مع تكرار تلك السيرورة "معارضة – إنشاء تحالفات – فشل – قبول بالأمر الواقع" ضمن ضابط الحركة العام "المعارضة الموالية" بمسوغ المحافظة على المؤسسة الشرعية، تفاقم ارتباك اليسار وضعفه وفقدان صدقيته.
أعادت الندوة التي نظمها ملتقى فلسطين مؤخراً بعنوان "اليسار الفلسطيني: دور مفقود ومستقبل غامض" طرح أسئلة مصيرية أمام اليسار الفلسطيني، وتضمنت النقاشات محاور عميقة وسجالات مهمة ظل الكثير منها قيد التأمل والتفكير. الجانب المهم في الندوة هو انطلاقها من نقاش كتابين مهمين، أولهما حديث الصدور (بالانجليزية) للباحث الإيطالي فرانشيسكو سافيريو ليوباردي بعنوان "أفول اليسار الفلسطيني: المعارضة الموالية" The Palestinian Left and its Decline: Loyal Opposition، ٢٠٢٠. والثاني كان قد صدر منذ أكثر من عشر سنوات للصديق جميل هلال بعنوان "اليسار الفلسطيني إلى أين" (إصدار مؤسسة روزا لوكسمبورغ، ٢٠٠٩) لكنه ما زال يحفل بأهمية متواصلة وراهنة بكونه اعتمد على لقاءات مع كوادر وقيادات يسارية حزبية وتقديمه رؤى وحوارات وأفكار جلها من "داخل اليسار" وليس من خارجه. حاصل جمع الكتابين، على ذلك، هو التأمل في رؤيتين واحدة من الخارج والثانية من الداخل، كلاهما تفصيلية وبحثية وموضوعية، وكلاهما أيضا بعيدة من الدعاية لليسار أو الهجوم عليه.
تبعاً لليوباردي في كتابه، وهو بالمناسبة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وليس عن اليسار عموماً، لكن الكثير من طروحاته يمكن أن تنطبق إلى هذه الدرجة أو تلك على عموم اليسار، يمكن أن نلتقط طرف خيط رحلة الإرتباك التاريخي لليسار الفلسطيني من الوصف الذي يحمله النصف الثاني من عنوان الكتاب، تحديداً "المعارضة الموالية" – opposition and integration. منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عارض اليسار الفلسطيني، وخاصة عبر الحركة الأهم والأشد تأثيراً، أي الجبهة الشعبية، الكثير من "التوجهات اليمينية" لدى فتح وقيادتها، كما كان يراها، سواء في السياسة أو التحالفات. مرت فترات احتدت فيها المعارضة الجبهاوية إلى درجة قريبة من إعلان العداء، لكن في نهاية أي مطاف مارست الجبهة وأغلب اليسار انضباطاً حاسماً في إطار المنظمة – الاندماج. ظلت فكرة تقديم أولوية الوحدة على أي برنامج منافس وانفصالي هي الأقنوم الهادي لليسار رغم كل الخلافات. أحد أهم الأمثلة شهدناها عندما رفع اليسار صوت معارضته وحاول تقديم أفكار بديلة وطروحات تأمل إيقاف الانحدار "اليميني" في أواخر الثمانينيات عندما اعترفت المنظمة بإسرائيل، لكن ظلت المعارضة داخل البيت. في حقبة أوسلو تكررت ذات السيرورة التي يشير إليها ليوباردي بوضوح، حيث يبدأ الأمر بالاعتراض الشديد على سياسة قيادة المنظمة وفتح عموماً، وفي المنعطفات التاريخية خصوصا، يليه محاولة بناء تحالفات داخل المنظمة لتغيير تلك السياسات أو حتى القيادة نفسها، ثم الفشل في ذلك، ويعقب ذلك الإنهاك السياسي وقبول الأمر الواقع الجديد، وبالتالي البقاء في أسر معادلة "المعارضة الموالية". عارضت الجبهة واغلب اليسار اتفاق أوسلو، وشكلت مع حركتي حماس والجهاد، تحالف "الفصائل العشرة" لإجهاض الاتفاق، لكن فشل التحالف وبقي أوسلو كما نعلم، وبقيت الجبهة في إطار المنظمة، وانتقلت قياداتها الى الضفة الغربية مع من انتقلوا.
مع تكرار تلك السيرورة "معارضة – إنشاء تحالفات – فشل – قبول بالأمر الواقع" ضمن ضابط الحركة العام "المعارضة الموالية" بمسوغ المحافظة على المؤسسة الشرعية، تفاقم ارتباك اليسار وضعفه وفقدان صدقيته. كانت عوامل ذاتية داخلية قد ساهمت بدورها في إضعاف اليسار مثل التكلس القيادي، غياب الديمقراطية الداخلية، ضمور الأفكار والرؤى الجديدة التي تعيد تعريف وفهم اليسار الفلسطيني لذاته ودوره السياسي والاجتماعي. لمواجهة الضعف والارتباك المتراكم تمسك اليسار مؤسساتيا بفكرة الاحتفاظ بمنظمة التحرير والدفاع عنها (وكان شبح قوة حماس المتصاعدة في الخلفية دوماً). أما عملياً فقد وجد نفسه في معارضة مع السلطة الفلسطينية وسياساتها وفسادها وضياع بوصلتها اوصلته الى سياسة تعزيز مؤسسات المجتمع المدني في الداخل لمقاومة الانهيار والسلطوية. قادت تلك السياسة إلى استنزاف مئات الكوادر السياسية في المنظمات غير الحكومية التي ورثت منظمات العمل الشعبي، واعتمدت تمويلاً اجنبيا أوروبيا. عوض أن يواصل اليسار عمله في قلب السياسة والنضال سواء داخل المنظمة أو في ساحات المقاومة ضد إسرائيل بتنوع مجالاتها، تحول جزء كبير منه إلى النضال النقابي والمهني والحقوقي، وكأن الدولة المستقلة قد أنجزت. الأسوأ من الاستنزاف في المنظمات غير الحكومية، كان ابتلاع شرائح أخرى من اليسار من قبل السلطة وآلياتها وميزانياتها، بما هشم ما تبقى من صدقية لليسار وتنظيماته التي بدت تابعة مالياً وادارياً لبنية هائلة ثقيلة الوطأة ويصعب تغييرها.
لكن يبقى ضرورة التأكيد على أن أفول اليسار الفلسطيني وتراجعه يأتي عملياً وموضوعياً في سياق أفول الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، ويصعب تحليليا فصل الأزمات والمآزق التي أحاطت باليسار عن مثيلاتها التي أجهضت الحركة الوطنية وحشرتها في مربع التكلس. ثمة بالطبع سمات، فيما خص الأفول او التكلس، خاصة بكل تيار من التيارات الفلسطينية تضيف تنويعات في الدرجة أو المضمون، وذات علاقة عضوية بالعامل الذاتي الخاص بهذا التيار أو ذاك، وبالجوهر الأيديولوجي لبرنامجه السياسي والفكري. يسارياً، تتمثل بعض هذه السمات في تفاقم التوتر الدائم بين المشروع الوطني التحرري والمشروع الاجتماعي التقدمي، سيما وأن الثاني اعتبر على الدوام الإضافة التمييزية والاختلافية التي يقدمها اليسار عند مقارنته بحركة فتح وبرنامجها. ينفتح هذا التوتر على سجال طويل يعود الى اللحظة البنيوية المُؤسسة لهذا اليسار حيث ولد في سياق صراع تحرر وطني بالدرجة الأولى وليس سياق صراع اجتماعي. ظل اليسار الفلسطيني حاملاً للمشروعين، أو على الأقل هكذا حاول، إلى اللحظة الراهنة حيث تكشف الفشل في قطع جل المسافة أو حتى ربعها في اتجاه إنجاز أي من الإثنين، التحرري الوطني (ويتشارك هنا مع بقية الحركة الوطنية) أم التقدمي الاجتماعي. كما ينفتح هذا السجال على موقف اليسار من الأنظمة العربية الشمولية المحيطة بفلسطين وموقفه من الحرية والديموقراطية ومطالبات الشعوب بها، والتناقضات الصاعقة التي وقع فيها اليسار في هذا السياق.
يطل هنا في النقاش الجدل الكلاسيكي إزاء إحالة تدهور وضع اليسار الفلسطيني الى عوامل ذاتية ام موضوعية. هل تآكل اليسار، ذاتوياً، بسبب تكلس القيادات عمرياً وابداعياً، وتكلس الأفكار والبنى التنظيمي، وشيوع اللغة العالية والمتعالية على الجمهور، وتوسع ظاهرة التفرغ، والانقسامات المتتالية، وصراع قيادات الخارج مع الداخل، وعدم الحسم في الموضوع الاجتماعي، أو ترسيم العلاقة مع التيار الإسلامي، وعدم وجود تمويل مستقل؟ أم أن العوامل الموضوعية الخارجة عن سيطرته لعبت الدور الحاسم في رحلة التآكل مثل خروج المنظمة من لبنان سنة 1982، قيام الثورة الإيرانية وبروز التيار الإسلامي إقليميا ومحليا، انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وضعف اليسار عالمياً، ضرب العراق وتدميره في حرب الخليج الأولى، اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية؟ الملفت والايجابي في تناول هذا الجدل أن الغالبية الكاسحة من تحليلات كوادر اليسار كما وردت في كتاب جميل هلال ربطت تدهور اليسار بالعوامل الذاتية بشكل أساسي، الأمر الذي يصفه هلال بعلامة وعي. ينحى ليوباردي أيضاً في تحليله الموسع مع هذا الإتجاه، ويخلص بعد دراسته المعمقة الى ذات النتيجة وهي مركزية العوامل الذاتية، ويرى من موقعه المستقل أن تلك العوامل هي التي أثرت جوهرياً على مآلات اليسار. هذه النتيجة في غاية الأهمية وتفتح كوة أمل كبيرة أمام اليسار الفلسطيني إذ يمكن قراءة احتمالات النهوض من نفس المنظور، أي العامل الذاتي، بما يعني إمكانية حقيقية للنهوض لا تنتظر تغير العوامل الموضوعية الكبرى. يمكن إذن لليسار أن يعيد بناء نفسه بنيويا وذاتيا ويصوغ برنامجاً يناسب المرحلة يتجنب فيه اختلالات العقود الماضية.