في اليوم الذي يليه، أتى أبو سليمان زبون آخر باعه بعض اللحم المفروم وأرسله مع صبيه للخباز ليصنع له صفيحة اللحم منه، ولحين الانتهاء من خبز الصفيحة، عزمه على كأس سحلب، لكن الحليب عند اللحام أبو شريف، ولأنه وحده في الملحمة، طلب منه ليحضره له، "قول لأبو شريف أعطيني حليب العجل ما غيرو".
فتح كفّه واستلم القروش من اليد الراجفة، نظر إليها سريعا ورماها في الصندوق الخشبي، "حطّلّه تلاتة كيلو مفرومة، بهّرها وملّحها مع شوية بقدونس وبصل يابا". نظر سليمان إلى والده باستغراب، رمقه الأخير بنظرة آمرة ليقوم بما طلبه منه. تناول أبو سليمان الكيس الورقي من ابنه، وضع فيه شقفة ليّة، ثم سلّمه للزبون.
عندما استلم أبو سليمان ذبائحه هذا الصباح من عربة النقل عدّ على يديه، خمسة خراف، عجلان، قاعود واحد. عجل واحد كان ناقصاً، خبّر الحمال بذلك، وهذا أعلم العاملين في شاحنة اللحوم عن النقص أو الخربشة الحاصلة في النقل. لقد أكد على الراعي عصر أمس أن يحزّ ظهر العجل بعلامة "إكس" بشرطتين متوازيتين من جهة واحدة كالعادة، وقد وصلت ذبائحه بهذه العلامة بشكل صحيح، أي لا مشكلة في العلامة إذاً. فكّر بالمشي من سوق اللحامين حتى حارة الشرف غرباً فباب المغاربة، هذا مسار عربات نقل اللحم، قد تكون ذبيحته في دكان أحد ما بالخطأ.
شبك يديه خلف ظهره ومشى، هذه مشية امتازت بها عائلته على مدى بعيد. كان كهلاً هدّه غسيل الكلى المستمر، لكن زرقة عينيه بدت شيئاً ثابتاً لم يغيره الزمن، شعره الأشقر وبياض بشرته الذي ورثه عن والدته، تلك التي كانت دائما تشمّر عن ساقيها وتقول "شوفو أدّيش أنا بيضا". في عرسه انبهرت الفتيات بوسامته، وكنّ يتهامسن "بس لو رقبته أطول شوي". قامته القصيرة التي انحنت أكثر مع العمر، وأثقلتها تربية عشرة أبناء، لم تكن عائقاً أمام حبه لعمله كلحّام، كان يقف أمام الذبيحة ليسلخها بمتعة مستخدماً يديه الاثنتين، وهو ليس بالأمر السهل، لكنه دون شكّ ورث تلك القدرة عن والده الأعسر، في الزمن الذي كان مرفوضاً فيه استعمال اليد اليسرى -"بياكل معك الشيطان"-، تمرّس على استعمال يده اليمنى كما اليسرى تماماً، فأصبح ماهراً بالاثنتين.
مشى أبو سليمان بخطىً بطيئة مراقباً الذبائح المعلقة في سوق اللحامين، متلمساً بعضها ليكشف عن علامها دون أن يشعر اللحام بشكوكه. توقف عند اللحام أبو شريف آخر السوق، هذا الذي منذ وصوله القدس من مدينة الخليل وهو يتنقل من مهنة إلى أخرى. لقد هرب من ثأر عائلي، ولأنه أهمل أن يتعلم صنعة تشكيل الزجاج عن والده، أمسى بلا صنعة ولا مهنة أصيلة، حتى أصبح دخيلاً في النهاية على تجارة اللحوم وبيعها، بعد أن جرب النجارة ثم النحاسة ثم بيع الخضار.
كان أبو سليمان إذا ما جاءه زبون سمج، هذا الزبون مثلاً يطلب من أبي سليمان قطعة لحم لم يصلها التقطيع بعد، فتقطيع اللحم فن، له خطواته وتقنياته، ولأن أبا سليمان لحام فنان، كان يرسله للّحام المقابل له مع غمز يفهم منه الأخير أن لا تبعْ هذا الزبون، وهذا اللحام يفعل المثل للّحام المقابل الذي أرسله له، هكذا حتى يصل الزبون للّحام أبو شريف آخر السوق، ولأنه لا يملك فنون التقطيع ومهاراته، كان يدمر الذبيحة بتقطيعها ليكسب زبوناً ما، أيّاً كان.
عندما وصل أبو سليمان لملحمة أبي شريف، ألقى عليه تحية الصباح، ارتبك الأخير حيث كان منشغلاً بالتبول في آخر الدكان، "يسعد صباحك أبو سليمان، تفضل" قالها بلهجة خليلية قح، ماداً يده للسلام، لكن أبا سليمان شعر بالقرف فتجاهل يده الممدودة، وتظاهر بالانشغال بتقليب الذبيحة المعلقة عند الباب. وما أن لفها دورة كاملة، حتى عرف أن هذه الذبيحة ملكه، "هذا سمار والا بياض أبو شريف؟"، "أبو سليمان، هدا عجل!"، أبو سليمان يعرف بالتأكيد ما هو، وأبو شريف يعرف أن أبا سليمان يعرف ذلك لكنه يمتحنه. مكان العلام مقطوع، لكن ساق العجل العرجاء التي تنبه لها أبو سليمان أمس وهو يشتريها من الراعي واضحة، "ليش هيك الفخدة ضعيفة أبو شريف؟"، "والله ما أنا عارف يا حج" بلهجة خليلية قح أكثر من المرة الأولى، ضع أحداً في مأزق، وسترى كيف يعود إلى أصله سريعاً. ظل أبو سليمان يحوم حول الذبيحة لدقيقتين بدتا ساعتين في قلب أبو شريف وهو يتصبب عرقاً. "جيب كاسة شاي لعمك أبو سليمان يا ولد"، محاولاً تغيير نظرات وانتباه أبي سليمان عن الذبيحة، "مرة تانية أبو شريف... مرة تانية" قالها مع غمزة أفهمه فيها أنه عرف بعملته. عاد أبو سليمان إلى دكّانه دون أن يكلّم أحداً، عكر المزاج، هذه المرة الأولى التي يوضع فيها بموقف كهذا، وعليه أن يردّ له الصاع صاعين.
في اليوم التالي زار أبو سليمان زبون عرفه من بُعد، هذا أسوأ شارٍ قد تحصل عليه في بداية يومك، وحين بدأ الأخير بطلباته المتطلبة اللانهائية، أسكته أبو سليمان بإشارة من يده، وقال له "آخر السوق في لحّام اسمه أبو شريف، قُلّه بعتني أبو سليمان وبقلك: أعطيني فتيله من ظهر العجل ما غيرو، وهو بحاسبك". ذهب الشاري ولم يعد.
في اليوم الذي يليه، أتى أبو سليمان زبون آخر باعه بعض اللحم المفروم وأرسله مع صبيه للخباز ليصنع له صفيحة اللحم منه، ولحين الانتهاء من خبز الصفيحة، عزمه على كأس سحلب، لكن الحليب عند اللحام أبو شريف، ولأنه وحده في الملحمة، طلب منه ليحضره له، "قول لأبو شريف أعطيني حليب العجل ما غيرو".
بقي أبو سليمان على هذه الحال أشهراً، يبعث بالزبائن لملحمة أبي شريف ليأخذوا حصّتهم من اللحم الناقص مما باعهم "من العجل ما غيرو"، مرة من لحم الكتف، ومرة جزءاً من الذراع، مرّة العصعص وأخرى المقادم، وفي كل مرة يسجل في الدفتر. ولأنه كان أمّياً لا يكتب، خصص ورقة من دفتره لرسم العجل كاملاً، فيما يظلل في كل مرة الجزء الذي بعث زبونه ليأخذه منه.
شارٍ أخير في حر آب، جاء لأبي سليمان وهو ينظف دكانه وقت العصر، طالباً رأس عجل توحّمت عليه زوجه الحامل "رأس عجل من القدس وبس". ولأنه حمل عزيز بعد أعوام، تجوّل الرجل في ملاحم سوق البلد القديمة لكن دون جدوى، ولأنه من مدينة الخليل وصل متأخراً، وملحمة أبي سليمان كانت أمله الأخير. نظر أبو سليمان في دفتره، لقد بقي له من العجل رأسه، وبالفعل مزع أبو سليمان ورقة "العجل ما غيرو" وأعطاها للزبون وأرسله لأبي شريف، "قُلّه بقي عليك الراس".
مد الزبون يده ورمى القروش في كف أبي سليمان الذي تظاهر بعدّها ورماها في الصندوق الخشبي، لم يتمالك سليمان نفسه من فعل أبيه المتكرر، بصعوبة كتم غضبه "يابا ليش ما بتعد المصاري؟ شكلها ناقصة"، "أنا ما بعرف هادا الشّرّا، بس شفت أديش مبسوط بحمل مرته؟ عرفت إنه مش راح يقدر يدفع حق راس العجل كامل، جاي من آخر الدنيا. أنا اتطلعت بالمصاري يابا عشان ما أكسفه، عشان أحسسه إنه دفع حق اللي أخده مع إنه تُلت سعره الحقيقي. بس صدقني هيك وصلني حقي كامل".
أصبحت الضجة في السوق غير اعتيادية عندما انتهى أبو سليمان من تسجيل حسابات يومه ذاك، تراكض الشباب وصياح النساء في آخر الزقاق مريبة. ترك أبو سليمان قفل الباب بعد أن أغلقه وسار باتجاه الأصوات والصرخات، بصعوبة أزاح الشباب المتجمهر أمام الملحمة آخر السوق، حيث رأس أبي شريف معلقاً بخطاف كبير، فمه متدلٍ وعيناه جاحظتان، وملامح الخوف مصوّرة ومطبوعة على وجهه الأصفر. لقد كان زبون أبي سليمان الأخير، صاحب الثأر من أبي شريف.
هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.