إنّ آرندت ميّزت بين الفلسفة والسياسة، حيثُ اعتبرت أنّ الفلسفة التي تنشأ في حياة العزلة غير قادرة على أن تقوم بدور المواجهة والمقاومة مع أي نظام توتاليتاري شمولي، في حين أنّ السياسة التي تقوم على الوضع البشري المتعدد فيها ما يؤهلها للقيام بتلك المواجهة والمقاومة.
في لقاء لها مع الصحفية الألمانية Gunterx Gaus عام 1964، قامت المنظّرة السياسية حنة آرندت برفض لقب الشرف "فيلسوفة" التي حاولت محاورتها إضفائه عليها في خضم ذلك اللقاء، وقد برّرت آرندت ذلك الرفض قائلة: "إنني لا أنتمي إلى دائرة الفلاسفة، إنّ مهنتي إذا كان من الممكن التحدث عنها فهي النظرية السياسية، إنني لا أشعر بأنني فيلسوفة، ولا أعتقد أنني مقبولة في دائرة الفلاسفة فقد قلت للفلسفة وداعاً وللأبد. صحيحٌ أنني درست الفلسفة لكن هذا لا يعني أنّني مكثت فيها".
إنّ تأمّل ردّ أرندت السابق يُحيل إلى تساؤل مشروع حول السبب أو الأسباب الذي دفعت شخصية كحنة آرندت إلى أن تبني تفضيلاتها في الألقاب الشرفية وتختار أن تنحاز للقب دون غيره وهو لقب "المنظّرة السياسية" عوضاً عن لقب "الفيلسوفة".
إنّ تتبّع المسيرة الأكاديمية لآرندت هو ما يجعل طرح هذا السؤال ملحاً، فآرندت بعد أن أنهت دراستها الثانوية التحقت بجامعة ماربورج لدراسة الفلسفة عام 1924، ورغم أنّها درست الفلسفة على يدّ نخبة من الفلاسفة أمثال مارتن هايدجر وكارل ياسبرز، ورغمَ أنّها ترجمت اهتماماتها الفلسفية في أطروحتها لنيل الدكتوراه والتي جاءت تحت عنوان "مفهوم الحبّ في فلسفة القديس أوغسطين"، إلا أنّ ذلك كلّه لم يمنع من إعلانها عن تمردّها الصريح على الحقل الفلسفي واشتغالاته وانحيازها الصريح للسياسة واشتغالاتها.
إنّ فهم الأسباب التي دعت آرندت لإعلان انحيازها لحقل السياسة على حساب حقل الفلسفة الذي شكّل تخصصها الرئيس لا يُمكن أن يتمّ دون الرجوع إلى الظروف السياسية وأحوال المثقفين التي عايشتها في حقبتها الزمنية تلك، ودون الرجوع إلى النصوص الواردة في متن كتبها التي أودعت فيها خلاصة أفكارها وآرائها.
وتبعاً لذلك، يُمكن القول بأنّ تسلّم النازيين مقاليد الحكم في ألمانيا عام 1933 شكّل نقطة تحوّل رئيسة في حياة آرندت، وهو ما دفع بها نحو تغيير تفصيلاتها في التنظير والاشتغال، فبعد وصول النظام النازي وأيديولوجيته الشمولية إلى الحكم في ألمانيا، وقفت آرندت مذهولة أمام كيفية تعاطي زملائها من الطبقة المثقفة الألمانية مع هذا النظام التوتاليتاري الجديد، حيثُ أنّها لاحظت عدم وجود رغبة حقيقية لدى العديد من المفكرين الألمان في مقاومة الحكم النازي ومواجهته، وهو ما لاحظته آرندت -مثلاً- لدى هايدجر -أستاذها وعشيقها- الذي صمت على ذلك الحكم وتخلى عن دوره في مساءلته ونقده، ووصل به الأمر نحو التواطؤ معه والانضمام إليه، وذلك عندما أصبح هايدجر عضواً في الحزب النازي. وهو ما لاحظته آرندت كذلك عند المفكّر والفقيه القانوني كارل شميت الذي أعلن في أطروحاته الفكرية عن مساندته الصريحة للنظام النازي بعد وصوله إلى الحكم.
إنّ ملاحظات آرندت تلك حول زملائها من الفلاسفة والمفكّرين الألمان دفع بها إلى أن توجّه أصابع نقدها للفلسفة متهمة إياها بالانسحاب من المجال العام والتأسيس لفكر تأملي انعزالي وانكفائي يكتفي به الإنسان عوضاً عن الذهاب في مجال الحركة أو الفعل.
إنّ آرندت ميّزت بين الفلسفة والسياسة، حيثُ اعتبرت أنّ الفلسفة التي تنشأ في حياة العزلة غير قادرة على أن تقوم بدور المواجهة والمقاومة مع أي نظام توتاليتاري شمولي، في حين أنّ السياسة التي تقوم على الوضع البشري المتعدد فيها ما يؤهلها للقيام بتلك المواجهة والمقاومة.
وإنّ آرندت من خلال تمييزها هذا أرادت أن تُعيد النظر لمفهوم الإنسان من خلال إعادة الاعتبار لصفته ككائن سياسي، حيثُ أوردت في كتابها "في العنف": "إن قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعله كائناً سياسياً، وهي التي تمكنه من أن يلتقي بأمثاله من البشر وأن يفعل معهم بشكل متناسق، وأن يتوصل إلى تحقيق أهداف ومشاريع، ما كان من شأنها أبداً أن تتسلل إلى عقله لو أنَّه لم يتمتع بتلك الهبة: هبة السباحة نحو آفاق جديدة في الحياة". فالإنسان وفقاً لكلام آرندت السابق يظهر في أبعاد صفته السياسية كائناً فاعلاً يمتلك من الفاعلية والنشاط ما يُمكنه من مواجهة كافة أشكال الهيمنة والعنف التي تحاول الأنظمة التوتاليتارية فرضها عليه وإخضاعه لسطوتها.
إنّ آرندت أرادت من خلال إعلانها الانحياز للقبها الإنساني الخاصّ (المنظّرة السياسية) أن تُعلن انحيازها الآخر لتنظير فكري عام يُعاد فيه الاعتبار للسياسة وللشرط السياسي في الكائن الإنساني، وكأنّها أرادت من خلال معاينتها لواقع حقبتها الزمنية، التأسيس لأنثروبولوجيا سياسية جديدة ينبذ الإنسان عبرها كلّ فكر فلسفي يدعوه إلى التقوقع في مساحات التأمّل الانعزالي بعيداً عن الفعل والحركة، وإنّ تلك الأنثروبولوجيا الجديدة تظهر في فكر آرندت بما يجعلها وحدها الكفيلة بقيادة الإنسان نحو مواجهة كلّ نظام توتاليتاري شمولي استبدادي يريد أن يخضعه لهيمنته وسطوته.