مكتبتي... أو لماذا لم أحاول أن أبستن الغابة؟

2019-12-03 15:00:00

مكتبتي... أو لماذا لم أحاول أن أبستن الغابة؟
Jackson Pollock, No.5

ولذلك، وعملًا بنصيحة أندريه، لم ألخص نفسي في مكتبة مكونة من عدة رفوف وضلفتين، أنا منثور ككتبي في أرجاء الشقة، مكتبتي إسمنتية ولها جدران، ومن أراد أن يعرفني على طريقة أندريه جيد فعليه أن يقتحم شقتي ويمسحها مسحًا كاملًا لا أن يقف فقط أمام المكتبة ويطالع العناوين بينما يصفّر لحنًا قديمًا.

1

لأن مكتبتي رائعة جدًا، خيالية، سأخزي العين، وسأبدأ مقالي هذا بذكر عورات مكتبتي

أولاً: بعض الكتب مسروقة. أستغفر الله العظيم. سامحني يا رب، لكن لبعض الكتب غواية فاحشة لا تقاوم، وبعض الأصدقاء ينسون أنهم أعارونا كتابًا (العين اللي تغفل تستاهل خرقها "مثل مصري")، البعض الآخر يُحرج من تذكيرك (ما أُخِذ بسيف الحياء حلال في عالم المكتبات)، وآخرون يتناسون ويتواطئون ضمنيًا ويعتبرون تلك الكتب ديوناً معدومة. لا يؤسفني أن أقول إن جانبًا من مكتبتي من مطبوعات وإصدارات الديون المعدومة. 

ثانيًا: خسرت مجموعات متفرقة من الكتب القيمة، في غارات من الأصدقاء على مكتبتي، لا أعرف ما سر إقبال ضيفك على فحص مكتبتك بأريحية مع ثقته الكاملة في أنك لست منزعجًا من ذلك. بلى أنا منزعج، اترك كتبي وشأنها، اختفت المجموعة الكاملة لكويتزي في ظروف ليست غامضة، «مزرعة الحيوان» تلاشت، وقصص ياسر عبد اللطيف مفقودة...

ثالثًا: لأن مكتبتي ليست مركزية، مكتبتي أكبر من مجرد قطعة أثاث خشبية تحتضن الكتب، يصعب عليّ أحيانًا الاهتداء لعنوان أبحث عنه في أكوام الكتب الموزعة في بيتي بين المكتبة والرفوف والغرف. وهذا عيب خطير، لكنه بالمثل يسمح لصاحب المكتبة بالدفاع عن بعض مقتنياته وعدم تمريرها للأصدقاء الذين يلحون على استعارة كتاب ما.

2

في الأزمنة القاحلة، كان الأمن يقتحم بيوت المطلوبين -سياسيًا على الأرجح- ويعاين المكتبة ويسحب منها المضبوطات بل ويستطيع أن يطلق الاتهامات بناءً على محتويات تلك المكتبة، التي تتحول في بعض الأحيان إلى حرز يدين صاحبها.

وبالمثل، يستطيع الأمن أن يجر المواطن إلى مخفر الشرطة، ويجهز له الاتهامات، إذا ما رصد كتابًا -غير مرغوب في الاطلاع عليه- مع المواطن، ومثال ذلك حدث في 2014 في محيط جامعة القاهرة عندما ألقت عناصر الأمن القبض على طالب لأنه كان يحمل معه رواية «1984» لجورج أورويل!

إذن، كل مساحة يمكنها أن تحتضن كتابًا هي مكتبة بالضرورة، رف منسي أو درج مغلق منذ سنوات أو حتى حيز في حقيبة ظهر. صديقك الذي أقرضك كتابًا، مكتبة. والموقع الإلكتروني الذي حمّلت منه رواية لم تتمكن من شرائها، مكتبة.  

فكرة المكتبة لا تقتصر على تخزين الكتب وتوفير مبيت آمن لها، وإنما تتمثل في أن يعرف الإنسان طريق الكتب، أن يهتدي عبر أقصر سبيل إلى كنز الحروف والكلمات. ولذلك ربما لا أوفر في بيتي مكتبة بالمعنى المتعارف عليه، قطعة الأثاث الخشبية تلك التي تتكون من رفوف وضلفتين. لا أنكر أنني أمتلك واحدة منها، لكنها صغيرة وبدائية، تبدو كما لو كانت من تصنيع نجار غير متمكن، هاو، وأنا لا أكترث لذلك، لأني وفقًا لتعريفي للمكتبة الوارد في بداية هذه المادة، أفضّل نمط (البيت المكتبة) لا (قطعة الأثاث المكتبة). والبيت المكتبة هي فكرة عشوائية ذات حس جمالي. أليس من الأفضل أن تتوفر الكتب في جميع أرجاء البيت؟ أليس من الأفضل أن تكون الكتاب متناثرة في كل الغرف والمطبخ والحمام والصالة؟ أليس من الأفضل عدم الخضوع لسطوة المكتبة فيما يتعلق بالتصنيف والتقسيم بين مساحة للروايات أو القصص أو الشعر أو الفلسفة والتاريخ والعلوم أو حتى التصنيف وفق الأبجدية حسب اسم المؤلف وعنوان الكتاب؟ لا. المعرفة غابة كبرى لا تحتمل فكرة البستنة، ليس من المنطقي أن يحاول المرء أن يحشر الغابة في حديقة منزلية صغيرة، أو أن يضع البحر في زجاجة.

في مراهقتي، قرأت ما معناه أن مكتبتك وخزانة أدويتك المنزلية هما سرّان يستطيع من يطلع عليهما ويدرسهما أن يستنتج الكثير عن جسدك وعقلك... كان ذلك إن لم تخنّي الذاكرة اقتباسًا عن أندريه جيد ورد في إحدى روايات أحلام مستغانمي. حسنًا. رغم أنها فكرة تصلح لتدبيج جملة رنانة من تلك النوعية التي يحب القارئ أن يقتبسها ويضع تحتها خطوطًا في متون الكتب ويكتب عنها الحواشي في الهوامش. إلا أنها صحيحة بشكل كبير.

ولذلك، وعملًا بنصيحة أندريه، لم ألخص نفسي في مكتبة مكونة من عدة رفوف وضلفتين، أنا منثور ككتبي في أرجاء الشقة، مكتبتي إسمنتية ولها جدران، ومن أراد أن يعرفني على طريقة أندريه جيد فعليه أن يقتحم شقتي ويمسحها مسحًا كاملًا لا أن يقف فقط أمام المكتبة ويطالع العناوين بينما يصفّر لحنًا قديمًا.

3

كتب الإسباني كارلوس زافون في روايته «ظل الريح»: "دعانا إسحق للدخول بهزة خفيفة من رأسه، كانت الردهة مسكونة بظل لازوردي يتمايل بين النور والظلمة، ومن هناك تظهر أدراج رخامية وممر يزدهي سقفه برسومات لوجوه ملائكة وكائنات خيالية. لحق بنا الحارس إلى أن وصلنا لصالة دائرية تشرف عليها قبة تنهمر منها لآلئ الضوء، كان البناء كمعبد غارق في ظلام دامس، متاهة من الأروقة والرفوف العالية المكتظة بالكتب، خلية نحل هائلة مشيدة من أنفاق وسلالم ومنصات ودعائم: مكتبة ضخمة معجزة في هندستها وبنيانها. نظرت إلى أبي وفمي مفتوح من شدة الذهول بينما كان يبتسم ويغمز: "أهلاً بك في مقبرة الكتب المنسية يا دانيال. هذا المكان سر، إنه معبد حرم خفي، كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما، روح من ألّفه وأرواح من قرأوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله، وفي كل مرة يغير الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية (...) عندما تغلق إحدى المكتبات أبوابها أو تتلاشى، ويضيع كتاب ما في غياهب النسيان، نحن الأمناء على هذا المكان، نجد له طريقة كي يصل إلى هنا. كل الكتب التي لا يذكرها أحد، أو التي يختفي أثرها بفعل الزمن، تعيش هنا أبدًا في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى يدي قارئ جديد، وروح جديدة."

هكذا وصف زافون، في فصل بعنوان "مقبرة الكتب المنسية"، ذلك المبنى، الذي اختزنت فيه الكتب، النادرة، والمنبوذة، والتي بلا صاحب. لقد نجح كارلوس زافون في أسطرة المكتبة، وتحويلها إلى كائن خرافي مجنح قادم من الأزمنة السحيقة. وقد فعل ذلك لسببين، أولهما هوسه بالكتب والمكتبات، وثانيهما أن "المكتبة" كانت وستظل دائمًا صالحة لهذا التحول، من كيان مادي خشبي على الأرجح يحتوي قدرًا من الأوراق والأحبار، إلى أرواح هائلة منيرة تستطيع أن تقاوم النسيان وتقف بساقين ثابتين أمام الزمن، المكتبة هي الخلود بشكل أو بآخر، هي الهوية الباقية لصاحبها، الهوية العميقة، التي لأجلها يلقي الأمن القبض على مقتني الكتب التي تغضب الأنظمة، والتي بها يعرف الابن ميراث ذويه.

ولذلك لم يكن غريبًا، النزاع الذي دار قبل شهور، بين شقيقة الفنان المصري الراحل حسن كامي (١٩٣٦ – ٢٠١٨) ومحاميه، على مكتبة "المستشرق" التي امتلكها الفنان الراحل، وأهداها لزوجته، وبعد موتها حالت ملكيتها له مجددًا، وعقب وفاته، نشب النزاع بين شقيقته نيجار ومحاميه عمرو رمضان الذي ادعى ملكية المكتبة وأنه اشتراها من الفنان حسن كامي في سنواته الأخيرة في ظل ظروف مادية صعبة كان يمر بها المطرب الأوبرالي المصري الراحل.

المعركة وصلت إلى وسائل الإعلام، ودخلت ساحات القضاء، وانتهت بقرار من وزارة الثقافة المصرية بـ "تشميع" المكتبة حتى الفصل قضائيًا في ملكية المكتبة، ولحماية محتوياتها من كتب نادرة ووثائق تعود للقرن الثامن عشر.