إنَّ مهنة الأحلام لدى كلّ قارئ في العالم يريد العمل في المكتبة العامة (وحتى متاجر بيع الكتب أيضًا) هو أن يقدر على أن يكون مُستشارًا مرجعيًّا للباحثين والقُرّاء وأن تكفل له وظيفته وقتًا للقراءة أكثر حتى يتحسّن أداؤه في عمله. لكن للأسف هذه المهنة ليست متوفّرة لأنّها غير موجودة أصلًا.
عملتُ أثناء دراستي في الجامعة في مكتبتها العامّة، وقد كان زُملائي في العمل في كافّة أقسام المكتبة لا يقرأون أكثر من الجرائد اليوميّة، بل إنّ معظمهم لا يحمل الشهادات الجامعية. لا بأس بالأخيرة، لكنَّ الأولى كانت دائمًا ما تحيّرني. هل يُعقل أن تكون مُحاطًا بكلّ تلك الكُتُب وألّا تكون قارئًا؟
للمكتبات العامّة أنظمة تصنيف للكُتُب مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بالنموذج الأكاديمي الذي أتت منه وأشهرها تصنيف ديوي العشري الذي يحتوي، كما يدلُّ اسمه، على عشرة أقسام للتصنيف (لاحقًا طوّر الأوروبيّون منه نسخة ليكون التصنيف العالمي العشري إلّا أنّه يحتوي تسعة أقسام فقط) وأيضًا يوجد تصنيف مكتبة الكونغرس الذي بدأ يزداد شهرة لاحتوائه على عددٍ أكبر من التصنيفات ليستوعب متطلبات الأكاديميا أكثر، فإلى الآن لديه واحدٌ وعشرون قسمًا. هُناك نوع تصنيف آخر، أكثر تعقيدًا وأقل شهرة، وضعه الرياضياتي والمكتباتي الهندي شيالي رامامريتا رانغاناثان، ويحتوي على اثنين وأربعين قسمًا للتصنيف، أيّ ضعف عدد التصنيفات في نظام مكتبة الكونغرس.
للعمل في مكتبة عامّة يكفي أن تعرف وأن تعرفي النظام الذي تستخدمه المكتبة لكي تنجحا في العمل فيها. المصنّفون في المكتبة لا يقرأون الكتب لتصنيفها ففي العادة تأتي الكتب وتصنيفها معها وكلُّ ما على المصنفين فعله هو ترميز الكتاب ضمن القسم الذي سيوضع فيه. على المستوى الإداري يعرف المكتباتيون أنظمة إدارة المعلومات، فهذه هي فعلًا وظيفة مؤسّسة المكتبة العامة؛ عليهم تصنيف وترتيب المواد الموجودة والسعي للحفاظ عليها ضمن شروط استخدام المكتبة كالاستعارة أو الاستخدام المحليّ داخل المكتبة.
أما على مستوى الموظفين فهناك مكتبٌ واحد يكون العاملون فيه مرشّحين لأن يصبحوا قُراءً وهو قسم المراجعات، إنّهم نقطة اللقاء الأولى بين المكتبة والقارئ، سواءٌ أكان باحثًا أكاديميًّا أم لا. لكنَّ القراءة عند العاملين في هذا القسم لا تتعدّى أن تكون اجتهادًا شخصيًّا لدى الموظّف، فبرامج الحوسبة والتنظيم التي تساعد الباحث للوصول إلى مراجِعِهِ كفيلة بإيجاد كتبه، والموظّف ليس سوى خبير بهذه البرامج، وعمليًّا يصبح دوره مساعدة المراجعين غير المجيدين لاستخدام النظام بأنفسهم.
داخل المكتبات الصغيرة يكون هؤلاء الموظّفون مسؤولين عن إخراج الكتاب وتسجيله بالنيابة عن المستعيرين. أمّا في المكتبات الأكبر حجمًا فهُناك قسمٌ آخر يقوم بذلك حيث يُسلّم ويَستَلِم الكتب. يُدخلون بيانات المستعيرين وهم من يُعيدون الكتب إلى رفوفها حسب موقعها الذين يستطيعون الوصول إليه باستخدام الرموز المطبوعة على كعب الكتاب. إنَّ هذه عملية لا تحتاج إلى فتح الكتاب.
إن زاد حجم المكتبة زادت أقسامها، كأن يكون فيها قسم خاص للدوريات وآخر للأرشيف. قسمُ الأرشيف عادةً يشغله مدخلون للبيانات لديهم مهارات حفظ الكتاب وتصويره. عادةً ما يكون الأرشيف الغرفة الأبرد في المكتبة حماية للكتب من العفن.
بعضُ المكتبات، كالتي عملتُ فيها، لديها قسمٌ للتجليد. تدخُلُ إليه الكتب التي وَصَلَت كتبرُّعٍ للمكتبة من مكتبات خاصة قد تحتوي على نسخٍ بحاجة للقليل من الترميم. قسم التجليد عادةً ما يجمع الجرائد القديمة بمجلّدات كبيرة لوضعها بالأرشيف.
جميع هذه المهام في المكتبة العامة تتكامل لإيصال خدمة إلى المراجعين يُفترض أنّهم أتوا من أجلها، وهي الكتب. تُشكّل هذه المهام معًا سلسلة من الوظائف المترابطة التي تجعل من الكتاب وظيفة خدماتية فحسب، وليست للمكتباتي حاجة إلى قراءتها للعمل فيها.
قد يقول البعض إنَّ المُنشأة التي تُسمّى بالمكتبة العامة لا يستعملها الرُّواد لقراءة محتوياتها من الكتب بل هم يدخلون إلى المساحة للعمل أو الدراسة مستخدمين ما يملكونه مسبّقًا من كتب أكاديميّة. تعليقٌ كهذا لا علاقة له بطبيعة الوظائف التي عُدَّت من قبل. تفعيل المساحات وإدارتها هو نشاطٌ يختلف تمامًا عن تنظيم الكتب وجعلها متوفرة للقُرّاء.
علاقة القيمين على المكتبات العامة مع الكتب لا تختلف كثيرًا عن علاقة تُجّار الكتب بها. فكما هي للتُّجار سلعة مربحة دون أن يكون هُناك من داعٍ لقراءتها أو المشاركة بكتابتها. فإنَّ تقديم الكتاب كخدمة غير ربحيّة في المكتبات العامّة تحتاج إلى العديد من المهارات الدقيقة لكنَّ القراءة النقدية ليست واحدةً منها.
ليس هناك أيُّ شيءٍ حالم في المكتبات العامّة سوى عدد الكتب الكبير الذي يُعجب منظرها أيَّ قارئٍ مُحِب للكتب. ارتياد المكتبة وتعلُّم كيفية استخدامها دون العودة إلى موظّف هو أمرٌ مثير يُزيل حاجزًا بين الكتاب والقارئ. وكثرة ارتياد المكتبات كفيلٌ بتعلُّم هذه المهارة، إذ لا داعي لأي خبرة مهنية لذلك.
ما قد يُحوّل أي مكتبة إلى مركز ثقافيّ هو أن تتحوّل، أو يتحوّل جزءٌ منها على الأقل، إلى مكانٍ تنشط فيه النشاطات الأدبية والمناظرات (كسوق الورّاقين) حيث قد تُرغب المراجعين استخدامَ كتبها فعلًا. وكثيرٌ من المكتبات العامّة بدأت تنجح بذلك. حتى إنَّ بعض متاجر الكُتُب بدأت تأخذ خطوات شبيهة بهدف ترويج الكتب التي فيها حتى لا تبقى مجرّد معرضٍ خاملٍ ينتظر الزبون أن يأتيه بنفسه ليُفعّل المساحة والكتب.
لكن هذا لا يجب أن يُقلّل من شأن التجارب الشخصية التي قد يعيشها المُراجع مع أمين مكتبةٍ قارئ، إنَّ قارئًا في مكتبة عامّة يعمل في نقطة التقاء مع المُراجع تجعل هذه المهنة أكثر نفعًا للناس من موظّفٍ مُتكلٍ بالكامل على نظام الحوسبة. إلّا أنّ مشكلة العمل في المكتبات العامّة للقُرّاء قد يكون مفيدًا لمُنشئها الذي يريد لها النجاح، لكنّها لن تكون مفيدة لذلك القارئ الذي يُحبُّ القِراءة وتمَّ توظيفه في المكتبة على هذا الأساس في وظيفةٍ فيها كمٌّ هائل من العمل الميكانيكيّ الذي يمنعه من القِراءة.
إنَّ مهنة الأحلام لدى كلّ قارئ في العالم يريد العمل في المكتبة العامة (وحتى متاجر بيع الكتب أيضًا) هو أن يقدر على أن يكون مُستشارًا مرجعيًّا للباحثين والقُرّاء وأن تكفل له وظيفته وقتًا للقراءة أكثر حتى يتحسّن أداؤه في عمله. لكن للأسف هذه المهنة ليست متوفّرة لأنّها غير موجودة أصلًا.
وحتى حينه أنصح جميع القُرّاء محاولة ارتياد المكتبات العامة وفهم أنظمة عملها فهذا ما يرفع الحواجز بيننا وبين الكتب. لكن لا أنصح باختبار المكتبة من الجانب الآخر فهي ليست كما تظنّون، ففي الداخل الكتاب ليس للقراءة بل هو خدمة للآخرين فقط.