يشير بشارة إلى أن التعددية التي استخدمت يومًا ما للتوحيد، قد تستخدم في يوم آخر للتفريق وبناء ولاءات أخرى متفرقة داخل الدولة الواحدة، وهو ما يهدد رسوخ النظام الديمقراطي، وهنا يؤكد بشارة إلى الديمقراطي لا تسبب الشرخ، وإنما تعمل على إظهاره فحسب.
القسم الأول بعنوان: قراءة في "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"... جذور دراسات الانتقال في نظرية التحديث (١/٤)
يُخصص عزمي بشارة القسم الثاني من الكتاب للحديث عن دراسات الانتقال الديمقراطي في خمسة فصول ابتداءً من تصنيفها ومقارباتها وخياراتها وأثر الأنظمة السلطوية على الدراسات نفسها، ثم نقد الأنظمة الجاهزة في دراسات الانتقال وينتهي بالحديث عن الإجماع على الدولة.
الانتقال إلى دراسات الانتقال
واستكمالًا لحالة ضبط المُصطلحات، والتي تعد الوحدة الأساسية في التنظير في مثل هذه المجالات[1]، يبدأ بشارة بوضع تعريف عام لعلم الانتقال Transitology، وذلك بوصفهِ مخالفة لمقاربة التحديث، ويشرح بأن دراسات الانتقال ليس علمًا ثابتًا، بل هي: دراسات حالة، ودراسات «مقارنة لظروف التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطيّ ومراحل الانتقال، وسبل إنجاحه»[2]. أيّ أن تعريف دراسات الانتقال ينطوي على جزئين، جزء عام، وجزء خاص لكل حالة، ولا يتوقف على واحدة من العناصر أعلاه، بل عليها كلها في الوقت نفسه. ويُشدد بشارة على غائية دراسات الانتقال، إذ أنها تسعى للتوصل إلى الديمقراطية، ولا يرى الكاتب أي مشكلة في تسمية منظري الانتقال الديمقراطي بـ «الغائيين»، لأنه ليس نقدًا سلبيًا، ولأن غائيتهم في هذا السياق أخلاقية وليست نظرية ولا تتناقض مع الموضوعية العلميّة[3]، إلا في حالات قليلة.
يذكر بشارة أن ما حفز ظهور دراسات الانتقال أمران، أمر معنويّ، بمعنى أنه جاء برسالة رفض للدول المتطورة التي تحاول أن تقول للشعوب النامية بعدم إمكانية تطبيق الديمقراطية لديهم[4]، وأمر نظري، فرضته الحقائق التاريخية، ويكون هادفًا إلى تحقيق النمو تحت الأنظمة السلطوية والمُساعدة في الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية في بعض دول أميركا الجنوبية، واليونان وإسبانيا[5].
ويشير بشارة إلى أن كثير من الأنظمة التي ظُنّ بأنها لا يمكن أن تنتقل ديمقراطيًا، حققت الانتقال بنجاح، وأن كثير من الدول التي كان يُعتقد بأنها ستكون علامة على رسوخ الديمقراطية، انتكست وعادت للسلطوية، وأن كثير من حالات الانتقال في الوقت نفسهِ، لم تنتقل ديمقراطيًا، بل عادت إلى شكل من أشكال السلطويّة، رغم كل الدراسات والأبحاث التي عقدت حولها. يُمكننا هُنا أن نلمس ذلك حِس دريدا التفكيكيّ في تفرّد النص الأدبي[6]، وحسّ بول دي مان، في مقاومة النص الأدبي للنظريّة[7]، ويأتي بشارة في هذا السياق ليقول بأن الانتقالات والدول والشعوب، تقاوم النظرية في الوقت نفسهُ، وأن كل تجربة انتقال مثل أي نص، هي نظرية بحد ذاتها. قد نكون أحيانًا قادرين على الاعتماد على نظريات أخرى لفهم الحالة، وبالتالي، يكون التنظير لدراسات الانتقال الديمقراطي غالبًا، تنظير بأثر رجعيّ، وليس مسبقًا تمامًا، بحيث تُعدل الشروط والعوامل المساعدة وغيرها مُفصلة للتجربة التي حصلت[8] ولا يتم فرض النظرية على التجربة بهذا الشكل التطبيقي المُجحف.
يستخدم بشارة الفصل نفسه لنقد الأساطير الرافضة لإمكانية تطور أو انتقال ديمقراطيّة عربيّة، سواء من الغرب أو من العرب أنفسهم تحت ذرائع ضعيفة وركيكة، فيقول بأنه «لا توجد استثناءات عربية لأنه لا توجد قاعدة»[9] أصلًا عندما يتعلق الأمر بالانتقال وتحقيق الديمقراطيّة.
يستمر بشارة في مناقشة أدبيات دراسات الانتقال بوصفها أدبية مصوغة في علم السياسة المقارن ومن داخل الخطاب الديمقراطي، ويؤكّد على أن الدافع النظري لتأسيس نظريات الانتقال كان دافعًا معياريًا مضمونه الإيمان بالقيم الكونيّة، ولكنه يشرح لاحقًا أن الديمقراطية ليس علمًا بحد ذاتها وإنما نظام حكم سياسيّ، وأنّ رغبة الناس فيها لا تكون أحيانًا متعلقة بالنظام نفسه، بقدر ما هو هرب من النظام السلطويّ[10].
ومن التعريف الأول لدراسات الانتقال بوصفها مخالفة لمقاربة التحديث، يذكر بشارة أن نظرية التحديث تنطلق من شروط رسوخ الديمقراطيات المستقرة، في حين أن دراسات الانتقال تنطلق من استقراء تجارب جديدة ناجحة تحقق فيها انتقال من السلطوية إلى الديمقراطيّة، ومن هنا يدعو بشارة إلى التمييز بين: 1- الشروط الضرورية و2- الشروط القابلة للتعميم و3- شروطًا أخرى غير مُحددة تستنتج من تجربة البلد المدروس[11]. ويذكر بشارة في هذا السياق اتفاق لين كارل وفيليب شميتر على ضرورة التخلي عن الشروط الضرورية والتركيز على تنوع الظروف التي قد تَظْهَر/تُصْنَع الديمقراطية في ظلها[12].
أربع مقاربات نظرية لدراسات الانتقال
يسرد بشارة المقاربات النظرية الأربعة بناءً على تصنيفات سوجيان جيو ويان تيوريل، ويبدأ بالمقاربة البنيوية الوظيفية والتي بنُيت على أعمال منظري التحديث مثل ليبسيت وألموند ومور، ويوضح الكاتب أنّ هذه المقاربة ليست مدرجة في سياسات الانتقال في القسم الأول من الكتاب، ولكن بعض عناصر النظرية البنيوية فرضت نفسها كشروط للانتقال[13]. ويشرح تيوريل أهمية النظريات البنيوية للانتقال الديمقراطي في أنها تعطي الأولوية للعوامل البنيوية، ولأنها أيضًا لا تحدد تأثير العوامل على الفاعلين الاجتماعيين أو شكل وخيارات نظام الحكم، وهذا لأنه وحسب بشارة، فإن ليبسيت يعرف أن من يقوم بالانتقال بشر نهايةً، وقد أشار فعلًا إلى دور النخبة[14] ولكنه لم يعالج الموضوع. يؤكد اعتماد الباحثين على المعلومات الكميّة في وربط الديمقراطيّة بمعدلات الدخل والتعليم وغيرها على أنّ «مقاربات التحديث ما زالت حية ترزق وتفيد في الأبحاث المقارنة بين البلدان»[15].
تأتي المقاربات المؤسسية ثانيًا إذ ينصبّ جل اهتمامها على دور المؤسسات في الدولة وأثرها على تشكيل السياسات والتوعية السياسية وفي تحديد الفاعلين السياسيين وخياراتهم. انطلقت المؤسسة القديمة من وجهة نظر بشارة بوصفها علم الحوكمة المُقارن، وذلك بالنظر إلى الديمقراطية بوصفها التعبير الأعلى والأفضل عن الفضيلة السياسية، وليس على أنها مجرد نظام سياسيّ، وبالتالي، فإن كانت هناك مؤسسات، يمكن فرض الديمقراطية والتغيير من الأعلى، وبحيث تعمل المؤسسات على تغيير المجتمع، وبالتالي، فإن حل أي مشكلة لا يكون عبر تغيير السياسات، وإنما عبر إصلاح المؤسسات[16].
يلتزم منظري هذه المقاربة المؤسسية بنماذج زراعة المؤسسات أو نقلها بالقوة، ويفترضون أن بناء هذه المؤسسات في دول مختلفة سيؤدي إلى نتائج مُشابهة، دون الاهتمام بالفاعلين السياسيين، ولا الاهتمام بالشعب والأفراد إلا بوصفهم «جهة مطالبيّة»، وبين شيفورسكي فشل هذا النموذج إذ أن «فكرة فرض الديمقراطية على أفغانستان والعراق تبدو سخيفة رغم كل شيء»[17]. فمن وجهة نظر بشارة، لم تقدر المؤسسية القديمة أهمية البعد اللاعقلاني في السياسة، وأنها بتجاهلها للبعد المُجتمعي، فإنها لم تنتبه إلى تشكل الظواهر الجديدة مثل الشعبوية[18].
وبغض النظر عن المؤسسية التاريخية أو المؤسسية الجديدة، فلا استغناء عن المقاربة، إذ لا يمكن تغييب أهمية عنصر واحد، لقصوره في جانب على حساب آخر، بل يمكن التوفيق بين المقاربات وما تقدمه، إذ أظهرت كثير من الدراسات وجود علاقة بين مؤسسات النظام القائم وبين طبيعة تغييره ودرجة صعوبة التغيير أو الإصلاح، وشكل هذا الإصلاح، وتأثيره على عملية الانتقال[19]، لما للإرث «المؤسسي الذي خلفته الدول القديمة وطبيعة التغيير الثوري [...] وتحالفات النُخب»[20] وفي ذلك محاولة ربطٍ بين المقاربة المؤسسية ومقاربة الخيارات الاستراتيجية (دراسات الانتقال).
ومثل شروط التحديث، نجد هنا أيضًا مقاربة قائمة على الاقتصاد السياسيّ، وذلك بالاهتمام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والتفاعل بينهما باعتبارهما متغيرات لتفسير نتائج الانتقال، وتنبع هذه المقاربة من المصلحة الاقتصادية، خصوصًا أن شكل النظام سيحدد دعم فئة من الفئات، فلو كان ديمقراطيًا، يدعم الفقراء، ولو كان دكتاتوريًا، يدعم الأغنياء، ووفق أرسطو، فإن الفقراء يفضلون الديمقراطية والأغنياء الدكتاتوريّة[21]، وهذا تاريخيًا صحيح، ولكنه غير صحيح حين تكون الشركات تتدخل في العملية الانتخابية والاقتصار على المنافسة الحزبين، حيث يستفيد الأغنياء حينها من التهرب الضريبي والفوائد وغيرها. يشير بشارة هُنا إلى أن منبع هذه المقاربة يتناقض الآن مع الطفرات الشعبوية الكبرى ضد الديمقراطية، إذ تستند هذه التيارات استنادًا واسعًا على دعم جزءٍ كبير من الفقراء. على كل حال، وبالاعتماد على هذه المقاربة في أن الديمقراطية تخدم الفقراء وتفرض ضرائب متصاعد على الأغنياء كما رأتها تحليلات بوش وجيمس روبنسون ودارون عاصم أوغلو، ولا يرى بشارة مشكلة في ذلك، ولكن يقول إن مثل هذه السياسات الرامية إلى إعادة توزيع الثروة تؤدي «دورًا في رسوخ النظام وليس في نشوئه»[22]، يواصل الكاتب بعدها نقده لهذه المقاربة من كافة نواحيها، وبأن النجاعة الاقتصادية بشكل عام تسهم في الرسوخ بعد الانتقال، ولا يمكن للعوامل الاقتصادية وحدها أن تحدد إرادات الفاعلين، وهذا لأنها -المقاربة- تأخذ «خيارات الفاعلين السياسيين باعتبارها معطاة، لكنها لا تبحث في العوامل التي تشكلها»[23]، وهنا تمامًا أتي تركيز نقد بشارة لستيفن هاغرد وروبرت كوفمان.
دراسات الانتقال: الخيارات الاستراتيجيّة
يُفرد بشارة هذه الفصل استكمالًا للمقاربات أعلاه، إذ تعتبر مقاربة الخيارات الاستراتيجية هي الرابعة في القائمة، ولكنه يتحدث عنها بشكل منفصل، لأنها الهدف الأساسي من القسم الثاني في الكتاب، وهذا لما شكلته من تحديات أمام المقاربات البنيوية لتأكيدها على أهمية الفاعل السياسي والتفاعلات بين النخب ودورهم في إنجاح أو إفشال الانتقال. [24]
يناقش بشارة في هذا الفصل أنه وبدلًا من انتظار تحقق شروط الديمقراطية التي أدت إليها في الغرب أو بعض الدول المسيحية، فإن مقاربة الانتقال تدرس حيثيات الانتقال التدريجي نحو الديمقراطي، أو زرع البذور الأساسية التي تؤدي إلى نمو الديمقراطي، حتى لو وقعت لاحقًا ثورة أو أزمة اقتصادية. في هذه الحالة، تكون هذه الثورة أو الأزمة هي الشعرة التي قسمت ظهر البعير، وساهمت في إرساء البنى الديمقراطية الموجودة مسبقًا، باختلاف أشكال هذه البنى، سواء اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو حتى ليبرالية. طبعًا يعود الفضل إلى روستو في مقالته المنشورة عام 1970 والتي أُعيد إحياؤها بعد 26 عام على نشرها، موضِّحًا فيها عناصر الانتقال الديمقراطي: 1- النخب هي مفاتيح عملية الانتقال سواء في الحكم أو المعارضة. 2- يُعرّف الفاعلون بحسب مواقفهم من النظام وليس بحسب مصالحهم الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة. 3- سلوك الفاعلين سلوك استراتيجي وتأثر أفعالهم بتوقعاتهم. 4- الدمقرطة تكون نتيجة مفاوضات ومساومات[25].
وفي إطار حديثه عن الموجات الثالثة التي أثرت في علم دراسات الانتقال ابتداءً من مقالة روستو ومرورًا بدخول دول جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية في عملية التحول الديمقراطيّ، وليس انتهاءً بدول أوروبا الشرقيّة ثم إفريقيا والاتحاد السوفياتي، يُشير بشارة إلى أن الكثير من هذه الدول كانت واقعة تحت أنظمة سلطوية متنفذة وشموليات كبيرة، ثم عبرت في أوقات متفرقة بعدد من الانتفاضات والثورات والتي قُمعت في وقتها، ولكنها حققت نتائجًا جيدة، ووصلت الانتقال لاحقًا، وفي هذا توقع من بشارة حيال ما سيحصل عربيًا في المرحلة المُقبلة[26].
وكما في القسم الأول، يُكمل بشارة في نقدهِ للدراسات السابقة والمنظرين، موضحًا عوامل القصور والنقص فيها، خصوصًا فيما يتعلق في التخصيص والتعميم، مُبينًا أنه لا يمكن وضع شروط مُحددة ووصفها بأنها الوحيدة، حيث أن شروط روستو مثلًا في مقالته الأولى غير ممكنة التحقيق في الديمقراطيات الجديدة ذات المعارضة القويّة[27].
يدحض روستو بعد عودته إلى دراسات الانتقال تعليل وجود الديمقراطية في دول ما بالارتباط بالثقافة السائدة في المُجتمع، لأنها من وجهة نظره مسألة إجرائية، وتقوم على الصراع بين الديمقراطيين وغير الديمقراطيين، ويلخص بشارة العناصر الأساسية في دراسة روستو كالآتي: 1- التمييز بين التفسير الوظيفي وتفسير منشأ الظاهرة، فعوامل الرسوخ تختلف عن عوامل النشوء. 2- يركز التفسير الوظيفي على العلاقة التبادلية بينما تفسير المنشأ على الفرق الواضح بين السبب والنتيجة. 3- لا يمكن اختزال العلاقة السببية في العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية التي تؤدي إلى نتائج سياسية. 4- ليست كل الأسباب أفكارًا تؤدي إلى أفعال. 5- الطريق المؤدّي للديمقراطية ليس واحدًا. 6- قد تختلف عوامل حسب الديمقراطية في المرحلة الزمنية نفسها. 7- توجد تباين اجتماعي في الموقف من الديمقراطية، ولا يمكن أن يوجد تجانس اجتماعيّ. 8- يجب على المعطيات الداعمة لنظرية المنشأ أن تغطّي الفترة الزمنيّة السابقة للديمقراطية وأن تمتد لما بعد نشوئها. 9- عند البحث في منطق التحول، يمكن تجاوز الدول التي كان التحول فيها بفعل عامل خارجيّ. 10- يمكن استنتاج نموذج مثالي للانتقال من دراسة حالتين أو ثلاثة، واختبار النموذج بتطبيقه على البقيّة[28].
يؤكد بشارة أنه لا يمكن دراسة الانتقال الديمقراطي في بلد ما دون تجاوز العوامل الخارجية والداخلية معًا، في حالتي النجاح والفشل، لأن ذلك يبين التفاعل بين البنى الخارجية والداخلية، بغض النظر عن مدى إقحام العامل الخارجي، سواء بالتدخل أو بالاحتلال.
يركز روستو في عمله الجديد على التحول التدريجي من السلطوية إلى الديمقراطية، بينما أولى منظّرو الانتقال مثل شميتر ووايتيهد على الشروخ في النخبة الحاكمة داخل النظام السلطويّ والإصلاحات التي تفرض من الداخل. وهو ما تحول لاحقًا إلى قطيعة متبادلة بين عمل أودونيل وشميتر من جهة ولينز وستيبان ودراسات شيفورسكي والمقاربات البنيوية والوظيفية، إذ شدد هؤلاء المنظرون[29] على أهمية إقامة التحالفات في صناعة الديمقراطية، وذلك لتحويل عملية الشدّ مع «النخب الحاكمة إلى معادلة غير صفرية».
يعلم الباحثون في دراسات الانتقال تمام العلم أن انهيار النظام السلطوي لا يعني بالضرورة قيام نظام ديمقراطيّ، ولكنهم جميعهم في بحثهم غائية تأسيس نظام ديمقراطي بديل عن السلطويّ، واتفقوا على ضرورة الإمساك باللايقين الاستثنائي لعملية الانتقال (وهو ما يخيف أي نظام سلطوي يسعى للانفتاح أو الإصلاح، لأن اللايقينة غير مرغوبة)، واتفقوا أيضًا على أنه لا يمكن الاعتماد في حالات الانتقال على «البنى الاقتصاديّة الاجتماعية الثقافية المستقرة في تحليل استراتيجيات الهويات السياسية للسلطة والمعارضة»[30]، وهذا لأن عملية نشوء الديمقراطية «مركبة يشارك فيها فاعلون كثيرون، خلافًا لعملية إسقاط الديمقراطية التي قدم تتم بمشاركة عدد أقل من المتآمرين»[31].
يختم بشارة الفصل السابع من الكتاب بنتائج دراسات الانتقال بعد عقدٍ على بداية المشروع، مع تعليقه عليها على شكل خلاصات، وكلها هذه الخلاصات مفتوحة للاحتمالات المختلفة وليست صلدة تحكم عملية الانتقال، وبالتالي، فإن هذا يدحض مرة أخرى «وجود نظرية انتقال فضلًا عن برادايم انتقال»[32]، وهذه الخلاصات الإثنيّ عشرة التي توصل إليها شميتر، هي الأفكار ذاتها التي خلصت إليها مناقشة أفكار منظري التحديث ودراسات الانتقال في الصفحات السابقة من الكتاب، وهي كالآتي: 1- الديمقراطية ليست حتمية والعودة عنها محتملة وليست شرطًا للرأسمالية وليست تطورًا أخلاقيًا حتميًا. 2- التحول من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية مفتوح الاحتمالات ولا يوجد له مسار ونهاية واحدة. 3- لكل انتقال إيقاعه الخاص، وكذلك لكل ترسيخ شروطه وأسسه. 4- الديمقراطية في عالم اليوم هي الشكل الوحيد للسيطرة على السياسة الشرعية. 5- لا تكون المطالبة بالديمقراطية بمعزل عن مطالبات اجتماعية واقتصادية أخرى. 6- تعتمد نتيجة الدمقرطة على أفكار ونشاطات الفاعلين عند التحولات المختلفة. 7- «من المفضل وجود هوية وطنية مُتماسكة وحدود إقليمية ثابتة ومؤسسة قبل التحول الديمقراطيّ». 8- تصبح الدول أكثر خبرة ووعيًا بالديمقراطية مع تحول الدول الأخرى وموجات التحول العالميّ. 9- أهمية السياق الدولي في التأثير على اندثار النظام السلطويّ. 10- يعمل تدويل الديمقراطية على نشوء مؤسسات ومنظمات حقوق إنسان للدفاع عن الأقليات ومراقبة الانتخابات وتقديم النصائح. 11- نشوء مُجتمع مدني عابر للحدود (وهو ما ينتقده بشارة لأن تلك المؤسسات ستكون مؤسسات غير رسمية، في حين أن المجتمع المدني موجود في قلب جدلية الدولة والمجتمع). 12- من الممكن، وليس سهلًا، التحول من أنماط مختلفة من الدكتاتورية إلى أنماط مختلفة من الديمقراطيّة دون احترام الشروط المسبقة التي وضعها علماء السياسة[33].
يشدد بشارة بعدها في نقاط مختصرة ناقدًا بعض النقاط التي أشار إليها شميتر، فمن وجهة نظرهِ، 1- لا يكون الانتقال الديمقراطي سلميًا دائمًا. 2- حركة الجماهير العفوية المطالبة بالإصلاح دون قيادة منظمة قادرة على التفاوض قد تؤدي إلى نشوء بيئة ترتد عن الإصلاح. 3- يمكن تحقيق التحول دون مستوى عالٍ من النمو الاقتصادي، لكن الحُرية والمساواة في النظام قد تساعدان على دفع عجلة النمو للأمام. 4- يمكن تحقيق التحول دون طبقة برجوازية. 5- غياب الثقافة الديمقراطية في أوساط النخب تشكل عائقًا أمام الانتقال. 6- يمكن تحقيق الديمقراطية دون كثير من الديمقراطيين وذلك عبر تفاعل جماعات غير ديمقراطية لتحقيق مصلحة ما.
يُفرد بشارة الفصل الثامن للحديث عن أثر نوع النظام السلطوي على عملية الانتقال، وأيهما أسهل، مفرقًا بين أنظمة الحزب الواحد والفرد الواحد والأنظمة العسكرية، وشكل الانتقال أحيانًا، ما إذا كان من أعلى أو كان من أسفل، وتأثير ذلك على العملية نفسها، فعندما تركن الأنظمة السياسية السلطوية إلى التحول التدريجي، ثم فرضه الانتقال من أعلى (كما حصل في إسبانيا)، فإن هذه الدول تكون لديها فرصة أعلى في السيطرة على الانتقال، ومواجهة ردات الفعل، وإيجاد المساومات بين الفاعلين سياسيًا، وهذا لاحتفاظ الدولة بهيبتها وقدرتها على التعامل مع الفئات المُختلفة في المُجتمع، ويأتي تفريق بشارة بين أثر النظام ونوعه بناءً على عمل يان تيوريل في كتابه محددات التحول الديمقراطي.
يتعرض بشارة أيضًا إلى نموذج هنتنغتون في مركب الإصلاح من أعلى، والذي يتحدث أشكال التحديث واللبرلة التي تحدث عنها سابقًا في الكتاب والتي تستخدمها الدول السلطوية أحيانًا، ولكنها سُرعان ما تنقلب عليها بخسارتها لسلطتها تدريجيًا، بزيادة وعي المواطنين، ومطالبتهم بمزيد من الإصلاحات والصلاحيات، وحينها يتحول الوضع إلى خيارين إما المواجهة الصعبة والقمع ضد الشعب أو التفاوض معه على آليات تحقيق المطالب «وثمة تنويعات كثيرة لهذه المراحل الأربع، وقد تضاف إليها مراحل أخرى»[34].
يستغل بشارة الفرصة ليوضح قصور نموذج هنتنغتون في توقعه للنماذج بشكل عامٍ بناءً على التجربة العربية، إذ أن الاحتجاجات العادية قد تؤدي أحيانًا إلى انشقاق النخبة أو حصول إصلاحات فعلية أو قد يؤدي خطأ واحد لفرد من أفراد النظام (قتل مواطن/ سوء تعامل مع كارثة) إلى تفجير غضب حانق وانطلاق احتجاجات شعبية مطلبية، والتي تتحول بسرعة إلى مطالب سياسية (تونس مثلًا)[35]. ويشير بشارة إلى أن التجربة العربية قد أثبتت «أن التغيير ليس مرتبطا بطبيعة النظام بموجب تنميط مسبق للأنظمة، بل بقدرتها على استخدام أدوات القمع العنيف ومدى استعداها لتجاوز جميع الحدود»[36].
يُكمل المؤلف في الفصل التاسع نقدهِ لمفهوم برادايم الانتقال الجاهز، ويشرح بأن دراسات الانتقال لم تنتج يومًا أي شكل من أشكال النماذج سريعة التحضير والتطبيق في الدول الأخرى، وأن من فعل ذلك هي المنظمات الدولية غير الحكوميّة، أو المؤسسات الحكومية الغربية، وذلك في محاولة استخلاص التجارب واستسهال التوقعات حين التعامل مع الآخر[37].
بنت مثل تلك المنظمات فكرتها عن نموذج الانتقال الجاهز من كتاب أودونيل وشميتر المتوج لمشروعهما: «انتقالات من الحكم السلطويّ: استنتاجات موقتة عن ديمقراطيات غير يقينية» والتي يرى بشارة أن الكلمات في العنوان قد اختيرت بعناية لتنفي وجود برادايم مُحدد. يوضح أودونيل لاحقًا في نقدهِ لتوماس كاروثرز عدم وجود أي برادايم جاهز للانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، وهم سبب عنونة مؤلف مشروع الانتقال بـ «الانتقال من الحكم السلطوي»[38].
في الفصل العاشر والأخير من القسم الثاني من الكتاب، يتحدث بشارة عن الدولة الحديثة وتعريفها والقومية والإثنية والأمة والمواطنة وعلاقة كل ذلك بشرعية الدولة. يشرح الكاتب وجود شروط في الدولة الحديثة إلى جانب السلطة السياسية والمحكومين، وبالتالي، فإن الشروط التالية هي المقصود بها الدولة فيما يأتي من الكتاب: 1- دولة تحتكر وسائل العنف الشرعيّ، والقدرة على ممارسة الاحتكار. 2- حدود سياسية وجغرافية يُمارَس الاحتكار ضمنها. 3- شعب يقطن ضمن هذه الحدود وتمثله الدولة رسميًا أمام الدول الأخرى (مواطنين). 4- جهاز بيروقراطي متفرغ ومكلف بإدارة الشأن العام ويعمل لدى الدولة. 5- سلطة تشريعية تسن القوانين السارية[39].
لا يغوص الكتاب عميقًا في تعريف القومية ومكوناتها، إلا بمقدار ما يتعلق بالموضوع، ذلك أن الكاتب سبق أن توسع بالمسألة في مؤلفاته قبل 2010. يشير بشارة إلى أثر وجود الماضي السياسي المشترك عند جماعة معينة بما يشمل من رموز وقيادات ومشاعر «مشتركة بالفخر والحسرة والحزن» [40]بغض النظر عن اختلاف الأعراق في الدولة الواحدة، مثل نموذج سويسرا. يُبنى على هذا الكثير من التعريفات الإثنية المختلفة للقومية، ويُركزّ بشارة على بعدين عند أي دراسة للقومية: البعد الإثنيّ مع تحديدات مختلفة للعناصر المهمة فيهِ (اللغة والإيمان بالأصل المشترك)، والبعد السياسيّ المتعلق بالتعبير عن القومية عن نفسها في الدولة[41].
يشير بشارة إلى أن «الأيديولوجيا القومية» التي يشملها مصطلح Nationalism هي التي تنتج القوميّة وليس العكس، وخصوصًا في حالة القوميات المتأخرة/ المُخترعة. وفي ربطهِ لمفاهيم القومية والديمقراطية، يقول بشارة بأن القومية تتطابق مع الأمة في مراحل التحرر الوطني، وبعد إنشاء الأمة، يتطلب النظام الديمقراطي ولاءً للدولة وليس ولاء للقومية نفسها أو دولة «جميع المواطنين»، لأن الولاء في الدولة الديمقراطية يعني «ولاء مجموعات سكانية كاملة ترى في الدولة وطنًا على الرغم من الاختلاف الإثني الطائفي والجهويّ»[42] وأنه من دون هذا النوع من الولاء، لن تستقر الديمقراطية.
يتحدث بشارة إلى أن التعددية التي استخدمت يومًا ما للتوحيد، قد تستخدم في يوم آخر للتفريق وبناء ولاءات أخرى متفرقة داخل الدولة الواحدة، وهو ما يهدد رسوخ النظام الديمقراطي، وهنا يؤكد بشارة إلى الديمقراطي لا تسبب الشرخ، وإنما تعمل على إظهاره فحسب[43].
وكما أشرنا في المراجعة الأولى إلى ضرورات التفريق بين تعريفات المصطلحات مثل القومية Nationalism (يستخدم للدلالة على الأيديولوجية القومية) يتحدث بشارة في هذا الفصل عن التسميات ويفرق بين القومية والهوية القومية. فنحن حين نقول الهوية القومية العربية تكون ترجمتها Ethnic Nationality أو انتماء إثنيّ Ethnic National Affiliation، ونقول Nationality بدلًا من Nationalism، وهذا لأن الهوية القومية العربية ليست أيديولوجيا أو حركة سياسية، بل انتماء إلى العروبة[44]، والمقصود هنا ثقافة توحد من ينتمون إليها. يكمل الكاتب لاحقًا للتوضيح بأن القومية أمر، والأمة أمر آخر، حتى وإن تطابقا في بعض الحالات، ومن منظور الديمقراطية يفترض تطابق الأمة مع الدولة، سواء تطابقت الأمة مع القومية أم لا.[45]
في نهاية الفصل العشر والقسم الثاني يفرد الكاتب قسمًا من الكاتب للحديث عن ما يزعم البعض بأنه «وجه الديمقراطية المُظلم»، وهي فرضية وضعها مايكل مان مستخلصة من تجارب الأرمن في تركيا والهولوكوست ومذابح راوندا وتشير هذه الفرضية إلى أن جذور الإبادة تكمن في تعميق عملية الدمقرطة أو فشلها، خصوصًا مع زيادة المشاركة الشعبية في السياسة التمثيلية[46]، إذ تعمد الحكومات دائمًا إلى إلصاق صفحة الشعبية أو «التفويض» الشعبي ضد الإثنيات الأخرى في الدول. يُشير بشارة إلى أن كل الدول الحديثة وبيروقراطيتها تدعي أنها تنطق باسم الشعب سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية، وانها تعمل له وتمثله وتدافع عنه وتحاربه، وهو ما يفتح الباب لتعريف النظام للشعب[47].
يوضح الكاتب إلى خلط مايكل مان (كما أوضح في الفصول السابقة أن الحروب الأهلية والانقلابات والتخلف الذي حصل لمنع الديمقراطية في بعض الدولة، ليس نتيجة للديمقراطية نفسها) بين «التزامن» و«التأثير المتبادل» و«العلاقة السبب-النتيجة»، إذ أن الدمقرطة لم تؤدي إلى عمليات الإبادة الجماعية في أي مكان، وإنما عمليات التحديث، والتي تسمح بتحشيد الطبقات الوسطى لطبقات أخرى من المجتمع على أساس الهويات أو التجانس القومي أو الوطني. «الجينوسايد» وجه آخر للحداثة، مثلما أن الديمقراطية اللبرالية أحد أوجهها الكثير مثل الفاشية والشيوعية.[48]