيجية بديلة لحل الدولتين، تمايزت المجموعة السياسية المُلتفة حول طروحات المناضل "سلامة كيلة" بربطها قضية الديمقراطية بالقضية العلمانية فيما بقيت المجموعات الأخرى في هذا الحراك وإن هي لا تعارض الطرح العلماني، رافضة لإدماج العلمانية كقضية جوهرية وتكوينية في الدولة الديمقراطية المنشودة.