من ربيع عربي إلى آخر

2020-05-01 12:00:00

من ربيع عربي إلى آخر
Hearts of the Revolutionaries: Passage of the Planets of the Future, Joseph Beuys

إن دور النساء في الموجة الثانية من السيرورة الثورية في المنطقة العربية ظاهرة أخرى بالغة الأهمية، ومؤشر آخر على بلوغ الحركات الشعبية مستوى أعلى من النضج. ففي السودان والجزائر ولبنان، اشتركت النساء بأعداد كبيرة وبشكل بارز جداً في التظاهرات والتجمهرات الجماهيرية كما في قيادتها.

تكشّفت أزمة المرحلة النيوليبرالية في الرأسمالية بصورة فاقعة أمام أعيننا خلال الأشهر الأخيرة، مثيرةً اضطرابات اجتماعية متعاظمة في عدد من المناطق متزايد باطّراد (*). ولا شك في أن أحداث المنطقة العربية تندرج ضمن هذه الأزمة العالمية، بيد أن للمنطقة خصوصيتها. فقد حصلت التحوّلات النيوليبرالية في المنطقة العربية في سياق رأسمالية من نوع خاص: رأسمالية تحددها الطبيعة الخاصة لمنظومة دول المنطقة التي تتميّز بمزيج متفاوت النِسَب من الريعية والميراثية أو النيوميراثية. إن الوجه الأهم لخصوصية المنطقة العربية هو التركّز العالي داخلها للدول الميراثية بصورة كاملة، وهو تركّز لا مثيل له في أي منطقة أخرى من مناطق العالم. تعني الميراثية أن ثمة عائلات حاكمة تملك الدولة بكل معاني المُلك، أي أنها تملك أجهزة الدولة ومواردها سواء أكان ذلك شرعاً في إطار سلطة مطلقة، أم عملياً فقط كأمر واقع. فتنظر العائلات الحاكمة هذه إلى القطاع العام وكأنه ملكها الخاص وتتعامل مع القوات المسلحة – لاسيما قوات النخبة – وكأنها حرسها الخاص. هذه السمات هي سبب خروج السياسات النيوليبرالية في المنطقة العربية بأسوأ نتائجها الاقتصادية في العالم. فقد أفضت التغييرات التي جرى تنفيذها بوحي من النيوليبرالية في المنطقة إلى أدنى معدلات نمو اقتصادي لأي منطقة من المناطق النامية، وبالتالي إلى أعلى نِسَب البطالة، وبطالة الشباب بوجه خاص. 

أما سبب ذلك الرئيسي، فهو أن العقيدة النيوليبرالية تستند إلى أولوية القطاع الخاص، أي الفكرة القائلة إن القطاع الخاص يجب أن يشكّل القوة الدافعة للتنمية فيما ينبغي تقليص أدوار الدولة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي. "طبّقوا سياسات تقشّفية، قلّصوا مساحة الدولة، خفّضوا الإنفاق الاجتماعي، بيعوا المؤسسات العامة للقطاع الخاص واتركوا الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الرأسمال الخاص والتجارة الحرّة، فستتحقق المعجزات"، هذا ما تقوله العقيدة. لكن في سياق يفتقد إلى مقدمات الرأسمالية النموذجية المثالية بدءاً من سيادة القانون وإمكانية التخمين اللتين لا استثمار خاص طويل الأمد بدونهما، فإن الأموال الخاصة تميل إلى السعي وراء الربح السريع والمضاربات، في العقارات والإعمار على الأخص، بدل التوجّه نحو الصناعات التحويلية والزراعة، وهما القطاعان المنتجان الرئيسيان. 

نجم عن ذلك انسداد بنيوي في التنمية. هكذا، فإن الأزمة العامة للنظام النيوليبرالي العالمي تتعدّى في المنطقة العربية أزمة النيوليبرالية لتستحيل أزمةً بنيوية للنمط الرأسمالي الخصوصي السائد في المنطقة. وعليه، لا يمكن الخروج من هذه الأزمة في المنطقة بمجرّد إحداث تغيير في السياسات الاقتصادية في إطار استمرار نمط الدول القائمة. لا غنى عن تغيير جذري في البنية الاجتماعية والسياسية برمّتها، أما دون ذلك فلن تكون هناك نهاية للأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية الحادة ولحالة انعدام الاستقرار اللتين تتحكّمان بالمنطقة بأسرها. 

هذا ما تسبّب بتلك الموجة الثورية العارمة التي أطلق عليها اسم "الربيع العربي" والتي خضّت المنطقة برمّتها في عام ٢٠١١. فقد كانت موجة أهم بكثير من جملة احتجاجات جماهيرية متناثرة، إذ كان منظورها ثورياً حقاً، والناس تهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو شعار غدا منتشراً في كافة أرجاء المنطقة منذ عام ٢٠١١.  وقد خضّت الموجة الثورية الأولى في تلك السنة منظومة دول المنطقة خضّاً قوياً، كاشفةً دخولها في طور الاحتضار. فشهدت معظم البلدان الناطقة بالعربية صعوداً كبيراً في الاحتجاجات الاجتماعية خلال ذلك "الربيع العربي" في عام ٢٠١١. كما شهدت ستة من هذه البلدان – أي أكثر من ربع مجموعها – انتفاضات شعبية عارمة في ذلك العام. وبالرغم من ذلك كله، فإن "الدرس" الذي استخلصه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الساهران على النظام النيوليبرالي العالمي، هو أن كل ذلك جرى بسبب عدم تطبيق وصفاتهما النيوليبرالية بالصرامة الكافية. فالأزمة، كما يدّعيان، نجمت عن القصور في تفكيك بقايا اقتصاديات رأسمالية الدولة التي كانت قائمة في الأمس. والحلّ، كما يزعمان، يكمن في انهاء كافة أشكال الإعانة الاجتماعية وبطريقة حاسمة أكثر مما جرى حتى الآن. 

بيد أن السبب الذي جعل حكومات المنطقة تقصّر بعض الشيء في تنفيذ توصيات المؤسسات المالية الدولية إنما هو تخوّفها من التداعيات السياسية لتنفيذ تلك التوصيات. وقد كانت على حق في تخوّفها، ذلك أن شعوب المنطقة العربية – خلافاً لشعوب أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، عندما قبلت على مضض بالتغييرات النيوليبرالية الجذرية على أمل أنها سوف تجلب لها رخاءً رأسمالياً – شعوب المنطقة العربية إذاً، لا استعداد لديها للقبول بمثل تلك التغييرات الجذرية إذ ليس لديها أي وهم في أن بلدانها سوف تصبح شبيهة ببلدان أوروبا الغربية كما توهّمت شعوب أوروبا الشرقية أو أوهمت. وعليه، فلأجل فرض إجراءات نيوليبرالية جديدة على الشعب، لا بدّ من استخدام القوة في معظم بلدان المنطقة. 

ذلك أن التطبيق الكامل للنيوليبرالية لا يترافق مع الديمقراطية الليبرالية كما كان فوكوياما يؤكد في أطروحته الخرقاء عن "نهاية التاريخ" قبل نحو ثلاثين عاماً. والحال أن أول تطبيق جذري للوصفات النيوليبرالية حصل في التشيلي في ظلّ حكم الجنرال بينوشيه إثر انقلاب دموي في عام ١٩٧٣. ويجري حالياً مثل ذلك التطبيق في مصر في ظلّ عودة النظام القديم بحلّة دكتاتورية فظّة بعد ٢٠١٣ بقيادة عبد الفتّاح السيسي – ونظامه اسوأ ما شهدته مصر منذ عقود من حيث فظاظة القمع. وقد ذهب نظام السيسي إلى أبعد حد في تنفيذ كامل طيف توصيات صندوق النقد الدولي النيوليبرالية وبكلفة عالية جداً تمّ فرضها على الشعب مع ازدياد حاد في كلفة المعيشة وأسعار المواد الغذائية والمواصلات، الخ. فقد حلّت كارثة كبرى بالشعب المصري. أما السبب الرئيسي الذي حال دون انفجار الغضب الشعبي مرة أخرى على نطاق واسع في ساحات مصر، فهو الردع الذي مصدره إرهاب الدولة. غير أن التطبيق الكامل لتوصيات صندوق النقد الدولي النيوليبرالية لم يحقق معجزة اقتصادية، ولن يحقق معجزة في المستقبل. فالتوتر يتراكم وعاجلاً أو آجلاً سينفجر الغضب الشعبي من جديد.

لكن وللأسف، الحركة العمالية واليسار المصري كلاهما في حالة يُرثى لها. فقد تعرّضا لهزيمة قاسية – ليس بنتيجة العودة الوحشية للدولة القمعية وحسب، بل أيضاً بنتيجة التناقضات والأوهام الخاصة بهما.  فقد تبع القسم الأكبر من اليسار المصري مساراً سياسياً تائهاً، منتقلاً من تحالف خاطئ الى آخر: من التحالف مع الإخوان المسلمين الى التحالف مع العسكر. ففي عام ٢٠١٣، دعم معظم اليسار والحركة العمالية المستقلة الانقلاب الذي قاده السيسي وذلك بقِصر نظر شديد، متوهمين بأن الجيش سوف يعيد الديمقراطية الى مسارها السليم. لقد ظنّوا أن إسقاط مرسي والإخوان المسلمين، بعد سنة من وجودهم في السلطة، سيفتح الطريق من جديد أمام تطوير العملية الثورية بالرغم من أن العسكر هم الذين أطاحوا بمرسي. 

إن هذا الخطأ العظيم الذي ارتكبه اليسار والحركة العمالية قد أفقدها المصداقية. ونتيجة لذلك، باتت المعارضة اليسارية اليوم بالغة الضعف والتهميش في مصر. وهذا سببٌ هام آخر لعدم انطلاق تحركات جماهيرية واسعة ضد الهجمة النيوليبرالية الجديدة. فعندما لا يكون هناك بديل ذات مصداقية، يميل الشعب نحو تقبّل خطاب النظام الذي يقول: "إما أنا أو الفوضى. إما أنا أو مأساة على الطريقة السورية. عليكم قبول قبضتي الحديدية. ستكون قاسية، لكنّكم ستجدون الرخاء في نهاية المطاف." في الحقيقة، معظم المصريين لا يصدقون هذا الوعد الأخير، أي وعد الرخاء، لكنّ الخوف من الانزلاق الى وضع أكثر سوءاً مما هم فيه لا يزال يشلّهم.  

ترتبط بما سبق خاصية أخرى من خاصيات السيرورة الثورية الإقليمية، تشهد سوريا عليها بمأساوية قصوى. فقد خَبُر العالم العربي خلال عدة عقود تطور تيار إسلامي أصولي رجعي دعمته الولايات المتحدة بالتعاون مع المملكة السعودية، حليفها الأقدم في المنطقة. وقد رعت واشنطن الأصولية الإسلامية خلال الحرب الباردة باستخدامها كترياق ضد الشيوعية والتيار القومي اليساري في العالم الإسلامي. وخلال السبعينات، رأينا كافة الحكومات العربية تقريباً تعطي الضوء الأخضر للأصولية الإسلامية كقوة مضادة للتجذّر اليساري الذي كان جارياً في أوساط الشباب. ومع انحسار الموجة اليسارية لاحقاً، باتت الأصولية الإسلامية أبرز قوة في المعارضة، جرى السماح لها بالنشاط في بعض البلدان كمصر والأردن وتم قمعها بشراسة في بلدان أخرى كسوريا وتونس. لكنّ الأصوليين تواجدوا في كل مكان بالرغم من ذلك. 

وعندما انطلقت انتفاضات عام ٢٠١١، قفزت فروع الإخوان المسلمين على العربة الثورية وحاولت اختطافها لخدمة أهدافها السياسية. لقد كانوا اقوى بكثير من أي قوى يسارية متبقية في المنطقة، إذ إن الأخيرة كانت قد ضعفت بشكل كبير إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما تمتّع الأصوليون بدعم مالي وإعلامي من الدول النفطية الخليجية. ونتيجة لذلك فإن ما تطوّر في المنطقة ليس الثنائية التقليدية بين الثورة والثورة المضادة، بل مثلّث نجد فيه، من جهة، قطباً تقدمياً – تلك الجماعات والأحزاب والشبكات التي كانت هي المبادرة بالانتفاضة وتمثّل طموحاتها الغالبة. هذا القطب كان ضعيفاً على الصعيد التنظيمي، ما عدا حالة تونس حيث عوّضت حركة عمالية قوية عن ضعف اليسار التنظيمي وسمحت للانتفاضة هناك بإحراز أول انتصار في إسقاط رئيس بما أطلق الموجة الثورية الإقليمية. ومن جهة أخرى، كان ثمة قطبان مضادان للثورة بالغا الرجعية: الأنظمة القديمة التي شكّلت أهم قوة مضادة للثورة كالعادة، ولكن أيضاً قوى الأصولية الإسلامية التي تنافست مع الأنظمة القديمة في سعي وراء انتزاع السلطة.  في هذه المنافسة المثلّثة، سريعاً ما تم تهميش القطب التقدمي، التيار الثوري – ليس نتيجة ضعفه التنظيمي والمادي وحسب، بل أيضاً وبصورة رئيسية نتيجة ضعفه السياسي وافتقاده إلى رؤية إستراتيجية. 

ومع ذلك، فإن جيلاً ثورياً جديداً دخل على نطاق جماهيري حلبة الصراع في المنطقة، جيلٌ نضج من خلال الربيع العربي لعام ٢٠١١ وبعده. ويصبوا القسم الأكبر من هذا الجيل نحو تغيير تقدمي جذري. إنهم يتطلعون إلى شروط اجتماعية أفضل وإلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، بما في ذلك التحرّر الجندري. يرفضون السياسات النيوليبرالية ويحلمون بمجتمع على نقيض تصوّرات وبرامج القوى الأصولية الإسلامية التي اختطفت أو حاولت اختطاف الانتفاضات لتوجيهها نحو أهدفها الخاصة. 

لقد عادت هذه الطاقة التقدمية العظيمة إلى الصدارة في الموجة الثورية الثانية التي انطلقت في شهر كانون أول/ ديسمبر ٢٠١٨ مع الانتفاضة السودانية، ثم تبعتها في شباط/ فبراير ٢٠١٩ الانتفاضة الجزائرية، ولحقتها منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي احتجاجات جماهيرية ضخمة في كل من العراق ولبنان. وما يزال السودان والجزائر والعراق ولبنان في حالة غليان، بينما تقف سائر دول المنطقة على حافة الانفجار. لا شك في أن وباء كوفيد-١٩ قد أدّى الى تعليق السيرورة الثورية لفترة – وقد أنهى التظاهرات الجماهيرية الأسبوعية في الجزائر وشتى أشكال الاحتجاج في العراق ولبنان – لكنّه سوف يفاقم الشروط التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة بالأصل. 

إن السيرورات الثورية طويلة الأمد كالتي تتكشف في المنطقة العربية منذ عام ٢٠١١ هي سيرورات تراكمية من حيث الخبرات والمعرفة العملية، تتبع منحنى تعلّم. فالشعوب تتعلّم والحركات الجماهيرية تتعلّم والثوريون يتعلّمون، والرجعيون يتعلّمون أيضاً بالتأكيد: الكل يتعلّمون. فالسيرورة الثورية طويلة الأمد عبارة عن موجات متتابعة من الانتفاضات والردّات المضادة للثورة – غير أن هذه الموجات ليست مجرّد تكرار بالمثل. فالسيرورة ليست دائرية: إما أن تتقدم أو تنحطّ. فيستوعب الناس دروس التجارب السابقة ويسعون جهدهم لعدم تكرار الأخطاء نفسها أو الوقوع في الفخاخ ذاتها. هذا واضح تماماً ليس في حالة السودان فقط، بل أيضاً في حالات الجزائر والعراق ولبنان.

إن السودان والجزائر، بالإضافة إلى مصر، هي الدول الثلاث في المنطقة التي تشكّل فيها القوات المسلّحة مؤسسة الحكم السياسي المركزية. طبعاً، تشكّل الأجهزة المسلّحة عمود الدول الفقري بوجه عام، لكن ما يميّز هذه الدول الثلاث في المنطقة العربية هو تحكّم العسكر المباشر بالسلطة السياسية. فليست هذه الأنظمة ميراثية، وليس فيها عائلة تمتلك الدولة إلى حدّ أن أفرادها يستطيعون أن يفعلوا بها ما يشاؤون. بدل ذلك، تهيمن القيادة العسكرية العليا على الدولة بصورة جماعية. إنها أنظمة "نيوميراثية"، أي إن تفضيل ذوي القربى والمحسوبية والفساد مستشرية فيها، لكن دون ان تنفرد عائلة واحدة بالتحكّم الكامل بالدولة، وتبقى الدولة كمؤسسة منفصلة عن الأشخاص الحاكمين. وهذا يفسّر لماذا انتهى الأمر بالجيش إلى أنه تخلّص من الرئيس وحاشيته لأجل المحافظة على النظام. هذا ما حصل في مصر عام ٢٠١١ عند تنحية مبارك، وكذلك في الجزائر في العام الماضي مع تنحية بوتفليقة، وقد تبعتها تنحية البشير في السودان، وجميعها عمليات نفذّها العسكر. وعندما حدث ذلك في مصر، كانت هناك أوهام عظيمة حول الجيش في صفوف الشعب، وقد تجدّدت في عام ٢٠١٣ عندما خلع الجيش الرئيس الإخواني مرسي. هذه الأوهام لم تتكرّر في السودان والجزائر في عام ٢٠١٩. على العكس، نجد أن الحركة الشعبية في البلدين كانت على درجة عليا من الوعي بأن القوات المسلّحة تشكّل العمود الأساس للنظام الذي ترغب الخلاص منه. 

بيد أن هناك فارقاً آخر يفعل في الحالة السودانية. هناك أيضاً قيادة جسّدت الإدراك الناجم عن الدروس المستفادة من كافة التجارب الإقليمية السابقة. وهذا الفارق يتمثل في دور "تجمّع المهنيين السودانيين" الذي هو شبكة غير شرعية أسّسها عام ٢٠١٦ معلمون وصحافيون وأطباء وغيرهم من المهنيين. وما أن انطلقت الانتفاضة في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٨ حتى تطوّر التجمّع الى شبكة أوسع فأوسع، شملت نقابات عمالية من كافة القطاعات الرئيسية. وقد لعب التجمّع وما يزال الدور المركزي في الأحداث فيما يتعلّق بالحركة الشعبية، وكان له أيضاً دورٌ رئيسي في تشكيل ائتلاف سياسي عريض ضمّ العديد من الأحزاب والجماعات تحت تسمية "قوى إعلان الحرية والتغيير". هذه القوى داخلة في صراع على السلطة مع العسكر، وقد اتفق الطرفان على تسوية مؤقتة أرست ما يمكن وصفه بأنه حالة من ازدواجية السلطة، على غرار ما عرفته روسيا بعد ثورة شباط/ فبراير ١٩١٧.  يحكم البلد مجلسٌ تتمثل فيه قيادة الحركة الشعبية إلى جانب القيادة العسكرية. هذه المرحلة الانتقالية هشّة، لن تستطيع أن تستمر طويلاً. عاجلاً ام آجلاً، سيتغلب أحد الطرفين على الآخر، وسوف يمرّ هذا بالضرورة عبر شقّ صفوف الطرف الآخر. 

أما رأس حربة الثورة السودانية الحقيقي، فهو شبكة من "لجان المقاومة" التي تضمّ آلاف النشطاء، غالبيتهم من الشباب وغير المنظمين سياسياً، تنشط في احياء المدن الكبرى والبلدات في شتى أنحاء البلاد. هذه اللجان لا ثقة لها بالأحزاب السياسية القائمة وترفض التزوّد بقيادة مركزية لنشاطها ومواقفها، بل تصرّ على الحفاظ على استقلاليتها المحلّية. تُعارض الحكم العسكري بصورة جذرية مثلما تُعارض الأصولية الإسلامية، خصوصاً وأن كلا الطرفين كانا ممثلين في السلطة تحت رئاسة عمر البشير. وقد قررت لجان المقاومة أن تخوّل "تجمع المهنيين" أن يتكلم باسم الحركة الشعبية، لكنّها تبقيه تحت مراقبة صارمة، كما تمارس ضغطاً نقدياً على العملية السياسية برمّتها. 

كان الحراك الشعبي في الجزائر مدهشاً في قدرته على تنظيم تظاهرات حاشدة كل أسبوع على مدى سنة كاملة. وقد أبدى حيوية استثنائية حقاً، لكنّه يفتقد إلى قيادة شرعية معترف بها. فلا أحد يستطيع الادّعاء أنه يتحدّث باسمه، وهذا يشكّل عامل ضعف واضح مقارنة بالحالة السودانية. من الطبيعي أن تختلف أشكال القيادة مع الزمن، لكننا لم ندخل في حقبة "الثورة بلا قيادة" لعصر ما بعد الحداثة، كما يحلو للبعض ان يعتقد. فإن غياب القيادة عائق فعلي وله تبعات خطيرة: لا بدّ من قيادة معترف بها من أجل توجيه قوة الحركة الجماهيرية نحو غاية سياسية. هذا موجود في السودان، مع كل تناقضاته، لكنّه مفقود في الجزائر كما في العراق ولبنان. 

إن دور النساء في الموجة الثانية من السيرورة الثورية في المنطقة العربية ظاهرة أخرى بالغة الأهمية، ومؤشر آخر على بلوغ الحركات الشعبية مستوى أعلى من النضج. ففي السودان والجزائر ولبنان، اشتركت النساء بأعداد كبيرة وبشكل بارز جداً في التظاهرات والتجمهرات الجماهيرية كما في قيادتها. في الدول الثلاث، شكّلت النسويات رافداً أساسياً في الجماعات المنخرطة في الانتفاضات. وحتى في العراق، حيث كانت النساء بالكاد مرئيات في المرحلة الأولى من الاحتجاجات، أخذت مشاركتهن تزداد مع الوقت، لاسيما مع انضمام طلبة الجامعات إلى التحركات. 

إن السؤال الكبير اليوم في الجزائر والعراق ولبنان هو بكل وضوح: في وضع يحدده، من جهة، إصرار التحركات الجماهيرية على المواصلة، ومن جهة أخرى، الفرص الجديدة لتدخل الدولة القمعي الناشئة عن وباء كوفيد-١٩، هل سوف تفلح الحركة الشعبية في إيجاد سبل للتنظيم على غرار ما جرى في السودان، وذلك من أجل مضاعفة فاعلية كفاحها وتأثيره وإنجاز خطوات هامة على درب تحقيق أهدافها؟ أم أن الطبقات الحاكمة ستنجح في قمع كل من هذه الانتفاضات الثلاث وإخمادها؟ سيكون لمصير الثورة السودانية تأثيرٌ كبير على السيرورة الثورية الإقليمية برمّتها. وثمة أساسٌ للأمل، حتى ولو لم يكن كافياً للتفاؤل نظراً لصعوبة التحدّيات الماثلة في الأفق. 

 

(*) هذا المقال أعدّ بالأصل لمجلة Radical Philosophy البريطانية ويستند إلى نصّ مقابلة أجرتها مجلة Marxist Left Review الأسترالية قبل أشهر، بعد تعديله وتحديثه. وقد نقله إلى العربية ديغول عديلي وقام جلبير الأشقر بمراجعة الترجمة.