في عيدنا الرابع

"رمّان"... خيط الطائرة الورقية

2020-08-24 00:00:00

لذلك، مع إتمامها لعامها الرابع ودخولها إلى الخامس، أردت أن أقول إنني أشعر بالسعادة والفخر لكوني واحدًا من الذين كتبوا في "رمّان" منذ إطلالتها الأولى، وأردت أن أقول لقرائها والقائمين عليها: فليبقَ الخيط مشدودًا.. ولتبق الطائرة الورقية محلّقة في السماء.

ثمة مقولة قديمة فقدت صلاحيتها منذ سنوات: "القاهرة تؤلف، بيروت تطبع، بغداد تقرأ"، وكان كل عربي يضع في الفقرة الثالثة مدينته بدلًا من بغداد. وشخصيًا سمعت هذه المقولة وقرأتها بـ: الخرطوم تقرأ، القدس تقرأ، صنعاء تقرأ، وكانت تلك المقولة في زمانها (الخمسينات، الستينات والسبعينات من القرن الماضي) بمثابة قاعدة (تفاعلية) قابلة للتعديل والنقل من مكان لآخر.

بالطبع كان هناك مؤلفون في كل البلدان العربية (خارج المركز) في زمن رواج تلك المقولة، إلا أنهم لم يحظوا بالعناية الكافية، وقلة قليلة جدًا منهم حققت الرواج والحضور والانتشار. على عكس كتّاب المشرق العربي وبالتحديد مصر والشام.

الآن باتت تلك المقولة فلكلورًا ثقافيًا بائدًا من زمن القومية العربية، لم تعد موجودة على الأرض لأن نظرية المركز والهامش تبددت، كل بلد صارت مركزًا منتجًا، ولم يعد هناك هوامش بالمعنى المفهوم، فالهوامش انسحبت إلى منطقة القوالب الأدبية (رواية، قصة، شعر، مسرح) بعد أن كانت قائمة بمعيار جغرافي.

تآكلت المقولة، وتآكل معها الكثير من المعطيات التي أفرزت تلك المقولة، في زمان كانت فلسطين فيه القضية المركزية والسؤال الأول لدى كل عربي. تبدّل كل شيء، انكسارات وانتصارات وقعت، عقود مضت ومياه كثيرة جدًا مرت من تحت الجسر. تخلت مصر في فترات عن دورها الرئيسي في دعم الفلسطينيين ورعاية مصالحاتهم ومصالحهم السياسية، اختفت دول وظهرت أخرى، انقسمت دولٌ وتوحّدت أخرى. خرجت جامعة الدول العربية من القاهرة وعادت إليها. كوّنت بعض الدول العربية ثروات بينما أصاب القحط مجموعات أخرى من بلاد العرب. ولم يعد التأليف المصحوب بتسليط الضوء حكرًا على القاهرة، ولا الطباعة حكرًا على بيروت... لقد تبدّل كل شيء تقريبًا. على الأصعدة السياسية والديموغرافية والاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية والرياضية والثقافية بل أكاد أقول: و"الجغرافية". ولم يبق من ذلك التراث القديم سوى هذا الرابط الخفيف الشفاف كخيط طائرة ورقية. الرابط الثقافي والإبداعي الذي قاوم الاندثار والتآكل والذبول، ربما بحكم الطبيعية التكاملية الانتشارية للفنون. فجوهر الفن والثقافة بشكل عام يقوم على ذلك: الانفتاح على اتساع الإنسانية. فما بالك لو كانت تلك الإنسانية – في حالتنا هذه – تحمل ميراثًا بين بلدين – مصر وفلسطين- لهما تاريخ طويل مشترك من الحب بحكم التجاور الجغرافي قبل كل شيء وبحكم مكانة كل منهما في محيطه.

"رمّان" تلعب الآن دور خيط الطائرة الورقية، الرابط الشفاف الرشيق بين مصر وفلسطين، الرابط الذي يسري من خلاله المنتج الثقافي للطرفين في الاتجاهين.

ثمرة ناضجة في زمن «التآكل العربي»

بدأ المشروع القومي العربي في الاحتضار في السبعينات، وتلقى رصاصة الرحمة في 1990 بعد غزو العراق للكويت، وخلال تلك السنوات وبعدها اتخذت دول عربية عدة سياسة انعزالية، واختارت نهج الانكفاء على الذات. في نظر البعض تراجعت قضية العرب المركزية، ونبتت قضايا صغيرة في كل قُطر أو إقليم، وكان نظام الرئيس محمد حسني مبارك يتأرجح بين الالتفات للقضايا العربية والانشغال بالداخل المصري، وبدأ التوجه الأخير في التضخم حتى بات التيار السائد. بهتت الصلات وتقادمت الجسور وبعضها تهاوى، وظلت الصحافة الثقافية في لبنان تلعب دورًا هامًا في إبقاء المشهد الثقافي المصري حاضرًا ومتصلًا بامتداده العربي. إلا أن ذلك الدور الحيوي تراجع هو الآخر مع كل انتكاسة عاشتها لبنان مؤخرًا وتحديدًا منذ اندلاع الوضع الاقتصادي المأزوم في 2014  إلى أن تهاوى الجسر مع أزمة الصحافة اللبنانية قبل سنوات حيث أقفلت الكثير من الدوريات والمطبوعات.

"رمّان"، وبجهود بسيطة، استطاعت تعويض ذلك الدور، وتمكنت في سنوات قليلة من أن تكون بالنسبة لي ولمصريين كثر ولكل قرّاء "رمّان" بمثابة شُرفة تطل على الاتجاهين، كان لا بد من الإبقاء على ذلك التواصل. وهكذا، أتاحت "رمّان" للقارئ المصري كوّة ثقافية يطل منها على جديد الإبداع الفلسطيني في كل حقول الفن أدب وسينما وفن تشكيلي وفكر... إلخ

ملفات ثقافية

من تجليات العزلة التي فرضتها بعض الدول العربية أواخر القرن الماضي، ظاهرة الـ Egocentrism. أو الانكفاء على الذات، فبات من النادر أن تجد مجلة ثقافية فلسطينية تدشن ملفًا خاصًا بظاهرة أو حدث ثقافي مصري، والعكس صحيح، فلم تعد الصحافة المصرية الثقافية تبدي اهتمامًا كبيرًا بقضايا ثقافية خارج الحدود، وما لم تكن تلك القضية متماسة مع مصر أو شخص مصري بشكل مباشر. "رمّان" اختارت أن تكسر تلك العزلة، وقدّمت نفسها جسرًا واصلًا بين الأوصال المقطوعة، فسلطت الضوء على قضايا ثقافية مصرية، كوضع سوق النشر المصري وخروج الكتّاب المصريين إلى خارج الحدود، وتناولت بالنقد والعرض الكثير من الروايات والأفلام المصرية، لا تلك التي تثير ضجة وقتية وتصبح "ترندًا"، بل الأفلام والروايات ذات القيمة الغذائية العالية. لم تختر "رمّان" (أي شيء مصري والسلام)، بل انتقت ورفعت سقف معاييرها، لتضمن بذلك جسرًا بين الضفتين، يستوفي كل شروط المتانة والسلامة.

حاورت "رمّان" كتّابًا مصريين، قدمتهم لقرائها، وأعادت تقديم بعض المخضرمين، وتناولت أيضًا بعض الموضوعات التي كانت حديث الساعة في مصر، لا سيّما تلك القضايا المتماسّة مع الحقل الثقافي.

وبالمثل، صار قارئ "رمّان" في مصر على دراية بأحدث الأعمال السينمائية والأدبية والتشكيلية الفلسطينية، والشامية عمومًا، بل و"المشرقية" بصورة أوسع. قطع فنية قيمة من العراق والأردن والكويت واليمن ولبنان وسوريا جرى تسليط الضوء عليها، أعمال ما كان القارئ المصري ليضمها إلى قائمة معارفه لولا الدور الثقافي المهم للغاية الذي تقوم به "رمّان" في تجسير الهوة التي أنتجها الوضع السياسي المتردي للعرب خلال السنوات الماضية.

لذلك، مع إتمامها لعامها الرابع ودخولها إلى الخامس، أردت أن أقول إنني أشعر بالسعادة والفخر لكوني واحدًا من الذين كتبوا في "رمّان" منذ إطلالتها الأولى، وأردت أن أقول لقرائها والقائمين عليها: فليبقَ الخيط مشدودًا.. ولتبق الطائرة الورقية محلّقة في السماء.